دير العذارى
فبات تلك الليلة ولم يغمض له جفن؛ لشدة ما هاج في خاطره من الغضب على إبراهيم الخازن، وكيف تمكَّن من كشف أمرهم، وعرقلة مساعيهم.
وفي صباح اليوم التالي، بادر إلى دير هند فوجده آهلًا بالرهبان، فسألهم: هل يضيفون النساء؟ فأجابه أحدهم: «في الدير مكان للضيافة ينزل فيه من شاء على الرحب والسعة.»
فأحب أن يسأل عن الإقامة في مكان خفي لا يراهم فيه أحد إلا من أرادوه، فخشي أن يؤدي استفهامه إلى شيوع السر، وتذكَّر الاعتراف الشائع عند النصارى لقسسهم، وأنه سر مقدس لا يبوحون به ولو هدِّدوا بالقتل، فرأى أن يجعل حديثه مع رئيس الدير على سبيل الاعتراف، فسأل عنه، فأخذوه إليه، فإذا هو شيخ جليل عليه ملامح الاحترام والوقار، فسلم عليه وأكبَّ على يده كأنه يُقبِّلها، فقبله الرئيس ودعاه إلى الجلوس، وأمر له بالطعام وبعض الفاكهة والشراب، فقال صالح: «أشكرك يا حضرة الأب المحترم على تفضلك؛ فإني لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، وأنا جئتك بسر أريد أن أبوح به إليك، وأستشيرك فيه. وقد علمت أنكم معشر القسس من رجال الله، ومستودع أسرار خلقه.»
فانشرح صدر الرئيس لهذا المديح وقال: «مرحبًا بك. قل ما تريد ولا تخف.»
فقال صالح: «معي فتاة من أهل البيوت أصابتها نكبة أدت إلى فرارها من وجه الظلم، فلم تر خيرًا من التجائها إلى بيت من بيوت العبادة، وقد دلَّنا بعضهم على هذا الدير، فهل يجوز ذلك؟»
فقال الرئيس: «كيف لا وعندنا دار خاصة بالضيوف؟! أما إذا استشرتني، فأخبرك أن دار الضيوف عندنا لا تخلو من المارة، ولا يمكننا أن نمنع أحدًا من النزول بها، فلا يكون سرُّكم في أمان تام، ولكنني أدلُّكم على دير للعذارى الراهبات على مرحلة من هذا المكان، وهو أجدر بإقامة النساء فيه؛ لأنه خاص ولا يقيم به الرجال، فإذا شئتَ أوصيتُ رئيسته بك، فتهيئ لها غرفة خاصة، وأما أنت فإذا اخترت أن تقيم عندنا فمرحبًا بك.»
ففرح صالح بهذا التوفيق من الجانبين، وهو يعلم أن الأديرة تقوم بهبات المحسنين، فلو دفعت جلنار إلى رئيسة الدير بضع مئات من الدنانير؛ فإنها تملك قلبها، وتكون آمنةً عندها، فارتاح باله لهذا التدبير وعاد إلى حمام أعين، وأراد قبل انتقاله إلى الدير أن يكمل بحثه عما فعله العيار، فسار إلى قصر أبي سلمة واستفسر منه عن ذلك، فأخبره أنهم لم يقفوا للرجل على أثر، فتحقق صالح من أن أبا سلمة وبطانته أصبحوا في خطر، فرأى أن يبعد عنه بالحيلة، فذهب إلى جلنار وأخبرها بما دبَّره وقال لها: «فالآن ينبغي أن نخرج من هذه المحلة خلسة بحيث لا يشعر أهلها بنا، ولا يعلم أحد بقصدنا.»
فقالت جلنار: «وخالتي لا تعلم أيضًا؟»
فقال صالح: «وخالتك قبل الجميع.»
فقالت جلنار: «والخدم؟»
فقال صالح: «نعم، وكل إنسان سواك وسوى ريحانة. والسبيل إلى ذلك أن نأمر الخدم فيسرجوا الخيول، ونظهر أننا ذاهبون للتنزُّه على ضفاف الفرات، ونشغل الخدم والسيَّاس بما يلهيهم عن مرافقتنا أو اللحاق بنا، ونحتج بأننا نحب التنزُّه على انفراد. ومتى بعُدنا عن المحلة عرَّجنا نحو الدير، فنقيم هناك حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.»
فأحستْ جلنار كأنَّ حبلًا غليظًا التفَّ حول عنقها، وكاد يخنقها؛ لشدة ما هاج في نفسها من أسباب اليأس؛ لاضطرارها بعد أن أقامت في منزل أبي سلمة واستأنست بخالتها وأحبها نساء القصر، أن تفرَّ إلى دير تنقطع فيه عن الناس، ولم تر ما يخفف من همها إلا البكاء، وبكت معها ريحانة، وحتى صالح — مع ما علمتْه من جمود قلبه — أوشك أن يبكي معها، على أنه أخذ يخفف عنها ويقول لجلنار: «لا تيأسي يا مولاتي؛ لا بد من الأخذ بالثأر ولو بعد حين، فإن العاقل من صبر على مضض الحياة، وتربص لاغتنام الفرص. وكلُّ آتٍ قريب.»
فتذكرت أبا مسلم حبيبها القديم، وكيف كانت تحبه، وكيف أصبحت لا تصبر عن قتله مع ما جدده وعد اليهودي من تحريك قلبها، فهاجت عواطفها، وبكت مرة ثانية لسبب غير سبب بكائها الأول، وصالح لا يعبأ بذلك، أو هو لا يفهمه، وإنما كان همُّه أن يستعجل في إعداد ما يحملونه معهم إلى الدير، فقال لها: «مري الخدم أن يسرجوا لنا الأفراس.» فأمرتهم. وفي أصيل ذلك اليوم، خرج الثلاثة من المحلة يتظاهرون بالتنزُّه على ضفاف الفرات، وليس معهم أحد من الخدم، ولا يعرف أحد مقصدهم، حتى إذا تواروا عن الناس تحولوا نحو الدير، فذهبوا أولًا إلى دير هند. وقد أعد صالح صرة فيها مائة دينار دفعها إلى رئيسه هبةً للدير. وكان الليل قد أسدل ستاره، فدعاهم إلى المبيت هناك على أن يبكروا في الذهاب إلى دير العذارى فأطاعوه، فقدموا لهم من أطعمة الدير وفاكهته، فأكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة.
وفي الصباح التالي، كتب لهم الرئيس كتابًا إلى رئيسة دير العذارى أوصاها فيه بالفتاة ومن معها، ودفع الكتاب إلى صالح، فحمله وذهب بجلنار وريحانة، وأرسل الرئيس معهم دليلًا يوصلهم إلى الدير المذكور، فبلغوه نحو الظهر، فاستقبلتهم رئيسته أحسن استقبال، وأنزلتهم على الرحب والسعة، ولا سيما بعد ما رأت من لطف جلنار وكرمها؛ لأنها حالما وصلت إلى هناك أمرت ريحانة فدفعت إلى الرئيسة هبة من المال، فخصصت لهما غرفة فسيحة نظيفة الأثاث، وأوصت بعض الراهبات بأن تُعنى بهما.