بيعة أبي العباس السفاح
فاطمأن صالح على جلنار، وتفرغ للنظر في شئونه، فأقام في دير هند، وكان يتردد على دير العذارى حينًا بعد حين يتعهد جلنار بما تحتاج إليه، وينزل الكوفة متنكرًا يتجسس الأخبار الشائعة ليتعرف على مصير الأمور، ويترقب فرصة يتمكَّن بها من بلوغ غايته، فعلم أن بني العباس نزلوا عند أبي سلمة، وأنه كتَم أمرهم، وأهل الكوفة لا يعلمون بمجيئهم. وكان الخراسانيون قد علموا بانتقالهم إلى هناك، فجاء جماعة منهم وعسكروا خارج الكوفة عند حمام أعين، وقوادهم يبحثون عنهم. وكان أبو سلمة بعد أن أنكر على صالح الفتك بهم، عاد فنظر في أمرهم، فرأى أن السداد في رأيه، ولكنه أعظم الإقدام على قتْلهم فحبَسهم، وكتم أمرهم، وتوقَّع أن يرجع إليه صالح فيفاوضه في شأنهم؛ لعله يصمم على الفتك بهم أو ببعضهم.
وأما صالح فلم يعد يظهر لأحد قط، وكان يمر بحمام أعين وهو متنكر، فيسمع أهل أبي سلمة وخدم جلنار يذكرون فقدانها منذ خرجت مع خادمتها على ضفاف الفرات، وقد رجحوا غرقها فيه. وكان يتنكر أحيانًا في ملابس الفقهاء، فيقضي يومه في المسجد يسمع أحاديث القوم، ويلبس أحيانًا ملابس الجنود أو الشحاذين أو العيارين أو غيرهم، فعلم أن الناس عرفوا بمقتل الإمام إبراهيم، وضجوا في السؤال عن إخوته وأهله، ثم علم بعد أربعين يومًا من مجيء العباسيين أن الخراسانيين المعسكرين بظاهر الكوفة عرفوا بوجودهم في دار الوليد بن سعد؛ مولى بني هاشم، وهي الدار التي أنزلهم فيها أبو سلمة، وأن إبراهيم أوصَى بالخلافة لأخيه أبي العباس، فاتهموا أبا سلمة بأنه حبسهم هناك لرغبته في نقل الخلافة إلى العلويين.
فلما علم شيعة العباسيين بوجودهم في تلك الدار، انطلق إليهم كبير منهم اسمه أبو حميد الحيري، فلما أقبل رأى جماعة لم يعلم أيهم الخليفة فسأل: «من الخليفة منكم؟» فتقدَّم داود بن علي؛ أحد أعمام أبي العباس، وقال: «هذا إمامكم وخليفتكم.» وأشار إلى أبي العباس، فسلَّم أبو حميد عليه بالخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.» وقبَّل يديه وقدميه وقال له: «مُرْنا بأمرك.» وعزَّاه في إبراهيم الإمام، ثم رجع وأخبر جميع القواد وكبار الشيعة، فجاء معه منهم جماعة حتى دخلوا على أبي العباس وقالوا: «أيُّكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟» فقالوا: «هذا.» وأشاروا إلى أبي العباس، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم. فلما علم أبو سلمة بانكشاف أمر القوم، أراد أن يدخل فيبايع أبا العباس مثل سائر الناس، فمنعوه إلا أن يدخل وحده؛ لأنهم أساءوا الظن به، فدخل وسلَّم عليه بالخلافة.
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظَّمه واختاره لنا، فأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوَّام به، والذابين عنه، والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصَّنا برحم رسول الله ﷺ وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا، عزيزًا عليه ما عنتنا، حريصًا علينا، بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يُتلى عليهم، فقال تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وقال تعالى: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وقال: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
فأعلمهم جلَّ ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا؛ تكرمةً لنا، وفضلًا علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت الشامية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم. ولِمَ أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصَّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخوانًا على سُرُر متقابلين في آخرتهم؟! فتح الله ذلك منَّةً وبهجة لمحمد ﷺ.
فلما قبضه الله إليه وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها موضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانتبذوها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردَّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نَصْره، والقيام بأمرنا؛ ليُمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدُّوا؛ فأنا السفاح المبيح.»
ولما بلغ أبو العباس إلى هنا غلب عليه الضعف، واشتدت عليه الوعكة، فجلس على المنبر وقام عمه داود فأتم الخطبة عنه بنحو هذا المعنى، وطعن طعنًا قبيحًا في بني أمية، وسوء سيرتهم، وامتدح أهل خراسان؛ لأنهم نصروا الحق، ثم نزل أبو العباس وعمه عن المنبر وذهبا إلى دار الإمارة. وظل أبو جعفر المنصور في المسجد يأخذ البيعة على الناس، فلم يزل يأخذها حتى صلى بهم العصر، ثم المغرب، وهجم الليل فدخل وصالح منزوٍ يتأمَّل فيما جرى بين يديه، ويكاد يتميز غيظًا لفشل مسعاه في إبطال البيعة العباسية، ولكنه توسم الفرج من جهة أخرى، فإنه رأى في أبي العباس ضعفًا لا يأذن ببقائه طويلًا، وتحقق أنه إذا مات فالخليفة بعده صاحبه أبو جعفر؛ لأنه أفضل إخوته، وخاصة لأنه تولى أخذ البيعة على الناس.