ذكرى الحبيب
وخرج صالح من المسجد وهو منقبض الصدر، وذهب إلى جلنار وأخبرها بما شاهده، وأن الأمر استتب لبني العباس ولا حيلة في ذلك، فبكت، فقال لها: «لا تبكي، ونحن في الحقيقة لا يهمنا قيام هذه الدولة أو سقوطها، وإنما يهمنا أن نقتل ذلك الرجل، وإنما سعينا في إفساد أمرها لإفساد أمره، فإذا لم يتيسر لنا ذلك من هذا الطريق، فلنا طرق أخرى.»
فسكتت وتنهدت، وفي نفسها سرٌّ تحرص على كتمانه، وتخجل من إظهاره حتى لريحانة؛ لما فيه من صغار النفس، وضعف الطبع، فإنها كانت مع كل ما أصابها من أبي مسلم لا تزال تشعر بالرغبة فيه، وكلما تذكرته أحسَّتْ بشيء يُحسِّنه في عينيها، وكأن طول المدة أذهب ما في نفسها من الحقد عليه، ولكنه لم يؤثر على ما في قلبها من الميل إليه، فكانت تشعر بذلك الميل وتغالط نفسها لتسير مع التيار الذي دفعها غضبها فيه لطلب الانتقام، وصالح يحرضها على الثبات، ويحبب إليها الأخذ بالثأر، فلما طال جهاده وتوالى الفشل عليها، أخذت نقمتها تتقلص وتصغر، وحبها ينجلي ويظهر، ولا سيما بعد ما قاله لها إبراهيم، حتى جاءها صالح بخبر استتباب الأمر للعباسيين، وإخفاق مساعيه في إبدال دعوتهم، فأحست بانقشاع سحابة الحقد عن قلبها، وتجلَّت لها صورة أبي مسلم كما كانت على عهد شغفها به، وهوَّن الحب عليها كل عسير حتى أراها القصور مبنية في الهواء، فخيَّل لها أن أبا مسلم لم يفعل ما فعله بوالدها أو بها إلا جريًا على سياسته في نُصرة العباسيين، وليس كرهًا لها؛ فلعله — وقد تم له ما أراده من تأييد دولتهم — يُصغي لنداء قلبه، أو يشفق على انكسار قلبها — والمحب كثير الشكوك واسع الآمال — إذا أسعده الزمان بما يبتغيه، ووفِّق إلى الاجتماع بحبيبه، توالت عليه المخاوف لئلا يطرأ عليه ما يبعده عنه، وتكاثرت شكوكه في صدق محبته، وإذا جافاه حبيبه وعاداه، فيشعر كأن قلبه يتَّقد نقمة وحقدًا، ولكن ثمة أملًا يظلل ذلك الحقد.. والحب أمره عجيب!
فكانت جلنار تتنازعها الآمال وهي تغالط نفسها ولا تبوح لأحد بسرها، فلما جاءها صالح بذلك الخبر تأرجحت عواطفها بين الأمل والفشل، فلم تتمالك عن البكاء، ولم يكن وعد صالح ليخفف عنها كثيرًا؛ لتوالي عدم تحقيق وعوده، ولكنها أظهرت الارتياح لوعده وقالت: «وأي طريق تتوقع أن نصل به إلى مقصدنا؟»
فقال صالح: «تمهلي يا مولاتي، وعليَّ تدبير ذلك، وقد صبرتِ؛ فاصبري أيضًا. إن الله مع الصابرين.» فسكتت وأطرقت وتنهدت، فشعر أنها تضمر شيئًا، وخشي أن يكون الفشل قد أضعف عزمها، وهو يحتاج إليها في تنفيذ رغبته بقتل أبي مسلم، فقال لها: «يظهر لي يا مولاتي أن فشل سعينا هذه المرة قد أثَّر في عزمك؛ فلا تيأسي من الفوز وأنا عبدك ورهن إشارتك؛ أبذل نفسي في سبيل مصلحتك. وأنت تعلمين أنني تركت الناس وانقطعت إلى خدمتك، وعاديت أشد الناس وأدهاهم من أجل رضاك. وقد سعينا في معاكسة ذلك الرجل ولم ننجح، وقد بلغه سعينا وعرف مقصدنا بواسطة خازنه اليهودي على يدك، فلو أردنا الرجوع عن عزمنا فهو لا يلبث حتى يعثر علينا ويقتلنا، ولو عرفت أنه يكتفي بقتلي ويستبقيك لهان عليَّ ذلك؛ لأني أرغب اللحاق بوالدك — رحمه الله — فإن ما عنده خير مما عندنا وأبقى.»
قال ذلك وتظاهر بالإجهاش للبكاء، فأوهم جلنار أنه متفانٍ في خدمتها، وذكَّرها بمقتل والدها، فحرَّك عواطفها عليه، فندمت على ما مرَّ بذهنها من الميل إلى مسالمة أبي مسلم أو استعطافه، وبخاصة بعد ما سمعته من تلميح صالح من أن كشف أمرهم لأبي مسلم إنما كان على يدها، فأصبحوا مهددين بالقتل، فكيف يخطر ببالها الرجوع عن عزمها؟ فلم تر بدًّا من مسايرة صالح في قوله، فأنكرت ما توهمه فيها من ضعف العزيمة، وأكدت له أنها باقية على قصدها، وأنها لا يمكن أن تتنازل عن الانتقام لوالدها، ولكن يشق عليها ما يقاسيه هو من العذاب في سبيل ذلك، فأجابها بأنه يفعله راضيًا مسرورًا لما له من الرغبة في الثأر أيضًا.
قضت جلنار في ذلك الدير زمنًا وصالح يتردد عليها بالأخبار، وأهمها في تلك السنة هزيمة مروان بن محمد؛ آخر خلفاء بني أمية. وكان قد جاء بجيشه لمحاربة العباسيين في العراق، فهزموه في بلد يقال لها الزاب، فهرب إلى مصر، واغتيل ببلدة بوصير. وجاءها بعد أيام بنبأ قتل بني أمية وهو يستغربه، فقالت: «لا غرابة في قتلهم بالحرب.»
فقال صالح: «وأي حرب؟ إنهم قتلوهم غدرًا بعد أن أمَّنوهم وسمحوا بدخولهم إلى مجالسهم والجلوس بين أيديهم.»
فقالت جلنار: «قتلوهم بلا سبب؟»
فقال صالح: «نعم، بلا سبب ظاهر، ولكنني أظن أن أبا سلمة حرَّضهم على قتلهم، فدس شاعرًا قال بيتًا حرَّض به أبا العباس على قتلهم، فقتلهم دفعة واحدة. وعددهم نحو تسعين رجلًا.»
فقالت جلنار: «وما هذا الشعر الذي كان له قوة هذا التأثير؟»
فلما سمعت جلنار ذلك قطعت كلام صالح، ولم تتمالك عن الصياح قائلة: «أعوذ بالله! يا للفظاعة! يغدرون بضيوفهم ثم يأكلون الطعام فوق جثثهم وهم يسمعون أنينهم! إن ذلك لم يُسمع بمثله. لقد اقشعر بدني، ووقف شعر رأسي، قبحهم الله من أناس قساة القلوب.»
فقال صالح يعرِّض بما خطر ببال جلنار من هذا القبيل: «أمثل هؤلاء يُركن إليهم أو يرجى الصفح عنهم؟» فسكتت.
ولا تسل عن حال جلنار لما جاءها صالح بخبر مقتل أبي سلمة، فقد عظم مصابه عندها مثل مصاب والدها؛ لأنه كان يحبها ويكرمها، فسألت صالحًا عن سبب قتله، فقال: «وهل تجهلين السبب؟ إن القوم قد شكُّوا فيه فقتلوه، ونسوا ما كان يبذله من الأموال في سبيل نصرتهم. وهبي أنه كان ضدهم، ألم يكن الصفح أولى بهم لرجل بذل ماله ونفسه في سبيل دعوتهم، بعد أن ملكوا قياد الدولة وصارت الأموال إليهم؟»
فقالت جلنار: «عجبًا! إني لم أسمع بمثل هذا البطش والفتك، ولا أظن بني أمية كانوا أشد فتكًا من هؤلاء. وكيف قتلوه؟»
فقال صالح: «قد علمتُ أنهم شكُّوا في إخلاصه لهم، ولكنه حينما رأى الأمر قد انقضى، بايع في جملة الذين بايعوا، فقدمه أبو العباس وجعله وزيرًا — كأنه فعل ذلك ليبتز بقية أمواله — ثم عاد إلى ظنِّه، فحلَّ قتله عنده، ولم يجرؤ على القيام بذلك بنفسه، فكتب إلى أبي مسلم وهو في خراسان يستشيره في شأنه، فأجابه: «إنه أوجب الشك، واستحق القتل، فاقتلوه.» فلم يجرؤ على قتله خوفًا من الخراسانيين الذين معه، فبعث إلى أبي مسلم كي يرسل من يقتله، فأرسل رجلًا قتله سرًّا، وأشاعوا أن بعض الخوارج قتلوه. وهذا هو اعتقاد أهل الكوفة الآن، ولكنني عرفت الحقيقة.»
فبكت جلنار وقالت: «قبَّحهم الله، ما أقسى قلوبهم! إن أبا سلمة رجل ليس فيهم مثله.»
فقطع صالح كلامها وقال: «وأغرب من ذلك قتلهم سليمان بن كثير، فإن أبا سلمة — كما نعلم — كان ينوي الغدر بالعباسيين، وأما ابن كثير، فأشهد عند الله أنه لم يخطر بباله الغدر.»
فبغتت جلنار وقالت: «قتلوه أيضًا؟ وكيف ذلك؟»
فقال صالح: «لما قتلوا أبا سلمة، كما أخبرتك، اتفق أن ابن كثير قال كلمة نقلها بعضهم إلى أبي مسلم، فشك فيه فقتله جهارًا بلا تحقيق ولا نظر! فهل يؤمن جانب أناس مثل هؤلاء؟ فكل من عرفوا عنه انحرافًا ولو أظهر الطاعة فإنهم يفتكون به سرًّا أو جهرًا.» وقد أراد صالح أن يعرض مرة أخرى بما دار بينه وبينها في المرة الماضية؛ ليثبتها على عزمها ضد أبي مسلم، فرآها أصبحت تخشى ذكره؛ لأنه سبب تلك الفظائع كلها. وقد ارتكبها في أقل من عام.