خلافة المنصور
فلما أيقن صالح بثبات جلنار على عزمها، أخذ في تدبير الوسائل للفتك بأبي مسلم بنفس الطريقة التي قتلوا بها أبا سلمة، وأخذ ينتهز الفرص لذلك. فلما مات أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ﻫ، أفضت الخلافة إلى أخيه المنصور، فأيقن بوصوله إلى الغرض المطلوب بعد ما قدَّمه من التمهيد في هذا السبيل منذ لقيه في الحميمة وبشَّره بالخلافة، فلما علم بموت السفاح وخلافة المنصور ذهب إلى جلنار وأمارات السرور بادية على وجهه. وكانت جلنار تنتظر مجيئه بفارغ الصبر، فإذا رأته قادمًا خفق قلبها توقُّعًا لما عساه أن ينقله إليها من الأخبار، ثم تتفرس في وجهه وتستطلع ما في نفسه من سرور أو انقباض. فلما جاء في ذلك اليوم، رأت السرور باديًا على وجهه، فاستبشرت وفرحت، وكذلك ريحانة، فإنها كانت تقرأ عواطف مولاتها، فابتدرته قائلة: «هل من بشرى طيبة؟»
فقال صالح: «قد دنا وقت النجاح الأكيد؛ فمات أبو العباس وأفضت الخلافة إلى أخيه المنصور صاحبي. وهذا يؤمن بكرامتي، وقد بشَّرته بالخلافة منذ بضعة أعوام، وأرجو أن يكون تحقيق هدفنا على يده، وخاصة لأن في نفسه حقدًا على أبي مسلم من قبل الخلافة.»
فقالت جلنار: «وأي حقد في نفسه وأبو مسلم هو الذي سلم إليه الخلافة، ولو أراد تحويلها إلى سواهم ما لقي معارضًا؟»
فاستغرب صالح تصدي جلنار للدفاع عن أبي مسلم، وقد فاته أن الحب إذا تأصَّل في قلب الكريم لم تنزعه الكوارث، ولكنها تضغط عليه فتخفيه، فإذا أزيحت عنه عاد إلى رونقه بأحسن مما كان، فلما سمع صالح قولها تجاهل وغالطها وقال: «لا يخفى على مولاتي الدهقانة أن طلاب السيادة هذا شأنهم، فإنهم لا ينفكون عن المحاسدة والمفاخرة والمحاذرة؛ فأرى الآن أن أذهب إلى المنصور، فهو لا شك سوف يستقبلني بترحاب ويقدمني ويستبقيني عنده. وأحبُّ البقاء هناك؛ للسعي في أمرنا. فهل تبقيان هنا، أم تذهبان معي إلى الأنبار؛ لأن مقر الخلافة انتقل إليها؟»
فقالت جلنار: «كيف نبقى هنا وأنت بعيد عنا؟ إنني أرى أن ننتقل إلى الأنبار نقيم في بعض بيوتها، ولا خوف علينا؛ فإن الناس قد نسوا أمرنا، وكفانا هذا الحبس.»
ففرحت ريحانة برأي سيدتها؛ لأنها كانت قد سئمت الحبس في ذلك الدير، فقال صالح: «اسمحي لي بالذهاب أولًا وحدي؛ لأتجسس الأمور ثم أعود إليكما فأنقلكما إليه.» فوافقته على ذلك، لكنها ألحت عليه بسرعة الرجوع وقالت: «إذا أبطأت علينا سرنا إليك وبحثنا عنك في بلاط الخليفة.» قال: «حسنًا.» وخرج يتأهب لمقابلة المنصور، فصبَغ لحيته وبدَّل ثيابه، كما كان حين قابله في الحميمة منذ بضع سنوات، وزاد على ذلك أن تظاهر بإصابته بالرمد، وغطى عينيه بعصابة مبالغة في التنكر؛ لعلمه أن في دار المنصور أناسًا يعرفونه، ولا سيما خالد بن برمك. وكان قد رآه مرة في بيت دهقان مرو، والعينان أظهر ملامح الوجه، وأدل على صاحبهما من سائر الأعضاء.
أما المنصور فحالما أفضت الخلافة إليه تذكر مُنجِّم الحميمة وقال في نفسه: «لو جاءني لقربته مكافأة لبشارته.» فما لبث — وهو ذات يوم في داره بالأنبار — أن دخل عليه حاجبه الربيع وأنبأه بأن رجلًا كفيف البصر يطلب المثول بين يديه على انفراد، فأشار المنصور إلى مَن في حضرته من القواد فخرجوا، وأذن بدخوله، فدخل وهو مطرق يتوكأ على عكازه، وقد شدَّ عينيه بعصابة، وبدت عليه مظاهر الضعف، فلما أقبل على الخليفة سلَّم تسليم الخلافة ثم قال: «أشكر الله الذي أراني صاحب القباء الأصفر على كرسي الخلافة وإن كنت أرمد.»
فانتبه المنصور للرجل، فوقف له وأخذ بيده حتى أجلسه على وسادة بين يديه وهو يقول: «مرحبًا بالصديق القديم. إني ما برحت منذ جلوسي هذا المجلس وأنا أفكر فيك وأرجو حضورك؛ فاطلب ما تريد.»
قال: «لا أريد شيئًا يا أمير المؤمنين سوى تأييد دولتك، وطول بقائك، وقد أخبرتك يوم التقينا في الحميمة أني سآتيك على غير انتظار، وها أنا قد جئتك.»
فقطع المنصور كلامه قائلًا: «وما الذي أصاب بصرك؟»
قال صالح: «لست أدري ماذا أصابه، ولعلي ابتُليت بهذه المصيبة لأني لم أتمم المهمة التي جئتكم بها هناك كما ينبغي، فلم أستطع تبليغ الرسالة قبل نفاذ الحيلة في نجاة الإمام — رحمه الله — ولكنني لم أتعمد ذلك، كما تعلم. وعلى كل حال، فما أنا في حاجة إلى البصر لولا رغبتي في رؤية أمير المؤمنين.»
فقال المنصور: «هل أدعو لك طبيبًا يصف لك دواءً؟»
فقال صالح: «كلا يا مولاي، فإننا — معشر الزهاد — لا نستعين على الأمراض بالعقاقير، وإنما ندفعها بالأدعية.»
فقال المنصور: «فعسى أن يكون حضورك للإقامة عندنا هذه المرة.»
فقال صالح: «دعيت إليك لأكون في خدمتك إلى أن تستغني عني أو أموت؛ فإني لا أرجو البقاء طويلًا، ومثلي لا يليق بمقابلة الخلفاء أو مخاطبتهم، ولكنني علمتُ بما يحيق بدولتك من الأخطار لكثرة أعدائك وحسادك؛ فأحببت أن يكون لي يدٌ في تأييدها، على عجزي وقصر باعي.»
فقال المنصور: «بل أنت صاحب الفضل الأكبر؛ لأنك بشَّرتني بالخلافة وأنت لم تعرفني، فأحبُّ أن تكون عندي الآن. فإذا شئت جعلتك رئيس العرَّافين.»
فقال صالح: «عفوك يا مولاي، فإني فضلًا عن عدم استحقاقي لهذا المنصب لا أريد أن أسمي نفسي عرافًا؛ لأني لا أحمل أدوات التنجيم، وإنما أقول ما يلقيه إليَّ الهاتف أو يُلهمنيه الله، وقد كنت أستعين بالنجوم، فلما كف بصري اكتفيت بالإلهام، فإذا شئتَ أن أكون في خدمتك ضعني في حجرة من حجرات دارك، أو في مكان آخر لا يراني فيه أحد؛ لأني لا أرى أحدًا.»
فقال المنصور: «بل تقيم في داري لتكون قريبًا مني.» وصفق فجاء حاجبه الربيع، فأمره أن يأخذ ذلك الزاهد إلى حجرة منفردة في داره، ففعل وأمر بعض الخدم أن يقوموا بخدمته.
أما المنصور فلما خلا بنفسه عاد إلى دهائه وذكائه، وطلاب السيادة يومئذٍ يسيئون الظن حتى في أولادهم، وبخاصة المنصور؛ لفرط حذره وحزمه، فلما رأى ذلك الزاهد يطلب الإقامة في داره أساء الظن به، وأحب أن يختبر صدق كرامته وولايته؛ لئلا يكون دسيسة من أحد أعدائه، فجعل يفكر في رجل عاقل يختاره لامتحانه، ولم يكن عنده أعقل من خالد بن برمك — وكان مفضلًا عنده — والمنصور كثير الاعتماد على آرائه، فبعث إليه فجاءه، فأخبره بأمر الرجل الزاهد، على أن يكون ذلك سرًّا؛ لأنه اختاره على سائر العرَّافين ليستعين بآرائه عند الحاجة، إلى أن قال: «ولكنني أخشى أن يتعمد خداعي، فلا يكون عنده علم ولا ولاية، فادخل عليه وامتحنه.» وأمر الربيع أن يأخذه إلى حجرته.