كشف السر
فمشيا والمنصور معهما حتى أقبلا على الحجرة، فدخل خالد وظل المنصور والربيع بالباب بحيث يسمعان ما يدور بداخلها، فلما سمع صالح وقع الأقدام داخل الحجرة تظاهر بإعمال الفكرة. أما خالد فلم يزد على أن قال: «السلام عليك.» فعرفه صالح من صوته، فأجابه على الفور: «وعليك السلام يا ابن برمك. إنك خير الوزراء لخير الخلفاء.»
فدهش خالد لمعرفة اسمه، وفرح لتسميته وزيرًا، فأصبح يتمنى أن يعتقد المنصور في كرامته؛ فيعمل برأيه، ويجعله وزيرًا، فالتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير إليه أن يُغالطه، فقال خالد: «وما ذنبي عندك حتى جعلت والدي مجوسيًّا، فإذا كنت لم تعرفني فقد كان ينبغي أن تصمتْ.»
فضحك صالح وقال: «إذا كنت خالدًا، وقد وَلَدك برمك المجوسي، فما هو ذنبي عندك؟ على أن خروجك من صلب رجل غير مسلم لا يمنع فضلك، فإن النبي ﷺ لم يكن أبوه مسلمًا، وإذا كنت تقصد اختباري، فاسألني فأكشف لك ما يجول في خاطرك حتى لا يبقى عندك شك في إخلاصي.»
فأعجب خالد بذلك الجواب وسرَّه وجود مثل هذا الرجل في بلاط الخليفة؛ لعله يحتاج إليه في شيء. وكان ميَّالًا إلى الاعتقاد بمهارته؛ لأنه تنبأ له بمنصب الوزارة، ولكنه خشي إذا طلب إليه قراءة ما في ضميره أن يصرح بأمور لا يرضاها المنصور، والفرس لم تكن تخلو أفكارهم يومئذ من شيء على آل العباس، فأحب تأجيل ذلك لخلوةٍ يخلو بها معه. والتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير بالانصراف، فرجعوا وقد رسخ في أذهانهم صدق ذلك الزاهد في أقواله، وكرامته في استطلاع الخفايا، وأوصى المنصور الربيع ألا يأذن لأحد بمقابلته. وظل صالح وحده وهو يظهر من الضعف قوة، وقد سرَّه أن يكون الممتحن خالد بن برمك؛ لأنه مطلع على كثير من أحواله، ويعرف صوته، وخالد لم يخطر بباله أنه الضحاك الذي رآه في منزل دهقان مرو منذ بضع سنين؛ لاعتقاده أنه قُتل مع ابن الكرماني.
أما خالد فاشتغل خاطره بالزاهد، وأراد مقابلته على انفراد لحاجة في نفسه يريد أن يسأله عنها، فلما سمع الخليفة يوصي الربيع بمنع الناس عنه تقدَّم إليه أن يأذن له بمقابلته، فقال للربيع: «امنع الناس كافةً إلا خالدًا.» لأنه كان يحبه، ويثق به، ويعتمد على آرائه.
فسرَّ خالد بهذا الإذن، وبادر في صباح الغد فدخل على صالح فحَّياه، فرحب به صالح وأثنى عليه، وبشَّره ومنَّاه استجلابًا لرضاه عنه، واستدناه لاعتقاده به، فجلس خالد بين يديه وقال: «لقد جئت إليك في أمر يهمني الاطلاع عليه، فإذا كشفته فرَّجت كربة كثيرين.»
فقال صالح: «قل؛ لعلي أستطيع ذلك، بإذن الله.»
فقال خالد: «لي صديق وقع في مشكلة لا دخل لها في السياسة أو الحرب، وإنما هي تتعلق بشخصه وشخص آخر يحبه، ولكنه لم يعد يعرف مكانه، وهو يحب أن يعرفه.»
فمد صالح يده حتى قبض على يد خالد وقال: «صرِّح لي أو أعطني أثرًا من آثار ذلك الحبيب فأعرفه.»
فقال خالد: «لا سبيل لي إلى شيء من آثاره، ولكنني أزيدك تصريحًا. أتعرف أبا مسلم الخراساني؟»
فاستبشر بذكر اسمه لعله يستفيد من حديث خالد عنه بما يُعينه على الفتك به، فقال: «ومن لا يعرف صديقك أبا مسلم؟!»
فقطع خالد كلامه قائلًا: «لا تقل صديقك؛ لأن الخليفة ثائر عليه وقد اتَّهمه، وأرجو ألا تكون لي يدٌ في هذه التهمة؛ ولذلك قلت إنه سؤال لا علاقة له بالسياسة ولا بالحرب، وإنما مسألة أبي مسلم خاصة، تتعلق بفتاة أحبَّته ولم يحبها، فأساء إليها، ثم ندِم فأحبَّ أن يُقرِّبها فلم يعثر لها على أثر، ولا يزال يبحث عنها. فهل تعرف مكانها؟»
فلما سمع كلامه تذكر ما قالته جلنار عن موعد إبراهيم الخازن، فعلم أنه إنما جاء للبحث عنها، وتذكر ما لاحظه من عودة آمالها وتحرُّك قلبها، وأيقن أن أبا مسلم ينوي قتله وأخْذ جلنار منه، وإلا لما كان ثمة باعث على فراره منه، وقال في نفسه: «لقد آن وقت العمل.»
فلما فرغ خالد من كلامه كان صالح لا يزال قابضًا على يده، فأطرق كأنه يفكر في أمر هام، ثم رفع رأسه وقال: «مسكينة جلنار! كم أحبت هذا الخراساني وخدمته! وكم أساء إليها وعذبها! فما الذي غيَّر شعوره نحوها؟»
فدهش خالد لذكره اسم الفتاة وملخص حديثها، واقشعر بدنه وقال: «إن الذي غيَّر شعوره هو أنا؛ لأني كنتُ على علم بحبِّها له، وتفانيها في خدمته حتى قتلتْ زوجها لأجله، ثم اتَّهم أبو مسلم والدها بالخيانة وقتله، فجاءت لتُعاتبه على انفراد — ولم أكن حاضرًا — وفي صباح اليوم التالي أخبرني بما كان من غضبه عليها وسجنها، ورأيت في كلامه ضعفًا، وتوسمت فيه ندمًا على ما فرط منه على غير عادته، فأخذت في تأنيبه، وحببت إليه تقريبها والزواج بها، فرضي وبعث يستقدمها من السجن، فقيل له إنها ليست هناك، فبحث عنها في دار الإمارة، وبث الناس في أطراف المدينة فلم يقفوا لها على خبر، فتحققنا أنها هربت إلى مكان بعيد.
وكنت شديد الرغبة في معرفة أخبارها؛ لاعتقادي أنها مظلومة، وأحببت أن تُنصف، فحرضت أبا مسلم على البحث عنها في الأطراف البعيدة، فكلف رجلًا يهوديًّا عنده أن يفتش عنها، ووعده إذا جاء بها أن يعطيه مالًا كثيرًا، فتنكر اليهودي وأخذ في البحث حتى عثر عليها في الكوفة بمنزل أبي سلمة، وأوشك أن يظفر بها، ولكنها غيَّرت مكانها وكأنها طارت بين السماء والأرض، فعاد إلينا بهذا الخبر، فغضب أبو مسلم عليه وأرجعه للتفتيش عنها ثانية. وقد جاءني منذ بضعة أيام وأخبرني أنه لم يعثر عليها، فهل هي على قيد الحياة؟ وهل تعرف مكانها؟»
وكان خالد يتكلم وصالح يتابعه في الحديث كأنه مطلع على القصة، فإذا توقف خالد أعانه بكلمة مما يعلمه، وخالد لا يستغرب ذلك لما سبق إلى ذهنه من الاعتقاد في كرامته.
فعلم صالح من سياق الحديث أنهم لم يكونوا يعلمون ببقائه حيًّا، ولا أخبرهم إبراهيم بذلك؛ خوفًا من ضياع فضْله في قتله، مع أنه ينبغي أن يكون قد علم هو ببقائه حيًّا في اليوم الثاني لمقتل ابن الكرماني؛ إذ لم يجدوا جثته هناك، وعلم أيضًا أن إبراهيم قريب من ذلك البلد، أو ربما كان في بلاط الخليفة، فأحب أن يتحقق من ذلك فقال: «إنها على قيد الحياة، ولا يصعب عليَّ معرفة مكانها. إنما يحتاج ذلك إلى مهلة قليلة، ويلوح لي أنها ليست في مكان بعيد من هنا. ألم تسأل العرَّافين عن ذلك؟»
فقال خالد: «سألت غير واحد، فاختلفوا وتناقضت أقوالهم، وليس فيهم مَن يُعتمد عليه برغم رغبة أمير المؤمنين في الاستكثار منهم للاستعانة بهم، ولم أجد بينهم أحدًا مثلك.»
فقال صالح: «إن أكثر عرَّافي هذا الزمان ينتحلون الصناعة لابتزاز الأموال، ويخبطون في أقوالهم خبط عشواء، وإنما هي موهبة يختص الله بها أناسًا، وقلَّما يستطيعها أحد بالاجتهاد، على أن بعضهم يتخذها وسيلة لغرض خاص، كما يفعل العرَّاف حاييم.»
فضحك خالد لمعرفة صالح ذلك الاسم الجديد وقال: «مسكين حاييم. أين هو من التنجيم؟ ومع ذلك فهو منخرط في جملة عرافي المنصور يقبض مرتبًا مثل مرتباتهم.»
فعلم صالح أن صاحبه في بلاط الخليفة من جملة العرَّافين، فسكت وتزحزح من مكانه، فأدرك خالد أنه قد حان انصرافه، فنهض وودعه وأوصاه أن يكتم ما دار بينهما، فوعده بذلك، وأنه سيخبره عن مكان جلنار بعد بضعة أيام، فخرج خالد وقد تولته الدهشة؛ إذ لم يكن يظن أن مثل هذا الرجل يوجد فى الأرض، فذهب توًّا إلى داره وبعث إلى إبراهيم اليهودي، فلما جاء سأله: «هل وجدت الفتاة؟» فأجاب: «كلا.»
فقال خالد: «قد وجدت عرافًا يستطيع الوقوف على مكانها.»
فقال إبراهيم اليهودي: «ومن هو؟ أريد أن أراه.»
فقال خالد: «لا سبيل لأحد إليه؛ فإن أمير المؤمنين لا يأذن في الدخول عليه لأحد. وقد طلبت مقابلته من أجل هذا الأمر، فلمست فيه مهارة غريبة، ولم أكد أسأله عن الفتاة حتى تلا عليَّ خبرها، وعرف مساعيك، وأنك انتحلت صناعة العرَّافين لهذه الغاية، وأن اسمك كعرَّاف حاييم، ونحو ذلك مما أدهشني، وكنت أود أن تلقاه لولا ما ذكرته لك من تشديد الخليفة في منع مقابلته.»
وكان إبراهيم يسمع كلام خالد وهو يفكر فيمن عساه أن يكون هذا العرَّاف، فلما سمع ما قصه عليه من معجزاته تبادر إلى ذهنه أنه عرَّاف كاذب مثله، ولم يستبعد أن يكون هو صاحبه الضحاك، وقد تحقق من بقائه حيًّا في الكوفة يوم أن التقيا بباب أبي سلمة وتناكرا، فسأل خالدًا عن شكل الرجل وملبسه، فأخبره أن على عينيه عصابة، وأن لحيته محناة، فسأله عن قامته فقال: «لم أرَه واقفًا، ولكن يظهر أنه طويل.» فلم يشك إبراهيم أنه صاحبه بعينه، وبخاصة لتنكُّره بالرمد، فإنها حيلة تعلمها الضحاك منه يوم أن التقوا ومعهم القصاص في معسكر شيبان بضواحي مرو، فتجاهل ولم يُبدِ أية ملاحظة، ولكنه عزم على الحذر، فصرفه خالد وعاد وهو متعلق الذهن بذلك الزاهد، وأحب أن يلقاه ثانية فبكر إليه في الغد، وأخبره أنه التقى بإبراهيم، وأنه أطنب له فيما شاهده من كرامته ومهارته.
فلم يفرح صالح بما سمعه من هذا الإطناب، وساءه ما قاله عنه لإبراهيم؛ خشية أن يدعوه ذلك إلى الشك فيه؛ لعلمه أنه لم يطلع أحدًا على تلك الحقائق غيره، على أنه كتم استياءه، وأثنى على خالد، وعمد إلى اجتذاب قلبه إليه كما اجتذب قلب المنصور قبله بتبشيره بما تتوق إليه نفسه. وكان خالد يطمع فى الوزارة، وهو أكفأ حاشية الخليفة لها، فقال له صالح: «إن الله سيكافئك على سعيك في التوفيق بين هذين المحبين بأكبر منصب تطمح إليه الأبصار بعد الخلافة.» فأدرك خالد أنه يُبشِّره بالوزارة فانشرح صدره، ولكنه تذكَّر ما يحول دون ذلك من انشغال المنصور بأبي مسلم؛ إذ خشي أن ينتقم المنصور بسببه على سائر رفاقه القواد، فيلحقه نصيب من تلك النقمة، فأراد أن يستفتي الزاهد في ذلك، فقال له: «أحب أن أستفتيك في مسألة أخرى تهمني، وقد شغلت بالي، وبالطبع أرجو أن يكون ذلك سرًّا بيني وبينك.»
فقال صالح: «قل. لا تخف.»
فقص عليه خالد سبب غضب المنصور على أبي مسلم، وأنه ينوي القبض عليه خوفًا منه، وأطلعه على تفاصيل لم يكن يعرفها، ثم سأله: «هل تظن أن المنصور يجعل نقمته عامة على سائر أنصاره؟»
فأطرق وهو يعمل فكرته، ثم قال: «كلا؛ لأن المنصور لم يتغير على أبي مسلم لأنه قام بدعوته، بل لأنه طمع في الملك لنفسه، وهبْ أنه نقم على سائر الخراسانيين، فلن ينقم عليك.»
فاطمأن باله وخرج مسرعًا؛ خشية أن يأتي المنصور فيراه هناك.