المنصور وأبو مسلم
وظل صالح ينتظر مجيء المنصور، فما لبث أن جاءه وحده ودخل عليه خلسة حتى دنا منه وقبض على يده ليبغته، فلم يبغت؛ لعلمه أنه لا يجرؤ أحد على ذلك غير الخليفة، وكان قد سمع صوته من عهد قريب بجوار حجرته، فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.»
فقال: «وعليك السلام. كيف ترى حالك؟»
قال: «أراني في نعيم — والحمد لله — لصدق بشارتي، ويسرني أن أرى أمور المسلمين في قبضة أمير المؤمنين — أيده الله — ولكن هل تذكر عبارة قلتها لك يوم تلك البشارة؟»
قال المنصور: «أذكر كلامك كله، ولم أنس منه حرفًا. أظنك تعني الظُّلمة التي تُحدق بخلافتي؟»
قال: «نعم. هذا ما أعنيه، وقد عرفته قبل وقوعه، وأظنه وقع، فلماذا تكتمه عني؟»
قال المنصور: «لم أكتمه، وقد جئتُ الآن بشأنه، ولكن ما هي الظلمة التي تعنيها؟»
قال: «أتمتحنني يا أبا جعفر؟ إن الظلمة التي أعنيها إنما هي مطامع الناس في خلافتك، وبعضهم في الحجاز، والبعض الآخر في خراسان، وآخرون في هذه المدينة، بل في قصرك يؤاكلونك ويشاربونك.»
فجاء كلام صالح مطابقًا لما في نفس المنصور كل المطابقة؛ لأنه كان يخشى العلويين في الحجاز بعد أن بايعهم على أن تكون الخلافة بعد بني أمية لمحمد بن عبد الله الحسني، وأراد المنصور نكث البيعة وحصر الخلافة في بني العباس. وكان يخشى أبا مسلم إذا أقام بخراسان؛ لأنه قادر على نقل الخلافة، والناس يطيعونه، وكان يخاف بعض أهله على الخلافة، وفيهم أعمامه وأبناء عمه، وهم مقيمون معه يؤاكلونه. فلما سمع ذلك من صالح زاد يقينًا بكرامته ومهارته فقال: «صدقت. إني أخافهم الأقرب فالأقرب.» يعني بعض أعمامه.
قال صالح: «ليس أدعي للخوف من ذلك الخراساني الفتاك.»
قال المنصور: «تعني أبا مسلم؟»
قال صالح: «إياه أعني؛ فإن نجمه في أسمى المطالع، ولو استنهض الحجارة لنهضت معه، ولو حارب الأبالسة لغلبهم. هذا الذي يُخشى بأسه، ولكنني أرى نجمك أسمى من نجمه، وسعدك أبقى من سعده.»
لم يبق لأمير المؤمنين — أكرمه الله — عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيتَ إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضتُ ما أبرمت من عهدك ضنًّا بنفسي.
أما بعد، فإني اتخذت رجلًا إمامًا ودليلًا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلًا، وفي قرابته من رسول الله ﷺ قريبًا، فاستجهلني بالقرآن فحرَّفه عن موضعه طمعًا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي ولَّاني بغرور، وأمرني أن أجرد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلتُ توطئة لسلطانكم حتى عرَّفكم الله من كان يحملكم، ثم أنقذني الله بالتوبة، فإن يعفو عني فقد فعل ما عُرف به ونُسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدَّمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.» فأشكل عليَّ أمر هذا الكتاب، فجمعت العرَّافين منذ بضعة أيام، وطلبت إليهم استطلاع ما في نفس الرجل، فأحسنوا الثناء عليه وقالوا: «إنه تاب عما كان فيه، وإذا أحسنتَ الظن به وقرَّبته نفعك.» فأمسيت في حيرة من الأمر؛ هل أصدق هؤلاء، أو أظل على عزمي في القبض عليه؟ وكنت أنا في حيرتي هذه أفكِّر فيك، وأطلب إلى الله أن يرسلك إليَّ لعلك تطلعني على الصواب.
وكان صالح يسمع كلام المنصور وهو جالس متكئ بكوعيه على فخذيه، ووجهه نحو الأرض كأنه ينظر فيها، فلما فرغ المنصور من كلامه رفع صالح رأسه وقال: «أي العرَّافين يقول إن الرجل تاب وأن بقاءه ينفعك؟ إن صوت قلبك — يا أمير المؤمنين — أصدق من تكهُّن العرَّافين، وخاصةً إذا كان فيهم عراف يهودي اسمه حاييم.»
فاستغرب المنصور معرفته ذلك الرجل وقال: «قد لاحظت من حاييم هذا رغبة شديدة في تبرئة أبي مسلم، وإثبات حسن نيته أكثر من سائر العرَّافين.»
فقال: «لأنه صنيعته، وهو عين له عليك.»
فدهش المنصور لصدق ذلك الزاهد في كل ما قاله، كأن الغيب كتاب مفتوح بين يديه يقرأ منه ما شاء. وكان المنصور قد أساء الظن بذلك اليهودي؛ لأنه لمس فيه الرياء والمكر، فقال: «أظنك على صواب فيما قلتَ، وسينال هذا اليهودي عاقبة سعيه. فماذا ترى أنت في نية أبي مسلم؟»
قال: «كما ترى أنت يا أمير المؤمنين؛ فإني أرى في بقائه خطرًا عليك وعلى دولتك، ولا تعبأ بما جاء في كتابه من عبارات الاعتذار؛ فإنه يلقي التَّبعة على أخيك الإمام — رحمه الله — أو هي حيلة يحتالها عليك ريثما يتمكن منك فيُقاتلك، وتندم حيث لا ينفع الندم، وكأنني فهمت من كلامك أنك إذا قبضت على أبي مسلم تنوي استبقاءه محبوسًا، وقد قلتُ لك إن بقاءه خطر عليك وعلى دولتك؛ لأن الرجل لا تقتصر مطامعه على ولاية خراسان، وإنما هو طامع في الخلافة.»
فضحك المنصور وقال وهو يظهر الاستخفاف: «لا أظنه يبلغ به جنونه إلى هذا الحد؛ لعلمه أن نسَبه أقصر من أن يتطاول إلى هذا المنصب، وهو مولًى أعجمي، والخلافة لا تكون في غير قريش.»
قال: «أتوسل إلى مولاي أمير المؤمنين إذا قلتُ قولًا ألا يكذبني لأني لا أقول شيئًا من عند نفسي، فأبو مسلم طامع في الخلافة، ولم يغفل عن حصرها في قريش؛ ولذلك فهو ينتحل لنفسه نسبًا فيهم، فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن العباس جدِّكم.»
فلما سمع المنصور قوله وثب من مكانه وثوب الأسد، وقد غلب عليه الغضب، ولم يتمالك أن قال: «يا للجرأة والوقاحة! صدقت. يظهر أنه طامع في الخلافة، وهو يستخف بي؛ فقد كتب إليَّ يخطب عمتي، وجعل اسمه في ذلك الكتاب قبل اسمي؛ فبقاؤه حجر عثرة في طريق دولتنا ولا بد من قتله، ولكنني قد يئستُ من استقدامه بالحسنى، وهو مقيم في حلوان، وينوي الانتقال إلى خراسان.»
قال: «أهديك إلى وسيلة لاستقدامه على أهون سبيل؛ ذلك أن تكتب إليه كتابًا مع رجل ليِّن اللسان يخاطبه بلطف، ويرغِّبه في الحضور إليك، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته وجعله وزيرًا لك، وتوصي رسولك إذا لم يفلح منه بالحسنى أن يهدده بأنك ستحمل عليه حالًا وهو بحلوان بعيدًا عن رجاله الخراسانيين.»
فقطع المنصور كلامه قائلًا: «هذا الذي كنت عازمًا عليه.»
فقال صالح: «بقي عندي رأي؛ وهو أن تستكتب حاييم اليهودي كتابًا إلى أبي مسلم يختمه بخاتمه يدعوه فيه إلى المجيء ويطمئنه، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته. اكتب أنت ما تراه من هذا القبيل على لسان هذا اليهودي إلى أبي مسلم، وأحضر الرجل واجعله يختم عليه بخاتمه — وسترى اسمه على خاتمه «إبراهيم»، فلا تستغرب؛ لأن هذا هو اسمه الحقيقي — وتبعث هذا الكتاب مع رسول آخر يدفعه إلى أبي مسلم على حِدةٍ كأنه مرسل من صاحبه هذا. وبعد أن تدبر هذا التدبير انتقل إلى بلد آخر، وابقِ جندك الخراسانيين هنا، وأوصِ رسولك أن يأتي بأبي مسلم إلى ذلك البلد، فإذا سار إليك أسرع في قتله، واحذرْ أن تُبقي عليه. هذه وصيتي، وليست هي من عندي، وإنما أقول ما يُلقى إليَّ!»
قال: «حسنًا، ولكن لا بد من ذهابك معي؛ فقد أصبحت لا أستغني عنك.»
قال: «سمعًا وطاعة، ولكنك تأذن لي أن أعرِّج في أثناء ذهابي إلى مكان مبارك لي فيه نذر، ثم آتيك إلى حيث شئت.»
قال المنصور: «لا بأس من ذهابك. وما رأيك في المكان الذي سأنتقل إليه؟»
قال صالح: «أرى أن تنتقل إلى المدائن؛ لتوسطها بين البلدين، ولأنها المدينة التي هُزم فيها الفرس في أول الإسلام، وسيهزم فيها هذا الفارسي أيضًا، بإذن الله.»
فأعجب المنصور بهذا التعليل وتفاءل به وقال: «سأفعل. ومتى عدتَ وافِني إلى هناك.»
ثم ندم المنصور على الإذن بذهاب الزاهد لئلا يفلت منه ثم لا يراه، أو أنه يطلب الفرار خلسة، فقال: «ولكنك كفيف البصر، فينبغي أن أرسل معك من يتولى خدمتك في الطريق.» فلم يسع صالحًا إلا القبول، وأخذ في التأهب، فخرج المنصور من عنده، وأمر الحاجب أن يعد له فرسًا ويرسل معه رجلين من الخدم يكونان في ركابه حتى يعود.