من القلب إلى القلب
وكان صالح ينوي الذهاب إلى جلنار؛ ليطمئنها وينصحها بالبقاء في الدير ريثما تهدأ الأحوال؛ لأنه تذكر قلقها ورغبتها في مرافقته، حتى إنها هددته إذا أبطأ عليها أن تلحق به كأن قلبها قد دلها على أن أبا مسلم قد بدأ يحبها، فأحستْ بما يجتذبها نحوه. وهذا هو الذي يخشاه صالح على نفسه؛ لأنها إذا أتت إلى دار الخلافة وعلم بها خالد أو إبراهيم أخبروها برسالة أبي مسلم، فتسعى في إنقاذه، فإذا نجحتْ بقي أبو مسلم حيًّا فيقتله، فضلًا عما في ذلك من إخفاق مسعاه.
وخرج المنصور فكتب الكتابين كما أشار صالح، وبعث إلى العرَّاف حاييم «إبراهيم الخازن»، فلما دخل عليه دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو خائف من تلك الدعوة — ويكاد المريب أن يقول: «خذوني.» — وخاصةً بعد علمه بوجود الزاهد «صالح» في دار الخلافة، فلما دعاه الخليفة خشي أن يكون صالح قد وشى به، فيقتله المنصور على التُّهمة. فلما جلس بين يديه لاحظ المنصور خوفه فقال له: «لا تخف يا حاييم؛ لأني دعوتك لتساعدني على إقناع أمير بني العباس (أبي مسلم) أننا لا نريد به شرًّا؛ لأننا كاتبناه غير مرة ندعوه إلينا وهو يأبَى، مع أنك تعلم حسن ظننا به، كما تعلم صدق توبته ورجوعه إلى الصواب؛ فاكتب إليه كتابًا اذكر فيه صدق نيتنا في ترقيته، وأن ليس له عندنا ما يكرهه.»
فعلم إبراهيم أن المنصور لم يكلِّفه بذلك إلا لعلمه بصداقة أخبره بها صالح، فقال: «وما الفائدة من كتابي إلى جانب كتاب أمير المؤمنين؟»
فقال: «إنه نافع، بإذن الله.» وكان المنصور قد أمر الكاتب فأعدَّ كتابًا يرغِّب أبا مسلم فيه بالحضور، ويؤكد له حسن ظن الخليفة، فدفعه إلى إبراهيم وقال له: «هات خاتمك.»
فارتبك إبراهيم في أمره، ولم ير مندوحة عن الطاعة، فمد يده إلى منطقته وأخرج كيسًا صغيرًا من جانب الدواة دفعه إلى الكاتب، فأخرج الكاتب من الكيس خاتمًا طلاه بالمداد وختم به الكتاب ودفعه إلى المنصور، فقرأه فإذا هو «إبراهيم»، فلم يبدِ ملاحظة، ولكنه ضحك وقال: «يظهر أنك ذو اسمين: اسم داخلي، واسم خارجي. لا بأس عليك.» وتلطف المنصور معه لعله يحتاج إليه في كتاب آخر، ولكنه أبقى الخاتم عنده، وأقام الأرصاد على إبراهيم لئلا يخرج من الأنبار. وذهب المنصور في اليوم التالي إلى المدائن مع جماعة من خاصته، وترك سائر الجند في الأنبار، ولم يُظهر غرضه لأحد، واصطحب بعض العرَّافين، ولبث ينتظر مجيء الجواب من أبي مسلم، ويود مجيء الزاهد قبلًا ليستعين برأيه إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
أما الزاهد «صالح» فإنه ركب إلى دير العذارى، فلما وصله أبقى الخادمين مع الفرس خارجًا، ودخل وقد رفع العصابة عن عينيه وتشدد، وسار حتى لقي جلنار في غرفتها، فوجدها في حالة يرثى لها من البكاء، وريحانة إلى جانبها تخفف عنها. ولما وقع نظرها عليه صاحت فيه: «آه يا صالح! لقد طال سجني في هذا الدير، ونفد صبري، وقلبي يحدثني بخير عند خروجي منه، وتراكمت عليَّ الأحلام على غير المعتاد. ولا أظن أبا مسلم باقيًا كما كان؛ فقد رأيته في منامي جاثيًا بين يدي يلتمس العفو عما اقترفه نحوي وهو يبكي ويتوسل. تأمَّل يا صالح. رأيت أبا مسلم الخراساني؛ بطل المسلمين، يبكي بين يدي، فهممت أن أقبِّله فاستيقظتُ، وذهب خياله من أمام عيني، ولا أزال أبكي إلى الآن.» قالت ذلك وهي تكاد تشرق بدموعها.
فاستغرب صالح مطابقة حلمها للواقع، وكاد يبكي لبكائها لولا فظاظة قلبه؛ لأنه لم يسمع منها مثل هذا التصريح قبل تلك الساعة، كأن عواطفها طفحت فلم تعد تملك نفسها، فاستسلمت لرغبة قلبها وباحت بسرها. فلما رآها صالح على تلك الحال لم ير خيرًا من تسكين ما بها بالكلام اللين، وتكذيب الأحلام وطمأنتها؛ لتبقى في الدير بضعة أيام أُخَر، ريثما يتم ما بدأ به من مقتل أبي مسلم، فقال لها: «ما لي أراك على غير ما أعهده فيك من التعقل والرزانة؟ أمن أجل حلم لا معنى له تبكين وتنتحبين وتصدقين المستحيل؟ ومتى كانت أضغاث الأحلام مما يُعوَّل عليها في تصاريف الزمان؟ دعي الأوهام وارجعي إلى رشدك. إذا كنت تتوقعين من أبي مسلم حبًّا؛ فإنك تطلبين من النار ماء؛ لأنه رجل لا قلب له يحب به أحدًا، حتى ولا امرأته؛ فكيف تأملين أن يندم على مجافاتك، بل كيف تتوقعين حبه؟!»
فلما سمعت كلامه لم تتمالك أن صاحت فيه: «ألم تكن أنت أول من نقل إليَّ خبر حبه؟ وأسررت إليَّ ما في نفسه من الشغف بي، وأنه إنما يمنعه من التصريح به خوفه من ألا يكون عندي مثل ما عنده؛ فكيف تقول الآن إنه لا قلب له يحب به، وتستغرب بكائي شوقًا إليه، وتستبعد أن أخطر بباله؟ لقد رأيته الليلة رأي العين كأني في يقظة، أو كأن روحه ناجت روحي. لا شك أنه يحبني. هل يمكن أن يكون قلبي مخدوعًا إلى هذا الحد؟ كيف يمكن أن يبلغ مني حبه هذا المبلغ حتى أراه في المنام كاليقظة، وأتلقَّى عذابه كالراحة، وأنسى سيئاته وإن كثرت، وأموت أو أحيا بكلمة منه، ويكون هو بلا قلب ولا عقل؟ فإن لم يلتفت إليَّ حبًّا، فإنه يرقُّ لي شفقة.» قالت ذلك وقد بحَّ صوتها، وخنقتها العبرات، وتكسرت أهدابها، واحمرَّت عيناها من البكاء، وريحانة تضمها وتقبلها وتخفِّف عنها، ودموعها تتساقط بلا صوت كأنها تبكي همسًا.
فتعجب صالح لتفاهُم القلوب، ومطابقة تلك الرؤيا للحقيقة، وحدثته نفسه أن يبوح لها بحب أبي مسلم وندمه، ثم توقف؛ لعلمه أنها إذا علمت بذلك فسدت خطته، فتماسك وقال وهو يظهر العتاب: «لا بأس يا مولاتي، إني أحتمل هذه الإهانات إكرامًا لمحبة والدك — رحمه الله — ولا أعتب عليك؛ لأنك فتاة لم تعرفي أمور الدنيا. أهذه عاقبة سعيي في خدمتك طول هذه المدة؟»
فخجلت جلنار لهذا التوبيخ، وتقدمت ريحانة وهي تقول: «لا عتب على مولاتي مهما قالت وهي فيما تراه من التأثر. لستُ أدرى ما الذي أصابها منذ ألقى إليها ذلك اليهودي هذه العبارة. ليته مات قبل ذلك الحين.»
فقال صالح: «وهل إذا أذنب اليهودي أُعاقب أنا؟ لقد تحملت المشاق في هذه البراري لأطمئن عليكما، وأبشركما بقرب النجاح، فبدلًا من أن تلقياني بالترحاب، وتسألاني عما جرى، تُسمعانني هذا التوبيخ؟ لا بأس يا سيدتي. هل عندكما طعام؟ فإني لم أتناول طعامًا منذ أمس.»
فخجلت جلنار، وأسرعتْ ريحانة وأتته بما عندها من الطعام، فأكل وهم سكوت، وقد هدأ روع جلنار فندمت على ما أظهرته من الحدة، ولكنها استنكفت الاعتذار، وشعرت بتغيير قلبها، وأحست لسبب لا تعلمه بما يُنفرها من صالح، وأصبحت إذا نظرت في عينيه اعتراها نفور، فلم تعد تستطيع الاقتراب منه، فنهضت إلى غرفة أخرى واستلقت على الفراش وهي تتظاهر بالتعب والنعاس. وظلت ريحانة بين يدي صالح تعتذر عما فرط من سيدتها، وسألته عما جرى، فأظهر أنه متأثر مما سمعه وقال: «سأخبرك عن ذلك في المرة القادمة، فإني أسعى جهدي في مصلحتها، ولا أبالي بغضبها أو رضاها، فاسمحي لي أن أنصرف الآن، ومتى أفاقت مولاتك أهديها سلامي.» قال ذلك وخرج فأصلح عصابة عينيه وعاد إلى ما كان عليه، فوجد الخادمين في انتظاره بالجواد، فركب وعاد.