الظل والسحاب
فلما أشار أبو مسلم إلى الحزمة توجَّهت عينا الدهقان إليها، فأدرك أبو مسلم أنه يريد رؤيتها، فنادى الرجلين اللذين كانا يحملانها فأسرعا إليها وحملاها، فلم تسعها القاعة لطولها، فأدخلوها من أحد طرفيها، وظل الطرف الآخر خارجًا، وكانت ملفوفة بقماش أسود ففكَّاه وأخرجا منه لواء أسود وراية سوداء. واللواء معقود على رمح طوله ١٤ ذراعًا، والراية على رمح طوله ١٣ ذراعًا، فوقف أبو مسلم احترامًا للواء وقال: «إن هذا اللواء يسمى الظل، والراية تسمى السحاب، ولونهما أسود. واللون الأسود هو الشعار الذي اختاره الإمام إبراهيم لشيعته، فهم من اليوم يلبسون العمائم السود، والأقبية السوداء، وراياتهم أيضًا سوداء، كما ترى.»
وكان الدهقان قد وقف حالما رأى أبا مسلم واقفًا، ووقف خالد أيضًا، فهمَّت جلنار بالوقوف فلم تساعدها ركبتاها لما غلب عليها من التأثر بعد ما شهدت من أبي مسلم وما سمعت، وأنه قائد هذا الجند، فأصبح همُّها الاطلاع على مكنونات قلبه من جهتها؛ لعله ينتبه لها فيرمقها بنظرة تفهم منها شيئًا فيطمئن بالها، فوقفت وهي تستند إلى أحد الأعمدة، وتصدرت قليلًا حتى انتبه لها خالد، فنظر إلى وجهها نظرة الإعجاب والدهشة. أما أبو مسلم فبالغ في التجاهل والإغضاء حتى كأنه لا يرى شيئًا.
ولما فرغ أبو مسلم من كلامه قال الدهقان: «وما المراد باختيار السواد شعارًا لبني العباس؟ ألعلهم أرادوا الإشارة إلى الحداد على قتل أهل البيت العلويين، ومنهم علي والحسين وغيرهما أم ماذا؟»
فجلس أبو مسلم وهو يشير إلى الرجلين أن يعيدا الحزمة كما كانت، وجلس خالد والدهقان، وظلت جلنار واقفة، ثم قال أبو مسلم: «إن السواد شعار أهل بيت النبي؛ لأن راية النبي كانت سوداء؛ وهي راية العقاب.»
أما الدهقان فقد وقر في نفسه ما علمه من أمر الشيعة، وخاف على نفسه من أبي مسلم إذا علم ما في ضميره، فيشك فيه، والإمام قد أوصاه إذا شكَّ في أحد أن يقتله، فتظاهر بالتحمس وقال: «لقد أيقنت الآن بفوزكم وظهور الفرس، ولا بد من استنجاد سائر الدهاقين وترغيبهم في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزالون على المجوسية.»
فقال خالد: «إذا أسلم الدهاقين وأنجدونا بأموالهم ورجالهم فإنما ينجدون أنفسهم؛ لأنهم ينشئون دولة فارسية ترفع شأن الفرس.»
فقال الدهقان: «إني ضامن لكم إسلام معظم الدهاقين في خراسان، والأموال كثيرة.» ثم صفق فأتاه غلام، فأمره أن يستدعي خازنه.
فلما سمعه أبو مسلم يدعو خازنه أدرك أنه يريد أن يدفع إليه مالًا على سبيل المساعدة، على جاري عادته في مثل هذا الحال، فأشار أبو مسلم إلى أحد الرجلين صاحبي الحزمة إشارةً فهم غرضه منها، فخرج مهرولًا ثم عاد ومعه رجلان قد تأبط أحدهما خريطة كبيرة كالكيس الكبير، لكنها فارغة، ورفيقه رجل قصير القامة في سِمنٍ قليل، وعليه قباء واسع، وعمامة كبيرة. وكان لقِصَره يكاد يجر قباءه جرًّا، ووراءه غلام يحمل دواة وقلمًا، فلما وصلوا إلى القاعة وقفوا في أحد جوانبها، فنادى أبو مسلم صاحب القباء قائلًا: «تقدَّم يا إبراهيم واستلم من الدهقان ما جادت به نفسه في نصرة أهل البيت.»
وكان خازن الدهقان قد جاء وأسرَّ إليه الدهقان كلامًا، فرجع ثم جاء ومعه غلام يحمل أكياسًا من جلد قد أثقلت كاهله حتى وضعها بين يدي الدهقان، فلما أمر أبو مسلم خازنه إبراهيم باستلام المال تقدم وأخذ في عدِّ الأكياس وهي مختومة، وقد كُتب على كل منها «ألف دينار يوسفية»، فبلغت ٢٠ كيسًا، فأشار إلى رفيقه والغلام الآخر، فتقدما وتعاونا على نقل الأكياس في الخريطة الكبرى، وتناول هو القلم والدواة وأخرج من تحت قبائه درجًا كتب فيه عدد الأكياس وما تحويه من الدنانير.
وكان أبو مسلم في أثناء ذلك مطرقًا كأنه يفكر في أمر يهمه، وقد زاده التفكير هيبة وشغله عما حوله. وكانت جلنار قد تعبت من الوقوف، فجلست على وسادة بجانب والدها وهي تختلس النظر إلى أبي مسلم، وهو لا ينتبه لها. وكان خالد قد أدرك ذلك منها، وفطن لما يجيش في خاطرها من أمر أبي مسلم، ولكنه كان يعلم زهد هذا الشاب البطل في النساء، وانشغال خاطره في المشروع الخطير الذي انتُدب له.
فلما فرغ الخازن من تدوين المال نهض واستأذن في الانصراف، ولحظ الدهقان في أبي مسلم الرغبة في الانصراف أيضًا فقال له: «إذا كنتم تريدون الذهاب للنوم، فهذه دار قد أمرنا بإعدادها لنزولكم.» وأشار إلى أحد جوانب الحديقة.
فنهض أبو مسلم، فلم يسع الحضور غير النهوض تهيبًا واحترامًا، وقال: «ننصرف الآن إلى النوم؛ فإن السفر قد أتعبنا هذين اليومين.» قال ذلك ومشى، فمشى الدهقان معه إلى آخر القاعة حتى ودَّعه، وصفَّق فجاء بعض الغلمان، فأمرهم أن يمشوا بين يدي الأمير بالشموع إلى المنزل المعد له، فمشوا، وعاد الدهقان إلى ابنته. وكانت واقفة بجانب العمود، ولم يبق هناك سواهما.