الدهقان والدهقانة
وتوسم الدهقان مما شاهده من انقباضها أنها تفكر في أمر زواجها بابن الكرماني، وأنها ستحتج على والدها لما أبداه في حديثه إلى أبي مسلم في تلك الليلة، بحيث أصبح شأن الكرماني ضعيفًا، فابتدرها أبوها قائلًا وقد وضع يسراه على كتفها، ومشى نحو غرفتها وهي تمشي معه: «لا أظن أن هؤلاء الدعاة سيُفلحون، ولا أرى أمرهم هذه المرة إلا صائرًا إلى الفشل كالمرات الماضية.»
فلم يفتها غرض والدها من هذه المفاجأة بعد ما دار بينها وبينه في ذلك المساء، فقالت وهي تجاريه في المشي: «إذا كنت تعتقد أنهم سيفشلون، فما بالك تعاهدهم على القيام بنصرتهم، وتبذل الأموال لهم؟»
فضحك ووقف وقبض على لحيته بيمينه، وظلت يسراه على كتفها، وقال بصوت منخفض وهو يتلفت: «إني أفعل ذلك من قبيل الاحتياط فقط؛ لأننا إذا أظهرنا له الجفاء كنا في خطر على حياتنا وأموالنا، وخاصة بعد ما سمعنا من وصية إبراهيم الإمام؛ فإنه أمره أن يقتل كلَّ من يشك فيه. ومع ذلك، فنحن غير واثقين ثقة تامة بفشل هؤلاء، وإن كنت أرجح الفوز للكرماني للأسباب التي ذكرتها لك قبلًا. فتَظاهُرنا بالمسالمة أو المساعدة لا تضرُّنا، بل نحن نتوقع أن تنفعنا. وليس ما نؤديه لهم بالشيء الذي يذكر بالنسبة إلى ما نتوقعه من الكسب إذا كنا في جانب المنتصر من هذه الأحزاب.» وكان قد عاد إلى المسير حتى دنا من غرفة جلنار، وليس في الدار أحد من الخدم؛ لأنهم تفرقوا حالما رأوا الدهقان والدهقانة يتسارَّان.
فلما فرغ الدهقان من كلامه قالت جلنار: «لقد أصبتَ يا أبتاه. إنك تجامل أبا مسلم بالأموال والوعود، وتجامل الكرماني بجلنار.» قالت ذلك وغصَّت بريقها، ودخلت الغرفة على عجل وألقت نفسها على الفراش، فلحقها أبوها وهو يتجاهل وقال: «يظهر أنك متعبة يا جلنار. نامي وتوكلي على الله، وأنا أعرف تعقلك وحسن تدبيرك، وأعتقد أنك إذا كنت عند الكرماني، وكنت أنا مع أبي مسلم؛ بتنا في مأمن، وأصبح الفوز مضمونًا لنا في كل حال. نامي يا حبيبتي واستريحي الآن.» قال ذلك وخرج وهو يتظاهر بأنه لم يفهم مغزى كلامها.
أما هي، فلما خلت بنفسها عادت إلى هواجسها، وتصورت ما هي فيه من الارتباك، فلم تعد تدري أتطيع والدها أم تطيع قلبها، على أنها لو تحققت من أن عند أبي مسلم مثلما عندها لهان عليها إغضاب والدها، وإن كان ذلك مما لا يقدم عليه أمثالها، ولكنها لم تر من ذلك الحبيب إلا الإغضاء، فأخذت تناجي نفسها، وتتذكر ما شاهدته منه في أثناء تلك الجلسة، فلم تر في شيء من حركاته أو أقواله ما يفتح لها نافذة من الأمل، ولكن الحب كان يعترض عوامل اليأس عندها، ويهوّن عليها ما ظهر من بروده، فأخذت تنسب ذلك إلى انشغال خاطره بتدبير شئونه، ثم تعود إلى رشدها، فترى أنه لا عذر له، وأنه لو كان عنده بعض ما عندها لأحست به.
قضت مدة في تلك المناجاة وقد طار النوم من عينيها، واستوحشت من الوحدة، فتذكرت ماشطتها، وكانت تأنس بها كثيرًا، وودت لو أنها تأتيها تلك الليلة لتشكو لها حالها، وتستشيرها في أمرها، ثم ما عتمت أن سمعت وقع خطوات بطيئة، فعلمت أنها خطوات الماشطة، فنهضت وفتحت لها، فدخلت وأغلقت الباب وراءها، فأمرتها جلنار بالجلوس وهي تقول لها: «ما الذي جاء بك يا ريحانة على غير انتظار؟»
قالت الماشطة: «علمت أنك في ارتباك فجئت لتسليتك.»
قالت: «وكيف علمت ذلك؟ ومن أنبأك به؟»
قالت وهي تحاول معانقتها وضمها إلى صدرها: «أتظنين يا مولاتي أني غافلة عن أحوالك، وما طرأ عليك من الهواجس، وخصوصًا بعد قدوم هؤلاء الضيوف؟»
فقالت جلنار: «وهل شهدتهم وسمعت أقوالهم؟»
قالت: «شهدت كل شيء، وسمعت كل كلمة خلسة من وراء الستار.»
فلم تتمالك جلنار أن تقول: «هل رأيت أبا مسلم؟»
قالت: «خفِّضي صوتك يا مولاتي؛ لأن لهذه الجدران آذانًا. نعم شاهدته، وشاهدتك أيضًا.» قالت ذلك بنغمة خاصة.
فخجلت جلنار من تسرُّعها في إظهار عواطفها، ثم تذكرت ثقتها بريحانة فقالت: «وكيف رأيته يا ريحانة؟»
قالت: «رأيته لائقًا، ولكن تمهلي ولا تتعجلي. إن في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة.»
قالت: «أراك قد أدركت مكنونات قلبي ولم يخفَ عليك شيء!»
قالت الماشطة: «لم يخف عليَّ شيء، ولكنني أرى المسألة تحتاج إلى الحكمة والتؤدة.»
فلم تعد جلنار تستطيع إخفاء عواطفها، فقالت: «وما العمل يا ريحانة؟ دبريني برأيك. لقد نفد صبري، فإني لا ألبث أن أُزفَّ إلى ابن الكرماني، وأنا لا أريده ولا أحبه.»
قالت: «أتحبين أبا مسلم؟» وضحكت.
فأطرقت جلنار ولسان حالها يقول: «نعم، أحبه.»
فقالت ريحانة: «وهل هو يحبك؟»
فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وفي عينيها دمعتان تترددان بين المآقي، وأرادت الكلام فشرقت بريقها وسكتت.
فقالت ريحانة: «إنك لا تعلمين وأنا لا أعلم، فما علينا إلا التحري والاستفهام.»
قالت جلنار: «من يكشف لنا حقيقة ذلك؟»
قالت ريحانة: «ألا تعرفين الضحاك؟»
فقالت جلنار: «وهل تظنينه يستطيع خدمتنا في هذا الأمر؟»
قالت: «أظنه أقدر الناس على ذلك إذا أراد، ولا يغرنك ما يبدو من مجونه؛ فإنه داهية حازم يُعتمد عليه في الأمور العظام.»
فقالت جلنار: «ومن يخاطبه في الأمر؟ إنني أخشى أن يفشي سرَّنا، فيطَّلع والدي على أمرنا، فتكون البلية الثانية شرًّا من الأولى.»
قالت: «كوني في سلام وطمأنينة وأنا أدبِّر الأمر معه. إنما نحتاج إلى بعض النقود.»
فقالت جلنار: «هل تعرفين أن للمال قيمة عندي! اطلبي من خازنتي ما تريدين، وتصرَّفي كما تشائين، وأنبئيني بنتيجة سعيك.»
قالت: «ينبغي لنا أن نسعى في الأمر الليلة؛ إذ لا نضمن بقاء هؤلاء الضيوف عندنا إلى غدٍ أو بعده.»
فنهضت جلنار من فراشها إلى صندوق صغير في أحد جوانب الغرفة أخرجت منه صرَّة من الحرير ودفعتها إلى ريحانة وهي تقول: «هذه خمسمائة دينار؛ استخدميها فيما تشائين ولا تبطئي، وإذا وفِّقت إلى ما أريد فلن أنسى تعبك.»
فتناولت ريحانة الصرة ونهضت وهي تقول: «اطمئني.» وخرجت وهي تسترق الخطى، وتركت جلنار على مثل الجمر.