اللغة الشاعرة
(١) الحروف
اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.
وليس في اللغات التي نعرفها، أو نعرف شيئًا كافيًا عن أدبها، لغة واحدة توصف بأنها لغة شاعرة غير لغة الضاد، أو لغة الأعراب، أو اللغة العربية.
وتقدم أننا لا نعني باللغة الشاعرة ما يوصف أحيانًا باللغة الشعرية، فإن الكلمة قد تكون شعرية صالحة للنظم في موقعها من السمع، ولكنها لا تكون مع ذلك جارية مجرى الشعر في نشأتها ووزنها واشتقاقها، بل تكون كأنها الطعام الذي يصلح لتركيب البنية، ولكنه هو في ذاته ليس بالبنية الحية، وليس باللحم والدم الذي يتركب منه أجسام الأحياء.
كذلك لا نريد باللغة الشاعرة أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، فإن كثرة الشعراء تتوقف أحيانًا على كثرة عدد المتكلمين باللغة، فلا عجب أن تكون الأمة التي ينتسب لها خمسون مليونًا أكثر شعرًا من أمة ينتسب إليها عشرة ملايين، ولو لم تكن في لغتها مزية شعرية تفوق بها سائر اللغات، وليس من العجب أن يكثر الشعر والشعراء في لغة صالحة للتعبير على اختلاف الموضوعات، التي يتناولها التعبير المنظوم أو المنثور.
إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.
وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد.
وفي هذا المقال نبدأ من البداءة وهي حروف الهجاء، أو الحروف التي اشتهرت باسم الحروف الأبجدية، واجتمع منها بعد ترتيبها الأخير ثمانية وعشرون.
ليست الأبجدية العربية أوفر عددًا من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية أو اللغات السامية، فإن اللغة الروسية — مثلًا — تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفًا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها.
ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرًا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانًا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان.
فهناك حرف ينطق «يا» وحرف ينطق «يو» وحرف ينطق «تسي»، وآخر ينطق «تشي»، وحروف أخرى هي في حقيقتها تثقيل لحروف الباء والفاء والجيم، ليس فيها تنويع نطقي يدل على التصرف الحي في استخراج الأصوات الكلامية من مخارجها المتعددة، ولكنها تنويع آلي مادي لدرجة الضغط على المخرج الواحد بغير كسب للأجهزة الناطقة في تصريفاتها المتعددة.
وبمثل هذا الاختلاف في الضغط أو الاختلاف في الحركة يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين وستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده.
وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانًا، ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.
وعلى هذه الصورة أيضًا استغنت اللغة العربية عن تمثيل الحرف الواحد بحرفين مشتبكين أو متلاصقين، كما يكتبون الثاء والذال والشين وغيرها في بعض اللغات.
•••
ذلك ما نعنيه باللغة الشاعرة في تقسيم حروفها، فهي لغة إنسانية ناطقة تستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقي، وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الأبجدية العربية؛ إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه، وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات، واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل.
وقد كانت سليقة اللغة العربية هي الهداية النافعة لعلمائها فيما اختاروه من ترتيب الأبجدية على وضعها الأخير، فإن هناك تناسبًا موسيقيًّا فنيًّا بين الحروف المتقاربة لا مثيل له في الأبجديات الأعجمية، التي تلحق فيها السين بالباء، أو التي يمكن ترتيبها على غير هذا الوضع دون تغيير في دلالات الألفاظ أو دلالات الأشكال.
أما اللغة العربية فخذ منها — مثلًا — حروف الباء والتاء والثاء، فإن الباء قريبة من مخرج التاء، وأن التاء والثاء لتتقاربان حتى ليقع بينهما الإبدال في كثير من الكلمات.
وخذ مثلًا حرفي الحاء والخاء، أو حرفي الدال والذال، أو حرفي السين والشين، أو حرفي الصاد والضاد، أو حرفي الطاء والظاء، أو حرفي العين والغين، أو القاف والكاف، أو حروف اللام والميم والنون، فإن التقارب بينها في النسق يشبه التقارب بينها في اللفظ كما يشبه التقارب بينها في الشكل كلما امتنع اللبس عند تكرار الأشكال.
وهذه هي اللغة الشاعرة في حروفها قبل أن تتألف منها كلمات، وقبل أن تتألف من الكلمات تفاعيل، وقبل أن تتألف من التفاعيل بيوت وبحور.
فإذا كان الشعر روحًا يكمن في سليقة الشاعر حتى يتجلى قصيدًا قائم البناء، فهذا الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن تنتظم منها أركان القصيد.
(٢) المفردات
إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية؛ لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها؛ ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والسامية والطورانية.
وهذا الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، الذي خصصناه لدلالة الحروف على السليقة الشاعرة في اللغة العربية.
فإذا انتقلنا من الحروف إلى الكلمات التي تتألف منها، فهذه الدلالة ظاهرة جدًّا كظهورها في الحروف المتفرقة أو أظهر؛ لأنها تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق، أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين.
وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها.
فالفرق بين ينظر وناظر ومنظور ونظير ونظائر ونظارة ومناظرة ومنظار ومنظر ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي: على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء.
وحكم الأسماء الجامدة كحكم المشتقات في هذه الخصلة، فإنها تجري على أوزان معلومة تشملها بأقسامها على تفاوت قوتها ذهابًا مع القول القائل: بأن زيادة المبنى زيادة في المعنى.
وعلى غير هذا النسق تجري أوزان الكلمات في اللغات الأخرى، وأولها لغات النحت على التخصيص، فإن الكلمات فيها قد تجري على وزن واحد بغير دلالة على اتفاق في المعنى، ولا في تقسيم الأسماء والأفعال والحروف، ولولا هذه المشابهة العرضية بين بعض كلماتها لكان فيها من الأوزان عداد ما فيها من الكلمات.
إن كلمات «آن وبان وتان وثان وجان وذان وران وفان ومان» توجد في اللغة الإنجليزية اتفاقًا، ومنها الحروف والأفعال والأسماء، فليس بين أوزانها ومعانيها ارتباط على الإطلاق كالارتباط القياسي، الذي يوجد في أوزان اللغة العربية كلها اطردت على قياس واحد، وهذا الذي نعنيه بدلالة الحركة الموسيقية في تركيب المفردات على حدة، بعد ما رأيناه من دلالة المخارج الصوتية على شاعرية اللغة في تكوين الحروف.
وقد يختلف الفعلان في قوة التعبير باختلاف الحركة بينهما، كما يحدث بين قسم وقسَّم بتشديد السين، وكما يحدث بين شهد وشاهد، وبين عرف وعرَّف، وبين الأفعال اللازمة والأفعال المتعدية لمفعول واحد أو لمفعولين على وجه التعميم.
وتختلف الأوزان في الجموع، فتدل على الكثرة أو القلة كما تختلف أوزان الصفات أحيانًا، فتدل على التمكن أو النقص في تلك الصفات، ومن أمثلتها صفات الكبير والمتكبر والمكابر والكبارة، إلى أشباه هذه الفوارق الخفية التي لا نظير لها في غير اللغة العربية.
ومن خصائص هذه اللغة البليغة في تعبيراتها أن الكلمة الواحدة تحتفظ بدلالتها الشعرية المجازية، ودلالتها العلمية الواقعية في وقت واحد بغير لبس بين التعبيرين.
فكلمة الفضيلة تدل بغير لبس على معنى الصفة الشريفة في الإنسان، ولكن مادة فضل بمعنى الزيادة على إطلاقها لا تفقد دلالتها الواقعية على المواد المحسوسة، بل يصح عند جميع المتكلمين والمستمعين أن يفهموا «فضول» القول على أنه وصف غير حميد؛ لأن الزيادة في غير جدوى تخالف الزيادة المطلوبة إذا كان المقام مقام القول في صفات الكلام.
بل يجوز للمتكلم البليغ أن يستخدم مادة البلوغ للوصول إلى البلد أو المكان، ويستخدم مادة البلاغة والإبلاغ للوصول إلى إقناع العقول، والإفضاء إليها بالأثر المنشود من المقال.
ولا يصعب الجمع بين التعبير الواقع والتعبير المجازي الشعري في مئات من الكلمات تجري على الألسنة كل يوم، وتؤدي إلى السامعين معانيها النظرية الفكرية، ومعانيها الحسية في وقت واحد بغير لبس بين المقصود في كل مقام.
فلا لبس في قول القائل: إنه «يقيد شوارد الأفكار»، ولو شفعها بعد ذلك باستخدام كلمة القيد في تقييد الأسير والسجين.
ولا لبس بين الشرف بمعنى رفعة المقام وبين الشرف الذي يفهمه السامع، إذا سمع عن بناء من الأبنية أنه قائم على شرف من الأرض، أو أنه مشرف على ما دونه من الأمكنة.
ولا لبس بين القلب بما يحتويه من الحدس والشعور والعاطفة، وبين القلب من قلب الشيء يقلبه إذا أريد به تغيير وضعه أو موضوعه.
ولا لبس بين الموضوع بمعنى الفكرة التي نبحثها وندرسها، وبين الموضوع من الوضع في مكان محسوس.
وسليقة اللغة الشاعرة هي التي تجعل السامع العربي يفهم المعنى المقصود على الأثر إذا سمع واصفًا يصف حسناء بأنها بدر على غصن فوق كثيب؛ لأن ذهن السامع العربي تعود النفاذ في الصورة الحسية إلى دلالتها النفسية، فهو لا يرسم في ذهنه قمرًا وغصن شجرة وكومة من الرمل حين يستمع تلك العبارة، ولكنه يفهم من البدر إشراق الوجه ومن الغصن نضرة الشباب ولين الأعطاف، ومن الكثيب فراهة الجسم، ودلالتها على الصحة وتناسب الأعضاء.
وإن سهولة استخلاص المجاز الشعري من الألفاظ المحسوسة لهي السليقة الشاعرة، التي يحار لها أبناء اللغات المحرومة من هذه المزية، فيختلط الأمر على نقادهم، ويحارون كيف يوفقون بين الصور التي تنقلها إليهم الألفاظ المسموعة، وتبقى في أذهانهم وأخيلتهم لاصقة بأجسامها المنظورة أو الملموسة بلا فكاك من قيود المعجمات.
إن السامع العربي يسمع التمثيل المشهور في قول القائل: «رأيت أسدًا في الحمام»، فلا تتمثل له غير صورة البطل الشجاع كما يكون الإنسان المتصف بالبطولة والشجاعة.
وبهذه السليقة الشاعرة تتصل المفردات اللغوية بأشكالها المحسوسة أو تنفصل عنها، ولا تبقى لها غير معانيها المجازية؛ لأنها مفردات في لغة شاعرة يعمل فيها الخيال والذوق، كما تعمل فيها الأبصار والأسماع، وسنزيد هذا المعنى بيانًا في الفصول التالية.
(٣) الإعراب
من الأسئلة الشائعة بين مؤرخي الفنون واللغات؛ سؤال عن الشعر والنثر أيهما أسبق إلى الظهور، وأيهما أقدم في تاريخ الأدب؟
والذين يسألون هذا السؤال لا يجهلون أن الكلام المنثور سابق للكلام المنظوم، فلا محل للخلاف إذا كان مداره على ترتيب ظهور النطق بالكلام للتفاهم بين الناس في شئونهم المشتركة، وترتيب ظهور الكلام المنظوم الذي ينفرد بنظمه الشعراء وأصحاب الغناء.
ولكن السؤال على ذلك الوجه يدور على ترتيب التفاهم بأصوات الإيقاع ودلالة الحركات، ثم التفاهم بالكلمات المتناثرة التي احتوتها لغة الإنسان الأولى.
فعلى هذا الوجه يكون محل الخلاف ظاهرًا؛ لأنه خلاف بين القائلين: بأن التفاهم بأصوات الإيقاع سابق لتطور اللغة الأولى، وبين القائلين: بأن اللغة تطورت إلى غايتها من التمام قبل أن يعتمد الناس على التفاهم بالأصوات الموقعة على حسب العواطف، أو على حسب دلالة الحركات والإشارات.
فلا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الصوت الذي ينبعث من بعيد للاستغاثة وإعلان الخطر والفزع، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معاني الأصوات التي يرسلها الصائحون على البعد أو على القرب للتهليل والاستبشار، وإعلان الفرح والابتهاج.
ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الأنين على ملامح المبتئس الكئيب، الذي يكاد لا يبين من الضعف والخوف، أو معنى الرجاء والتوسل بما يشبه الآهات وحروف التنبيه، والإشارة التي لم تبلغ بعد مبلغ الكلم المفهوم.
فهذه الأصوات التي تدل السامع بإيقاعها، ونغمتها هي المقصودة بالشعر البدائي قبل تطور اللغة، واستيفاء وسائل التعبير بالجمل والتراكيب، فإن تلك الأصوات الموقعة حقيقة بأن تسمى شعرًا حين نحسب الكلام الناقص المختلط قبل تطور اللغة فنًّا من فنون القول المنثور.
ويرى أناس من مؤرخي اللغات أن الإعراب في اللغة العربية أثر من آثار استخدام الحركة في التعبير عن المعنى، وأن اللغة العربية تفردت بين لغات العالم بهذه الخاصة الفنية مع شيوع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية، كاللاتينية وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة كاللغة المصرية على عهد الفراعنة.
إلا أن الإعراب «العربي» واف مقرر القواعد يعم أقسام الكلام أفعالًا وأسماء وحروفًا، حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات، ولا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد، أو علامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة، ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية، حيثما وقعت من عباراتها المفيدة.
وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة، توافرت لها جملًا مفهومة بعد أن توافرت لها حروفًا تجمع مخارج النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفردات ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان.
فليس أوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب، وتتقابل فيها مقاطع العروض وأبواب الأوزان وعلامات الإعراب.
فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور؛ لأن علامات الإعراب تدل على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة، فلا يصعب على الشاعر أن يتصرف بها دون أن يتغير معناها؛ إذ كان هذا المعنى موقوفًا على حركتها المستقلة الملازمة لها، وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات.
وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانًا كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأنه المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون.
يقول النابغة:
فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية تدل على الصفة، وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة حين قال: «ضئيلة ناقع في أنيابها السم …» ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان القافية؛ لأنها — وهي مرفوعة — لا تكون إلا صفة موافقة لموصوفها أينما انتقل بها ترتيب الكلم المنظوم.
ويقول أبو سعيد الرستمي في وصف دار ابن عياد:
فلا يضير الشاعر أن يضع النحاة «متضائلًا» هنا حيث أرادوا من مواضع الإعراب: هي حال وإن أرادها النحاة مفعولًا ثانيًا، وهي قافية مطمئنة في موقعها على حسب الوزن، وعلى حسب المعنى في كل كلام منظوم أو منثور، ولا يستقيم هذا النسق لشاعر ينظم بغير اللغة العربية؛ لأن الترتيب الآلي، يقيده بموضوع لا يتعداه، حيث يطلقه الإعراب «العربي» المعدود في عرف أعدائه الجهلاء قيدًا من القيود.
وتتبع هذه الضآلة إلى موقعها من نظم شاعر معاصر يضعها حيث صح له وضعها بلفظها ووزنها ومعناها، فقال:
إن «ضئيلًا» في هذا البيت الذي وصف به «شوقي» سيادة بني عثمان لتحمد للإعراب العربي، تلك الطمأنينة التي تستقر بها في موضعها، فلا تضطرها الخيوط إلى الجمع، ولا تضطرها السيادة إلى التأنيث، وليس عليه أن يقول: «كانت ضئيلة» ولا أن يقول: «قطعوا خيوطًا ضآلًا» لأن لسان «الحال» هنا أصدق من لسان المقال.
•••
ولم تكن قواعد الإعراب لتسعد الشاعر هذا الإسعاد في تطويع أوزانه لمعانيه، لو أنه نظم قصائده بلغة أجنبية؛ لأنه لا يظفر في تلك اللغة بالكلمات التي تتساوى فيها أوزان الصرف وأوزان الشعر، ولكن اللغة العربية تنفرد بسمة الشاعرية؛ لأنها جمعت على هذا المثال البديع بين أبواب الاشتقاق وأوزان العروض وحركات الإعراب.
(٤) العروض
وجد الشعر في كل لغة من لغات القبائل البدائية والأمم المتحضرة.
ولكنه لم يوجد فنًّا كاملًا مستقلًّا عن الفنون الأخرى في غير اللغة العربية.
والمقصود بالفن الكامل هو الشعر الذي توافرت له شروط الوزن والقافية، وتقسيمات البحور والأعاريض التي تعرف بأوزانها وأسمائها، وتطرد قواعدها في كل ما ينظم من قبيلها.
فالشعر في كثير من اللغات قد يلاحظ فيه الإيقاع، ولا تلاحظ فيه القافية ولا الأوزان المقررة، وقلما تلاحظ القافية في الأشعار التي تنشدها الجماعات، كالشعر المسرحي عند اليونان، وتراتيل الصلاة والعبادة عند العبريين.
وربما لوحظت فيه القافية على غير وزن مطرد، كما تلاحظ في الأغاني الفردية أو أغاني الرقص التي تردد فيها الجماعة كلمات قائد الفرقة الراقصة عند مواقف معينة مرسومة بقوافيها، أو بحروف الروي فيها.
أما الشعر الذي تلاحظ القافية والوزن وأقسام التفاعيل في جميع بحوره وأبياته، فهو خاصة من خواص اللغة العربية دون غيرها من لغات العالم أجمع، ومنها اللغات السامية التي تنتمي إليها لغة الضاد.
وقد خطر لبعضهم أن هذا الفن العربي أثر من آثار المزاج السامي، لما اشتهرت به السلالات السامية من نشاط الحس وسرعة الاستجابة للمؤثرات.
ولكن البحوث المشرقية منذ القرن التاسع عشر كشفت عن أوضاع الشعر عند أبناء الأمم السامية القديمة، والأمم السامية التي بقيت لها بقية من الأعقاب في هذه الأزمنة، فثبت أنها جميعًا خلو من فنون العروض الملتزمة في المنظومات العربية، وأن أكثر شعرها من قبيل النثر الذي يقيمه الغناء ويصلحه الإيقاع، تارة بالمد وتارة بالقصر على غير قاعدة مطردة، وأن الشاعر الواحد عندهم قد ينظم عشرات القصائد، فلا تتفق فيها قصيدتان على وتيرة واحدة، ولا يتأتى له أن يسمي قصيدة منها باسمها وعلامات وزنها، إلا أن يذكر سطرًا من سطورها.
فالشعر في اللغة العبرية، وهي أشهر اللغات السامية بعد العربية إنما هو سطور متلاحقة تعرف الصلة بينها بترديد فقرة منها، أو بتفصيل عبارة مجملة تذكر في السطر الأول، وتشرحها السطور التالية، أو بالاستجابة بين الشرط والجواب، وبين الصلة والموصول لتعليق المعنى المنتظر على نحو يشبه تعليق السمع بانتظار القافية.
وكل ما ورد في كتب العهد القديم والعهد الجديد من التراتيل والأناشيد، فهو على أسلوب كهذا الأسلوب، يتردد فيه الإيقاع بغير وزن وبغير قافية، ويعتمدون فيه على حركات الغناء، ولا يستقل فيه الشعر بأوزانه المقسمة وقوافيه الملتزمة، وعلاماته التي يجمعها فن العروض، وتقبل التجديد والتنويع تفريعًا على هذه الأصول إلى غير انتهاء.
فالعرب لم يبدعوا فن الشعر؛ لأنهم سلالة سامية؛ ولم يبدعوه لأنهم سلكوا فيه مسلك الأمم الأخرى مبتكرين أو مقلدين، ولكنهم تفردوا بفنهم الذي لا نظير له بين أمم العالم لأسباب كثيرة ذكرنا بعضها فيما تقدم، ونضيف إليها عماد هذه الأسباب في هذا المقال.
ذكرنا في المقالات السابقة خاصة الفن الموسيقي في مخارج الحروف العربية، وذكرنا خاصة الأوزان والحركات على حسب معاني المشتقات، ثم ذكرنا خاصة الإعراب وارتباط قواعده بالحركات، ودلالة هذه الحركات على معانيه دلالة تسمح بالتقديم والتأخير، ووضع الكلمة في الموضع الذي يناسب مبنى البيت ولا يخل بمعناه.
أما السبب الذي نحسبه عماد هذه الأسباب جميعًا في اختصاص الشعر العربي بفنون الوزن والقافية فهو الحداء.
إن الحداء غناء مفرد موقع على نغمة ثابتة، وهي حركة الجمل في حالتي الإسراع والإبطاء.
ولا بد للغناء المفرد من القافية؛ لأنها هي التي تنبه السامع إلى المقاطع والنهايات خلافًا للغناء المجتمع، الذي يشترك فيه الكثيرون فيعرفون من سياقه أين يكون الوقوف وأين يكون الاسترسال.
ولا بد للغناء الملازم لحركة واحدة من اطراد الحركة ومجاراتها في إيقاعها، وبخاصة حين تكون الحركة الطبيعية نمطًا لا يقع فيه الخطأ والاختلاف، كحركة الإبل في السرعة والإبطاء، فإنها لا تجري على صناعة تتفاوت في الإتقان، ولكنها تنساق إليها بالفطرة، وتعود إليها فتعيدها بجميع أجزائها.
ومن المشاهد أن هذا الفن المطبوع كان قدوة للفنون المصنوعة في نظم الشعر بين أبناء اللغات الآرية، كما كان قدوة لهذه الفنون المصنوعة بين أبناء اللغات السامية، فإن شعراء الفرس اقتبسوا أوزان العروض العربية، وفضلوها على الأوزان التي اخترعها لهم الموسيقيون، مع قدم الآلات الموسيقية عندهم، وطول العهد بها في حضارتهم قبل الإسلام بعدة قرون.
وكذلك اقتبس شعراء اللغة العبرية أوزان العروض العربية بعد اتصالهم بالعرب والمغرب، ولم يكن للعبريين شعر موزون قبل ذاك.
على أن كلمة «الشعر» مع تحريفاتها الكثيرة ترجع في اللغات السامية إلى أصلها العربي كما يرى الثقات من اللغويين المحدثين، فكلمة (شيرو) في الأكدية القديمة تدل على هتاف الأناشيد في الهياكل، ومنها انتقلت إلى العبرية التي تأتي فيها كلمة (شير) بمعنى «أنشد»، وإلى الآرامية التي تترادف فيها كلمة «شور»، وكلمات الترنم والترتيل، ويسمى كتاب نشيد الإنشاد بالعبرية «شيرهشيريم» بهذا المعنى.
وليس التحريف بعيدًا في الانتقال من لفظ «شعر» إلى لفظ «شير» إذا علمنا أن حرف العين، وبعض حروف الحلق سقطت من «الأكدية» قديمًا كما سقطت من أكثر اللغات، وهو بحث فصله الأستاذ مرمرجي في كتاب «المعجميات»، فليرجع إليه من أراد التفصيل.
ومهما يكن من رأي في نشأة الأعاريض العربية، فالحقيقة التي لا محل فيها لاختلاف الآراء أن لغتنا الشاعرة قد انفردت بفن من النظم الشعري لم تتوافر شرائطه وأدواته لفن النظم في لغة من اللغات.
(٥) أوزان الشعر
فن الشعر في اللغة العربية يناسب هذه اللغة الشاعرة التي انتظمت مفرداتها وتراكيبها، ومخارج حروفها على الأوزان والحركات وفصاحة النطق بالألفاظ، فأصبح لها من الشعر الموزون فن مستقل بإيقاعه عن سائر الفنون، التي يستند إليها الشعر في كثير من اللغات.
فلا حاجة بالشعر العربي إلى إيقاع الرقص الذي يصاحب إنشاد الشعر في اللغات الأخرى؛ لأن أشعار تلك اللغات تستعير الحركة المنتظمة من دقات الأقدام وحركات الأجسام في حلقات الرقص، أو اللعب المنسق على حسب خطوات الإقبال والإدبار والدوران، ولا حاجة بالشعر العربي إلى ملازمة الإيقاع المستعار من الرقص واللعب؛ لأن أوزانه مستقلة بإيقاعها الذي يميز أقسامها وحدودها، ويغنيها عن الأقسام والحدود في الفنون الأخرى.
ولا حاجة بالشعر العربي إلى مصاحبة الغناء لترتيب أوقاته، وضبط مواقع المد والسكون في كلماته؛ لأنه مرتب مضبوط في كل كلمة، بل في كل جزء من أجزاء الكلمة، يجمع بين الحركة والسكون … فما من كلمة عربية تخلو من حرف متحرك وحرف ساكن على اختلاف الترتيب بين الحركة والسكون، وما من وزن على وضع من الأوضاع لا تضبطه حركة الشعر المسموع بغير حاجة إلى الغناء.
وأسباب هذا الفن الكامل الذي استوفى أوزانه في بحوره وقوافيه تظهر من دراسة تاريخ النظم في اللغة العربية، ونعرض لها ببعض التفصيل في مناسبة أخرى، ولكن السبب الشامل الذي يحيط بجميع تلك الأسباب أن التركيب الموسيقي أصل من أصول هذه اللغة لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.
وهذا السبب الشامل هو الذي يسَّر النظم المطبوع لأصحاب السليقة الشعرية من الناطقين باللغة العربية، منذ أقدم عصور الجاهلية إلى هذه الأيام، فإن الشاعر المطبوع ينظم الأشعار في بحورها المتعددة بغير حاجة إلى علم يدرسه، ويستهدي به غير سليقته الفنية، ولم تكن بالشاعر الجاهلي حاجة إلى دراسة العروض، ولا إلى تعرف أسماء البحور وتقسيم ضروب التفاعيل، وليس لناظم الزجل في أيامنا هذه حاجة إلى ذلك، وهو ينظم في كل بحر من بحور العروض وكل مجزوء من مجزوءاتها، وإنه ليجهل أسماءها وقد يجهل قراءاتها في الورق كما يجعل معانيها إذا هي قرئت عليه، وكثيرًا ما نظم الأزجال في بحور العروض المتعددة أناس من الأميين جهلوا كتابة الحروف، كما جهلها قبل مئات السنين شعراء الجاهلية المشهورون.
ولولا جريان اللغة في ألفاظها وتراكيبها على السليقة الموسيقية، لما تيسر ذلك للشاعر الجاهلي بالأمس، ولا للزجال الأمي في هذه الأيام.
وقد أحصى الخليل بن أحمد من بحور الشعر خمسة عشر بحرًا، وزاد عليها الأخفش بحرًا سماه المتدارك؛ لأنه استدركه على العروض الذي وضعه الخليل، واستحدث الشعراء بعد ذلك في هذه البحور ضروبًا من الأوزان تتسع لأغراض النظم في كل حالة من أحوال الشعور، والعاطفة التي تعرض للنفس البشرية، فوافقت هذه الأوزان أغراض الحماسة والفخر والغزل والرثاء، كما وافقت أغراض الغناء والرقص وأغراض القصة والمسرح، وأغراض الأحاديث والثنائيات، ولم تضق بالتوشيح والتسميط، ولا بالأناشيد الفردية والأناشيد الجماعية، ولم يعجز عن التعبير بها في فنون القصة على التخصيص ناظم ذو معرفة وثقافة، ولا ناظم من الأميين أصحاب السليقة المطبوعة في ملاحم اللغة العامية.
فالملحمة اليونانية الكبرى — وهي الإلياذة — نقلت إلى العربية الفصحى في هذه الأوزان.
وملاحم أبي زيد الهلالي نظمت في هذه الأوزان، فلم يعجز ناظمها العامي عن سرد الحوادث، وحكاية الأحاديث في مواقف المناجزة أو المعاتبة أو الغزل أو النصيحة، أو الوصف أو الرواية، ولم يزد ما استخدمه من الأوزان على أربعة بحور إلا ما ندر.
وفي اللهجات الشائعة مقطوعات نظمها الأميون والأميات في موضوعات الأفراح والمآتم والمساجلات، والأمثال لا تخرج عن أوزان تلك البحور، ولا يحس الناظم الأمي أنها عسيرة عليه، فهو لا يحتاج إلى أداة غير السليقة الفنية، والقدرة المطبوعة على التعبير.
وأبلغ من كل ما تقدم في الإبانة عن معدن اللغة العربية، وعن هذه الخاصة الفنية فيها أن أوزانها تتفق في كل ترتيل فصيح، ولو لم يكن شعرًا مقصودًا كما اتفقت في الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، وينبغي أن يؤمن المسلم وغير المسلم بأن القرآن الكريم لم يكن شعرًا، وما هو بقول شاعر كما جاء فيه، وكما جاء في كلام الرسول الذي أوحي إليه:
فمما يوافق وزن البحر الطويل فيه: فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
ومما يوافق وزن البحر المديد: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ.
ومما يوافق وزن البحر البسيط: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ.
ومما يوافق وزن البحر الكامل: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
ومما يوافق وزن البحر الخفيف: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
ومما يوافق بحر الرمل: إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
ومما اتفق فيه وزن بيت كامل:
•••
•••
•••
وهذا وأمثاله يطرد في كل كلام عربي مرتل فصيح، ولا يعهد له نظير في اللغات الأخرى، ولو كانت من اللغات التي يتقارب فيها الشعر والنثر ولم يبلغ فنها الشعري مبلغ أوزان العروض العربية من دقة التقسيم والتفصيل.
ويخلص لنا من جملة هذه الخصائص في الشعر العربي، واللغة العربية أن فن النظم بهذه اللغة فن دقيق كامل الأداة مستغن بأوزانه عن سائر الفنون، ولكنه — على هذا — فن مطبوع لا كلفة فيه على قائل ذي قدرة على التعبير له نصيب من الشاعرية والملكة الفنية، ومن هنا يظهر لنا كل الظهور أن الدعوة إلى إلغاء الأوزان ذات البحور والقوافي في اللغة العربية، لا تأتي من جانب سليم، ولا تؤدي إلى غاية سليمة، فلا يدعو إليها غير واحد من اثنين: عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي في نظم القصص المطولة، والملاحم التاريخية من أمثال السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم وغيرها من السير المشهورة المتداولة، أو عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي والشاعرة العامية في نظم أغاني الأعراس، ونواح المآتم وأمثال الحكمة، والنصيحة على ألسنة المتكلمين باللهجات الدارجة، ولا خير للفن في كلام يقوله من يعجز عن هذا القدر من السليقة الشاعرية والملكة الفنية، وأحرى به أن يأتي بما عنده في كلام منثور، ويترك النظم وشأنه بدلًا من هدم الفن كله وحرمان اللغة من آثار القادرين عليه، ونحن نستشهد بالقصاصين وناظمي الملاحم العامية والأغاني الشائعة؛ لأن في استطاعتهم نظم القصص والملاحم، والأغاني والأناشيد بغير تعلم ولا معرفة ثقافية ينفي عن الأوزان العربية تلك الصعوبة المزعومة، التي يدعي الأدعياء أنها تجعل النظم العربي من أصعب فنون النظم في اللغات العالمية، ونسكت عمدًا في هذا المقام عن الملاحم المترجمة التي نقلها إلى العربية أناس من المثقفين المطلعين على الآداب والعلوم، فإن المتشاعرين الأدعياء قد يزعمون أن تذليل هذه الصعوبة عمل يحتاج إلى الثقافة والاطلاع، ولا يقتدر عليه عامة المترجمين.
فإن لم يكن نقص الملكة الفنية سبب العجز عن أوزان الشعر العربي، والدعوة إلى إبطال هذه الأوزان، فهو إذن عمل من أعمال الهدم الصراح عن سوء نية وخبث طوية، يتعمده المجاهرون به لتقويض معالم اللغة ومحو آثار الأدب، وفصم العلاقة الفكرية بين روائع الثقافة العربية في مختلف العصور، وتلك شنشنة نعهدها في العصر الحاضر من دعاة الهدم المستترين وراء كلمات التقدم والتجديد، وأين يعمل هؤلاء عملهم الهادم إن لم يكن هذا عملهم المقصود من وراء الستار؟!
إن هدم الفن الجميل الذي امتازت به لغة العرب بين لغات العالم لا يصدر إلا عن عجز، أو إصرار على الهدم … ولا خير في دعوة يتولاها العجز العقيم والضغينة النكراء.
(٦) المجاز والشعر
اللغة العربية لغة المجاز.
والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري؛ لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، وهذه هي العبارة الشعرية في جوهرها الأصيل.
ولا تسمى اللغة العربية — فيما نرى — بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها؛ لأن هذه التعبيرات قد تكثر في لغات عديدة من لغات الحضارة.
وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز؛ لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه، فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه، فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة، والرسوم الهيروغليفية عنده بهذه المثابة قد انتقلت إلى حروف تتألف منها كلمات.
نعم … إن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية، وهذا هو المثال الصالح لتقريب المعنى الذي نريده حين نقول: إن المجاز العربي يصور لنا المعاني المجردة — مباشرة — من وراء تصوير الأشباه والأشكال.
كان الكاتب القديم في عهود الكتابة الأولى قبل اختراع الأبجدية يريد أن يكتب كلمة «يمشى»، فيرسم على الصخر أو الورق صورة إنسان يمشي على قدميه، ويبدو عليه أنه يتحرك في مشيته، ثم تطورت الكتابة فانتقلت الصورة إلى مقطع صوتي يؤخذ من الصورة، ويستخدم في الدلالة على الأصوات التي تشبهه، ثم انتقلت من المقطع الصوتي إلى حرف واحد تجتمع منه حروف الأبجدية، وهذه هي الكتابة في مرحلتها الأخيرة.
فالباء هي الحرف الأول من كلمة «بيت» التي كانت ترسم على شكل بيت للدلالة على المبيت أو المساء، ثم تولَّد منها مقطع بحروفه الثلاثة، ثم تولد من المقطع حرف واحد هو الذي بقي من الصورة كلها، وهو الذي نسميه الآن حرف «الباء» ونسمعه، فلا يخطر لنا رسم البيت على بال؛ لأننا تخطينا بالكتابة عهد الهيروغليفية، وعهد المقطع إلى عهد الحروف الأبجدية.
مثل هذا التطور يتكرر في الصور المجازية التي ترد على ألسنة المتكلمين باللغة العربية، فلا يلبث التشبيه المجازي أن يؤدي معناه المقصود بغير وساطة الشكل المستعار، ولا يشتغل الذهن بالصورة المحسوسة لانتقاله منها على الأثر إلى الوصف الذي يقارنها، كما تقدم في معنى القمر والزهرة والغصن والطود، وكما نرى في مئات الكلمات التي تشتمل عليها اللغة العربية، ولا تزال معانيها المجازية مقترنة بمعانيها الحقيقية جنبًا إلى جنب، في استعمال كل يوم على كل لسان، وهذا الذي ألمحنا إليه في مبحث من المباحث عن الحقيقة والمجاز في اللغة العربية كما نتكلمها اليوم، وكما كان أبناؤها الأسبقون يتكلمون بها في جميع العهود.
ففي هذه اللغة الشاعرة توجد كلمات كثيرة بقي لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على الألسنة؛ حتى ليقع اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال.
ونبدأ بكلمتي والحقيقة والمجاز، وهما أقرب الشواهد على اقتران المعاني الأصيلة، والمعاني المنقولة في تلك الكلمات.
فالحقيقة فكرة مجردة، قد تبلغ الغاية في تجردها من المحسوسات، ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر، فيقال: «انحقت» عقدة الجبل: أي انشدت، وحق: بلغ حافة الطريق.
والمجاز من جاز المكان أو جاز به غير معترض، ويقال: هذا جائز عقلًا أي: غير ممتنع ولا اعتراض عليه، وهذه كلمة مجازية أي: يمكن أن تنطلق في هذا المعنى، أو أنها تحتمله مع معناها الأصيل.
وكلمات: انطلق وامتنع واعترض واحتمل أمثلة أخرى لاقتران المعنى الأصيل والمعنى المنقول، فكلها تستخدم للمحسوسات وغير المحسوسات.
ويلاحظ هذا الاقتران بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة في كثير من المسائل الفكرية، والصفات الخلقية التي تجتمع في مادة واحدة: كالواجب والفريضة والفضيلة والحكمة والعقل والعظمة والأنفة والعزة والنبل والشرف والرحمة والجمال والنشر والعلم والشك والثقة، والذكاء إلى كثير من أشباهها.
فيقال: وجب بمعنى ثبت، والوجبة بمعنى الأكلة في وقت ثابت، والواجب بمعنى اللازم أو العرف أو المنطق.
ويقال: «الفريضة» عن الخشبة التي فرضت أو حزت وبينت فيها العلامات، ويقال: «الفرائض» عن الحدود المبينة الواضحة.
والفضيلة كل بقية أو زيادة، والفضيلة هي الخلق الذي يدل على فضل أو زيادة عند صاحبه، والفاضل هو الذي عنده زيادة، أو يتفضل بعطائه على غيره.
والحِكْمَة مادة تجمع بين الدلالة على الرشد والدلالة على الحديدة، التي توضع في اللجام؛ لتمنع الفرس أن ينطلق غاية انطلاقه، وهي «الحَكَمَة».
والعقل كالحِكْمَة والحَكَمة فيما يشبه هذين الغرضين، ويقال: تعقل الأمر أي: تدبره وأدركه: وتأتي «تدبره» أيضًا بمعنى مشى في أعقابه، وأدركه بمعنى لحقه ووصل إليه.
أما العظمة فهي صفة العظيم، والعظيم هو الكبير العظام أو الكبير الأخلاق والمزايا.
والأنفة هي حركة الأنف في حالة الترفع والاشمئزاز، وهي حركة تشبه الإشاحة بالأنف أو ضمه لاتقاء رائحة تعاف.
والعزة يوصف بها المكان المنيع والرجل المنيع، فالعزيز في الحالتين غير السهل المباح.
والنبل ما ارتفع من مكان أو شأن، وكذلك الشرف، هما وصفان للخلق الرفيع أو المرتبة الرفيعة.
والرحمة هي عاطفة ذوي الأرحام، وتدخل العاطفة مثلها في هذا القياس، فيقال: عطف على الإنسان كما يقال: عطف على المكان.
والجمال مادة تجمع بين التجمل بمعنى التزين والتجمل بمعنى أكل الشحم، وكأنما أخذوا وصف الوجه الجميل من الوجه الذي يمتلئ ويلمع؛ لأنه ليس بشاحب ولا معروق.
وبشر الأديم يبشره بشرًا قشر بشرته التي عليها الشعر، والبشر تَهَلُّل بشرة الوجه كأنه ليس عليه حائل، والبشرة ما ظهر من نبات الأرض وعشبها.
ويبدو أن العِلم والعَلَم والمعالم التي يعرف بها الطريق من مادة واحدة، وأن الشك مأخوذ من هيئة الرجل الذي يرتاب؛ لأنه يطرق ويتأمل؛ أو من الظَّلع لأنه لا يسير على سواء.
والثقة ما يحصل من اليقين أو من الشد بالوثاق، والذكاء مَلَكَة الفهم واتقاد النار.
ومن هذه المجازات ما هو قوي الدلالة على أحوال الأمة العربية في حياتها الأولى؛ فالكتابة والشكل والرسم والبلاغة والفصاحة والدلالة نفسها كلمات مستعارة من حياة أقوام رعاة وقبائل مترحلة.
فالكتابة والشكل بمعنى القيد والرسم أثر خطو الإبل على الرمل في رسيمها، أو سيرها على العموم والبلاغة من الوصول إلى غاية المسير، والفصاحة من اللبن الفصيح الذي زال رغوه، والدلالة للقافلة كالدلالة للكلام.
وإذا قال العربي القديم: إن العرب قوم أو قبيل، فإنما يعني بالقوم طائفة من الناس تقوم معًا للقتال، فالشاعر الذي سأل «أقوم آل حصن أم نساء» لم يخطئ الغرض، وإنما جاء اللبس أو جاءت الحاجة إلى التفسير حين أطلقت كلمة القوم على الأمة كلها، فوجب أن تطلق في معناها هذا على الرجال والنساء.
وما الطائفة؟ وما القبيل؟ إنهما جاريتان على هذا المجرى، فالطائفة أناس يمضون إلى قبلة واحدة … ومثل هذا إطلاق كلمة القرن على الذين يقترنون في مولد واحد، ثم أطلقت على الزمن الذي يقترنون فيه، ويشبه أن يكون الجيل بمعنى القرن على فعيل من جال، ثم تحولت من جويل إلى جيل.
•••
نستطرد مما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية، واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي في وقت واحد، فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية، وليست بهذه الكثرة في اللغات الأوروبية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوروبية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها، وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية.
وأيًّا كان السبب، فالخلاصة العملية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيرًا إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة؛ لأن هذا التسلسل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمة في معنى، وسيرورتها في معنى آخر، ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء، أو على درجات متقاربة.
ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد، والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم الكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منها شاهدًا على ما ذهبنا إليه.
فالتقدم هو السير بالقدم، ويقال: تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال: ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق.
ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا من أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع، وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثًا، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد إن لم يكن أقدمها على الإطلاق.
وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل العربية جددوا كثيرًا من مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم.
ونحن نقول: «إننا نحذو حذوهم»، ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجد، وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة «المسافة» حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض؛ ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة، وهي كل بعد بين موضعين.
وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينهما للوهلة الأولى أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد.
•••
في هذا المبحث المتقدم عرضنا الأمثلة المتكررة، التي يقترن فيها المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي في وقت واحد؛ لأن الصورة المجازية قد استحالت إلى ما يشبه الحروف الأبجدية في تطور الكتابة، فلم يبق من البيت إلا الباء، ولم يبق من الجمل إلا الجيم، ولم يبق من اليد إلا الدال، ولم يبق على هذا القياس من الغزال إلا خفة الحركة، ولا من المرجان المفتر عن الدر النضيد إلا احمرار في الشفة يتفتح عن ثنايا الثغر المبتسم، بغير حاجة إلى استحضار آكام المرجان، وعقود اللؤلؤ وتراكيب الأفواه ذوات الشفاه.
إن قول البديعي العربي: «رأيت قمرًا على غصن على كثيب» يربك السامع من غير أبناء اللغة العربية، ويجتهد هذا السامع في استخراج الصورة المحسوسة من أطوار هذه التشبيهات، فلا يدري كيف يجتمع منها رسم جميل، ثم ينفض يديه من البلاغة العربية قائلًا لنفسه: إنها بلاغة مزاج آخر يسيغ ما لا يساغ في كل مزاج.
إلا أن المسألة في حقيقتها ليست من مسائل المزاج المختلف بين الأجناس، ولكنها مسألة اللغة والاصطلاح في استخدام الصور والكلمات، وليس بين الأمزجة في هذه المصطلحات كبير اختلاف لو اتفقت على المفتاح المشترك في هذا «الجفر» المكشوف.
إن العربي أيضًا يزعجه أن يضع قمر السماء على غصن الشجر على كومة الرمل؛ ليستخرج منها محاسن إنسان يهواه ولا يعجب السامع من هواه.
ولكنه يبتهج ولا ينزعج حين يفهم الصورة على طريقته في ترجمة المجاز من الصور الهيروغليفية إلى الحروف الأبجدية.
إشراق كالإشراق الذي يحسه الناظر إلى القمر، وخفة كالخفة التي يتمايل بها الغصن النضير، وجسم بض كالجسم الذي يمسك ذلك الغصن، وإنسان يتقابل فيه الإشراق والخفة والبضاضة في رشاقة واعتدال، ولا موجب بعد ذلك للحيرة، ولا لنفض اليدين من بلاغة المزاج الغريب الذي يأبى أن يأتلف بكل مزاج.
وهكذا يصنع اليوم من يقرأ كلمة «أبجد» حين يذكر أنها كانت في أول عهد الكتابة خليطًا من صورة الثور والبيت والجمل واليد المبسوطة، ثم ينسى هذه الصور المتراكبة في غير معنى؛ ليجمع منها حروف الألف والباء والجيم والدال.
•••
هذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين، نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا «أولًا» أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ، يشتغلون بجانب الحفظ في الأدب، ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم، ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة، فهم لا يحسنون الحكم على شاعر من أبناء جلدتهم، وأحرى بهم ألا يحسنوا الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها، ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها، وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة، فيقفون عند مجازاتها، ويشعرون بالربكة التي يشعر بها عندنا من يقول مثلًا: «هات الأسطوانة!» فيحضر له السامع قرصًا من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة، وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمى.
وكذلك يشعر المستشرق بالربكة حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه، فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها، ولا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر، ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي — فيما يعلم — من الأمم التي تفخر بلسانها، وتنكر العجمة في ألفاظها ومعانيها.
ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي المزعوم بين أذواق الشعراء في لغتنا، وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستغرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم، كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها، ويتحرى أن يزنها بموازينها، وأن ينفذ إلى بواطنها، فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين الحفظ والذوق، يضاف إليه الفاصل بين المجاز في صورته الحسية والمجاز في معناه، فيحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة فضلًا عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين الحفاظ، وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه، وفي ألفاظه ومعانيه.
(٧) الفصاحة العلمية
للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق البحث في بضعة سطور، فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرسها، ومنها التي تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف والأفعال، ومنها التي تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه وتتقابل، ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله، فلا تنهض فيها حجة بينة، ولا يزال الناس من شتى الأمم ينظرون إليها نظرتهم إلى العادات الشائعة بين الناس في مناظراتهم ومفاخراتهم، وحجتها الكبرى «أنانية» قومية تشبه «أنانية» الفرد في حبه لنفسه، وإيثاره لصفاته بغير حاجة إلى دليل، أو مع القناعة بأيسر دليل.
ولكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها؛ لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به، والتثبيت منه على ناطق بلسان من الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته، وهذا هو «اللفظ العربي» بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على «أنانية» قومية، ولا على نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات الحضارة.
فلا لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التي لا تتميز بغير التثقيل أو التخفيف.
وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
والفصاحة هي امتناع اللبس كما تقدم، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت في اللغة العربية لمخارج الأصوات كما تحققت للحروف.
فليس في اللغة العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان.
ليس في اللغة العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف (بسي) في اللغة اليونانية، وهو مختلط من الباء الثقيلة والسين.
ولا يلزم في اللغة العربية أن يكون لكل حرف مخرج مستقل في جهاز النطق، الذي يشترك فيه الحلق والحنك واللسان واللثة والشفتان، بل كل ما يلزم فيها أن يكون جوهر الحرف سليمًا في مجراه من الجهاز الصوتي، وفي موقعه من السمع، لحسن استخدام ذلك الجهاز، وحسن التمييز فيه بين الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فقد يتقارب الحرفان حتى يقع بينهما الإبدال على الألسنة مع اختلاف اللهجات، ولكنه إبدال لا ينشأ من غموض الحرف والتباسه، بل يأتي من اختلاف السهولة والصعوبة مع وضوح الحرفين، فلا التباس بين الذال والدال، ولا بين الحاء والهاء ولا بين التاء والثاء، ولا بين حروف الإبدال على العموم، ولكن سبب الإبدال بينها أن حرفًا منها أسهل من حرف في اللهجة السريعة أو اللهجة الدارجة، وجوهره مع ذلك مستقل واضح الاستقلال عند المقارنة بينها في السماع.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية، كما يتجنب اللبس في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت الإمالة بين حركتين لم تكن وجوبًا قاطعًا تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد، أو بعض الجماعات في أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب، وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.
•••
فإذا قال قائل: إن فصاحة النطق مزية نادرة تمتاز بها اللغة العربية، فليست هي دعوة من دعاوى الفخر والأنانية، ولكنها حقيقة يقررها علم وظائف الأعضاء؛ لأن جهاز النطق في الإنسان وظيفة معروفة، ولا خفاء بالفرق بين تقسيماته التي تستوفي الأداء، وتميز الحروف والمخارج وبين تقسيماته التي تعطل بعض الأداء، ويعرض فيها اللبس والتلفيق لما تؤديه، فإن الحكم في ذلك كالحكم على كل أداة ناطقة، أو عازمة من أدوات الأنغام والأصوات.
•••
وبقي أن نعرف كيف انفردت اللغة العربية بهذه المزية النادرة؟ هل هي مزية من مزايا المصادفة لا تعرف لها علة طبيعية؟ أو هي نتيجة من نتائج التطور الطبيعي، أو نتائج الاختيار بين الأفصح من اللهجات وبين اللهجات التي دونها في الفصاحة على ألسنة المتكلمين بلغة واحدة؟
إن تعليل هذه الفصاحة بالتطور الطبيعي كاف لتفسير هذه الظاهرة في اللغة العربية، فإن لهجات النطق بالحروف العربية إنما هي لهجات قبائل متعددة تنطق بلسان واحد، وتتهيأ أسباب الانتخاب الطبيعي في هذا اللسان لتتابع الاتصال بين الناطقين به من أبناء القبائل المتعددة، خلافًا للأمم الأخرى التي تختلف لغاتها، وتفترق مساكنها ولا تظهر آثار التطور اللغوي عندها في بيئة واحدة تتفاهم بلسان واحد.
فلا يخفى أن جهاز النطق واحد في الناس من أبناء الأمم المختلفة، وكل ما يتفق له من العوارض الحسنة أو المعيبة يجوز أن يتفق للإنسان العربي في حالة من حالاته، وقد شوهد هذا التشابه في المخارج الصوتية بين لهجات بعض القبائل العربية، ولهجات الأمم الأخرى، ولكن الفرق في الحالتين أن لهجات النطق العربي قد اجتمعت في لسان واحد ينتهي إليه الاختيار، ويبقى فيه متداولًا بين أبنائه، ولم يتفرق بين أشتات من الأمم يأخذ كل شتيت منه بنصيب غير نصيب سواه.
فاللهجات العربية وجد فيها ما وجد في أمم عدة من التباس النطق بالجيم والياء والكاف والشين والخاء والظاء والتاء وغيرها من مخارج الأصوات، التي يكتبونها أحيانًا بحرف واحد، وأحيانًا بحرفين أو أكثر من حرفين.
فالياء تنطق جيمًا في لغة فُقَيْم، وتنطق جيمًا بعد العين فقط في لغة قضاعة، وقد تنطق الجيم ياء في لغة بعض القبائل على عكس لغة فُقَيم وقضاعة، وتبدل كاف الخطاب المؤنثة شينًا وكاف المذكر سينًا في لغة ربيعة، ويطرد إبدال الكاف شينًا في إحدى اللهجات اليمانية.
وقد لخص الأستاذ حفني ناصف معظم الحروف التي يقع فيها اختلاف النطق في رسالته القيمة عن حياة اللغة العربية، فذكر منها حرفًا بين الطاء والثاء وحرفًا بين الباء والفاء، وحرفًا بين الشين والجيم.
كما ذكر حروفًا أخرى تتردد بين القاف والجيم والكاف، ويتشابه فيها النطق بين أبناء اللغة السامية واللغات الآرية في مواطن متفرقة لا يجمعها إقليم واحد.
وليس بالمستغرب أن يؤدي الاتصال بين البادية والحاضرة إلى تهذيب بعض الأصوات، تبعًا لاختلاف لهجة الحديث في الصحراء الواسعة وفي مجالس المدينة، وقد يكون للتنقل بين رحلات الشمال، ورحلات الجنوب مثل هذا الأثر مع ما يقترن به من آثار الرخاء أو الخشونة في أطوار اللهجة الواحدة، ثم يؤدي ذلك مع الزمن إلى اصطفاء لهجة واحدة مفضلة تكون لها الغلبة على سائر اللهجات، وتعم هذه اللهجة بعد ذلك إذا اشترك الناطقون باللغة جميعًا في حفظها وترديدها، وقد حدث ذلك في اللغة العربية خاصة على نحو لا يتفق لغيرها في الزمن القديم والحديث، فأصبح اللسان العربي المبين لسانًا واحدًا، لكل من يحفظ القرآن الكريم أو يتلوه.
ولا ننسى أن العرب تباينوا أول ما تباينوا بنطق بعض الحروف كما تقدم، ولكنهم اتفقوا جميعًا في خاصة واحدة من خواص جهاز النطق، وهي استخدام أصوات الحلق التي أهملت جميعًا في كثير من اللغات، ويعلل بعضهم ذلك بعلة الجو والمناخ، حيث يتيسر للعربي أن يفتح صدره للهواء، ولا يتيسر ذلك لأبناء البلاد الباردة، وحيث يحتاج العربي إلى النداء في الصحراء، ولا يحتاج إليه سكان المدن والأودية المتجاورة، ومنهم من يحسب أن بعض مخارج الأصوات التي تشبه القاف والخاء والعين مألوفة في مسامع الرعاة، الذين استمعوا طويلًا إلى أصوات الإبل والضأن، وأصوات السباع في الفلوات، وهو تعليل يقال ولا نظنه يفسر انفراد اللغة العربية ببعض الحروف التي لم ينطق بها الرعاة والمستمعون بجوار الفلاة إلى أصوات السباع.
•••
وإن هذه التعليلات لتذهب مذاهبها من الظن المقبول أو المردود، ولكنها تنتهي إلى حقيقة تعلو على الظن، وهي أن النطق الفصيح فضيلة الحيوان الناطق، وأن الفصاحة العربية قد بلغت بأداة النطق الآدمية غاية ما بلغه الإنسان المعبر عن ذات نفسه بالكلمات والحروف.