الزمن في اللغة العربية
يعرف ارتقاء اللغات بمقاييس كثيرة، منها — بل من أهمها — مقياس الدلالة على الزمن في أفعالها، ثم في سائر ألفاظها.
واللغات تنشأ على نحو قريب من نشأة الكتابة على الطريقة الهيروغليفية، أي: طريقة الدلالة بالأشكال المرسومة.
يعبر الكاتب مثلًا عن الكتابة، فيرسم إنسانًا ينقش أشكالًا على حجر أو ورق بالقلم أو الأداة المعدة للكتابة، ويدل بذلك على مجرد حدوث الفعل في غير زمن محدود، سواء كان الكاتب قد فرغ من عمله أو لا يزال يكتب، أو يريد أن يكتب بعد حين، فإذا أراد أن يدل على وقت الفعل أشار إليه بعلامة مضافة، يفهم منها البعد والإدبار أو البعد والإقبال أو الاستمرار والاستغراق.
وهذا الذي حدث في الكتابة قد حدث على نحو قريب منه في الكلام، مع توضيح المعنى بالإشارة واعتماد السامع على المشاهدة، فلا بد من علامات صوتية أو جسدية للتفرقة بين ما كان وما هو كائن لا يزال، وما سيكون أو سوف يكون، وما هو معلق على شرط لا ينتظر أن يكون إلا في حالة معلومة.
ولهذا يظهر ارتقاء اللغة من علامات الزمن في أفعالها، فاللغة التي تدل على الزمن بعلامات مقررة في الفعل أعرق وأكمل من اللغة التي خلت من تلك العلامات، وبمقدار الدلالة تكون العراقة والارتقاء.
وقد شاع بين اللغويين المختصين بدراسة تواريخ الألسنة في الغرب أن اللغات السامية ناقصة في دلالة الأفعال على الأزمنة، ومنها اللغة العربية، على تفاوت بينها وبين الفروع الأخرى من الأرومة المشهورة باسم اللسان السامي، أو لسان الساميين.
وربما ساغ هذا القول عن اللغة العربية في عقول المتعجلين من مُصَدِّقِيه؛ لأنهم توهموا أن هذه اللغة نشأت على صحراء خاوية لا قيمة للوقت عند أهلها؛ فلا جرم تخلو من التوقيت الدقيق في تمييز الأفعال والأحداث.
لكنه وهمٌ لا يثبت على نظرة محققة في التاريخ ولا في اللغة، ولا نحسب أن لغة نفهمها — أو نفهم عنها — قد اشتملت على وسائل للتمييز بين الأوقات كما اشتملت عليها اللغة العربية، سواء نظرنا إلى ضرورات سكانها، أو نظرنا إلى تصريف أفعالها وكلماتها.
فكل لحظة من لحظات النهار والليل قد كان لها شأنها في حياة سكان البادية بين السفر والإقامة والحل والترحال، فمنها ما هو صالح لبدء المسير، وما هو صالح للراحة القصيرة، وما هو صالح للراحة الطويلة، وما ليس يصلح لغير السكينة والاستقرار.
ولهذا وجدت كلمات البكرة والضحى، أو الغدوة والظهيرة والقائلة والعصر والأصيل والمغرب والعشاء والهزيع الأول من الليل، والهزيع الأوسط، والموهن، والسحر، والفجر، والشروق … ويكاد التقسيم على هذا النحو أن ينحصر بالساعات على صعوبة التفرقة بين هذه الأوقات في كثير من اللغات الأخرى بغير الجمل أو التراكيب.
وكل موسم من مواسم السنة له شأنه في المرعى والانتجاع، وطلب الماء أو التجارة أو الأمان. ولهذا وجدت أسماء المواسم والفصول جميعًا، ووجدت معها ثلاثة أسماء مختلفة الدلالة على الدورة حول الشمس في مصطلح الفلكيين: فهي السنة … وهي العام، وهي الحول، ولكل منها موضعه في التعبير.
ووجدت في اللغة كلمة اليوم والنهار والليل، ولم تنقسم إلى يوم وليل دون تفرقة بين معنى اليوم ومعنى النهار.
بل لهذا وجدت للأوقات كلمات مختلفة على حسب الطول والقصر في المدة، فالمدة شاملة لجميع المقادير من امتداد الزمن، وتنطوي فيها اللحظة أو اللمحة للوقت القصير، والبرهة والردح للوقت الطويل، والفترة للمدة المعترضة بين وقتين، بل وجد فيها الحين للزمن المقصود المعين، والعهد للزمن المعهود المقترن بمناسباته، والزمن للدلالة على جنس الوقت كيفما كان، والدهر للمدة المحيطة بجميع الأزمنة والعهود والأحيان.
مثل هذا الإحساس بالزمن لا تصوره الكلمات في لغة من اللغات التي نفهمها أو نفهم عنها، على صورة أدق من هذه الصورة ولا أدل على الفوارق بين أجزائها، ولا غرابة في ذلك لو أراد الباحثون أن يلتمسوا السبب الذي يبطل العجب، فإن الزمن الماضي «مهمٌّ» عند أبناء البادية العربية في كل عهد من عهوده؛ لأنه مستودع المفاخر والأنساب والثارات والسوابق والذكريات، وليس من المصادفة أن يسمى التاريخ هنا باسم الأيام، وأن يعرف لكل يوم أثره فيما كان وما يكون.
أما الزمن الحاضر فلا غرابة في العناية بأجزائه وتقسيماته؛ لأن كل لحظة منه ذات شأن في الحركة والإقامة، وفي المرعى والتجارة، وفي الحرب والأمان.
وليس من الطبيعي أن يبلغ إحساس قوم بالوقت هذا المبلغ، ثم يخلو كلامهم من الدلالة على الإحساس به في مختلف مواضعه ومناسباته.
والواقع أن اللغة العربية تستوفي هذه الدلالة بأسلوبيها المعروفين في اللغات؛ ونعني بهذين الأسلوبين أسلوب الكلمات المستفادة من التصريف والاشتقاق أو من الأدوات المصطلح على تخصيصها لمعانيها، وأسلوب التعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب.
أما الأسلوب الآخر — وهو أسلوب الدلالة على الزمن بالتعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب، فكل ما أمكن التعبير عنه بهذا الأسلوب في لغة من اللغات، فهو ممكن في اللغة العربية في سهولة كسهولتها أو أسهل منها.
وننظر إلى الأفعال من وجهة الأجرومية، فنرى أن أوضاعها في اللغة العربية أدل على التطور والارتقاء من لغات أخرى تحسب في طليعة اللغات دقة وأداء للمعاني الذهنية.
والقرائن التي تكشف عن ذلك كثيرة، فمن علامات التطور في اللغة العربية أن الفعل الماضي فيها هو الأصل، ويأتي الفعل المضارع بالتصريف … وفي لغات أخرى من أرقى اللغات يشيع استعمال المضارع «أولًا»، ويأخذون منه الماضي بإضافة حرف أو مقطع أو تغيير الصيغة.
فالإنسان البدائي يتكلم كأنه يصور على الطريقة الهيروغليفية، فيرسم الحاضر المشاهد في أثناء العمل، ويريد أن يعبر عن الكتابة فيرسم إنسانًا في أثناء عمل الكتابة، أي: في الزمن الحاضر المضارع للرؤية، فإذا أراد أن يعبر عن الماضي أضاف إلى الصورة علامة تدل على حدوثها فيما مضى، أو أضاف إليها صورًا تتمم معناها بما يفهم منه إسنادها إلى وقت مضى، ولكن اللغة العربية تغلب فيها صيغة الماضي، ويؤخذ منها المضارع بحرف يدخل عليها، وإنما تتم غلبة الصيغة الماضوية بتطور يتدرج في الارتقاء حتى تستقر الصيغتان — صيغة الماضي وصيغة المضارع — على هذا التقسيم.
ومن علامات التطور في اللغة العربية أن تكون التفرقة بين الزمنين فيها فلسفية منطقية، فضلًا عن التفرقة النحوية.
على حين أن الحاضر شيء تبحث عنه، فلا تجده أو تجده على الدوام متصلًا بالاستقبال لا ينفصل عنه لحظة من أقصر اللحظات؛ لأنه ما من لحظة مهما تقصر إلا وهي كافية أن تجعله في حكم ما كان وليس هو حاضرًا الآن.
وهذا الفارق الدقيق ملحوظ في تقسيم الأفعال العربية؛ لأنها ماض ومضارع يدل على الحال متصلًا بالاستقبال، ولا يكون الفعل إلا للحال والاستقبال، أو يكون الزمن فيه مضارعًا للزمن السائر الذي لا يستقر على قرار.
وهذه التفرقة الفلسفية المنطقية ملحوظة في التفرقة الأجرومية بين الحاضر والمستقبل في لغة العرب، فإذا أراد المتكلم أن يذكر المستقبل بشتى معانيه، فهو موجود بمعنى الاستمرار وبمعنى الدلالة على ما يأتي، وبمعنى الإنشاء واستحداث الفعل على الطلب، فصيغة المضارع تدل على الحال والاستقبال، وصيغة المضارع مسبوقة بالسين تدل على المستقبل القريب، ومسبوقة ﺑ «سوف» تدل على المستقبل البعيد.
وصيغة الأمر تدل على فعل مطلوب في المستقبل يقترن بالزمن عند حصوله: أمرته ففعل، وهذه المجاوبة بين طلب الفعل وحدوثه مألوفة في اللغة العربية تتمثل في أفعال المطاوعة التي لا نظير لها في كثير من اللغات: فإذا وقع الحدث في الزمن، فله صيغ متعددة تؤكد هذا التحقق كما يقال: أمرته فأتمر، ورسمته فارتسم، وقطعته فانقطع، وكسرته فانكسر.
ومن قبيل هذه التوكيدات للحدوث أو طلب الحدوث في الزمن — دلالة المفعول المطلق حيث نقول: فعلته فعلًا، وصنعته صنعًا، إلى أشباه ذلك في مواضعه ودواعيه من التعبير والتوكيد.
ومن علامات التطوير أفعال الدعاء والرجاء، فإنها في هذه اللغة العربية غاية في الدقة تحسب من قبيل التميز المنطقي أو الفلسفي في هذا الباب.
فالمعنى غالب على اللفظ في أفعال الدعاء والرجاء: يقول القائل: (صحبتك السلامة) و(حفظك الله) و(رعاك الله) … ومن آية القصد في اللغة ألا يحتاج الفعل هنا إلى النقل من صيغة الماضي إلى الحاضر؛ لأن المعنى بالبداهة معلق بالاستقبال، وفي بقائه على صيغة الماضي ما يشعر بقوة الأمل في الاستجابة، كأن ما يرجى أن يكون قد كان وأصبح من المحقق المستجاب، ولا شك أن هذا المعنى مقصود؛ لأنه لم يأتِ عن عجز في اللغة ولا يمتنع على قائل أن ينقله إلى صيغة المضارع إذا شاء.
•••
ومن المعلوم أن الغربيين في أجرومياتهم يلحقون باب الشرط والنفي بالكلام على الزمن في الأفعال وهو لَحَقٌ معقول؛ لأن الشرط والنفي يفيدان ما يحدث وما لا يحدث في زمن من الأزمان، وقد استوفى الشرط والنفي في اللغة العربية أيما استيفاء، فكان من أدوات الشرط ما يفيد الاحتمال الضعيف، ومنها ما يفيد الاحتمال القوي.
كما يقال: إن حدث هذا، وإذا حدث هذا. ومنها ما يفيد الاحتمال مع الفرض والتقدير، وقد يفيد الامتناع حين تستخدم «لو» في مواضعها، ومنها ما يفيد الشرط المعلق على توقيت منتظر أو متفق عليه كالشرط ﺑ «متى»، ومنها ما يربط السببية أو النتيجة العقلية على الإطلاق الذي لا يتقيد من الأزمان ﮐ «مهما» وأيان وأنى، وﮐ «لو» في بعض الأحوال.
أما النفي ففيه دقة وقصد يدل على جملة قواعد القصد في اللغة العربية.
فالنفي ﺑ «لم» مقصور على نفي الحدوث وهو بالبداهة لا يكون إلا لزمن ماضٍ؛ لأننا لا نتكلم عن شيء حدث قطعًا أو لم يحدث قطعًا، إلا إذا كان الكلام على ما مضى … ولهذا تقصد اللغة فلا تحول الفعل من صيغة المضارع إلى صيغة الماضي بعد لم. ويقول العربي: ما حدث هذا ولا يقول: لم حدث هذا؛ لأن «ما» تدخل على المضارع فتفيد نفي «الانبغاء» لا نفي الحدوث … ومن قال: «ما يحدث هذا» فإنه يعني أن هذا لا ينبغي أن يحدث ولا يعقل أن يحدث … وقد يلاحظ هذا على الفعل الماضي الذي تسبقه «ما» … فإن نفي الوقوع هنا لا يخلو من نفي الانبغاء، ومن قال مثلًا: «ما فاه فلان بهذا الكلام»، فكأنه يقول: «حاشاه أن يفوه به»، وهذا هو الفارق بين «لم» التي لا تحتاج إلى الفعل الماضي فإنها ماضية قطعًا وبين «ما» التي تدخل على الماضي والمضارع؛ لأنها تدل على جانب معنى الوقوع على نفي الشيء؛ لأنه لا ينبغي أو لا يعقل أو لا يقع في الحساب.
أما إذا نفى الحدوث مع انتظاره في المستقبل فصيغة المستقبل هنا لازمة؛ ولهذا يقول العربي: «لمَّا يحدث هذا» وهو يترقب أن يحدث بعد قليل أو كثير.
وهذا القصد في تحويل صيغة الفعل لا يأتي جزافًا فيما نرى؛ لأنه يتكرر حيثما اقتضاه المعنى، فنقول مثلًا: إن حدث هذا، وإذا حدث هذا، ومتى حدث هذا؛ لأن الاستقبال مفهوم بالبداهة ولا حاجة إليه في اللفظ، وليس هذا لعجز أو لنقص في التصريف؛ لأن الفعل المضارع موجود، ويجوز استعماله مع الشرط في بعض الأحوال لمن شاء.
وإذا دخلت أداة نفي على الفعل المضارع، فهي في حقيقتها مانعة للحدوث لا نافية للحدوث، ومن قال: «لن يئوب القارظان» و«لن تشرق الشمس من المغرب»، فهو يقرر امتناع ذلك لسبب عنده قاطع يمنعه، وليس هذا من قبيل النفي في الصيغ الماضوية.
والمهم في جميع هذه الملاحظات أن الفعل يتأثر بموقعه من الأداة النافية ومعناها، فليس هو منقطعًا عن العلاقة الزمنية بل هو متأثر بها في لفظه ومعناه … «فلم يفعل» غير «لن يفعل» وغير «ما يفعل»، وهو اختلاف يدل على ارتباط العلاقة الزمنية بعلاقة الإعراب، وإن تعذر تعليله من ناحية الإعراب كما يتعذر مثل ذلك في جميع اللغات.
•••
على أن اللغات التي تتكلم بها في أرقى الأمم لم تشتمل على تصريفات، أو صيغ مصطلح عليها للدلالة على الزمن خلت منها اللغة العربية أو من نظائرها، وإنما ترد الشبهة على بعض النقاد الغربيين من وجود عناوين للأزمنة المعلقة عندهم لا توجد لها نظائر في اللغة العربية، وهذه الأزمنة المعلقة هي التي يفرض حدوثها فيما مضى، أو ما يلي في حالات مشروطة أو متخيلة، ولكنها ليست قاطعة ولا منتهية إلى نهاية حاسمة، وهذه الأزمنة المعلقة يعبرون عنها في بعض اللغات الأوروبية بالأفعال المساعدة مع الفعل أو اسم الفاعل أو اسم المفعول، ويحكيها في اللغة العربية أنه تقول مثلًا عن أحد معروف أو مفروض: «لعله يكون مصورًا كبيرًا لو نشأ قبل عصره»، أو «لعله يكون في مثل هذه الأحوال قد نجح لو نشأ بعد حين» أو «في مثل هذه الساعة من الغد يكون قد حضر أو يكون حاضرًا … إلى أشباه هذه التعبيرات التي يسهل استخدامها في اللغة العربية كما رأينا، وليست هي في اللغات الأخرى مخصصة بوضع أصيل من أوضاع التصريف والاشتقاق، ولكنها تعبيرات طارئة تتيسر محاكاتها عندنا في كل معنى من معانيها.
ويجوز للسامع أن يفهم من هذا التعبير أن الذهاب واجب أو أنه حاصل حتمًا، في حين أن المتكلم لا يعني ذلك، بل يعني أن ينوي أن يذهب ولا يقيد ذلك بالوجوب أو الجزم بالحدوث، وليس في التعبير العربي شيء جديد يدعو إلى هذا اللبس، مع أن الزيادة فيه على الفعل أقل من الزيادة اللفظية في اللغة الإنجليزية؛ لأن السين حرف واحد، وقد يستغنى عنه فيقال: «قلت له أمس: إنني أذهب غدًا، أو ذاهب غدًا» فيفهم السامع ما أراده القائل.
وبعد فإن اللغة من اللغات يعيبها على الأغلب الأعم نقصان: نقص في المفردات ونقص في أصول التعبير، والنقص في المفردات مستدرك؛ لأنها تزاد بالاقتباس والنقل والتجديد. وما من لغة إلا وهي فقيرة لو سقط منها ما لم يكن فيها قبل بضعة قرون، أما النقص المعيب حقًّا فهو نقص الأصول والقواعد الأساسية في تكوين اللغة. ومن قبيله ما نسب إلى لغتنا من نقص الدلالة على الزمن في صوره المختلفة، وإنه لنقص خطير لو صحت نسبته إليها، ولكنه بحمد الله غير صحيح. ويحق لنا أن نقول: إن هذه اللغة العربية لغة الزمن بأكثر من معنى واحد: لغة الزمن لأنها تحسن التعبير عنه، ولغة الزمن لأنها قادرة على مسايرة الزمن في عصرنا هذا وفيما يلي من عصور.