الشعر ديوان العرب
وإلى الشاعر يرجع العربي ليتعرف القيم الأخلاقية المفضلة، ويستقصي المناقب التي تستحب من الإنسان في حياته الخاصة أو حياته الاجتماعية.
يرجع العربي إلى الشاعر، ولا يرجع إلى الفيلسوف أو إلى الزعيم أو إلى الباحث في مذاهب الأخلاق، ويعلم كل قارئ عربي أن الشاعر الحكيم أبا تمام إنما قرر حقيقة علمية حين قال:
ففي الشعر العربي تنويه بكل صفة من صفات المروءة والفتوة، ازدراء بكل عيب من العيوب التي تشين صاحبها بين قومه، وبيان واف للأخلاق التي تحكم الحياة فعلًا، أو ينبغي أن تحكمها وتتراءى فيها مرجحة مشرقة بين سائر الأخلاق.
ومن البديه أن العربي لا يرجع إلى الشاعر ليسأله عن المذاهب الفلسفية ذات الشروح والحواشي وذات العلل والنتائج، ولكنه يرجع إليه ليجد عنده شيئًا أصح وأقرب إلى حسه وفهمه وعمله: يجد عنده «شخصيات حية» تتمثل في كل منها صورة من صور الحياة كما هي: وكما يتمناها.
وإنه ليشعر بالمجاوبة بينه وبين هذه الشخصيات في جوانب كثيرة من ذات نفسه وذات ضميره.
يشعر بها حين يريد أن يغتبط بحظه من الأخلاق، ويعتقد أنه على شيء من تلك الصفات التي يحمدها الشعراء.
ويشعر بها حين يريد أن يتعزى عن فقدان الأخلاق الفاضلة في المجتمع، وأن يشكو فقدانها ويبلور هذه الشكوى في كلام محفوظ يردده ويستشهد به لغيره.
ويشعر بها حين يريد أن يستحث طبيعته، وينهض بها إلى غاية يستصعب الوصول إليها، ويؤمن بأنها غاية قد بلغها قبله آخرون.
ولحسن حظه أنه يجد في الشعر شخصيات كثيرة منوعة، تناسب كل حالة، بل تناسب كل سن، بل تناسب كل مزاج.
يجد في الشعر شخصية الشاب المغامر، وشخصية الكهل الناضج، وشخصية الشيخ الحكيم، ويجد هذه الشخصيات معروضة أمامه في حالات الرضا والسخط، وحالات التصون والابتذال، وحالات الروية والارتجال.
كل شاعر من شعرائه النابهين نموذج صحيح من نماذج الشخصية الإنسانية على سليقتها، وكلهم يعطيه الصورة كاملة مستوفاة من حياة واقعية لا شك فيها.
وفي شعر الجاهلية — مثلًا — نموذج لشخصية الشاب طرفة بن العبد، وشخصية الكهل حاتم بن عبد الله، وشخصية زهير بن أبي سلمى، وكل منهم موصوف في شعره على حقيقته، ويزيد على ذلك أنه واصف صادق للقيم الأخلاقية كما تواضع عليها المجتمع في عصره، وكما يتمنى أن تسود بين الناس كافة.
لم يعمر طرفة طويلًا ولم يجاوز السادسة والعشرين إذا أخذنا بقول أخته في رثائه، ونشأ في بيت من بيوت النسب العريق، ولكنه نشأ يتيمًا فقد أباه وهو طفل صغير، فلم ينل من أعمامه كل حقه وابتلي بالظلم والرياء بين أهله الأقربين وعشيرته، فركب رأسه واستقل برأيه، وذهب يغامر في الحياة ولا يبالي الموت؛ إذ عاش عيشة النعيم ومات ميتة الكريم.
وإذا خوفوه بالعمر القصير قال: «ما أقرب اليوم من غد …» أو قال: إن العمر طال أو قصر «كالحبل الذي يربط به البعير، وطرفه الآخر في يد القدر لا يدري متى يجذبه منه.»
وعلى كثرة الاهتمام بالأخبار في الصحراء — لأن الأخبار ترتبط بالحياة والموت والأمن والفزع — لم يكن طرفة يبالي أن يسأل عن خبر مغيَّب عنه، وكان يقول لمن يشغلون أنفسهم بالسؤال والاستطلاع:
إلا أنه مع إقباله على متعة الحياة لم يكن يرضى لنفسه مكان الرجل الجبان، الذي يهرب من واجبه كلما دعي إليه.
فهو في الجملة نموذج للشاب النبيل الذي يُرضي نفسه، ولا يرضى عنها إذا تخلفت عن أنداده ونظرائه في مقام الشجاعة والندى، ولا يقبل من قومه إذا أعطاهم حقهم في ساعة الشدة أن يحولوا بينه وبين «ساعة المتعة» بتخويفه من اللوم، أو تخويفه من عواقب الإشراف.
•••
والنموذج الآخر — حاتم بن عبد الله — مثل من أمثلة الرجولة الناضجة، وقدوة للسيد المسئول عن قومه، وإلى هذا اليوم يضرب المثل بالكرم الحاتمي في أحاديث الناس الذي يعرفون من هو حاتم هذا، أو الذين لا يعرفون منه إلا اسمًا أصبح في عداد الصفات المتجمعة للنبل والكرامة.
واتفق الرواة على أنه «رجل يصدق قوله فعله، وإذا قاتل غلب، وإذا سُئل وهب، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق.» وقد شهدت بنته البعثة الإسلامية وجيء بها مع أسرى قبيلتها إلى النبي — عليه السلام — فقالت: يا محمد! هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيء.
وشهد السامعون بصدقها ولم يكن يخفى على النبي حقيقة قولها، فقال — عليه السلام: خلوا عنها، إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.
وما من صفة من هذه الصفات إلا قد تواترت الأنباء بتأييدها، وتكررت النوادر التي تثبتها، وجملة ما يقال عن هذا النموذج أنه كان سيدًا ينهض بأعباء قومه، ويخجل من العيش الرغد إذا كان في قومه من يشقى بالفقر وبالأسر، ويكرم نفسه مع الحلم في ساعة الغضب، قائلًا وعاملًا بما يقول:
وجماع رأيه أنه يشارك الناس في ماله إذا اغتنى، ولا يشاركهم في مالهم إذا افتقر ويحمي شرفه بماله، ولا يحمي ماله بشرفه.
ومن أجمل أقواله التي سبق بها القائلين قبل أربعة عشر قرنًا أن المال عبد وليس بسيد.
ومن تمام أدب الرجولة فيه أنه كان يجمع العفة إلى الكرم والشجاعة، ولم يذكر عنه قط خبر واحد ينفي قوله:
وشريعة الرجولة في هذا النموذج الأخلاقي الحي أنها حلم مع قوة، وعفة مع شجاعة، وكرم مع وداعة وطيبة، وأنها حقيقة عملية وليست أمنية من أماني المثل الأعلى.
•••
ويعرض لنا زهير بن أبي سلمى قيم الحياة الفضلى، كما يتمثلها شيخ واسع التجربة خبير بحوادث الأيام في زمانه وقبل زمانه، يقول بحق في شيخوخته:
ومثال السيد الجدير بالحمد عنده من يحسن الحرب ويسعى في السلم، ومن لا يهاب القتال ولكنه يدري ما هو فيعافه بعد خبرة:
وقد جمع الصفات المثلى كلها في أبيات متوالية يشيد فيها بحسن السياسة والفضل والوفاء والقيام بمطالب العشيرة، كما يشيد فيها بالإقدام الذي لا يهاب صاحبه أسباب المنايا وبالصراحة التي تنبو عن النفاق، ويأمر بالمعونة ولكنه ينهى عن المعونة في غير موضعها ولغير أهلها:
وهذه القصيدة أوفى قصائد الشعر الجاهلي في وصف قيم الحياة والأخلاق الفضلى، كما يتمثلها شاعر جاوز الثمانين وقضى العمر في عراك العيش بين الحرب والسلم والشدة والرخاء، وقام بتكاليف الحياة حتى سئم تكاليف الحياة، ولكنه أراد أن يمحضها خالصة لمن يسأمها ولا يزال يعانيها.
وليس أغنى من الشعر الجاهلي بهذه «المذاهب الأخلاقية» معروضة في صدر الشخصيات الحية، يتسع فيها المجال لتطور كل شخصية على حسب اختلاف السن والمزاج وتجارب الأيام …
ولكنها — على هذا الاختلاف — تستمد القيم من وحي المجتمع العربي في نطاقه، ولا تخرج منه ولا تشعر بالحرج أو بالحجر من أجل ذلك؛ لأنها هي لا تريد أن تخرج من ذلك النطاق، وتحس بأنها تفرضه كما يفرض عليها.
وإذا سألنا عن أثر الشخصية وأثر المجتمع أيهما أظهر وأقدر في خلق هذه القيم الحية، فقد يفضي بنا البحث النظري إلى سؤال كالسؤال عن البيضة والدجاجة، ولكن الأمثلة الواقعية هنا تعطينا الجواب محسوسًا مفهومًا لا محل بعده للبحوث النظرية.
إن استقلال الشخصية قد بلغ غايته القصوى في رجل ثائر على المجتمع، متمرد على قومه، مفاخر بهذه الثورة وهذا التمرد، وهو عروة بن الورد الملقب بعروة الصعاليك؛ لأنه كان يقود صعاليك القوم ليجلب لهم الميرة ولوازم المعيشة.
ولكنه لم يكن يثور ويتمرد إلا ليحقق القيم الاجتماعية التي تعارف عليها الناس من عشيرته، فيخرج مغيرًا مجازفًا ليغنم ويطعم «المريض والكبير والضعيف»، كما جاء في سيرته، ويرد على من يفاخره بالصحة والفراهة قائلًا: إنه يفرق جسمه في جسوم كثيرة؛ أي: إنه يعطي من طعامه ما يقوت الأجسام، وإن إناءه الواحد آنية للكثيرين ولكن مفاخريه لهم آنية كثيرة كأنها إناء واحد.
وقد أصبح بعد موته «واضع قيم» ودليلًا هاديًا لمن يقررون دعائم المجتمع في الدولة العربية، فكان الخليفة الأموي معاوية يقول: لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم، وكان الخليفة الأموي الآخر عبد الملك بن مروان يقول: «ما يسرني أن أحدًا ولدني من العرب غير أبي إلا أن يكون عروة بن الورد.»
وسأل عمر بن الخطاب الحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ فقال: كنا ألف حازم نطيع قيس بن زهير ولا نعصيه، ونقدم إقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد.
ولا حاجة بعد هذا المثل للسؤال عن مصدر القيم الأخلاقية بين الشخصية المستقلة وبين العرف الذي يتواضع عليه المجتمع، فإن التطور ينتهي بالثائر والمسالم معًا إلى توكيد القيم الفضلى والزراية بمن يخرج عليها، وإنما الثورة على أعضاء المجتمع لا على القيم التي تعاونوا عليها.
وقد مضى على هذه «المذاهب» المتمثلة في هذه الشخصيات نحو ألف وخمسمائة سنة، ولم يزل لها صوت مسموع في استحسان الحسن وإنكار المنكر من الأخلاق.
•••
ولم تتغير بعد الإسلام وظيفة الشاعر التي يرجع إليها في تسجيل القيم والأخلاق، وإن كان قد تغير الشاعر كما تغير سامعوه وقراؤه، وأصبح من اليسير على بعض الشعراء أن يعرضوا للناس صفات «الشخصية الحية»، كأنها مذهب من مذاهب التفكير.
والنماذج هنا كثيرة كالنماذج في أيام الجاهلية، ولكننا نجتزئ منها بعض أنواعها التي تدل على اتساع المجال أمام «الشخصية المستقلة» للتطور في نطاق المجتمع الكبير.
•••
من هؤلاء الشعراء أصحاب الشخصيات أو أصحاب المذاهب المستمدة من حياتهم وتفكيرهم — ثلاثة ممتازون بين قرنائهم: هم الحسن بن هانئ، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري، وأولهم نشأ بعد ظهور الإسلام بنحو قرنين.
فالحسن بن هانئ أبيقوريٌّ كامل بالمعنى الذي شاع عن أبيقور بغير تمحيص في العصور الأخيرة، فليس للحياة عنده غاية أحق بالحرص عليها من اللذة حيث كانت، ولا مبالاة في سبيلها باللوم أو بالشريعة، ولكنه لا يدين بهذا المذهب تحديًا للدين، بل اعترافًا منه بالضعف عن فروضه وإيمانًا منه بالرجاء في الغفران؛ ولهذا حسبوه من الظرفاء الذين لا يؤخذون مأخذ الجد، ولم يحاسبوه محاسبة الثورة والمروق.
وأبو الطيب المتنبي شاعر وفيلسوف، وفي وسعك أن تستخرج منه مذهب نيتشه في دين القوة بتفصيلاته، مطبقًا في الحياة العملية أو موضوعًا موضع المحاولة الدائمة بغير وفاء.
ليس في مذهب نيتشه أصل واحد لا يواجهنا بارزًا متميزًا في عدة أبيات من شعر المتنبي.
هناك قسمة الأخلاق إلى نوعين: أخلاق السادة وأخلاق العبيد.
•••
وهناك الترفع عن كل شيء فيه مساواة، وليس فيه امتياز واختصاص:
وهناك حب الحياة واختلافه بين النوعين، فهو سبب للحذر والاتقاء عند الضعيف، وسبب للإقدام والعدوان عند القوي:
والقوة هي مصدر الأخلاق العليا، فلا عفة ولا حلم للضعفاء:
•••
والصفات الكريمة قوى كقوى جحافل الخيل المغيرة:
وإنما يخاف الكريم شيئًا واحدًا، وهو العار الذي يذهب بسمعة المجد، فلا يحذر الموت من يحذر العار.
وإذا كان مذهب نيتشه ناطقًا جدًّا في شعر المتنبي، فشعر المعري فيه مذهبان ناطقان — تفصيلًا — من مذاهب العلم والفلسفة، وهما مذهب داروين ومذهب شوبنهور.
حب البقاء وتنازع البقاء بين الأحياء:
•••
والطبيعة تسلح كل حي بما يلائمه في هذا النزاع:
ولا فرق بين الأقوياء والضعفاء في هذه الحرب الأبدية:
ولكنه يخلص من ذلك كله إلى رحمة الأحياء جميعًا؛ لأنها: أقوياءها وضعفاءها ضحايا القدر الغالب مدفوعة إلى العدوان أو الدفاع.
ومقاسمته الضعيف أولى من حمل مؤنة الصراع:
ولكن أحق من الإنعام بدرهم على إنسان فقير، أن تنعم بالحياة كلها على برغوث مقبوض:
بل حتى عسل النحل لا يجوز لنا أن نغصبه لأنفسنا؛ لأنها تجمعه لنفسها ولا تجمعه للمشتار.
ولهذا عاش على النبات وحرم كل طعام من الحيوان أو من جناه، ولم يذهب هذا المذهب محاكاة لأهل الهند كما وهم بعضهم؛ لأنه كان يعجب من عقائد كثيرة وشعائر مختلفة يدين بها الهنود، كتناسخ الأرواح وتقديس البقر وتحريق الجثث وما إليها.
وقد انتهى به مذهب داروين إلى مذهب شوبنهور، وهو الإعراض عن الحياة بمعاركها ومظالمها والكف عن النسل؛ لأن الأب الصادق الحنان هو الذي يجنب أبناءه شقوة العيش:
أما ولادة النسل فهي جناية جناها عليه أبوه، فهو يكفر عنه فلا يجني على بنيه:
وعلى هذا النحو يفتح الشعر للعربي متحفًا حافلًا بأنماط الحياة، ويصور بها القيم الأخلاقية في شخصية تتناسق وتتجاوب في سلوكها، وفي تعبيرها عن هذا السلوك، وإذا تعددت أمام العربي هذه الأنماط، فهي لا تحير فكره ولا تبلبل خواطره كما تحار الأمم التي تتلقى «الأيديولوجية» من مذاهب الفلاسفة بين الجدل والمناقشة … كلا … لا حيرة فكرٍ هنا ولا بلبلة خاطر؛ لأن السليقة العربية تواجه هذه الأنماط بحسها ووعيها، وتختار منها كل ما اقترب منها واستوضحته بظروفها وأطوارها.
وهناك الضابط المهم الذي يوحد هذه الأنماط، ويتحول بها إلى اتجاه واحد، كما تتحول الجداول إلى مجرى النهر الكبير.
ذلك هو ضابط الدين بعد ظهور الإسلام.
ففي الجاهلية كان نطاق المجتمع يحيط بالأنماط الشخصية فتتفق — مع تعددها — على الإيمان بآداب المجتمع في النهاية.
وبعد ظهور الإسلام أحاطت آداب الدين بآداب المجتمع، وجاءت بمادة التماسك التي تشمل الأنماط الكثيرة، وتردها إلى بنية واحدة.
والشعر والدين كيف يتفقان؟
نعم كيف يتفقان وفي الشعر قسوة نيتشه، ورهبانية شوبنهور، وإباحية أبيقور المرفوضة في التقاليد؟
نعم يتفقان وفي الصدر سعة وعلى الثغر ابتسامة؛ لأن القرآن يصف الشعراء بأنهم أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.
فللشاعر أن يقول ما يشاء، وللقارئ أن يستريح إلى سماعه إذا شاء؛ لأنه لا ينظر إليه نظرة المعارض المصادم للدين، وإنما ينظر إليه كأنه يتفرج على منظر حسن من مناظر الفنون.
وحق الفرد — حق الحرية القائم على المسئولية — يطلق روح الإنسان من كل خطيئة ليست في عمله كما تكرر ذلك في القرآن الكريم غير مرة:
-
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
-
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ.
-
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.
-
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ.
وعلى كل إنسان إلى جانب حق المسئولية الحرة واجب يؤديه، ولكنه واجب على قدر طاقته لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: ٢٨٦].
-
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات : ١٣].
-
وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ [الشورى : ٣٨].
-
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف : ٣٢].
-
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر : ٩].
ولكن الإسلام يمنع حصر الثروة في أيدي طبقة واحدة كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء [الحشر : ٧].
ولا يخفى أن المشكلة الكبرى في العصر الحديث إنما هي مشكلة العلاقة بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، والإسلام لا يقيد المسلمين بنظام معين لحل هذه المشكلة، ولكنه يحرم السلطان المطلق كل التحريم، ويحرم استئثار طبقة معينة بخيرات المجتمع، ولا يحاسب الفرد إلا بما هو مسئول عنه مختار فيه، ولا يفرض عليه واجبًا فوق طاقته، وهذا كل ما يطلب من «الأيديولوجية» الدينية في تقرير نظام الحكم، وما بقي فهو من الأعمال التي يتولاها الناس في كل زمن بما يقتضيه.
إن القداسة عبء ثقيل لا يقوى عليه المخلوق الفاني في جميع أوقاته، ولكن المعبد الذي يأذن إلى جانبه بالمضمار الرياضي، والمنبر البليغ يعطي الإنسانية حقها، ويعينها على واجبها إذا أرادت أن تعان عليه.
وهكذا تستطيع الأيديولوجية العربية من جانبها الديني وجانبها الفني أن تقيم الإنسان على رأس طريق لا ظلام فيه! شخصية حرة مسئولة، ومجتمع يوجب المساواة في الحقوق، ولا يسمح باحتكار الثروة لفئة محدودة ولا يحرم الممتاز فرصة الامتياز، وواجب على قدر الطاقة في جميع الأحوال.