النقد العلمي
لا بد من حيلة ناجعة غير حيلة الرفض المطلق أو القبول المطلق، أو الظن المتردد بين الطرفين — كلما عرضت للناقد مشكلة من مشكلات الأخبار الأدبية أو التاريخية التي يختلط فيها الصدق بالكذب، والخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال، ولا يخلو منها مرجع من مراجع التاريخ القديم، أو من المراجع العصرية في كثير من الأجيال.
فما هي هذه الحيلة الناجعة؟ إن الظن فيها لا يغني شيئًا إلا إذا أخذناه مأخذ الظنون، ولم نزعم أنه يترقى إلى مرتبة القول الملزم أو الرأي المقبول.
ونعتقد أن النقد العلمي في العصر الحديث وشيك أن يعتمد على وسيلة من أوثق الوسائل التي تستند إلى الحجة المقنعة، ولا تكتفي بترجيحات الظن أو الذوق على ديدن النقاد قبل العصر الأخير، ونود في هذا المقال أن نجرب طريقة هذا النقد العلمي في سيرة من أحوج السير إلى التمحيص، وأكثرها قبولًا لتطبيق هذه الطريقة على وجه واضح …
تلك هي سيرة «امرئ القيس» الذي أضل تاريخه الكثيرين قبل أن يلقبوه بالملك الضليل.
فمن اليسير عندنا أن نعرض أخباره على التفسير العلمي، فنعلم منها يقينًا ما ليس بالمختلق لاستحالة اختلاقه على مؤرخيه في صدر الإسلام، وبعد صدر الإسلام إلى الأزمنة المتأخرة؛ لأن أولئك المؤرخين يجهلون التفسيرات العلمية التي تؤخذ من أخبارهم فيما يصححون روايته، أو يتعمدون فيه التزيد والتلفيق.
وهذه أمثلة متفرقة من الأخبار التي نضم بعضها إلى بعض، فيتم بها تفسير سيرة الشاعر على نحو لا يستطاع تلفيقه في زمانه أو أزمنة مؤرخيه:
-
(١)
يقول كتاب الشعر والشعراء: «كان امرؤ القيس جميلًا وسيمًا، ومع جماله وحسنه مفركًا لا تريده النساء إذا جربنه، وقال لامرأة تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر خفيف العجز، سريع الإراقة، وسأل أخرى فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت برائحة كلب، فقال: إنك صدقتني وإن أهلي أرضعوني بلبن كلبة.»
-
(٢)
وروى غير مصدر من مصادر تاريخه «أنه تزوج امرأة من طيئ فأبغضته من ليلتها، وكرهت مكانها معه فجعلت تقول له: يا خير الفتيان أصبحت، فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو فتقول: أصبح ليل …! فلما أصبح قال لها: قد علمت ما صنعت الليلة، فما الذي كرهت مني؟ ولم يزل بها حتى قالت مثل ما تقدم.»
-
(٣)
روى الميداني أنه لما جاور في طيئ نزل به علقمة الفحل التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك، فتحاكما إلى امرأته فقالت له: علقمة أشعر منك؛ لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك، وأنه أدرك الصيد ثانيًا من عنان فرسه، فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها فتزوجها علقمة وبهذا لقب علقمة الفحل.
-
(٤)
وأجمع المؤرخون على أنه كان يلقب بذي القروح، ولكنهم اختلفوا في إصابته بالقروح فقال بعضهم: إنها مرض كالجدري، وقال آخرون: إنها من حلة مسمومة خلعها عليه قيصر بعد سفره من القسطنطينية انتقامًا منه؛ لأن رجلًا من بني أسد كان على صلة بحاشية قيصر، فسمع أن امرأ القيس يغازل بنت قيصر فوشى به، وألقى إلى الملك أن امرأ القيس «غويٌّ داعر» وسيفضح ابنته بشعره.
-
(٥)
وغير هؤلاء الرواة يقولون: بل كان قيصر راضيًا عن الشاعر إلى ما بعد وفاته، وأمر بإقامة تمثال له عند قبره شاهده الخليفة المأمون لما دخل بلاد الروم ليغزو الصابئة.
هذه جملة أخبار متفرقة يؤخذ منها أن امرأ القيس كان مصابًا بالتهاب جلدي يحدث من اجتذاب المواد الدهنية، والسكرية لطائفة من الطفيليات، ويفوح العرق في هذه الحالة برائحة كرائحة الكلب؛ لأن الكلب قليل المسام في جلده، فيشبه عرقه عرق جلد الإنسان المصاب.
ويضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الأمراض الجلدية وأمراض الوظائف الجنسية معروفة، ولهذه العلاقة يتخصص أطباء هذه الأمراض بعلاج الأمراض الجنسية كما هو معلوم.
فمن الواضح إذن أن أخبار الرواة عن الخلل الجنسي في بنية امرئ القيس صحيحة لا يستطيع الرواة أن يلفقوها، ويجمعوا بين دلالتها على هذه الصورة، ومن الواضح كذلك أن تعليل رائحة العرق برضاع لبن الكلبة وهمٌّ باطل؛ لأن هذا الرضاع لو حدث لم تحدث منه تلك الرائحة … ونفهم من هذه القرائن بالبداهة أن قصة الحلة المسمومة وهمٌ كهذا الوهم؛ لأن القروح لا بد أن تنشأ من ذلك المرض الجنسي بعد طول العهد بالإصابة؛ ولأن الرجل الذي تبغضه زوجته لعيوبه الجنسية لا يبلغ من غوايته للمرأة أن يستهوي ابنة قيصر، وأن يتعرض في جريرة ذلك للوشاية والانتقام.
•••
وننتقل من روايات زواجه ومرضه إلى روايات أخلاقه، فنعلم من جملتها ما يفسر لنا سمعته، وما اشتهر به من الإباحة وافتضاح السيرة في أمور النساء:
-
(١)
ظهر مذهب مزدك على عهد الملك الفارسي قباذ، وهو مذهب يدعو إلى المشاركة في الأموال والزوجات، وأراد الملك الفارسي أن ينشره بين العرب، فأنكره المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وارتضاه الحارث بن عمرو ملك كنده.
-
(٢)
وكان المهلهل الشاعر خال امرئ القيس ماجنًا مستهترًا بمصاحبة النساء، ولقب من أجل ذلك بالزير وهو الرجل الذي يكثر من مزاورة النساء.
-
(٣)
وكان امرؤ القيس يبيح في شعره ما لا يباح من التحدث بالفسوق والخيانة وغشيان الخدور، فلا جرم يقال عنه: إنه غويٌّ داعر ويتردد وصفه بهذه الصفة على ألسنة رواته.
فهذه أخبار عدة تفسر لنا سمعة الشاعر، وتبين لنا البواعث النفسية التي تنبعث بها تلك الخليقة، وتهيئ لها جوها الاجتماعي ولوازمها العاطفية «أولًا» من خلائق القبيلة التي ولد فيها، وسمحت لها أحوالها الاجتماعية بقبول مذهب مزدك، ومطاوعة الملك الفارسي حيث خالفه ملك الحيرة.
ويأتي جو الأسرة بعد جو القبيلة، فلا يستغرب من امرئ القيس الناشئ أن يشبه خاله زير النساء من جانب الطبيعة ومن جانب الصناعة الفنية؛ إذ كان خاله شاعرًا يقول بفنه ما طبع عليه بوراثته، وقد يزيد امرأ القيس تماديًا في المجون والخلاعة أنه يدفع بهما شبهة النقص ويعوض بهما قولًا، ما ليس له في الحقيقة.
•••
وعلى هذا النحو من المقابلة بين الروايات نعلم حدود الكذب، أو حدود الوضع حتى عند ثبوت الوضع، أو ثبوت التناقض بين الروايات في الخبر الواحد.
فإن كذب الوضَّاع ينتهي عند حدود الاستطاعة التي لا يقدرون على مجاوزتها، فليس في مقدورهم أن يختلقوا العوارض الطبية التي تصلح دون غيرها لتفسير أخبارهم ونقائضهم، واستخراج الحقائق الظاهرة أو المستترة بين طواياها …
وليس في مقدورهم أن يصنعوا بيئة القبيلة ولا بيئة الأسرة، ولا بيئة الجو النفساني الذي نشأ فيه الشاعر، وعاش فيه حتى اتفقت هذه البيئات جميعًا على التمهيد لتكوين إنسان موجود، ولا بد أن يكون موجودًا إذا تلازمت مقدمات وجوده، ونتائجها على وجه يمتنع فيه الكذب؛ لأنه كذب لا يستطيعه من يأتي به ولو أراده وتحراه.
•••
فالشخصية التاريخية الصادقة هي التي تتوافق عناصرها، وتتجمع ملامحها وتتلاقى أجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرق بين حفائر الأرض، فيركب كل منها في مكانه وتستوي الأعضاء من هنا وهناك، كما تستوي في الكائن الطبيعي والصورة الحية.
وربما كان هذا الاستواء الذي لا حيلة فيه للرواة الكذبة، ولا للرواة الأمناء أحق بالاعتماد عليه من ورود السيرة في كتب التاريخ من مصادر أخرى بعيدة عن مصادرها العربية، فقد وردت سيرة امرئ القيس في كتب نونوز وكتب بروكوب من مؤرخي الروم، وورودها هنالك دليل وثيق على شخصية تاريخية لم تنفرد بها المصادر العربية، ولكن الصدق الذي تأتي به الأخبار على غير قصد من رواتها ووضاعها أصح في الدلالة من المكتوب المقصود، الذي لا يستحيل عليه ظن التدبير.