التطور والانتخاب الطبيعي
في عام ۱۸٥۹ نشَر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» الذي قدَّم فيه نظريته عن التطور. مثَّل الكتاب نقطةَ تحوُّل في فَهْمنا للعالم الطبيعي، وأحدثَ ثورةً في علم الأحياء في العقود التي تلت. فيه طرَح داروين ثلاثَ أطروحات رئيسية. أولًا، الأنواع ليست ثابتةً بل تغيِّر صفاتها بمرور الزمن تأقلمًا مع الظروف البيئية. ثانيًا، الأنواع الحالية تنحدر من سلفٍ واحد أو بضعة أسلاف مشتركين، ولم يخلق الإله كلًّا منها مستقلًّا. لا بدَّ إذَن أن أنواعًا سالفةً من الحياة خضعَت لعمليةٍ تطوُّريةٍ ما حوَّلتها إلى الأنواع الحديثة. ثالثًا، أن «الانتخاب الطبيعي» هو الوسيلة الرئيسية للتعديل التطوري. كان داروين يقصد بالانتخاب الطبيعي أن الكائنات الأقدر على البقاء والتكاثر في بيئتها هي التي ستبقى من بين أفراد جماعتها بينما يفنى سواها. وذهَب داروين إلى أن التأثير التراكمي للانتخاب الطبيعي على مدى أجيال كثيرة سوف يجعل الكائنات تتأقلم تدريجيًّا على بيئتها مؤدية في النهاية إلى ظهور أنواع جديدة تمامًا من الحياة.
لم يَكُن داروين أولَ من طرَح فكرةَ تغيُّر خصائص الأنواع بمرور الزمن ولا فكرة الأسلاف المشتركة للأنواع. فقد ناقشَ علماء سابقون له تلك الأفكار، ومن بينهم جَدُّه إراسموس داروين. ولكنها لم تَلقَ قَبولًا واسعًا، إذ لم تُطرَح «آلية» معقولة تُفسِّر كيفية حدوث التغيُّر التطوري. فكان إسهام داروين الأساسي هو وصف هذه «الآلية»، التي تمثَّلت في الانتخاب الطبيعي، واستعراض أدلة مقنعة على إمكان نشأة صفات جديدة في الكائنات، مؤديةً في النهاية إلى نشأة أنواع جديدة. يعرض «أصل الأنواع» حُجَّةً مقنعةً لقدرة الانتخاب الطبيعي على إحداث التعديل التطوُّري. إذ يقدم داروين مجموعةً من الحقائق والملاحظات التي يصعب تفسيرها من خلال فرضية خَلْق الأنواع منفصلةً، وهي مع ذلك منطقية تمامًا إذا ما ثبتَت صحة نظريته.
الانتخاب الطبيعي فكرة بسيطة لكنها ذات تأثيرٍ عميق. يقوم الانتخاب الطبيعي في الأساس على الفكرة المنطقية التالية. تأمَّل أي جماعة من الكائنات الحية. ستتطور هذه الجماعة بمرور الزمن، بمعنى أن تكوينها سيتغير، طالما تستوفي ثلاثة شروط. أولًا، لا بدَّ أن يتباين أفرادها في السمات الظاهرية، لا أن يتطابقوا فيها. («السمة الظاهرية» أو «السمة»، هي صفة ملاحَظة في الكائن كالطول أو لون البشَرة أو شكل الجمجمة.) ثانيًا، لا بدَّ أن ينتج عن ذلك التباين في السمات تباينٌ في «الصلاحية»، أو القدرة على البقاء والتكاثر. هذا يحدث لأن بعض التباينات عادةً ما تكون أكثرَ ملاءمة لبيئتها من غيرها. على سبيل المثال، في غابة كثيفة، النباتات الأطول سيصل إليها ضوء الشمس أكثر من تلك الأقصر. ثالثًا، لا بدَّ أن تميل الذرية إلى مشابهة الأبوين. هذه الشروط مجتمعة تعني أنه في الأجيال المستقبلية، ستصبح السمات المرتبطة بالصلاحية العالية أكثرَ شيوعًا في أفراد المجموعة، بينما ستنحسر تلك التي تقلل من الصلاحية. يُفرد داروين مساحةً كبيرة في «أصل الأنواع» للاستدلال على أن الجماعات الحيوية الفعلية عادةً ما تستوفي هذه الشروط الثلاثة.
تَوصَّل داروين إلى فكرة الانتخاب الطبيعي من خلال قراءة أعمال الديموجرافي الفيكتوري توماس مالتوس. ذهَب مالتوس إلى أن نموَّ التَّعداد السكاني للبشر دائمًا ما سيفوق المخزون الغذائي. بالمثل، ذهبَ داروين إلى أن جميع الكائنات تخوض «صراعًا من أجل البقاء»، لأن عدد الكائنات التي تولد في أي جيل يفوق العدد الذي يمكن بقاؤه على قَيْد الحياة. هذا يرجع إلى قيودٍ متعلقة بالموارد؛ إذ لا يمكن لأي جماعة حيوية أن تظلَّ تنمو إلى الأبد. إذَن، لا محالةَ سيكون هناك رابحون وخاسرون. من ملاحظاته الميدانية، أدرك داروين أن الكائنات في أي جماعة عادة تتباين في نواحٍ لا حصرَ لها. لذلك فإنه من المُرجَّح، كما استنتج، أن بعض الكائنات ستمتلك صفات تمنحها أفضلية، مهما كانت طفيفة، في الصراع من أجل البقاء. هذه الكائنات سوف تبقى وتتكاثر، ناقلةً هذه الصفات ذات الأفضلية إلى ذريتها.
لتوضيح قوة الانتخاب الطبيعي، وضعه داروين في مقارنة مع الانتخاب الاصطناعي الذي يمارسه مربو الحيوانات. وهو مصطلح يشير إلى طريقة تحسين المُربِّين لماشيتهم عن طريق الانتقاء المتكرر للكائنات التي تمتلك خصائصَ مرغوبًا فيها كي تؤسس للجيل القادم. من شأن ذلك أن يؤدي إلى نتائج سريعة إلى حدٍّ مدهش، كما حدث في سلالات كثيرة للكلب المستأنس اختلف مظهرها تمامًا بعد عدَّة مئات من الأجيال من التناسل الانتقائي. في الانتخاب الاصطناعي يوجد فاعل واعٍ — المربي البشري — يختار قصدًا بعضَ التنوعات دون غيرها لأغراض خاصة. لكن داروين ذهب إلى أن شيئًا مشابهًا يحدث في الطبيعة على مدًى زمني أطول. في الانتخاب الطبيعي لا يوجد فاعل واعٍ بالطبع؛ بل تفرض البيئة مصفاةً انتقائية، محابيةً الكائناتِ الأقدرَ على البقاء والتكاثر فيها. يُنتج هذا كائناتٍ تتكيف جيدًا مع بيئتها، ويصنع تنوعًا بيولوجيًّا، إذ تتأقلم مختلف الجماعات على مختلف الظروف البيئية.
حُجَّة التصميم
كانت إحدى النتائج المباشرة لنظرية داروين هي تقويض «حُجَّة التصميم»، وهي حُجَّة فلسفية قديمة لوجود الإله. تُنسب النسخة الأشهر من حُجَّة التصميم إلى ويليام بيلي، وهو قسٌّ عاش في القرن الثامنَ عشرَ. أشار بيلي إلى أن الكائنات تُظهر «توافقًا» مذهلًا مع بيئتها وتعقيدًا وظائفيًّا. لتوضيح معنى التوافق، تأمَّلْ قدرةَ صبَّار الصَّحْراء على تخزين المياه، أو تشابه الحشرة العصوية مع أوراق النبات المحيطة، أو الديناميكية الهوائية لجناح الطائر. في كلٍّ من هذه الحالات، يتمتع الكائن بخصائص تبدو ملائمةً بشكلٍ مثالي لبيئته. وكأنَّ مهندسًا لديه دراية مسبقة بالتحديات البيئية التي سيواجهها قد زَوَّده بالصفات المناسبة. لتوضيح المقصود بالتعقيد، تأمل عضوًا جسديًّا كعَيْن الفقاريات. كما أشار بيلي، تعتمد وظيفة العين على نشاط متسق لعدة أجزاء ثانوية تتوالف بدقة بالغة، كالعدسة والقرنية والشبكية، وهلُمَّ جرًّا. ليست العين مميزة في هذا الصدد؛ فحتى كائن معقد نسبيًّا كالأميبا يحتوي على العديد من المكونات داخل الخلية التي لا بدَّ أن تعمل باتساق كي تؤديَ وظائف حيوية كالتنفس والتمثيل الغذائي. يعتبر بيلي التوافق والتعقيد دليلَين على تصميمٍ قام به إله واعٍ.
دعَّم بيلي حُجَّته بتشبيهٍ جدير بالذكر. تَصوَّر أنه يمشي على مرج وصادف غرضَين: حجرًا وساعة. يقول بيلي إن ردة فِعلنا تجاه إيجاد الغرضَين ستكون مختلفة. فوجود الحجر أمر عادي؛ إذ من الممكن تصوُّر أنه لطالما كان موجودًا في المرج. أما الساعة فسنستنتج على الفور أن لها صانعًا لا محالة؛ فاعلًا واعيًّا صممها. ذلك لأنه على عكس الحجر، يظهر في الساعة تعقيدًا وظائفيًّا. إذ تتوالف أجزاؤها الداخلية بدقة لإنتاج حركة منتظمة لها غرض واضح؛ ألا وهو متابعة الوقت. أبدًا لن يخطر لنا جديًّا فرضية أن قوًى فيزيائية بحتة، كالرياح، أدَّت بالصدفة إلى تَجمُّع كل القطع الداخلية للساعة صانعةً التكوين المناسب؛ فهذا يكاد يكون مستبعدًا تمامًا. ذهب بيلي إلى أنه كما لا بدَّ للساعة من صانع، بالإمكان أن نستدل على أن الكائنات الحية أيضًا لا بدَّ لها من صانع، فهي على درجة من التعقيد الوظيفي تضاهي تلك الموجودة في أي مصنوع بشري.
على الرغم من أن حُجَّة بيلي انتُقدَت من قبل، وبالأخص من قِبل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، إلَّا أنها لم تُهدَم تمامًا إلَّا بظهور نظرية داروين. إذ قدَّم داروين تفسيرًا طبيعيًّا للظاهرة التي استدلَّ بها بيلي على عمل الخالق. (المقصود بالتفسير الطبيعي أنه لا يستند إلى أسبابٍ خارقة للطبيعة أو إلهية.) ذهبَ داروين إلى أن تعقيد الكائنات وتوافقها مع بيئتها ينشآن نتيجة للانتخاب الطبيعي. وأن استمرارية بقاء أفضل التباينات في المجموعة وانحسار غيرها «يوهِم» بوجود التصميم في الطبيعة. إنما في الحقيقة لا يوجد مُصمِّم؛ بل عملية سببية عمياء — الانتخاب الطبيعي — تُعدِّل الكائنات تدريجيًّا بمرور الزمن.
قدَّم علم الأحياء التطوري الحديث أدلةً كافية على صحة التفسير الدارويني. في حالات لا حصر لها، وضع علماء الأحياء تصورًا مُفصَّلًا لكيفية تطور التكوين الداخلي المعقد للكائنات وتوافقها مع بيئتها. في الواقع يُعد مثال العين الذي ضربه بيلي — والذي ما يزال معارضو التطور يستشهدون به أحيانًا — هو خير مثال لذلك. فبفضل الدمج بين التحليل الجيني والدراسات الخاصة بنمو العين في أجناس مختلفة، أصبحنا ندرك الآن التسلسل المحتمل للمراحل التي من خلالها تطوَّرت العين الحديثة للفقاريات من عضوٍ بُدائي حساس للضوء. نحن نعلم أنه من ٥٠٠ مليون عام، تطوَّرت عين حديثة في الأصل لدى السلف المشترك لجميع الفقاريات؛ وبعد ذلك، عدَّلها الانتخاب الطبيعي وصقلها في الأنواع المختلفة لتتوافق مع المتطلبات البيئية.
مع أن داروين ضرب حُجَّة التصميم في مقتل، فقد اتفق مع بيلي في جانب واحد. إذ وافقه في أن الخصائص العضوية التي أشار إليها حقيقية وتحتاج إلى تفسير خاص. (معظم علماء الأحياء الجدد يوافقونهما في ذلك أيضًا.) بالفعل يوجد اختلاف جوهري بين جماد كالحجر وبين كائن حي، ومِن ثَم من المنطقي تمامًا الإصرار على إيجاد تفسير لذلك الاختلاف. بعبارة أخرى، اتفق بيلي وداروين على أن التصميم «البادي ظاهريًّا» هو ظاهرة حقيقية، ليس فكرة مِن وحي خيالنا ولا وهْمًا نُسقِطه على الطبيعة. لكنهما اختلفا على تفسيره. إذ اتخذ بيلي ذلك التصميم البادي ظاهريًّا دليلًا على وجود تصميم حقيقي، بينما أرجعه داروين إلى الانتخاب الطبيعي.
في الأعوام الماضية، أعاد أنصار حركة «التصميم الذكي» في الولايات المتحدة إحياء نسخة مُعدَّلة من حُجَّة بيلي. على نهج بيلي، ذهبوا إلى أن الكائنات الحية لديها خصائص لا تفسير لها سوى أن فاعلًا واعيًا خلقها فيها. غالبًا ما يُلبِس مؤيدو التصميم الذكي أفكارهم رداء العلم؛ إذ يدفعون بأن الكيمياء الحيوية الحديثة قد أظهرَت أن الخلايا — التي هي الوحدات الأساسية المكوِّنة لجميع الكائنات — يظهر فيها تعقيد «غير قابل للاختزال» لا يمكن أن يكون قد نشأ من الانتخاب الطبيعي. غير أن تلك الحُجة لا يقبلها أي عالم أحياء جاد؛ لأنها تتجاهل الأدلة التجريبية العديدة على أن الخلايا تطورت بالفعل، وأن الدافع الكامن وراء حركة التصميم الذكي ديني بحت لا علمي. كانت حجة بيلي معقولةً تمامًا في عصره؛ نظرًا لأنه كان يكتب في وقت غابت فيه ميزة النظرية الداروينية، أمَّا مناصرو التصميم الذكي فليس لديهم مثل هذا العذر.
الداروينية الجديدة
كانت نظرية داروين مميَّزةً لكن ناقصة، إذ اعتمدت على فرضيتين أساسيتين لم يتضح لهما تفسير إلا لاحقًا. أولًا، تستلزم نظرية داروين أن يتوالى التباين دون انقطاع. فكي يأخذ الانتخاب الطبيعي مجراه، لا بدَّ أن تتباين صفات أفراد الجماعة. غير أن الانتخاب هو نفسه أداة مجانَسة؛ فهو يستمر في «تقليل» تباين الصفات إذ يبقي على التباينات الأصلح ويقضي على ما سواها. إذَن كي يستمر الانتخاب الطبيعي لمدًى زمنيٍّ طويل، لا بدَّ من ضخ تباينات جديدة في الجماعة. لكن من أين لتلك التباينات أن تأتي؟ ثانيًا، افترض داروين أن الذُّرية سوف تنزع إلى مشابهة الآباء؛ وأطلق على ذلك «المبدأ القوي للوراثة». هذا التشابه لازم كي يُعدِّل الانتخابُ الطبيعي جماعةً من الكائنات بالطريقة التي وصفها داروين. إذا كانت النباتات الأطول في جماعتها تحظى بأفضلية للبقاء مقارنةً بتلك الأقصر، فلن يكون لذلك تأثير تطوري إلَّا إذا نزَعت ذُرية النباتات الطويلة إلى مشابهتها في صفة الطول. وإلَّا كان تأثير الانتخاب عابرًا، إذ لن يستمر إلَّا لجيل واحد. لكن كيف يمكن تفسير هذا الشبه بين الآباء والذُّرية؟
اليوم أصبحنا نعلم الإجابة على كلا السؤالين بفضل اكتشافات علم الوراثة، وهو علم لم يدركْه داروين. معظم الكائنات تنمو من خلية واحدة، تتكون في الكائنات التي تتكاثر جنسيًّا من اتحاد مشيجين، أحدهما من الأب والثاني من الأم، ليُكوِّنا لاقحة (الأمشاج الذكرية والأنثوية هي الحيوانات المنوية والبويضات). تحتوي هذه الأمشاج على جينات مستمدة من الأبوين. ويكون للجينات في اللاقحة تأثير نظامي على الصفات التي تنمو لدى الكائن. باختصار، هكذا يتحقق التشابه بين الآباء والأبناء الذي اعتبره داروين أمرًا مسلمًّا به. أمَّا ضخ تباينات جديدة فمنشؤه عاملان. أولًا، التكاثر الجنسي يُنتج باستمرار كائنات لها تركيبات جينية جديدة؛ هذا لأن الكائن الحي يَنقُل إلى المشيج عشوائيًّا نصف جيناته فقط. ثانيًا، لا تنتقل الجينات بدقة تامة. بل تتخللها طفرات متفرقة أثناء نسخ المادة الوراثية، ومِن ثَم قد تحتوي اللاقحة على تباينات جينية غير موجودة في أيٍّ من الأبوين. هكذا، توفر الطفرات إمدادًا مستمرًّا من التباينات الجديدة التي تساعد الانتخاب الطبيعي في عمله.
معظم الطفرات الجينية تكون إمَّا غير مؤثرة على الكائن أو مُضرَّة له. ولكن من حين لآخر تظهر طفرات مُفيدة، كتلك التي تجعل الكائن أكثر مقاومةً للعدوى أو أقل عرضةً للوفاة في مرحلة الطفولة أو أكثر جاذبية للتزاوج. سيحابي الانتخاب الطبيعي مثل تلك الطفرات، إذ ستترك الكائنات الحاملة لها في المتوسط ذرية أكثر من تلك غير الحاملة لها. على مدى العديد من الأجيال سيؤدي هذا إلى تغيُّر التركيب الجيني للنوع، إذ ستشيع فيه الطفرات المفيدة. التأثير المجمَل لذلك هو أن النوع سيصير أكثر تكيُّفًا مع بيئته، تمامًا كما افترض داروين.
عادة ما توصف الطفرة الجينية بأنها «عشوائية»، وهو تعبير فيه شيء من التضليل. فهو لا يعني أن الطفرات لا تخضع لمسببات، أو أن جميع جينات الكائن الحي تتساوى في فرص تحوُّرها، فكلاهما غير صحيح. بل المقصود هو أن الطفرات «غير موجهة»، من حيثية أن كَوْن طفرة معينة نافعة أو ضارة للكائن الحي في بيئة معينة لا يؤثر على فُرص حدوث هذه الطفرة. أي إن الطفرات ببساطة تحدث وقتما وأينما شاءت؛ وتأثيرها على صلاحية الكائن الحي هو الذي يحدد ما إذا كانت ستنتشر بواسطة الانتخاب الطبيعي، ولكنه لا يحدد ما إذا كانت ستحدث أم لا في المقام الأول.
أدَّى اندماج نظرية داروين مع علم الوراثة في مطلع القرن العشرين إلى نشأة الداروينية الجديدة، القائلة بأن التحوُّر العشوائي والانتخاب الطبيعي هما المحركان المتلازمان للتغيير التطوري. بالفعل، عادة ما يُعرِّف الداروينيون الجدد التطور بأنه تغيُّر في التركيب الوراثي لجماعةٍ حيوية ما، استنادًا إلى أن كل الظواهر التطورية الأخرى، مثل نشأة أجناس جديدة، تنبع في النهاية من هذه التغيرات. رفْض «الوراثة اللاماركية» هو مبدأ آخر لدى الداروينيين الجدد. وهو المصطلح الذي يشير إلى الفرضية المنسوبة إلى جون-بابتيست لامارك العالم التطوري الذي عاش في القرن الثامن العشر، القائلة بأن الخصائص المكتسبة من الممكن أن تُورَّث، الفكرة التي اعتقد بها داروين أيضًا. الخصائص المكتسبة هي تلك التي يكتسبها الكائن الحي أثناء حياته بفعل مؤثرات خارجية؛ وهي تختلف عن الخصائص الفطرية التي لها أساس وراثي. احتج الداروينيون الجدد بأن الخصائص المكتسبة لا تُشفَّر في الجينات، إذَن فهي لن تُورَّث. تجريبيًّا، هذا صحيح بشكل عام؛ فلاعب كمال الأجسام الذي يرفع أثقالًا طَوال اليوم لن ينجب أبناءً لهم كتلة عضلية أكثر بالتبعية. على الرغم من ذلك، ليست الوراثة اللاماركية مستحيلة، وقد وُثِّق مؤخرًا عدد من الحالات لحدوثها. يدرك علماء الأحياء اليوم أن الجينات ليست العوامل الوحيدة التي يرثها الأبناء من آبائهم؛ تشمل العوامل الأخرى التي يرثونها الهرمونات والمغذيات، والكائنات التكافلية مثل بكتيريا الأمعاء، والسلوكيات المكتسبة، والبِنى المادية مثل الأعشاش، والتغيرات «فوق الجينية» للحمض النووي التي تؤثر على التعبير الجيني (العملية التي تصنع الجينات بواسطتها البروتينات التي تحتاجها الخلايا).
نشأ علم الأحياء التطوري الحديث من الداروينية الجديدة لكنه تجاوزها إلى ما هو أبعد، وقد أسهم في ذلك استعانته باكتشافات علم الأحياء الجزيئي (طالع الفصل السادس). اليوم صار لدينا فَهْم أعمق لآليات التطور، ولكيفية نشأة أنواع جديدة، وللأساس الجزيئي للعديد من الخصائص التكيُّفية التي أنتجها الانتخاب الطبيعي. علاوةً على ذلك، صار لدينا معرفة تفصيلية بشكل شجرة الحياة، ألا وهي مخطط السلالة الذي يربط جميع الكائنات الحديثة بسلف مشترك واحد. ولدينا بعض المعرفة، وإن كانت أقل مما نودُّ، عن أقدم أشكال الحياة على الأرض وكيف خرجت إلى حيز الوجود. نتج عن ذلك صورة أكثر تعقيدًا من تلك التي رسمها داروين، لكن رؤيته الأساسية للعملية التطورية، وبالأخص لدور الانتخاب الطبيعي في تعديل الكائنات الحية وخلق التنوع، تظل سليمة.
منطق التفسير الدارويني
تفسير داروين لكيفية تَكيُّف الكائنات الحية مع البيئة مثير للاهتمام فلسفيًّا، لأنه يستند إلى منطق مميز. لتقدير حسن منطقه، من المفيد مقارنة تفسيره بتفسير لامارك. ذهب لامارك إلى أنه من الممكن للكائنات الحية على المستوى الفردي أن تتكيف مع البيئة «أثناء فترة حياتها». فعلى سبيل المثال، جادل لامارك بأن أعناق الزرافات تزداد طولًا لأن أسلافها من الزرافات كانت تمد أعناقها كي تبلغ الأشجار الطويلة، مما أدَّى إلى إطالة أعناقها؛ ومِن ثَم نَقلَت هذه الأعناق المُعدَّلة إلى ذُريتها. الآن وقد صرنا نعلم أن الخصائص المكتسبة لا تنتقل إلى الذُّرية، صار تفسير لامارك مشكوكًا فيه تجريبيًّا. لكن ذلك ليس مربط الفرس. بل ما يثير الاهتمام هو التناقض المنطقي بين تفسيرَي لامارك وداروين. فتفسير لامارك يقول بأن «الأفراد» يتغيرون ليُحسِّنوا من ملاءمتهم التكيفية للبيئة، بينما تفسير داروين يُعنى «بالجماعة» لا الأفراد باعتبارها الوحدة التي تتغير. فالأفراد لا يخضعون لتغير تكيفي بناءً على النظرية الداروينية؛ بل الجماعة هي التي تتغير عن طريق الإبقاء بشكل انتقائي على بعض العناصر المتغيرة والتخلص مما سواها.
عبَّر عالم الأحياء ريتشارد لونتين عن هذا بقوله إن نظرية لامارك تحولية بينما نظرية داروين تنوعية. يسري هذا الاختلاف على نطاق أوسع من علم الأحياء، كما يتضح من مثال ضربه إليوت سوبر. لنفترض أننا وجدنا أن التلاميذ في فصل معين يجيدون الموسيقى إلى حدٍّ يفوق المعتاد وأردنا معرفة السبب وراء ذلك. إحدى المنهجيات المحتملة للإجابة ستركز على كل تلميذ منفرد، وتسعى لتفسير قدراته الموسيقية. قد نكتشف على سبيل المثال، أن كلًّا من التلاميذ نشأ في أسرة موسيقية، أو بدأ تعلُّم العزف على البيانو في سِنٍّ مبكرة، أو كان يحظى بتشجيع أبويه، إلى آخره. هذا تفسير تحولي؛ إذ يشرح كيف تحول كل طفل إلى موسيقي بارع. لكن ثمة نهجًا آخر مختلف تمامًا للإجابة عن السؤال. وهو الإشارة إلى أنه كي يُقبَل أي تلميذ في الفصل من الأساس، يجب أن يحصل على أعلى الدرجات في امتحان موسيقي صعب. بمعنى أن التحاق التلاميذ بالفصل قد تحدَّد بواسطة عملية اصطفاء للتلاميذ بناءً على قدراتهم الموسيقية؛ نتيجة لذلك، لا يضم الفصل سوى التلاميذ البارعين في الموسيقى. هذا تفسير تنوعي.
في مثال تلاميذ المدرسة، ينوه سوبر بأن التفسيرين يشرحان بمهارة أمرَين مختلفَين. إذ يشرح التفسير الأول لماذا يمتلك تلاميذ الفصل قدرات موسيقية فائقة عوضًا عن امتلاكهم قدرات أقل. أمَّا التفسير الثاني فيشرح لماذا يضم الفصل ككل تلاميذ بارعين موسيقيًّا دون سواهم من التلاميذ الأقل براعة. إذَن فالتفسير الأول يشرح حقائق عن التلاميذ على المستوى الفردي، بينما يشرح التفسير الثاني حقيقةً عن تكوين الفصل. على هذا المنوال تشرح التفسيرات الداروينية في علم الأحياء الحقائق على مستوى الجماعة لا الفرد. على سبيل المثال، لا تُفسِّر الداروينية السبب وراء كَوْن فرو دب قطبي ما أبيض لا بُنيًّا. لتفسير ذلك، سنشير إلى حقيقة أن هذا الدب قد وُلدَ بجينات تسببت في جعل فروه أبيض؛ وهو ليس بتفسير داوريني بل نمائي. ما تفسره الداروينية هو لماذا تضم جماعة (أو نوع) الدب القطبي أفرادًا ذوي فراء بيضاء، دون غيرهم ممن لهم فراء بنية؛ أو لماذا تتكرر صفة «الفرو الأبيض» في الدببة القطبية بنسبة ١٠٠٪.
ذهب إرنست ماير، وهو عالم تطوري بارز من القرن العشرين، إلى أن داروين استحدث نهجًا جديدًا لتحليل الطبيعة أطلق عليه «التفكير الجمعي». وهو مصطلح ليس له تعريف دقيق؛ لكن أحد محامله هو التعامل مع الجماعة باعتبارها وحدة التحليل المعنية واعتبار التباين داخلها خاصية «حقيقية» فيها لا مجرد حوادث عارضة. ماير مُحقٌّ في أن هذا جزء لا يتجزَّأ من الداروينية. كما رأينا، وجود التباين شرط أساسي لحدوث الانتخاب الطبيعي، والتفسيرات الداروينية مَعنية بالتغيير في الجماعات لا الفرد. علاوةً على ذلك، يُكرِّس علماء التطور الجدد جهدًا كبيرًا لدراسة سمات على مستوى المجموعة وتحليلها كَميًّا، مثل مدى التباين الجيني داخل جماعة ما ومقدار الاختلاف في الصلاحية بين الأفراد المتباينين. وبالتالي، كان من إرث داروين إحداثه تحوُّلًا مفاهيميًّا، إذ جعل الجماعات محل دراسة مثلها مثل الأفراد.
الأسئلة المباشرة والأسئلة المطلقة
تحتل نظرية التطور مكانة فريدة في علم الأحياء الحديث. إذ تُعد مبدأً تنظيميًّا أساسيًّا ينظم عددًا هائلًا مِن الحقائق التجريبية. فالكائنات الحديثة تحمل آثارًا لا تنمحي لتاريخها التطوري، من بينها البصمات الوراثية والسمات التكيفية والتشابهات بين الأنواع التي تعكس وجود سلف مشترك لها. كتبَ عالم الأحياء ثيودوسيوس دوبجانسكي في عام ١٩٧٣ يقول: «لا يكون أي شيء في علم الأحياء منطقيًّا إلا في ضوء التطور» وهو ادعاء يظل ثابتًا بالدرجة نفسها حتى يومنا هذا. بالطبع لا تدخل الكثير من دراسات علم الأحياء في حيز علم الأحياء التطوري صراحة. فعالم البيئة الدارس للتنوع البيولوجي في غابة مطرية، أو عالم الأحياء الدقيقة الذي يحاول استنساخ فيروس ما، أو عالم الرئيسيات الذي يدرس قردة الشمبانزي في البريَّة، جميعهم معنيون بأحداث راهنة، لا بأحداث من الماضي البعيد. قد يعتقد المرء أن مثل هذه الأبحاث العادية كانت لتسلك المسار نفسه حتى لو كان داروين مخطئًا وكانت قصة الخلق في سفر التكوين هي الصحيحة. هذا صحيح إلى حدٍّ ما، لكن في الواقع، يمثل التطور أساسًا يستند إليه العديد من المباحث البيولوجية، وإن كان ظاهرها التركيز على الحاضر.
لماذا يحتل التطور تلك المرتبة من الأهمية في علم الأحياء؟ إحدى إجابات هذا السؤال هي أن التطور يُقدِّم لنا فَهمًا فريدًا لا يتحقق إلَّا به. توضيحًا لذلك، لنتأمل مقارنة يرجع الفضل في شهرتها إلى ماير، بين نوعَين مختلفَين من الأسئلة التي يطرحها علماء الأحياء. أسئلة مباشرة كالتي تستفهم عن طريقة عمل آلية بيولوجية ما. على سبيل المثال، كيف يجد سمك السلمون المهاجر طريقه عائدًا إلى النهر الذي وُلد فيه (أو «موطنه»)؟ أو كيف ينظم حيوان ثديي درجة حرارة جسمه؟ أو كيف تتحرك البكتيريا نحو الأكسجين في محيطها؟ تجاب الأسئلة من هذا النوع بوصف العوامل السببية التي تؤدي إلى نشأة الظاهرة محل التساؤل. في مثال سمك السلمون، الإجابة هي أن رائحة المجرى المائي الذي فقس فيه السلمون بيضه تنطبع في ذاكرته، ومِن ثَمَّ يعتمد على هذه الذاكرة للعودة إليه بعد بلوغه. أمَّا مثال البكتيريا، فالإجابة هي أن للبكتيريا مستقبلات تستشعر تركيز المركبات الكيميائية في البيئة؛ فيمكن للبكتيريا أن تسبح في تدرُّج التركيز الكيميائي عن طريق تدوير محركها السوطي.
في المقابل، تعني الأسئلة المطلقة بالميزة التطورية لا الآلية المباشرة. وهي عادة ما تسأل «لماذا» وليس «كيف». على سبيل المثال، لماذا يهاجر سمك السلمون عائدًا إلى نهر مولده بدلًا من أن يظل في مكانه؟ وهو سؤال منطقي، فالعودة إلى الموطن مكلفة من ناحية الطاقة، ومستهلكة للوقت وفيها مخاطرة. لماذا إذَن يقوم بها سمك السلمون؟ هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه بدراسة تفاصيل آلية ملاحة سمك السلمون مهما كانت مشوقة. بل تتطلب إجابته البحث عن الميزة التطورية لعودة السلمون إلى موطنه؛ أي السبب الذي لأجله أحدث الانتخاب الطبيعي هذا السلوك في السلمون من الأساس. على سبيل المثال، إحدى الفرضيات المعقولة هي أن عودةَ السلمون إلى المجرى المائي الذي فقس فيه يُتيح له إيجاد موطن ملائم للتبويض وبقاء صغاره، ومِن ثَم يعود عليه ذلك بفائدة متعلقة بصلاحيته. إنْ صحَّت تلك الفرضية كما يعتقد الكثير من علماء الأحياء، فهي تخبرنا عن «سبب» سلوك السلمون ذلك لا عن «كيفيته».
الأسئلة المباشرة تكون في الأغلب غير مرتبطة بالتاريخ التطوري. فحتى لو كان داروين مخطئًا وكان السلمون من خلق الإله، يظل من الممكن طرح السؤال المتعلق بكيفية عودة السلمون إلى مجرى ولادته، والإجابة عليه بالطريقة نفسها فعليًّا. لكن ليس هذا شأن الأسئلة المطلقة. بل إن السؤال المطلق التقليدي يفترض مسبقًا أن الصفة محل السؤال هي صفة تكيفية، أي إنها تطورت من الانتخاب الطبيعي إذ تورِث ميزة في الصلاحية. للإجابة عن سؤال لماذا يمتلك الكائن الحي صفةً ما، فإن عالم الأحياء سيسعى إلى تحديد ماهية هذه الميزة، أي إنه سيقدم تفسيرًا تكيفيًّا. يستلزم هذا تقديم طرح يتعلق بمسار التاريخ التطوري (ولو ضمنيًّا على الأقل). فعالم الأحياء الذي يفسر سبب عودة السلمون إلى موطنه بأنه إيجاد موقع ملائم للتبويض إنما يقدم طرحًا عن السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تطوير سلوك العودة إلى الموطن. وهو تفسير سوف يُدحَض لو تبيَّن خطأ نظرية التطور.
تنبع مركزية التطور بالنسبة لعلم الأحياء من كونه يوضح كيفية نشأة عمليات التكيف، وحدها نظرية التطور تستطيع أن تجيب عن الأسئلة المطلقة التي تسأل «لماذا؟». تقدم مجالات مثل علم الأحياء الجزيئي وعلم الأحياء الخلوي وعلم الأحياء النمائي معرفةً تفصيلية عن آليات عمل الكائنات الحية ومكوناتها الثانوية. وهي معرفة ثمينة من الناحية العلمية وذات فائدة كبيرة في حد ذاتها. لكن علم الأحياء التطوري يضيف لنا درجة أخرى مختلفة جوهريًّا من الفهم العلمي. إذ يتيح لنا أن نفهم التباين الذي نلاحظه في السمات العضوية بتفسيرها على أنها استجابات «منطقية» أو تكيفية للتحديات البيئية التي تواجهها الكائنات الحية. هذا نوع من الفهم مكمل للذي نحصل عليه من دراسة الآلية القريبة وإن كان يختلف عنه تمامًا، وهو أيضًا دافع كبير للانجذاب الفلسفي إلى علم الأحياء التطوري.
على الرغم من أنه ينبغي أن نفرِّق بوضوح بين الأسئلة المباشرة والأسئلة المطلقة، فقد تتداخل أحيانًا إجاباتهما. إذ قد تساهم معرفتنا بالماضي التطوري في فهمنا لآلية عمل الكائنات الحية في الحاضر. مجال الطب الدارويني خير مثال لذلك. المبحث الأساسي للطب هو آلية عمل جسم الإنسان في الوقت الحالي والأسباب المباشرة للمرض. لكن أنصار الطب الدارويني يجادلون بأن المنظور التطوري يمكن أن يساعد في فَهْمنا لذلك المبحث. لنأخذ السِّمنة مثالًا. يخبرنا التطور أن التفضيلات الغذائية للبشر نشأت في بيئة مغايرة تمامًا للتي نعيش فيها اليوم، تندر فيها العناصر الغذائية، لذا كان اشتهاء الأغذية السُّكرية مفيدًا. مِن ثَم لا تتوافق بيئتنا الحالية وتفضيلاتنا الغذائية التي تطورَت، وهو ما يفسر سبب نزوع البشر للإفراط في الطعام. لو صحَّ هذا التفسير، وهو ما يعتقده الكثيرون، فقد يكون له تبعات عملية على آلية معالجة وباء السِّمنة، أو لتقييم النجاح المحتمل لتدخل معين. إذَن، فالاعتبارات التطورية قد تساعدنا على فَهم الآليات المباشرة بشكل أفضل.
لماذا نؤمن بالتطور؟
تُعتبر نظرية التطور دعامةً أساسية لعلم الأحياء الحديث، ولا يشكك أي عالم أحياء اليوم بجدية في صحتها. على الرغم من ذلك، غالبًا ما نجد في المجتمع ككل إحجامًا ملحوظًا عن الاعتقاد بالتطور، حتى في أوساط المتعلمين الذين يقبلون بصدر رحب الأركان الأخرى للرؤية العلمية الحديثة للعالم. (هذ الإحجام أقوى في بعض البلاد مما هو في غيرها.) فما السبب؟ يبدو أن ثمة عوامل ثلاثة تقف وراء ذلك.
أولًا، التطور فكرة مُربِكة للغاية، قد يكون من الصعب قَبولها عند أول تعرُّض لها. فأنت إن نظرت إلى حلزون موجود على نبتة فراولة في حديقتك على سبيل المثال، فسيتطلب قَبولك فكرة أنك أنت والحلزون والنبتة تنحدرون من سلفٍ واحد إذا ما تتبعنا سلالاتكم بالقدر الكافي تحولًا فكريًّا هائلًا. ومع هذا تقول نظرية التطور بصحته؛ فالسلف المشترك لشتى أشكال الحياة النباتية والحيوانية هو كائن أولي وحيد الخلية (يشبه الطحالب) يُقدَّر أنه عاش منذ نحو ١٫٦ مليار سنة. إذَن، هناك فجوة بين خبرتنا العادية لعالَم الأحياء الذي يُقدِّم لنا مجموعة من أشكال الحياة لا يخفى التمايز البيِّن بينها، والفكرة التي يقوم عليها علم الأحياء التطوري، ألا وهي أن جميع أشكال الحياة تنحدر من سلف مشترك.
ثانيًا، يُزيح التطور البشر عن المكانة الفريدة التي وضعهم فيها الفكر الموروث. لقرون كان الاعتقاد السائد هو أن البشر يختلفون جوهريًّا عن سائر الكائنات الحية، حتى إنهم لا يخضعون للنظام الطبيعي. على سبيل المثال، ذهب ديكارت إلى أن الحيوانات غير البشرية مجرد آلات، بينما يملك البشر أرواحًا. وما زال الاعتقاد بتفرُّد البشر بصورة أو بأخرى سائدًا. لكن التطور يقوض هذا الاعتقاد. فهو يخبرنا بأن الإنسان العاقل ما هو إلا أحد أنواع الرئيسيات تَشعَّب من الشمبانزي منذ ستة إلى ثمانية ملايين سنة مضت. بالطبع، يملك البشر سمات مميزة لا تملكها أغلب الكائنات الأخرى كاللغة والثقافة، لكن هذه السمات المميزة موجودة في ظل خلفية من السمات المشتركة. فمن منظور تطوري، فكرة الانفصال الجوهري بين البشر وباقي العالم الحي هي محض وهم.
ثالثًا، وبكل وضوح، يتعارض التطور مع الكثير من العقائد الدينية، وبالأخص عقائد الأديان الإبراهيمية. على سبيل المثال، يقول سِفر التكوين إن الإله خلق جميع الكائنات الحية منفصلة في ستة أيام منذ بضعة آلاف سنة. إذا أُخذ هذا الادعاء على محمله الحرفي، فهو يتعارض بوضوح مع ما يخبرنا به التطور، ألا وهو أن الحياة قد تطوَّرت على الأرض تدريجيًّا على مدى ما يقرب من أربعة مليارات سنة. لا عجب إذَن أنه منذ زمن داروين إلى يومنا هذا، كان للكثير من معارضي التطور دافع ديني، صريحًا كان أو مستترًا.
تفسر هذه العوامل الثلاثة أسباب معارضة التطور لكنها لا تبررها. فتعارُض فكرة علمية ما مع خبرتنا العادية أو مساسها بالكبرياء البشري أو تعارضها مع العقائد الدينية ليس سببًا سائغًا لرفضها. لكنه يثير سؤالًا: كيف نتيقَّن أن نظرية التطور فعلًا صحيحة؟ ما مدى قوة الأدلة عليها؟
كي نتناول هذه المسألة، نحتاج إلى أن نكون أكثرَ دقة بشأن ما نعنيه بنظرية التطور. رأينا أن داروين نفسه ناقش ثلاث أطروحات: (١) تُطوِّر الأنواع صفات جديدة بمرور الزمن؛ (٢) الأنواع الحالية تنحدر من أسلاف مشتركة؛ (٣) الانتخاب الطبيعي هو الوسيلة الرئيسية للتعديل التطوري. تختلف الأدلة على النقطتين (١) و(٣) إلى حد ما. فلنركز على النقطة (٢) ادعاء الانحدار من السلف المشترك، إذ إنها النقطة الأهم التي يسعى معارضو التطور إلى دحضها.
الصيغة الحديثة للأطروحة (٢) هي فرضية شجرة الحياة الواحدة التي تقول إنه يمكن تتبُّع كل الأنواع الحالية إلى سلف مشترك واحد. السبب الرئيسي للاعتقاد بها لم يتغير منذ عصر داروين؛ إذ تفسر تلك الفرضية عددًا كبيرًا من الحقائق التي لا تفسير لها من دونها، وإلا يتحتم اعتبار هذه الحقائق صُدفًا بحتة. كان من بين الحقائق التي استشهد بها داروين هي التشابهات التشريحية المذهلة بين الأنواع المختلفة، مثل قوائم الخيول والأبقار. سرعان ما تبدو مثل هذه التشابهات منطقيةً في ضوء التطور. فالخيول والأبقار تنحدر من سلف مشترك ورثَت منه بنيتها رباعية القوائم، وخضعت بعد ذلك لتعديل تطوري. لكن لو كانت الخيول والأبقار لا تنحدر من سلف مشترك بل خُلقَ كلٌّ منها مستقلًّا، لَما كنا لنتوقع أن يكون تشريحها متشابهًا على الإطلاق.
مجموعة أخرى من الحقائق التي تدل على وجود أصل مشترك، والتي لاحظها داروين أيضًا، تأتي من علم الأجنة. تأمَّل حقيقة أن جميع أجنة الفقاريات تتشابه كثيرًا في مراحلها الأولى حتى إنه يصعب التمييز بينها. أثناء نمو الجنين، يكتسب الصفات المميِّزة لمجموعته الفرعية من الفقاريات، كالطيور مثلًا، ثم المميِّزة لنوعه في النهاية. وهذا منطقي في ضوء التطور. ترجع جميع الفقاريات إلى نوع واحد من الأسلاف تطور إلى سلالات مختلفة لكل منها صفاتها المميزة: الأجنحة للطيور، والخياشيم للأسماك، إلى آخره. تنشأ هذه الخصائص بعد أن يكتمل تصميم الجسم الأساسي للكائن الفقاري، حيث إنه من الصعب إحداث تغيير في مراحل النمو الأولى للجنين دون إلحاق آثار ضارة على الكائن ككل. نتيجة لذلك، تتشابه أجنة جميع الفقاريات في مراحلها المبكرة، ثم تظل تتمايز أثناء نموها الجنيني. لو أن كلًّا من الأنواع الفقارية خُلقَ مستقلًّا، لَما وُجد سبب لتوقع هذه التشابهات.
أمَّا السبب الأقوى للإيمان بفرضية شجرة الحياة الواحدة فلم يَكُن مُتاحًا لداروين. إنه «عالمية الشفرة الجينية». لفهم ما يعنيه ذلك، نحتاج إلى معرفة بعض الأساسيات في عِلم الوراثة. يمكن اعتبار الجين مجموعةً من التعليمات مدونة في الحمض النووي لبناء بروتين واحد. يتكون البروتين من سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية المرتبطة بعضها ببعض. المقصود بالشفرة الجينية هو الطريقة التي من خلالها يُحدِّد تسلسل الحمض النووي لجينٍ ما تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين المناظر. (بتعبير أدق، تقوم هذه الشفرة بترتيب مجموعة ثلاثية من النيوكليوتيدات لصنع حمض أميني واحد؛ انظر الفصل السادس.) يوجد عدد هائل من الشفرات الجينية الممكنة، تتوافق جميعها مع قوانين الكيمياء. لكن المذهل هو أن جميع الكائنات الحية، من الذباب إلى البشر مرورًا بالبكتيريا، «تتماثل» في شفرتها الجينية (أو تكاد تتماثل). هذا منطقي تمامًا لو أن الكائنات الحية تنحدر من سلف مشترك، وإلا فهي صدفة بعيدة الاحتمال للغاية. إذ سيكون أشبه بتكرر نشأة لغة بشرية واحدة في عدة سياقات منفصلة. إذا اكتشف علماء الأنثروبولوجيا عددًا من القبائل المنفصلة تتحدث اللغة نفسها بالضبط، فسيفترضون لا محالة أن هذه القبائل تفرعت من مجتمع لغوي واحد. الافتراض البديل القائل بأن كل قبيلة استحدثت بشكل مستقل اللغة نفسها هو افتراض غير معقول بالمرة باعتبار العدد اللامحدود من اللغات الممكنة. بالمثل، تقدم عالمية الشفرة الجينية في الكائنات في يومنا هذا دليلًا دامغًا على اشتراكها في أصل واحد.
يُقال في بعض الأحيان، لا سيما على لسان المعارضين لعلم الأحياء التطوري، إن التطور «مجرد نظرية». وهي مقولة نحتاج إلى شيء من الحذر عند الخوض في تفسيرها. قطعًا توجد نظرية تسمى «نظرية التطور»، وهي مجموعة المبادئ النظرية التي تفسر آلية عمل التطور، والتي سبق أن تطرَّقنا إلى بعضها. لكن هذه المقولة عادة ما تُفسَّر بأن التطور ليس حقيقةً ثابتة بل فرضية تكهُّنية يمكن لشخص عقلاني أن يطعن في صحتها. وتلك فكرة يجب التصدي لها. لمَّا كنا لا نستطيع رؤية الماضي رأي العين، كان الادعاء القائل بانحدار الأنواع الحالية من أسلاف مشتركة لا يمكن الجزم به إلا بطريق غير مباشر، وهو الاستنباط. لكن ذلك ينطبق على العديد من الافتراضات العلمية. فنحن لا نستطيع رؤية الإلكترونات ولا الحضارات القديمة ولا نواة الشمس مباشرة، لكننا نعلم الكثير عن تلك الأشياء. الأدلة المؤيدة للتطور هائلة إلى حدٍّ يجعل التشكيك في صحتها بجدية غير ممكن. فمن يشك في التطور على أساس أنه «مجرد نظرية» فحري به أن يشكك في جميع أطروحات العلم الحديث أيضًا إن كان مبدؤه ثابتًا.