البحار العجوز في حانة أدميرال بينبو
طلب مني عدد كبير من الناس أن أدون قصة جزيرة الكنز بأكملها، وهذا ما سأفعله، لكني لن آتي على ذكر موقع الجزيرة. بدأت القصة في الماضي حينما كان والدي يدير حانة اسمها «أدميرال بينبو»، كان الليل قارص البرودة، وكنا نسمع دويَّ الرياح عندما أهلَّ علينا للمرة الأولى البحار العجوز ذو الوجه النديب.
دخل الرجل علينا فجأة، وكان منظر صندوق أمتعته غريبًا؛ إذ كان يجره وراءه بعجلة يد. وكان الرجل قوي البنية وطويل القدّ، بشرته بندقية اللون، وتتدلى على سترته الزرقاء ضفيرة سوداء، وفي الحقيقة بدا كل شيء فيه قذرًا حتى يداه وأظافره، وكان بياض الندبة الممتدة على وجنته يظهر بوضوح على بشرته المثيرة للاشمئزاز. وكان يصفر ويغني الأغنية التي ستتكرر على مسامعي في أوقات كثيرة:
بعدما ألقى بعصاه الثقيلة على الأرض، ظهر أبي، وبدا أن الضيف لم يلحظه في بادئ الأمر لانشغاله الشديد بالنظر في أرجاء الحانة.
قال الغريب: «خليج قريب، ويسهل الوصول إليه أيضًا. لا بدّ أنكم كنتم منشغلون بشدة مؤخرًا، أليس كذلك؟»
أجابه أبي: «لا.» وقد كانت هذه الحقيقة؛ إذ كان العمل يسير ببطء في الفترة الأخيرة.
ردّ الرجل: «حسنًا، إذن سيفيدني هذا المكان الرائع.» ثم التفت إلى الرجل الذي كان يدفع عربة اليد وقال: «أنت، سأحتاج بعض المساعدة في حمل صندوقي إلى أعلى.» ثم استرسل الرجل بصوت أجش: «سأمكث هنا بعض الوقت، وأنا رجل بسيط؛ لا أريد سوى لحم الخنزير والبيض، والواجهة المطلة على الخليج هناك كي أراقب السفن. يمكنكم أن تنادوني بالكابتن.»
لاحظ الرجل نظرة أبي المرتابة، فألقى أمامه ببعض العملات الذهبية التي أخرجها من كيس نقود جلدي صغير، ثم قال في شراسة: «أخبرني عندما تصل إلى قرار، بحوزتي الكثير من المال!»
ومع أن الرجل بدا وضيعًا ورث الملابس وفظ الأسلوب، بدا أنه تعود من الناس أن يطيعوه. وقد أخبرنا الرجل الذي كان يحمل أمتعته أنه وصل إلى الميناء في هذا الصباح، وأنه سأل عن حانة هادئة مطلة على الساحل، هذا هو كل ما استطعنا أن نعرفه عن ضيفنا الغامض.
وقد كان رجلًا صامتًا يقضي معظم أيامه على الجروف الصخرية عند الشاطئ ينظر في الآفاق عبر تليسكوب نحاسي لامع، وفي الليل يجلس إلى جانب النيران في ردهتنا، وغالبًا كان لا يرد عندما يتحدث إليه أحد، ونجده فجأة يتمخط بصوت يشبه صافرة السفن، وكان نزلاء حانتنا يتجنبونه، وكنت أنا ووالدي نتجنبه أيضًا.
وبعدما ينقضي مساؤه نجده يسأل إذا كان قد مرّ أي بحارة من هنا؛ ظننا في بادئ الأمر أنه يعاني الوحدة، لكن سرعان ما أدركنا أنه كان يختبئ من شخص ما؛ فكلما اقترب بحار نجده يراقبه من وراء الستار صامتًا كالفأر.
وبدأ الرجل يضع ثقته فيّ، وقد وعدني في أحد الأيام بأن يعطيني عملة فضية قيمتها أربعة بنسات شهريًّا مقابل أن أترقب «بعينيّ اليقظتين» مجيء بحار بساق واحدة، وأعلمه بذلك فور ظهوره. وكان وجهه يعبس أحيانًا عندما أطلب منه أجرتي، لكنه سرعان ما يرضخ عالمًا أن مراقبتي أهم بكثير من حجب المال عني، وكان يكرر على مسامعي: «انتبه بشدة للرجل ذي الساق الواحدة.»
وقد استحوذ الرجل الغامض ذي الساق الواحدة على أحلامي، وفي الليالي العاصفة كنت أراه يتجسد في كوابيس؛ فإذ بساقه مقطوعة حتى الركبة ثم حتى الفخذ، ثم يتحول إلى وحش قدمه في منتصف جسمه! كان يركض في أحلامي، يطاردني فوق أسوار وعبر حقول؛ لقد دفعت ثمن مساعدتي إياه غاليًا!
ومع أنني كنت أخشى هذا الرجل، كانت خشيتي له أقل من خشية معظم الناس له؛ إذ كانوا يرتاعون عندما يغني أغاني البحر الوحشية الكريهة، وفي الليالي العاصفة كان يقص عليهم قصصًا مريعة ويحثنا جميعًا على غناء لازمةٍ من أغنيته: «يوو وو وو، وزجاجة رم»، وكان النزلاء يشاركون الغناء خشيةً على حياتهم. وكلما تعكر مزاجه، كان يحملق في غضب، ويضرب الطاولة بيده، ويثور غضبًا. ولم يكن أحد يجرؤ على مغادرة الطاولة إلى أن ينتهي من الغناء وسرد القصص والترنح حتى النعاس.
وكانت القصص التي يرويها مرعبة بالفعل؛ قصص مريعة حول الشنق، والسير على ألواح خشبية، وعواصف في البحر. وكان يسره أن يخبرنا بأنه عاش وسط أشنع الرجال الذين كانوا يطلقون على أنفسهم بحارة، وقد صدمتنا ألفاظه الفظة تمامًا وكذا الجرائم التي كان يتحدث عنها.
وخال أبي أن الحانة ستخرب، وسيبتعد الناس عنها، على حد قوله. لكنني أظن أن وجود الكابتن هو الذي جلب الزبائن الجدد إلى حانتنا. لقد كانوا خائفين في بادئ الأمر، لكنهم ارتضوا أخيرًا أن تدخل بعض الجلبة والإثارة إلى حياتهم الهادئة، بل لقد أُقيم حفل على شرفه، حيث أطلق عليه الشباب «كلب البحر»، «والبحار المحنك»، وادعوا أنه من الرجال الذين جعلوا الأمم الأخرى تبدي احترامها لنا في البحر.
لكنه ظل في الحانة بعدما نفد ما معه من مال، الأمر الذي بدأ يزعجنا، ولم يكن لدى والدي الشجاعة الكافية ليطالبه بالأجرة؛ فكلما أتى على ذكر الموضوع، صرخ فيه الكابتن وأطال التحديق فيه إلى أن يغادر الغرفة. وأنا واثق من أن هذا أحد أسباب مرض والدي الشديد.
ولم يبدل الكابتن ملابسه قط، وعندما تهرأت قبعته، ألقى بها في البحر. وقد أصلح معطفه بنفسه، وبنهاية مدة إقامته، كان المعطف عبارة عن رقع من القماش. ولم يكن هناك من يزوره على الإطلاق، ولم يكتب أو يتسلم أي خطابات، ولم يكن يتحدث إلى جيرانه إلا عندما يشعر بالضجر والملل. ولم ير أحد منا قط صندوق أمتعته العظيم عندما يكون مفتوحًا.
ولم يتحداه أحد سوى مرة واحدة: جاء الطبيب ليفزي ليفحص والدي المسكين، وفي أثناء استراحة الطبيب عندما كان يتناول العشاء ويتحدث إلى ضيف آخر في الردهة وينتظر وصول حصانه، أخذت أراقبه وأقارن بين مظهره الأنيق ومظهر الكابتن؛ فكان معطفه نظيفًا، وأسلوبه غاية في التألق مقارنة بأسلوب ذلك القرصان العجوز البذيء.
وفجأة بدأ الكابتن في غناء أغنيته:
وكنت أظن أن هذا الصندوق المذكور في أغنيته يشير إلى صندوق أمتعته، وقد امتزج في أحلامي مع وحش الرجل ذي الساق الواحدة. وفي ذلك الحين لم تعد أغنيته تلفت انتباه أي منا، لكنها كانت جديدة على مسامع الطبيب ليفزي فحسب، الذي نظر شزرًا إلى الكابتن قبل أن يدخل معه في حوار. على الفور لوح الكابتن بيده كي يصمت الجميع، فتوقفنا جميعًا عن الكلام، فيما عدا الطبيب الصالح الذي استمر يتحدث بصوت عالٍ وواضح. حملق الكابتن فيه وانتهره قائلًا: «صه! التفت الطبيب ليفزي إليه وقال جملة واحدة فحسب: «لم اضطر في حياتي قط إلى الإنصات إلى الأوغاد، وبالطبع لن استثني هذه الليلة!»
وثب الكابتن في غضب عارم وفتح مطواته مهددًا بطعن الطبيب، الذي ظل واقفًا في مكانه ثابتًا كالصنم وتحدث بصوت عالٍ دون أن يغير نبرة الصوت: «إن لم تبعد هذه المطواة، فسأشنقك!» وحملق كلاهما في الآخر بنظرات مرعبة، لكن الكابتن سرعان ما انزوى وجلس متبرمًا، لكن الطبيب لم يكن قد انتهى من كلامه بعد: «والآن وقد علمت بوجود أمثالك في مقاطعتي، فستخضع لمراقبتي، فأنا لست طبيب فقط؛ أنا قاضٍ أيضًا، وإذا سمعت شكوى واحدة ضدك، فسأقبض عليك وأنفيك خارج المدينة، وكفاك هذا التحذير!»
بعد قليل وصل حصان الطبيب فركبه ومضى في طريقه، لكن الكابتن التزم الصمت هذه الأمسية وظل هكذا عدة ليال بعدها.