كان زمن الفاطميين من أزهى عصور الفن الإسلامي، وإن يكن عصر المماليك قد بزه في ضخامة
العمائر وإبداع زخارفها، فإن الفنون الفرعية
١ أو التطبيقية بلغت أوج عظمتها في حكم الدولة الفاطمية، الذي دام في وادي
النيل من سنة (٣٥٧–٥٦٧ﻫ/٩٦٩–١١٧١م)، ولا غرو فقد زادت الثروة في البلاد، وكانت مصر تجني
أرباحًا وافرة من تجارة المحيط الهندي، والعلاقات التجارية مع القسطنطينية.
رحلة ناصر خسرو
ونحن نعرف أن ناصر خسرو، الرحالة الفارسي المشهور طاف في كثير من بلاد العالم
الإسلامي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، بعد أن ترك وطنه في وقت
انتشرت فيه الاضطرابات، واشتد النزاع بين أمراء الأقاليم المختلفة؛ ولكنه رأى نفس
البؤس في كل البلاد التي زارها، اللهم إلا في مصر: فقد وجد رخاءً عظيمًا، وأسواقًا
عامرة، وتحفًا فنية نادرة، وهدوءًا شاملًا،
٢ وكان ذلك في عهد الدولة الفاطمية، الإسماعيلية المذهب، وظن ناصر خسرو
أن الفضل في رخاء مصر راجع إلى المذهب الإسماعيلي، وأن هذا المذهب كفيل بإنقاذ
العالم الإسلامي، فلم يلبث ناصر أن اتصل ببعض رؤساء الشيعة الإسماعيلية في مصر،
واعتنق مذهبهم. والظاهر أن الخليفة المستنصر بالله أحسن استقباله، وكلفه بأن يدعو
لمذهب الإسماعيلية في خراسان.
٣
وقد وصف ناصر خسرو مدينة القاهرة المعزية — نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي —
وصفًا شائقًا. وقدر أنها في ذلك الوقت (بين سنتي ٤٣٩ و٤٤١ هجرية؛ أي: ١٠٤٧ و١٠٤٩
ميلادية) كانت قد ثبت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك
السلطان، وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا قليل تبلغ أجرته
في الشهر دينارين، وكان فيها من الخانات والحمامات ما لا يمكن حصره، وكانت كلها ملك السلطان.
٤ أما قصر السلطان نفسه فقد كان في وسط القاهرة، وبينه وبين الأبنية
المحيطة به فضاء يفصله عنها، وكان يحرسه في الليل خمسمائة حارس من الفرسان،
وخمسمائة حارس من الرجالة، وكانت أسواره عالية؛ فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل
المدينة، بينما يبدو من خارجها كالجبل، وكان في القصر ألوف من الخدم والنساء
والجواري، وله عشر بوابات فوق الأرض، وباب يقود إلى ممر تحت الأرض، يعبره الخليفة
راكبًا ليصل إلى قصر آخر، وكان كل كبار الموظفين في قصور الخليفة من الروم أو
السود.
وقال ناصر خسرو: إن مدينة القاهرة كان لها خمسة أبواب كبيرة: باب النصر، وباب
الفتوح، وباب زويلة، وباب القنطرة، وباب الخليج،
٥ ولم يكن بالمدينة سور محصن،
٦ ولكن أبنيتها كانت أعلى من الأسوار المحصنة، وفي كل منها خمس أو ست
طبقات فكأنها القلاع الضخمة،
٧ وكانت البيوت في المدينة مبنية بناءً نظيفًا محكمًا، وكانت مفصولة عن
بعضها بحدائق ترويها مياه الآبار.
٨
وفي الواقع أن هذه الظاهرة التي أعجب بها ناصر خسرو، أعجب بها غيره من الرحالة
الأوروبيين الذين أتيحت لهم زيارة القاهرة في العصور الوسطى.
٩
ووصف ناصر خسرو الاحتفال العظيم بقطع الخليج وخروج الخليفة الفاطمي على رأس جنده
وخدمه، وأمراء الدولة وموظفي الحكومة للاشتراك في هذا العهد الشعبي الكبير.
وانتقل ناصر خسرو بعد ذلك إلى مدينة الفسطاط جنوب القاهرة، حيث كانت الحركة
التجارية والصناعية، فوصف عظمتها، وبيوتها الشاهقة، وجوامعها الكبيرة، وحدائقها
الغناء، وصناعتها الزاهرة، وأطنب في وصف الثروة في أسواقها، والازدحام فيها، وجمال
أعيادها، وقال: «لو وصفت هذه الأعياد لما صدقني كثير من الناس ولرموني بالمبالغة
والإغراق، فإن حوانيت القصارين
١٠ والصياغ، والحوانيت الأخرى مفعمة بالذهب والحلي والبضائع والأقمشة من
الحرير والقصب لدرجة لا يجد فيها المشتري محلًّا يجلس فيه.»
١١
ومما لفت نظره أن التجار كانوا يبيعون بأثمان محددة، وأن الذي كان يغش الناس
كانوا يركبونه جملًا ويضعون في يده جرسًا يدقه، ويطوفون به البلد، وهو يصيح بأعلى
صوته: لقد كذبت وها أنا ذا ألقى عقابي جزى الله الكاذبين.
وختم ناصر خسرو وصفه بأنه رأى في مصر ثروة عظيمة، وأموالًا غزيرة، لو أراد وصفها
لم يصدقه أحد من بلاد العجم.
١٢
وقد ذكر أشياء كثيرة عن صناعة النسيج، والخزف، والمعادن في مصر. وسوف نعود إليها
في مواضع أخرى من هذا البحث.
وقصارى القول أن مصر كانت لها المكانة الأولى في العالم الإسلامي في الوقت الذي
زارها فيه ناصر خسرو، وأن العراق لم يستطع بعد ذلك أن ينتزع منها تلك المكانة إلا
بفضل الأمراء السلاجقة، الذين آلت إليهم مقاليد الأمور فيه، والذين امتدت فتوحاتهم
حتى أزالوا سلطان الفاطميين عن سورية.
١٣