مصادر ما نعرفه عن كنوز الفاطميين
إذا نحن أردنا أن نتحدث عن قصور الخلفاء الفاطميين وما كان فيها من كنوز فنية، فإن
مرجعنا الأساسي في هذا ما كتبه المؤرخون المصريون ابن ميسر وتقي الدين المقريزي.
أما ابن ميسر فهو محمد بن علي بن يوسف بن جلب راغب المتوفى سنة (٦٧٧ﻫ/١٢٧٨م). وفي
المكتبة الأهلية بباريس مخطوط به جزء من كتاب له اسمه «أخبار مصر» وقد وقف على نشره
الأستاذ هنري ماسيه Henri Massé فطبعه في المعهد
العلمي الفرنسي في القاهرة سنة (١٩١٩) وصدره بمقدمة قصيرة وألحق به الفهارس اللازمة.
وكان المفهوم أن المخطوط المذكور يشتمل على الجزء الثاني من كتاب أخبار مصر.
ولكن الأستاذ فييت
G. Wiet كتب نقدًا طويلًا وبحثًا
مسهبًا في هذا المخطوط والطبعة التي ظهرت منه على يد الأستاذ ماسيه،
١ فأثبت أن النص المخطوط في المكتبة الأهلية بباريس ليس تاريخ ابن ميسر. وليس
الجزء الثاني منه بتمامه؛ ولكنه نسخة من مقتطفات من هذا الكتاب، نقلها المقريزي سنة
(٨١٤ﻫ/١٤١١م)، ثم وضع أكثر من خمسها في كتابين من كتبه، ونقل أكثر الأجزاء الباقية مع
بعض تغيير أو إضافة أو حذف. والواقع أن في آخر المخطوط عبارة تؤيد ما أثبته الأستاذ
فييت، وهي: «آخر المنتقى من الجزء الثاني من تاريخ مصر لابن ميسر، وتم على يد أحمد بن
علي المقريزي في مساء يوم السبت أربع عشرة وثمانمائة.»
٢
وقد درس الأستاذ فييت في بحثه الذي أشرنا إليه المصادر التي اعتمد عليها ابن ميسر،
ولا سيما ابن زولاق المتوفى سنة (٣٨٧ﻫ/٩٩٨م) — وهو أقدم الذين كتبوا في تاريخ
الفاطميين، وإن كانت مؤلفاته لم يصل إلينا منها شيء — ثم المسبحي المتوفى سنة
(٤٢٠ﻫ/١٠٢٩م)، وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب تاريخًا لمصر في ثلاثة عشر ألف ورقة؛
٣ ولكن لم يصل إلينا من مؤلفات المسبحي إلا الجزء الأربعون من تاريخه، وهو
محفوظ الآن في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا. ومهما يكن من شيء، فإن ابن ميسر اعتمد على
مصادر طيبة، وقد شهد له بذلك ابن حجر فقال: إنه «عارف بالمصريين.»
٤ وليست هذه ميزته الوحيدة، فإننا لا نجد في كتابه سب الفاطميين الذي نجده
عند غيره من المؤرخين السنيين، الذين لبوا رغبة الأيوبيين والمماليك في التشهير
بالفواطم والقسوة في نقدهم.
والظاهر أن الذي حدا بابن ميسر — وبالمقريزي من بعده — إلى الاسترسال في بيان كنوز
الفاطميين، إنما هو أنها نهبت في أيام الشدة العظمى بين سنتي (٤٥٩ و٤٦٤ﻫ/١٠٦٧ و١٠٧٢م).
وذهبت بقيتها طعمة للنيران.
وقد ذكر ابن ميسر أنه في سنة (٤٦٠ﻫ/١٠٦٨م) قويت شوكة الأتراك، وطمعوا في المستنصر،
وزادت مرتباتهم من ٢٨ ألفًا إلى ٤٠٠ ألف دينار في الشهر، وطالبوه بالأموال، فاعتذر بأنه
لم يبق شيء عنده، فألزموه ببيع ذخائره، فأخرجها إليهم وأخذوها بأبخس الأثمان.
٥ كما ذكر أيضًا في حوادث سنة (٤٦٢ﻫ/١٠٧٠م) أن الجند امتدت أيديهم إلى نهب
العامة، وأن عددًا من التجار قدم إلى بغداد ومعهم ثياب المستنصر وكنوزه وأشياء كثيرة
مما نهب وقت القبض عليه.
٦
على أن أهم ما يذكره ابن ميسر، هو أنه رأى مجلدًا من نحو عشرين كراسًا، فيه بيان
ما
خرج من التحف والأثاث والثياب والذهب وغير ذلك.
٧ ولسنا ندري تمامًا هل كان المجلد سجلًّا لتحف القصر، أو كان بيانًا بما نهب
أو تفرق من التحف.
وفضلًا عن ذلك فإن ابن ميسر وصف الكنوز الفنية التي تركها الوزير الأفضل بن بدر
الجمالي وصفًا شائقًا سنعود إلى بحثه في هذا الكتاب.
وقد كتب الأستاذ حسن إبراهيم حسن في كتابه «الفاطميون في مصر»: «يقول ابن ميسر أيضًا:
إن من هذه النفائس ما أرسله البساسيري إلى مصر سنة (٤٥٠ﻫ) حين أقام الخطبة باسم الخليفة
الفاطمي المستنصر على منابر بغداد، وقد استولى عليها الأتراك أيضًا سنة (٤٦٠ﻫ)، وكان
مما بعث به البساسيري ثلاثون ألف قطعة كبيرة من البلور، وخمسة وسبعون ألف ثوب من الحرير
الخسرواني وعشرون ألف سيف محلى بالذهب.»
٨
ولو صح هذا لكان على جانب كبير من الخطورة؛ لأننا نعتقد أن قطع البلور المشار إليها
كانت مما اختصت مصر بصناعته، ولم يكن هناك محل لإرسالها من العراق، ولكن الواقع أن النص
الموجود في ابن ميسر بهذا الشأن،
٩ وكذلك النص الذي يرادفه في المقريزي،
١٠ لا يفهم منهما أن البلور والحرير الخسرواني والسيوف المكفتة
١١ بالذهب أرسلت من العراق على يد البساسيري، وإنما جاء ذكرها في معرض التحف
التي نهبت من خزانات المستنصر. وأكبر الظن أن الدكتور حسن إبراهيم إن كان لم يعن بتحقيق
هذه المسألة؛ فإنما ذلك لأنها تكاد تكون ثانوية بالنسبة إلى التاريخ الإسلامي على الرغم
من خطر شأنها للمشتغلين بالفنون والآثار الإسلامية.
أما تقي الدين المقريزي فقد ولد بالقاهرة سنة (٧٦٦ﻫ/١٣٦٤م)، واشتغل بالقضاء فيها،
وصار إمامًا لجامع الحاكم، وتنقل في وظائف كثيرة في القاهرة وفي دمشق، ثم انقطع للكتابة
والتأليف حتى توفي سنة (٨٤٥ﻫ/١٤٤٢م).
وأهم ما وصل إلينا من مؤلفاته كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، والغرض
من
تأليفه كما ذكر المؤلف في مقدمته، إنما هو «جمع ما
تفرق من أخبار أرض مصر وأحوال سكانها.» وقد جمع المقريزي تلك الحقائق التاريخية في فصول
وأبواب عقدها للكلام عن خطط مصر وآثارها، فوصفها وأتى في هذه المناسبة على ذكر تاريخها،
والذين أسسوها أو زادوا فيها، ناسجًا في ذلك على طريقة مؤرخي العرب في الخروج من
موضوعاتهم الرئيسية، والاستطراد والتبسط فيما له بها علاقة، وفي الذي قد لا يرتبط بها
إلا بأوهى الروابط.
١٢
ومهما يكن من شيء فقد جاء كتاب الخطط دائرة معارف عامة في تاريخ مصر وجغرافيتها، وفي
المدنيات التي قامت في وادي النيل، وفي بعض العلوم الدينية والاجتماعية والفلسفية التي
ازدهرت في العالم الإسلامي.
وقد أتيح للأستاذ فييت في الأجزاء التي طبعها من المقريزي في منشورات المجمع العلمي
الفرنسي بالقاهرة،
١٣ وفي المقالات المختلفة التي كتبها في شتى المجلات العلمية أن يدرس المصادر
التي اعتمد عليها المقريزي في تأليفه وعلاقته بمن سبق من المؤرخين كالكندي
١٤ وابن ميسر.
١٥
ولكن الذي يعنينا هنا بنوع خاص هو أن المقريزي نقل في كتاب الخطط مقتطفات كثيرة عن
كتاب اسمه «كتاب الذخائر والتحف»، وأخطرها شأنًا للمشتغلين بدراسة الآثار والفنون
الإسلامية، إنما هو التحف الفنية التي غصت بها قصور الخلفاء الفاطميين.
وقد ذكر المقريزي في الخطط مؤلف كتاب الذخائر والتحف نحو خمس عشرة مرة؛ ولكن اسم
هذا
المؤلف غير معروف لنا حتى الآن، غير أننا نرجح أنه كان معاصرًا للشدة العظمى، وأنه لقي
بعض من شاهد بعيني رأسه ما حل بجزء من تلك الكنوز النفيسة، ومما يؤيد ذلك العبارة
الآتية وقد نقلها المقريزي عن الكتاب المذكور: «قال في كتاب الذخائر والتحف: وحدثني من
أثق به قال: كنت بالقاهرة يومًا من شهور سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وقد استفحل أمر
المارقين وقويت شوكتهم، وامتدت أيديهم إلى أخذ الذخائر المصونة في قصر السلطان بغير
أمره، فرأيت وقد دخل من باب الديلم
١٦ ابن سبكتكين، وأمير العرب ابن كيغلغ، والأعز بن سنان، وعدة من الأمراء
أصحابهم البغداديين وغيرهم. وصاروا في الإيوان الصغير؛ فوقفوا عند ديوان الشام لكثرة
عددهم وجماعتهم، وكان معهم أحد الفراشين والمستخدمين برسم القصور المعمورة، فدخلوا إلى
حيث كان الديوان النظري في الإيوان المذكور، وصحبتهم فعلة، وانتهوا إلى حائط مجير؛
فأمروا الفعلة بكشف الجير عنه، فظهرت حنية باب مسدود؛ فأمروا بهدمه، فتوصلوا به إلى
خزانة ذكر أنها عزيزية من أيام العزيز بالله؛ فوجدوا فيها من السلاح ما يروق للناظر،
ومن الرماح العزيزية المطلية أسنتها بالذهب ذات مهارك
١٧ فضة مجراة بسواد ممسوح وفضة بياض ثقيلة الوزن عدة رزم، أعوادها من الزان
الجيد، ومن السيوف المجوهرة النصول، ومن النشاب الخلنجي
١٨ وغيره، ومن الدرق اللمطي،
١٩ والجحف
٢٠ التيني، وغير ذلك، ومن الدروع المكلل سلاح بعضها، والمحلى بعضها بالفضة
المركبة عليه، ومن التجافيف
٢١ والجواشن
٢٢ والكزاغندات
٢٣ الملبسة ديباجًا، المكوكبة بكواكب فضة وغير ذلك، مما ذكر أن قيمته تزيد على
عشرين ألف دينار، فحملوا جميع ذلك بعد صلاة المغرب، ولقد شاهدت بعض حواشيهم وركابياتهم
٢٤ يكسرون الرماح، ويتلفون بذلك أعوادها الزان ليأخذوا المهارك الفضة، ومنهم
من يجعل ذلك في سراويله وعمامته وجيبه، ومنهم من يستوهب من صاحبه السيف الثمين.
وكان فيها من الرماح الطوال
٢٥ الخطية السمر الجياد عدة؛ حملوا منها ما قدروا عليه، وبقي منها ما كسره
الركابية ومن مجراهم، كانوا يبيعونه للمغازليين
٢٦ وصناع المرادن،
٢٧ حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة، ولم تعترضهم الدولة ولا التفتت إلى قدر ذلك
ولا احتفلت به؛ وجعلته هو وغيره فداءً لأموال المسلمين وحفظًا لما في منازلهم.
٢٨
كما أن مؤلف كتاب الذخائر والتحف رأى بنفسه بعض حوادث الشدة العظمى وتشهد بذلك
العبارة الآتية التي نقلها عنه المقريزي:
قال: وكنت بمصر في العشر الأول من محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة
وعشرين جملًا موقرة كتبًا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي، فسألت
عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر هو والخطير بن الموفق في الدين بإيجاب وجبت
لها عما يستحقانه.
٢٩
ومهما يكن من شيء فإن ما ورد في ابن ميسر والمقريزي عن كنوز المستنصر أشار إليه أكثر
المشتغلين بالآثار الإسلامية في مؤلفاتهم المختلفة، ولا سيما في معرض الكلام عن ازدهار
الفنون الإسلامية في عصر الفواطم.
٣٠
وقد نقل المستشرقون إلى اللغات الأوروبية بعض ما جاء في المقريزي عن الكنوز المذكورة،
فترجم كترمير
Quatremere إلى الفرنسية جزءًا منه في
الفصل الي عقده للكلام عن المستنصر بالله في المذكرات الجغرافية والتاريخية التي نشرها
عن مصر سنة (١٨١١)؛
٣١ كما نقل الدكتور لام
Dr. Lamm إلى
الألمانية بعض ما كتبه المقريزي في وصف الكنوز البلورية والزجاجية في خزائن المستنصر.
٣٢
وتنبه الأستاذ الروسي أنوسترانتزف
K. Inostranzew
إلى قيمة ما كتبه المقريزي، فنقله إلى الروسية وكتب معه شروح وتعليقات
K، وذلك في بحث له عن مواكب الفاطميين وخروجهم في
المواسم والأعياد،
٣٣ وقد نشره سنة (١٩٠٦)، ولكنه لم يترجم إلى إحدى اللغات الأوروبية التي
نعرفها.
أما في اللغة العربية فإن بعض المؤرخين الذين خلفوا المقريزي نقلوا عنه كثيرًا مما
ذكره عن كنوز الفاطميين،
٣٤ بينما أتى الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه «الفاطميون في مصر» بجزء كبير
مما كتبه ابن ميسر والمقريزي في وصف كنوز الفاطميين.
وأخيرًا نقل الأستاذ كاله
Dr. P. Kahle إلى
الألمانية ما كتبه المقريزي في وصف خزانة الجوهر والطيب والطرائف، ونشره في بعض شروح
وتعليقات في مجلة الجمعية الشرقية الألمانية.
٣٥