يذكر المقريزي أن القصر الكبير الفاطمي كانت به عدة خزائن: منها خزانة الكتب، وخزانة
البنود (الأعلام)، وخزائن السلاح، وخزائن الفرش، وخزائن الكسوات، وخزائن الخيم، وخزائن
الجوهر والطيب والطرائف وغيرها، ومما لا علاقة لمحتوياته بالتحف الفنية التي ندرسها
هنا؛ اللهم إلا إذا لاحظنا أن ما كان فيها من طعام أو شراب أو توابل أو عطور يدل على
بحبوحة العيش في تلك الأيام.
وكان لكل خزانة من خزائن القصر عامل يدير شئونها، وصناع يشتغلون فيها إن كانت
محتوياتها مما يتطلب ذلك، وفرَّاش يقوم هو ومساعدوه بتنظيفها والسهر على سلامة
محتوياتها، ولكل هؤلاء مرتب يتقاضونه من بيت المال.
خزانة الكتب٢
أما خزانة الكتب فكانت مفخرة العصر الفاطمي، وأكبر دليل على تقدم الآداب والعلوم
فيه. كان فيها أندر المؤلفات وأشهرها، وكان فيها من بعض المؤلفات نسخ كثيرة، كان
الخلفاء والوزراء يحرصون على جمعها، حتى ينفردوا بالفخر ويحرموا منه المكاتب الأخرى
في العالم الإسلامي، وكان بعض الكتب بخطوط المؤلفين أنفسهم؛ كالخليل بن أحمد
والطبري.
وكان تجار الكتب يعرضون على موظفي مكتبة القصر أندر الكتب التي يعثرون عليها،
وكانت معروضاتهم تفحص بعناية كبيرة. ويذكر المقريزي أن رجلًا حمل إلى العزيز بالله
نسخة من كتاب الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز أمناء المكتبة، فأخرجوا من
الخزائن ما ينيف عن عشرين نسخة من تاريخ الطبري، منها نسخة بخطه، ولعله فعل ذلك لكي
لا يركب الرجل متن الشطط في تقدير ثمن الكتاب. وحدث أن ذكر كتاب الجمهرة لابن دريد
٣ فوجد العزيز أن في المكتبة مائة نسخة منه.
٤
وكثيرًا ما كان الخليفة يزور خزانة الكتب، فيجيئ راكبًا، ثم يترجل ويتخذ مجلسه
فوق دكة منصوبة، ويمثل بين يديه أمين الخزانة، ويأتيه بمصاحف مكتوبة بأقلام مشاهير
الخطاطين، ويعرض عليهم ما يقترح شراءه من الكتب، أو ما يريد الخليفة حمله لقراءته
في مجلسه الخاص.
٥
وكان في خزانة الكتب مخطوطات محلاة بالذهب والفضة، وربما كان بعضها مزينًا بالصور
والرسومات الدقيقة، متأثرًا بالصناعة الفارسية في هذا الميدان. وجمع الفاطميون في
خزانتهم نماذج عديدة من كتابة مشاهير الخطاطين؛ كابن مقلة،
٦ وابن البواب،
٧ وغيرهما.
٨
ويقال: إن خزانة الكتب الفاطمية كان فيها أربعون قسمًا: منها قسم فيه ثمانية عشر
ألف كتاب في العلوم القديمة، وكان كل قسم يحتوي على رفوف عديدة مقطعة بحواجز، وعلى
كل جانب باب مقفل بمفصلات وقفل، وبلغت جملة ما في الخزانة من الكتب نحو مليون
وستمائة ألف — وقيل: مليونين — في الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ وسير
الملوك والنجامة والروحانيات والكيمياء.
٩
وكان أكثر المخطوطات المذكورة في جلود جميلة النقوش بديعة الصناعة، نسج المماليك
على منوالها في صناعة التجليد في عصرهم، وأخذ الغربيون عنهم في العصور الوسطى
كثيرًا من أساليبهم في هذا الميدان.
١٠
وقد استولى الجند والأمراء على نفائس ما في خزانة الكتب، فتفرقت أكثر محتوياتها،
وكان بعض العبيد والإماء يتخذون من جلودها أمدسة يلبسونها في أرجلهم، كما كانوا
يحرقون ورقها قائلين: إن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم. وأهمل من الكتب عدد
كبير سفت عليه الرياح التراب، فصار تلالًا كانت باقية في زمن المقريزي وكانت تسمى
تلال الكتب.
١١
وبالرغم من ذلك كله فقد بقي في خزائن القصر الداخلية كتب لم تصل إليها يد العبث
في أيام الشدة العظمى، واستطاع الفاطميون بعد تلك الأيام العجاف أن يعوضوا بعض ما
فقدوه فيها، وأن يكون له خزانة كتب عظيمة بيعت عندما استولى صلاح الدين الأيوبي على
قصر العاضد آخر الخلفاء الفاطميين.
١٢ ونقل المقريزي عن ابن أبي طي في هذه المناسبة أنه لم يكن في جميع بلاد
الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقصر في القاهرة، ومن عجائبها أنه كان فيها
ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري.
١٣
ومهما يكن من شيء؛ فإن خزانة الكتب الفاطمية ذاع صيتها في العالم الإسلامي، وتشهد
بذلك حكاية رواها أسامة بن منقذ عن أبيه، وفيها: أن قاضيًا سافر إلى مصر في أيام
الحاكم بأمر الله، فأحسن إليه وأكرمه ووصله بصلات سنية، فطلب القاضي إلى الخليفة
الفاطمي أن يعفيه منها، وسأله أن يجعل صلته كتبًا يختارها من خزانة الكتب الفاطمية،
فأجابه الخليفة إلى ما أراد، وحمل القاضي الكتب معه في مركب إلى ساحل الشام، فتغير
عليه الهواء فرمى بالمركب إلى مدينة اللاذقية وفيها الروم، فخاف على نفسه وعلى ما
معه من الكتب، فكتب إلى جد أسامة بن منقذ كتابًا يقول فيه: قد حصلت بمدينة اللاذقية
بين الروم ومعي كتب الإسلام، وقد وقعت لك رخيصًا فهل أجدك حريصًا؟ فبعث إليه بمن
قام بحراسته وحمل ما معه.
١٤
وليس غريبًا أن يجتمع للفاطميين مثل هذه المكتبة العظيمة، فقد كانوا يعتمدون على
الدعاوة والمخطوطات في نشر مذهبهم، وإذا صح ما ذكره ابن الأثير فإن عميدهم عبيد
الله المهدي كانت عنده كتب ملاحم لآبائه، وكان يحملها في متاعه عند مسيره إلى
سجلماسه، وحدث أن لحق به لصوص عند موضع يقال له: الطاحونة وسرقوا منه الكتب
المذكورة، فحزن لضياعها أكثر من حزنه لفقد سائر ما أخذوه من حاجياته؛ ولكن الظاهر
أن أبا القاسم بن المهدي استطاع أن يستعيد هذه الكتب وهو في طريقه لغزو الديار
المصرية سنة (٣٠٠ﻫ/٩١٢م).
١٥
ولسنا نظن أن الفاطميين وجدوا في مصر عند قدومهم من شمالي أفريقيا كتبًا كثيرة
كانت نواة لمكتبتهم العظيمة؛ ولكنا نرجح أن رغبتهم الأكيدة في منافسة الدولة
العباسية، وعملهم على تشجيع العلم والعلماء، وسياستهم في تقريب الأدباء والشعراء،
واتخاذهم إياهم صحفًا حية تلهج بذكرهم،
١٦ ثم روح التسامح التي كانت تسود البلاد في أكثر أيام حكمهم، كان كل ذلك
من شأنه أن يشجع الدرس والتحصيل والبحث والتأليف، ونسخ الكتب ومعارضتها، ونقدها،
والتعليق عليها، وكتابة الذيول لها، كما كان من شأنه أيضًا أن يسوقهم إلى اقتناء
المخطوطات، إن لم يكن لولع خاص؛ فلأنه كان من واجبات الخلفاء وشارات الفضل والعلم،
١٧ فضلًا عن أن المكتبات كانت قد انتشرت في العالم الإسلامي وأدرك
المسلمون فائدتها.
١٨
ولم يكن وزراء الفاطميين أقل حماسًا في هذا الميدان من أولياء الأمر في البلاد؛
ولا سيما أن المتأمل في تاريخ الدولة الفاطمية يرى أن خلفاءها كانوا يتقربون إلى
الشعب بتكريم فقهائه وعلمائه، فهذا يعقوب بن كلس اليهودي الذي أسلم في خدمة كافور،
واتصل بالمعز، ووزر للعزيز كان — كما كتب ابن خلكان — «يحب أهل العلم ويجمع عنده
العلماء، ورتب لنفسه مجلسًا في كل ليلة جمعة يقرأ فيه مصنفاته على الناس، وتحضره
القضاة والفقهاء والقراء والنحاة، وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من
وجوه الدولة وأصحاب الحديث، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح، وكان
في بيته قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب حتى
الطب ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها.»
١٩ وفضلًا عن ذلك فالمعروف أن الفضل في وقف الجامع الأزهر على العلم وخلق
نواة الجامعة الأزهرية العظيمة إنما يرجع إلى ابن كلس.
ومهما يكن من شيء فإن حكام القيصريات الإسلامية الثلاث
٢٠ في أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانوا مغرمين بجمع
الكتب غرامًا كبيرًا، وكانوا يتسابقون في ذلك ويتنافسون حتى إن الخليفة الحكم
الثاني — من خلفاء الدولة الأموية في الأندلس — كان له رسل في أنحاء العالم
الإسلامي يجمعون له الكتب الثمينة، ولا سيما ما كان منها بخطوط المؤلفين.
٢١
وقد أشار المستشرق متز
Mez إلى فقر المكاتب
المغربية في ذلك الحين؛ فذكر عدد المجلدات التي كانت تشتمل عليها المكاتب في بعض
البلدان الأوروبية الشهيرة مثل: كونستانس التي كان بها في القرن التاسع ٣٥٦ مجلدًا،
وبامبرج (من أعمال بافاريا) التي لم تكن تشمل إلا على ٩٦ مجلدًا،
٢٢ بينما كان لبعض الأفراد في الشرق الإسلامي — كالجاحظ والفتح بن خاقان
والقاضي إسماعيل بن إسحاق — مكاتب كبيرة.
٢٣
وقد كتب أبو شامة
٢٤ في مؤلفه «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين» نبذة عن بيع الكتب من
الخزانة الفاطمية في بداية عصر صلاح الدين، فنقل عن عماد الدين الأصفهاني أن بيع
الكتب في القصر كان له يومان في كل أسبوع، وكانت الكتب تباع بأرخص الأثمان، وبعد أن
كانت خزانتها في القصر مرتبة مفهرسة قيل للأمير بهاء الدين قراقوش متولي القصر
وصاحب الأمر والنهي فيه: إن هذه الكتب قد عاث فيها
العث ولا بد من تهويتها، وإخراجها من الرفوف إلى
أرض الخزانة، وكان هذا الوزير «تركيًّا لا خبرة له بالكتب ولا درية له بأسفار
الأدب»، بينما كان هذا الطلب حيلة مدبرة من تجار الكتب، يريدون بها تفريق المؤلفات
وتوزيع أجزائها وخلط أنواعها ومزج بعضها ببعض، فتم ذلك واختلطت كتب الأدب بكتب
النجوم، وكتب الشرع بكتب المنطق، وكتب الطب بكتب الهندسة، والتاريخ بالتفسير،
والكتب المجهولة بالكتب المشهورة. وكان في خزانة الكتب مؤلفات يشتمل كل كتاب على
خمسين أو ستين جزءًا مجلدًا، إذا فقد منها جزء لا يخلف أبدًا؛ ففرق الدلالون هذه
الأجزاء لتقل قيمة الكتب وتباع بأبخس الأثمان؛ بينما كانوا يعرفون مواضع أجزائها
ويستطيعون جمع شملها بعد شرائها، وكان بعضهم يتشاركون في إتمام ذلك ثم يبيعون الكتب
بعد ذلك بأضعاف الثمن الذي دفعوه فيها.
٢٥
ومهما يكن من شيء فإن المعروف أن القاضي الفاضل أسس المدرسة الفاضلية سنة
(٥٨٠ﻫ/١١٨٤م)، ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، واشترى لها ألوفًا من
الكتب التي كانت تباع من خزائن الفاطميين، حتى بلغ ما في هذه المدرسة من الكتب نحو
مائة ألف مجلد، كان مصيرها إلى الضياع، وسبب ذلك كما يقول المقريزي: «أن الطلبة
التي كانت بها لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة والسلطان يومئذ
الملك العادل كتبغا المنصوري مسهم الضر، فصاروا يبيعون كل مجلد برغيف خبز حتى ذهب
معظم ما كان فيها من الكتب.»
٢٦
ولسنا نظن أننا في حاجة إلى أن نكرر أن ما وقع في عصر صلاح الدين لما بقي في
خزانة الكتب الفاطمية كان مقصودًا به محاربة المذهب الشيعي قبل كل شيء،
٢٧ ولعل أكثر الكتب التي بيعت أو استولى عليها المقربون إلى صلاح الدين،
وأمكن إنقاذها كانت من المؤلفات العلمية أو الأدبية التي لا تمت إلى مذهب الشيعة
بأدنى صلة.
خزانة الكسوات
أنشأ المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين في مصر دارًا سماها دار الكسوات،
كانت ترد إليها المقادير الوافرة من المنسوجات المختلفة المصنوعة في دار الطراز، أو
الواردة من أنحاء العالم الإسلامي أو غيره من البلاد، فتفصل منها كسوات صيفية
وكسوات شتوية لرجال القصر وأولادهم ونسائهم وأفراد أسراتهم، فضلًا عن الذي كان يخلع
على الأمراء والوزراء وكبار الموظفين من الثياب الحريرية المطرزة بالذهب كل بالدرجة
التي تناسبه، ووضعت لذلك رسوم سجلت وتقاليد اتبعت، فكانوا يخلعون على الأمراء ثياب دبيقية.
٢٨ وعمائم مطرزة بالذهب، وعلى الوزراء وكبار الموظفين غير ذلك.
وقد أتى المقريزي ببيانات طويلة عن ثياب المواسم والأعياد (التشريفية)، التي كان
الخليفة يمنحها الأمراء والأميرات والأتباع وموظفي القصر بخزاناته المختلفة
ودواوينه المتعددة، وكذلك نساء الكثيرين منهم وأطباء البلاط ووالي القاهرة ووالي
مصر الفسطاط.
٢٩
وكانوا يسمون العيد أحيانًا عيد الحلل؛
٣٠ لأن الحلل أو الثياب توزع فيه على أفراد أكثر عددًا من الذين توزع
عليهم في سائر المناسبات، كرضاء الخليفة عن عمل من الأعمال، أو تولي إمارة الحج
٣١ أو غير ذلك.
وقد كان للقواد نصيب وافر من الخلع، فالمعروف مثلًا أن العزيز بالله ركب لرؤية
الجند الذين أعدهم بقيادة منجوتكين التركي للسير سنة (٣٨١ﻫ/١٩٩١م) إلى حلب لإخضاع
ابن سعد الدولة، ثم عاد فخلع على منجوتكين، وحمل إليه عشرة أحمال مال، فيها مائة
ألف دينار، ومائة قطعة من الثياب الملونة على أيدي خمسة وعشرين غلامًا، وعشر قباب
بأغشية ومناطق مثقلة وأهلة وفروش وخمسين بندًا.
٣٢
وكانت الكسوات التي تخلع على وجوه الدولة ترفق ببراءات أو رقعات من ديوان
الإنشاء، وقد حفظ لنا المقريزي صورة رقعة من هذه الرقعات كتبها ابن الصيرفي،
٣٣ مقترنة بكسوة عيد الفطر من سنة (٥٣٥) هجرية، وهذا نصها: «ولم يزل أمير
المؤمنين منعمًا بالرغائب، موليًا إحسانه كل حاضر من أوليائه وغائب، مجزلًا حظه من
منائحه ومواهبه، موصلًا إليهم من الحياء ما يقصر شكرهم عن حقه وواجبه. وإنك أيها
الأمير لأولاهم من ذلك بجسيمه، وأحراهم باستنشاق نسيمه،
وأخلقهم بالجزء الأوفى منه عند فضه وتقسيمه؛ إذ
كنت في سماء المسابقة بدرًا، وفي موائد المناصحة صدرًا، وممن أخلص في الطاعة سرًّا
وجهرًا، وحظي في خدمة أمير المؤمنين بما عطر له وصفًا، وسير له ذكرًا، ولما أقبل
هذا العيد السعيد، والعادة فيه أن يحسن الناس هيئتهم، ويأخذوا عند كل مسجد زينتهم،
ومن وظائف كرم أمير المؤمنين تشريف أوليائه وخدمه فيه، وفي المواسم التي تجاريه،
بكسوات على حسب منازلهم، تجمع بين الشرف والجمال، ولا يبقى بعدها مطمح للآمال، وكنت
من أخص الأمراء المقدمين …»
٣٤
وقد نقل المقريزي عن كتاب الذخائر أن بعضهم قدر المنسوجات النفيسة التي أخرجت من
خزائن القصر في سني الشدة أيام المستنصر، بما يزيد على خمسين ألف قطعة من الديباج الخسرواني
٣٥ الفاخر، وكان أكثرها مذهبًا. وقيل: إن أبا سعيد النهاوندي دون غيره من
الدلالين الذين وكل إليهم بيع التحف أمام أبواب القصر، باع في مدة قصيرة أكثر من
عشرين ألف قطعة من الخسرواني. كما نقل المقريزي أيضًا أن ناصر الدولة زعيم الجند
التركية أرسل يطالب المستنصر بما بقي لغلمانه، فذكر الخليفة أنه لم يبق عنده شيء
إلا ملابسه، فأخرج ثمانمائة بدلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة، فقدرت قيمتها وحملت
إلى الأمير المذكور.
وكان المشرف على خزائن الكسوات ذا رتبة عظيمة، وكانت الخزائن المذكورة قسمين:
الخزانة الباطنة، لما هو خاص بلباس الخليفة، وتتولاها سيدة تنعت بزين الخزان، وتحت
إمرتها ثلاثون جارية، ولا يغير الخليفة ثيابه إلا عندها. وكان من ملحقات هذه
الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطئ الخليج، تزرع فيه الزهور، وتحمل يوميًّا
إلى الخزانة لتعطير الثياب.
٣٦
أما الخزانة الظاهرة فكان يتولاها أكبر حاشية الخليفة، وكانت فيها كميات كبيرة من
شتى أنواع النسيج الفاخر، وكان يحمل إليها ما يصنع في دار الطراز بتنيس ودمياط
والإسكندرية، وبها صاحب المقص، وهو رئيس الخياطين،
وتحت إمرته عدد منهم، لهم أماكن يفصلون ويخيطون
فيها ما يؤمرون بخياطته من الثياب والكسوات، ثم ينقل منها إلى خزانة الكسوات
الباطنة ما يخص الخليفة.
٣٧
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة الكسوات دون أن نشير إلى الكسوة التي أمر
المعز لدين الله بنسجها للكعبة، وكانت مربعة الشكل من ديباج أحمر، وطرزت على حافتها
الآيات التي وردت في الحج بحروف الزمرد الأخضر،
٣٨ وقد كتب ابن ميسر في وصفها: «وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسية التي
عملها للكعبة على إيوان قصره، وسعتها اثنا عشر شبرًا في اثني عشر شبرًا، وأرضها
ديباج أحمر، ودورها اثنا عشر هلالًا ذهبًا، في كل هلال أترجة ذهب مشبك، وجوف كل
أترجة خمسون درة كبارًا كبيض الحمام، وفيها الياقوت الأحمر والأصفر والأزرق، وفيها
كتابة دورها آيات الحج زمرد أخضر، وحشو الكتابة در كبار لم ير مثله، وحشو الشمسية
المسك المسحوق فرآها الناس في القصر ومن خارج القصر لعلو موضعها، وإنما نصبها عدة
فراشين لثقل وزنها.»
٣٩
ويظهر أيضًا أن الخلفاء الفاطميين كانوا يحتفظون في خزائنهم بثياب بعض الخلفاء
العباسيين. ويقول أبو المحاسن في هذا الصدد: «وكانت هذه الثياب التي لخلفاء بني
العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبني العباس، فكانت هذه الثياب عندهم بمصر
بسبب المعيرة لبني العباس.»
٤٠
ولا حاجة بنا لأن نذكر أن أسواق القاهرة كانت عامرة بالمنسوجات النفيسة التي كانت
تشرف الحكومة على إنتاجها، وتفرض عليها الضرائب الكبيرة، وقد وصف الكاتب الصيني
Chau Ju-Kua أسواق القاهرة فقال: إنها «ملأى
باللغط والضجيج والحركة وغاصة بالديباج والدمقس
٤١ المنسوج بخيوط الذهب والفضة، وأما الصناع ففيهم الروح الفنية الحقة.»
٤٢
خزانة الجوهر والطيب والطرائف
أما خزانة الجوهر والطيب والطرائف، فإن ابن المأمون البطائحي
٤٣ يذكر أنها كانت تحتوي على الأعلام والجوهر التي يركب بها الخليفة في
الأعياد، وكان يؤخذ من الخزائن ما يحتاج إليه، ثم يعاد إليها بعد الغنى عنه، ومعه
سيف الخليفة الخاص، والرماح الثلاثة التي تنسب إلى المعز.
وقد ذكر القلقشندي
٤٤ في الكلام عن الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام أن الأعلام
أعلاها في المرتبة اللواءان المعروفان بلواءي الحمد، وهما رمحان برءوسهما أهلة من
ذهب، وفي كل منهما سبع من الديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها
الرمح فيفتحان فيظهر شكلهما، وكان يحمل هذين الرمحين فارسان من صبيان الحرس الخاص؛
أي: فتيان حرس الخليفة، وكانت تجيء وراء الرمحين المذكورين إحدى وعشرون راية ملونة
من الحرير ذي الزخارف والرسوم، ومكتوب عليها
نَصْرٌ مِّنَ الله
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وطول كل راية منها ذراعان في ذراع ونصف، ويحملها فتى
من صبيان الخليفة يركب بغلة.
٤٥
وقد كتب القلقشندي أيضًا في الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام عن الجوهر
وأسماه الحافر، وذكر أنه قطعة ياقوت أحمر في شكل هلال زينتها أحد عشر مثقالًا، ليس
لها نظير في الدنيا، تخاط خياطة حسنة على خرقة من حرير، وبدائرها قضيب زمرد ذبابي
عظيم الشأن، يجعل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب، والزمرد الذبابي، كما
قال القلقشندي في مكان آخر:
٤٦ هو أفضل أنواع الزمرد ولا يكاد يوجد.
وقد روى القلقشندي
٤٧ أن صلاح الدين عندما استولى على القصر بعد وفاة العاضد آخر خلفاء
الفاطميين، وجد فيه من التحف الثمينة ما يخرج عن حد الإحصاء، ومن جملته الحافر الذي
تقدم ذكره.
٤٨ وإذا صح ما كتبه الدكتور كاله
Paul Kahle في ترجمته الألمانية لما جاء في المقريزي عن خزانة الجوهر
والطيب والطرائف،
٤٩ فإن الحافر المذكور وصل إلى يد وليم الثاني ملك صقلية سنة (١١٧٩م)،
وأهداه وليم هذا إلى أبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين.
ومما كان يحفظ في خزائن الجوهر والطيب والطرائف السيف الخاص، وقد كان يحمل مع
الخليفة في المواكب، ويقال: إنه كان من صاعقة وقعت وأخذت فعمل منها هذا السيف محلى
بالذهب ومرصعًا بالجواهر، وله كيس مزين بالرسومات المذهبة وأمير من أعظم الأمراء
يحمله عند ركوب الخليفة في الموكب.
٥٠
وقد روى أحد الخبراء في الجواهر أنه استدعي ذات مرة في أيام الشدة هو وغيره من
الجوهريين، وسئلوا في خزائن القصر عن قيمة صندوق مملوء بالزبرجد؛ فأجابوا بأنهم
يعرفون قيمة الشيء إذا كان مثله موجودًا، بينما الذي عرض عليهم لا مثل له ولا تقدر
له قيمة، فاغتاظ من حضر من الوزراء المعزولين — أو المعطلين كما يقول المقريزي —
وأعطوا الزمرد لأحد القواد وحسب عليه فيه خمسمائة دينار.
٥١
وليس بغريب وجود هذا القدر من الزمرد في خزائن القصر، إذا تذكرنا ما كتبه القلقشندي
٥٢ عن خواص الديار المصرية، وأن أعظمها خطرًا معدن الزمرد الذي لا نظير له
في سائر أقطار الأرض، والذي يوجد عروقًا خضرًا في تطابيق حجر أبيض بمغارة في جبل
على ثمانية أيام من مدينة قوص.
٥٣ ويذكر المقريزي أن الزمرد لم يزل يستخرج من الجبل المذكور حتى زمن
الناصر محمد بن قلاون الذي توفي سنة (٧٤١ﻫ/١٣٤١م). وفضلًا عن ذلك فإننا نعرف من
الذيل الذي كتبه أبو زيد في القرن الرابع الهجري على وصف رحلة التاجر سليمان إلى
الهند والصين، نقول: إننا نعرف من هذا الذيل أن ملوك الهند كان «يحمل إليهم الزمرد
الذي يرد من مصر مركبًا في الخواتيم مصونًا في الحقاق.»
٥٤
وأتيح للجوهريين أن يشهدوا منظرًا آخر حين أُتي بعقد جوهر فحصوه ورأوا أن قيمته
لا تقل عن ثمانين ألف دينار؛ ولكن الوزراء ورؤساء الجند قدروه بألفي دينار غير أن
سلكه انقطع، فتناثر حبه والتقطه الحاضرون من الرؤساء، واحتفظ كل منهم لنفسه بشيء
منه، على نحو لا ترى الجماعات المنظمة مثاله إلا في أوقات الشدة والثورات.
ومما نهبه رؤساء الجند وكبار الموظفين المعزولين كمية كبيرة من الدر
٥٥ والجواهر النفيسة بلغ كيلها نحو سبع ويبات، وكان قد بعث بها إلى
الخلفاء الفاطميين أتباعهم بنو صليح من اليمن، ونهبوا كذلك من خزائن القصر ألفًا
ومائتي خاتم ذهبًا وفضة، ذات فصوص من الأحجار الكريمة المختلفة الأنواع والألوان
والأثمان، مما كان للمستنصر ولأجداده من قبله،
٥٦ وما أهدي إليهم من عمالهم ووجوه دولتهم، وكان منها ثلاثة خواتم مربعة
من الذهب عليها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت، بيعت باثني عشر ألف
دينار.
وشاهد الجوهريون كيسًا فيه نحو ويبة من الجواهر عجزوا عن تقدير قيمتها، وقالوا:
إن مثلها لا يشتريه إلا الملوك؛ فقومها الأمراء ورؤساء الجند بعشرين ألف دينار،
ودخل أحد كبار موظفي القصر إلى الخليفة المستنصر، وأعلمه أن تلك الجواهر اشتراها
جده الحاكم بأمر الله بسبعمائة ألف دينار، وكان يرى حينئذ أنها تساوي أكثر من هذا
الثمن الذي دفعه فيها.
ويذكر المقريزي — نقلًا عن كتاب الذخائر والتحف — أن خزائن القصر كان فيها شيء
كثير من البلور والتحف الفنية الزجاجية المحكمة الصنع والمموهة بالذهب وغير المموهة،
٥٧ ومن الصيني والأواني المصنوعة من خشب الخلنج.
٥٨ كما كانت خزائن الفرش والبسط والستور والتعاليق غنية بمحتوياتها
النفيسة. وقد قال أحد المستخدمين في بيت المال: إن صندوقًا من الصناديق التي نهبت
من القصر ذات يوم كان مملوءًا بأباريق من البلور النفيس، بعضها منقوش بزخارف
ورسومات جميلة، وبعضها غير منقوش. والظاهر أنها كانت لشراب الفقاع وهو نوع من
البيرة كان منتشرًا في القاهرة في العصور الوسطى، وقد أشار إليه ناصر خسرو في كتابه
«سفرنامه» عند الكلام على خلافة الحاكم،
٥٩ فقال: إنه لم يكن مباحًا لأي شخص أن يجفف زبيبًا، وذلك خشية أن يستخدم
في صنع الخمر، ولم يكن يجرؤ أحد على شرب الخمر أو الفقاع؛ لأن هذا الشراب الأخير
كان يعتبر مسكرًا وكان محرَّمًا لهذا السبب.
ويحدثنا المقريزي أن أحد الذين يوثق بهم نقل أن قدحًا من البلور النفيس الذي لا
زخارف عليه بيع أمامه بمائتين وعشرين دينارًا، وأن خرداديًا
٦٠ من البلور بثلاثمائة وستين دينارًا، وأن كوز بلور بيع بمائتين وعشرة
دنانير، وأن صحونًا مموهة بالمينا
٦١ كان يباع الواحد منها بمائة دينار أو أكثر.
وأكبر الظن أن كثيرًا من الكنوز التي نهبت من قصور الفاطميين اشتراها أفراد
نقلوها إلى أنحاء أخرى من القيصرية الإسلامية. وقد نقل المقريزي
٦٢ حديث رجل رأى في طرابلس قطعتين من البلور النفيس غاية في النقاء وحسن
الصنعة: إحداهما خردادي والأخرى باطية،
٦٣ مكتوب على جانب كل منهما اسم العزيز بالله، وكان ذلك الرجل اشتراهما من
مصر من جملة ما أخرج من خزائن المستنصر، وقد رفض بعد ذلك بيعهما بثمانمائة دينار
لجلال الدين الملك أبي الحسن علي بن عمار.
٦٤
وبلغ ما بيع من تحف القصر في مدة قصيرة على يد أبي سعيد النهاوندي، دون غيره ممن
تولوا بيع تلك الكنوز الثمينة ثمانية عشر ألف قطعة من البلور والزجاج النفيس؛ كان
يتراوح ثمن القطعة منها بين عشرة دنانير وألف دينار.
وكان في خزائن القصر عدد كبير من صواني الذهب، بعضها محلى بالمينا وعليه شتى
أنواع الزخارف والألوان، كما وجد فيها أكثر من مائة كأس من حجر اليصب أو حجر الدم
البازهر (نافي السم) وهو حجر غال من خواصه الوقاية من السم، فكانت الكئوس تصنع منه
للأمراء والملوك لتوضع فيها الأشربة، فيتغير لونها إذا كان بها شيء من السم.
٦٥ ومما يجدر ذكره أن الفاطميين لم يمنعهم من جمع بعض الكئوس المذكورة أن
كان منقوشًا عليها اسم الخليفة السني هارون الرشيد.
٦٦
وقد بيع من خزائن القصر عدا ذلك صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة ومفضضة ذات
أياد من الأحجار الكريمة، وعدد كبير من المحابر المختلفة الأحجام والأشكال
والمصنوعة من الذهب أو الفضة، أو خشب الصندل أو العود أو الأبنوس أو العاج
٦٧ والمحلاة بالجواهر والمعادن النفيسة، وكانت كلها آية في دقة الصنعة،
وكان بينها ما يساوي ألف دينار، وما يساوي أكثر أو أقل من ذلك.
أما المشارب والأقداح من الذهب أو الفضة، فقد كان منها في خزائن القصر كميات
وافرة، مختلفة الصناعة والأحجام، وكان بعضها مزينًا بزخارف محفورة ومملوءة بالمينا
السوداء، على النحو الذي يعرف في الاصطلاح الفني الحديث بصناعة النيلو.
٦٨
وقد بلغ من غرام الفاطميين بجمع التحف الفنية أن الأميرات كن ينافسن الأمراء في
هذا الميدان، وأن بعضهن تركن كنوزًا ثمينة، فرشيدة ابنة المعز ماتت سنة
(٤٤٣ﻫ/١٠٥١م)، وتركت تحفًا تقدر قيمتها بنحو مليون وسبعمائة ألف دينار،
٦٩ منها ثلاثون ثوبًا من الخز الثمين، والخز كما نعرف قماش من الصوف والحرير،
٧٠ كما وجد في خزائنها بعض العمامات المرصعة بالجواهر، مما يذكر بعمامات
الأمراء الهنود. ويقال أيضًا: إنها كانت تمتلك الخيمة التي توفي فيها هارون الرشيد
بمدينة طوس،
٧١ وقد كانت من الخز الأسود.
والغريب أن الخلفاء العزيز والحاكم والظاهر والمستنصر كانوا كلهم ينتظرون وفاة
الأميرة رشيدة ليرثوا ثروتها وتحفها الفنية،
٧٢ ولكن لم يقض ذلك إلا المستنصر؛ فضم كل كنوزها إلى ما في خزانته من تحف
ثمينة وزادته غنى على غنى.
وكذلك خلفت الأميرة عبدة بنت المعز التي ماتت سنة (٤٤٢ﻫ/١٠٥٠م) ثروة طائلة،
وتحفًا لا تحصى، فقدر أن ما استخدم من الشمع في ختم خزائنها وصناديقها أربعون رطلًا
مصريًّا؛ أي: نحو ١٤ كيلوجرامًا، وأن القائمة التي ضمت بيان مخلفاتها من الأمتعة
كتبت في ثلاثين رزمة من الورق، ومن التحف التي تركتها نحو أربعمائة سيف محلى
بالذهب، ونحو أردب من الزمرد، وغير ذلك من الجواهر والأقمشة النفيسة والأباريق
والطسوت من البلور الصافي.
٧٣
وما وجد في خزائن القصر آنية من الصيني بعضها على شكل أنواع الحيوان المختلفة أو
تحمله أرجل على هيئة الحيوان.
٧٤
وقد صنع فنانوا العصر الفاطمي الأواني النحاسية والبرونزية على أشكال الحيوانات،
مما اشتق منه في أوروبا إبان العصور الوسطى الآنية التي تسمى أكوامانيل — من
اللاتينية aqua بمعنى ماء
وmanus بمعني يد — وكانت في الغالب أباريق من
النحاس الأصفر على شكل فارس أو حيوان أو طائر، وكان القسس يستخدمونها في غسل أيديهم
قبل القداس وفي أثنائه وبعده.
والظاهر أن الأواني الصينية الفاطمية السالفة الذكر كانت كبيرة الحجم؛ لأنها كانت
تستخدم في غسل الثياب.
وكان من نفائس ما في خزائن القصر حصيرة ذهب وزنها ثمانية عشر رطلًا
٧٥ (نحو سبعة كيلوجرامات)، يقال: إن بوران بنت الحسن بن سهل
٧٦ جلست عليها يوم زواجها بالمأمون، ذلك الزواج الذي أقيمت في مناسبته
حفلات عظيمة وأفراح فاخرة، وصفها الطبري وابن الأثير وابن خلكان وغيرهم من مؤرخي
العرب.
ومما وجد في القصر ثمان وعشرون صينية من المينا المحلاة بالذهب، وأكبر الظن أنها
كانت من صناعة بيزنطية؛ إذ إنها جاءت هدية للعزيز بالله الخليفة الفاطمي من
بازيليوس الثاني إمبراطور بيزنطة. وقد قدرت كل صينية منها بثلاثة آلاف دينار،
واستولى عليها ناصر الدولة الذي كان قائد الجند في ذلك الحين.
٧٧
وكانت هناك أيضًا صناديق مملوءة مرايا
٧٨ من حديد محلاة بالذهب والفضة، وبعضها مكلل بالجواهر النفيسة، وله
محفظات أو غلف من الكيمخت وهو نوع من الجلد المتين، وأخرى من الأقمشة الحريرية
النفيسة، وكان للمرايا المذكورة مقابض من العقيق.
وقد أخذ من خزائن القصر آلاف الآلات المصنوعة من الفضة المكفتة بالذهب ذات النقش
العجيب، والصنعة الدقيقة، كما وجدت كميات كبيرة من قطع الشطرنج والنرد المصنوعة من
الجواهر والذهب والفضة والعاج والأبنوس، ولها رقاع من الحرير المنسوج بخيوط من
الذهب.
وأخرج الجند من القصر نحو أربعمائة قفص مملوءة بالأواني الفضية الثمينة المكفتة
بالذهب، وقد سبكت كلها ووزعت على الثوار، واستولوا كذلك على أربعة آلاف قنينة مذهبة
للنرجس، وعلى ألفي قنينة للبنفسج، ووجد من السكاكين الثمينة ما بيع بأبخس الأثمان،
وبلغت قيمته على الرغم من ذلك ستة وثلاثين ألف دينار؛ أي: خمسة عشر ألف جنيه.
٧٩
ويذكر المقريزي بين عجائب ما أخذه الثوار متارد صيني،
٨٠ محمولة على ثلاثة أرجل ملء كل مترد منها مائتا رطل من الطعام، كما يذكر الكلوته
٨١ المرصعة بالجوهر، وكانت من غريب ما في القصر ونفيسه، ويقول: إن قيمتها
مائة وثلاثون ألف دينار، وإنها قدرت في ذلك الوقت بثمانين ألف دينار، وكان وزن ما
فيها من الجوهر سبعة عشر رطلًا.
ويشير المقريزي أيضًا إلى قاطرميز
٨٢ من البلور، فيه صور ناتئة وكان يسع سبعة عشر رطلًا.
ومن أجمل النفائس التي كانت تزين القصر الكبير تحف على شكل حيوانات وطيور؛ منها
طاوس من ذهب مرصع بالجواهر النفيسة، عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المموه
بالمينا على ألوان ريش الطاوس، ومنها ديك من الذهب له عرف كبير من الياقوت الأحمر
مرصع بالدر والجواهر، ومنها غزال مرصع أيضًا بالجواهر النفيسة، ومائدة كبيرة واسعة
من اليصب،
٨٣ وأخرى من العقيق، ونخلة من الذهب مكللة ببديع الدر والجوهر يمثل
أجزاءها وما تحمله من بلح، ثم دواج
٨٤ مرصع بنفيس الجوهر ومئزرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس. هذا كله عدا ما كان في
الخزانة من الأثاث الفاخر المرصع بالجواهر، والذي كان معدًّا لتزيين القوارب النيلية
٨٥ التي كانت تستخدم يوم فتح الخليج،
٨٦ وعدا غيره من التحف التي كانت عظيمة القيمة بمادتها، وبما كان يزينها
من الأحجار الكريمة، وما كان عليها من الزخارف في أغلب الأحيان.
٨٧
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة الجوهر والطيب والطرائف دون الإشارة إلى ما
كتبه العالم الصيني شاويوكو
Chau Jo-Kua في وصف
مصر أو القاهرة، فقد سمع عنها من مصادر مختلفة وكان يظن أنها عاصمة بلاد العرب،
وأتى في وصفها بحقائق قد تصدق على بغداد أو دمشق. ومهما يكن من شيء فقد ذكر أنها
كانت مركزًا خطير الشأن للتجارة مع البلاد الأجنبية، وأن ملكها كان يلبس عمامة من
الديباج والقطن الأجنبي، وكان في كل هلال جديد وفي تمام كل قمر يضع على رأسه غطاءً
مسطحًا من الذهب الخالص مثمن الجوانب ومرصعًا بأثمن الجواهر، وكان ثوبه من السندس،
وله منطقة من حجر اليشب وأحذية من الذهب، وكانت الدعائم في قصره من العقيق،
والجدران من الرخام، والقراميد من البلور الحجري، والستر والأغطية من الديباج
المنسوجة فيه الرسوم الفاخرة بشتى الألوان وبخيوط الذهب والحرير، أما العرش فمرصع
بالدر والجواهر الثمينة وعتباته مغطاة بالذهب الخالص، بينما كانت كل الأواني
والأدوات التي تحيط بالعرش من الذهب أو الفضة، وكان الحاجز الموضوع بجواره مرصعًا
بالدر النفيس.
٨٨ وفي المواسم والحفلات العظيمة بالبلاط كان الملك يجلس خلف هذا الحاجز،
وعلى جانبيه وزراؤه وهم يحملون الدرق الذهبية وعلى رءوسهم الخوذ من الذهب أيضًا،
وفي أيديهم السيوف الثمينة.
٨٩
خزائن السلاح
وكذلك كانت خزائن السلاح بالقصور الفاطمية عامرة غنية، وإن صح ما نقله المقريزي،
فقد جمع الخلفاء الفاطميون فيها أسلحة عظيمة القيمة التاريخية كالسيف المسمى ذي الفقار،
٩٦ وهو السيف المشهور الذي غنمه النبي في موقعة بدر بعد أن كان ملكًا
لعربي من المشركين اسمه منبه بن الحجاج، وقد ذاع صيت هذا السيف حتى قيل: لا سيف إلا
ذو الفقار، وهي العبارة التي نراها منقوشة على السيوف الأثرية، وقد آل هذا السيف
إلى علي بن أبي طالب بعد وفاة النبي، ثم إلى الخلفاء العباسيين
٩٧ من بعده. ولسنا ندري كيف حصل عليه الخلفاء الفاطميون.
٩٨
ويقال أيضًا: إن خزانة السلاح الفاطمية كانت تحوي بين جدرانها صمصامة عمرو بن
معدي كرب،
٩٩ وسيف عبد الله بن وهب الراسبي،
١٠٠ وسيف كافور، وسيف المعز ودرعه، وسيف
أبي المعز، وسيف الحسن بن علي بن أبي طالب، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر
الصادق.
وكان في خزانة السلاح آلاف القطع من الخوذ،
١٠١ والدروع، والتجافيف،
١٠٢ والسيوف المحلاة بالذهب والفضة، والسيوف الحديدية، وصناديق النصول،
١٠٣ وجعاب السهام الخلنج،
١٠٤ وصناديق القسي، ورزم الرماح الزان الخطية، وشدات القنا
١٠٥ الطوال، والزرد،
١٠٦ والبيض.
١٠٧
وقد نقل المقريزي عن ابن الطوير أن الخليفة كان يزور خزانة السلاح فيطوفها، ثم
يجلس على سرير أعد فيها ويتأمل ما فيها من الكزاغندات
١٠٨ المدفونة بالزرد، المغشاة بالديباج، المحكمة الصناعة، والجواشن المبطنة
المذهبة، والزرديات السابلة
١٠٩ برءوسها، والخود المحلاة بالفضة، والزرديات والسيوف على اختلافها من
العربيات، والقلجوريات،
١١٠ والرماح القنا
١١١ والقنطاريات
١١٢ المدهونة والمذهبة، والأسنة البرصانية،
١١٣ والقسي
١١٤ لرماية اليد المنسوبة إلى صناعها، مثل الخطوط المنسوبة إلى أربابها،
فيحضر إليه منها ما يجربه، ويتأمل النشاب،
١١٥ وكانت فصوله مثلثة الأركان على اختلافها، ثم قسي الرجل والركاب، وقسي
اللولب الذي زنة نصله خمسة أرطال، ويرمي من كل سهم بين يديه، فينظر كيف مجراه،
والنشاب الذي يقال له: الجراد وطوله شبر يرمي به عن قسي في مجار معمولة برسمه فلا
يدري به الفارس أو الراجل إلا وقد نفذ، فإذا فرغ من نظر ذلك كله، خرج من خزانة
الدرق وكانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم الاستعمالات للأساطيل من
الكبورة الخراجية والخود الجلودية إلى غير ذلك؛ فيعطي مستخدمها خمسة وعشرين دينارًا
ويخلع على متقدم الاستعمالات جوكانية
١١٦ مزيدة حرير أو عمامة لطيفة.
١١٧
وأكبر الظن أن خزانة السلاح كانت تشتمل على
عدد كبير من الأدوات التي كانت توزع على حرس الخليفة وحاشيته للسير بها في المواكب
والاحتفالات، وكانت تعاد بعد ذلك إلى خزانة السلاح، كما كان يحمل إليها سلاح من
توفي من الأمراء ورجال الحاشية والحرس.
وطبيعي أن يكون في خزانة السلاح عمال يتعهدون محتوياتها، ويقومون في الوقت
المناسب بالإصلاح التي تحتاجه من مسح ودهان وثقل وجلاء وشحذ وتثقيف وخرز وغير ذلك.
١١٨
خزائن السروج
نقل المقريزي عن ابن الطوير أن خزائن السروج الفاطمية كانت تحتوي على ما لا تحتوي
عليه مثلها في مملكة من الممالك، وهي قاعة كبيرة تحت جدرانها مصطبة علوها ذراعان؛
وعلى المصطبة متكآت، على كل متكأ ثلاثة سروج متطابقة، وفوقه في الحائط وتد مدهون
مضروب في الحائط قبل تبييضه، ومعلق فيه ما يلزم السروج من لجم وقلائد وأطواق مصنوعة
أكثر أجزائها من الذهب أو الفضة أو محلاة بهما.
١١٩
وقد جاء في كتاب الذخائر والتحف أن الثوار
أخرجوا من هذه الخزائن صناديق سروج محلاة بالفضة، وجد على صندوق منها: «الثامن
والتسعون والثلاثمائة»؛ مما يجعلنا نظن أنها كانت تحمل أرقامًا متسلسلة، وأنها كانت
لا تقل عن ثمانية وتسعين وثلاثمائة.
وكان ثمن بعض السروج المحفوظة في الخزانة يتراوح بين ألف دينار وسبعة آلاف، وكان
أقل ما فيها قيمة أحسن مما يمتلكه سائر الأفراد، وكان لكثير من أرباب الرتب ورجال
الحاشية حق استعمال هذه السروج؛ إلا ما كان منها غالي القيمة، وجعل لركاب الخليفة
خاصة.
وأما العمال والصناع الذين كانوا ملحقين بالخزانة، يدأبون على العمل فيها، فقد
كان عددهم كبيرًا؛ من صاغة وخرازين ومركبين.
وبعد فوات الشدة العظمى عاد إلى هذه الخزانة — كسائر الخزائن الفاطمية — بعض
أبهتها، وجمع الخلفاء فيها عددًا كبيرًا من السروج النفيسة، منها نوع أمر بصنعه
الآمر بأحكام الله سنة (٤٩٥–٥٢٤ﻫ/١١٠١–١١٣٠م) جعل قرابيصه
١٢٠ مجوفة، وبطنها بصفائح من قصدير؛ ليجعل فيها الماء، وجعل لها فمًا فيه
صفارة، فإذا دعت الحاجة شرب منها الفارس، وكان كل سرج منها يسع سبعة أرطال ماء.
١٢١
ومهما يكن من شيء فإن العرب كانوا يعنون بالركوب والصيد عناية فائقة؛ وكان السرج
أهم أدوات الركوب، ولم تكن خزانة السروج عند الفواطم وقفًا على ما يختصون به من
السروج المغشاة بالذهب واللجم المطلية بالذهب والمحلاة جوانبها بالفضة، والكنابيش
١٢٢ والمهاميز من الذهب أو الفضة أو الحديد المطلي بالذهب أو الفضة؛ بل كان
فيها من كل تلك الأدوات أنواع تقرب من التي اختص بها الخليفة، وأنواع لأرباب الرتب
العالية من حشمة وأتباعه، وأنواع دون ذلك تعار إلى عامة الخدم والأتباع في أيام
المواكب والاحتفالات.
١٢٣
وقد كان نظام خزائن السروج الفاطمية دقيقًا، وكانت محتوياتها تجرد في بعض المواسم
فيظهر ما ينقص منها، ويلزم عمالها بإحضاره أو دفع قيمته.
وكان الخليفة يزورها، فيطوف فيها من غير
جلوس، ويعطي العامل عليها أو «حاميها» عشرين دينارًا لتوزيعها على المستخدمين.
ويروى أن الخليفة الحافظ لدين الله احتاج يومًا إلى شيء فيها، فجاء إليها مع الحامي
فوجد الشاهد
١٢٤ غير حاضر، ووجد ختمه عليها فرجع إلى مكانه وقال: «لا يفك ختم العدل إلا
هو ونحن نعود في وقت حضوره.»
ومما يذكره المقريزي في الكلام عن خزانة السلاح أن أول من ركب أعيان دولته على
خيوله بأدوات من الذهب في المواسم هو العزيز بالله، وليس هذا بمستغرب من هذا
الخليفة الذي يؤثر عنه أنه قال: «يا عم! أحب أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى
عليهم الذهب والفضة والجواهر، ولهم الخيل
١٢٥ واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كله من عندي.»
١٢٦
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة السروج دون أن نشير إلى أن مصر كانت مشهورة
منذ الفتح الإسلامي بصناعة أجلال الخيل، حتى كانت هذه الأدوات مما يرسله العمال إلى
الخلفاء في حاضرة القيصرية الإسلامية. وقد كتب ابن إياس في هذا الصدد: «وكانت
الخلفاء تشترط على عمال مصر في تقليدهم الخيل العربية، والأثواب الدبيقية شغل تنيس،
والمقاطع الشرب الإسكندرانية، والطرز الصعيدية، وأجلال الخيل؛ ويشترط عليهم ضيافة
العسل النحل المصري من عسل بنها، وتشترط عليهم البغال والحمير وغير ذلك من الأصناف
التي لا توجد إلا بمصر.»
١٢٧
خزائن الخيم
نقل المقريزي عن كتاب الذخائر والتحف أن الثوَّار أخرجوا من خزائن الخيم عددًا
كبيرًا جدًّا من أنواعها المختلفة، مصنوعة من أجمل أنواع النسيج الدبيقي، والمخمل،
والخسرواني، والديباج الملكي، والأرمني، والبهنساوي، والكردواني، «ومنها المفيل،
والمسبع، والمخيل، والمطوس، والمطير، وغير ذلك من سائر الوحوش، والطير والآدميين من
سائر الأشكال والصور البديعة» أي: ما كانت تزينه رسوم السباع والخيل والطواويس
وسائر الوحوش والطيور، فضلًا عن المحلى بالصور الآدمية الجميلة وبالنقوش النباتية
والهندسية الرائعة، وكل ذلك يذكر بخيمة سيف الدولة التي وصفها المتنبي في أبيات
سنأتي بها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
وكانت بعض أعمدة الخيام ملبسة بأنابيب الفضة، كخيمة العزيز التي وصفها ابن ميسر.
١٢٨
ومما أخرجه الجند الثائرون في الشدة العظمى فسطاط ضخم جدًّا كان يسمى المدورة
الكبرى، محيطه خمسمائة ذراع، وعدد قطع قماشه أربع وستون قطعة، نقش عليها شيء كثير
من رسوم الحيوانات وشتى الزخارف والأشكال،
١٢٩ وكان هذا الفسطاط قد صنع للوزير اليازوري، واشتغل في صنعه مائة وخمسون
صانعًا وفنانًا، وبلغت نفقته ثلاثين ألف دينار واستغرق إتمامه مدة تسع سنين.
١٣٠
وكان اليازوري قد أمر بعمل هذا الفسطاط على نسق فسطاط آخر،
١٣١ كان الخليفة العزيز بالله قد أمر بصنعه لنفسه، وأرسل إلى ملك الروم في
طلب عمودين له.
ومن نفائس ما نهب من خزائن الخيم مضرب الخليفة الظاهر، وكانت أعمدته وقوائمه من
البلور أو الفضة، وقماشه منسوجًا بخيوط الذهب، ونفقة إتمامه أربعة عشر ألف دينار،
ومنها فسطاط كبير آخر صنعه بحلب أبو الحسن علي بن أحمد، المعروف بابن الأيسر في
منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وبلغت نفقة صنعه ونقشه ثلاثين
ألف دينار، ونقل المقريزي أن عموده كان أطول من صواري الروم البنادقة، وأنه كان
يحتاج إلى مائتي رجل لنصبه وإعداده.
ومهما يكن من شيء، فإن وجود هذا العدد الكثير من الخيم في خزائن الفاطميين أمر
يسهل تصوره إذا تذكرنا ما كتبه ابن خلدون في المقدمة، فقد قال هذا الفيلسوف
الاجتماعي الكبير: «اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات
من ثياب الكتان والصوف والقطن، بجدل الكتان والقطن فيباهي بها في الأسفار، وتنوع
منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار.»
١٣٢
وقد كتب ابن خلدون في هذه المناسبة أن أكثر العرب كانوا في أول عهدهم بادين، فلما
تفننوا في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار، انتقلوا من سكنى الخيام إلى
سكنى القصور، ولكنهم اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتًا
مختلفة الأشكال يبدعون في زينتها.