يلاحظ زائرو الدار أن مقتنياتها رتبت في قاعاتها المختلفة بحسب موادها؛ فجمعت التحف
المصنوعة من الأحجار والرخام والجص في القاعات الثلاث الأولى، تتلوها قاعات أفردت
للخشب، فأخرى للمعاد، فغيرها للخزف، فأخرى للمنسوجات والسجاد، ثم تأتي قاعة كبرى للزجاج
وأخرى للمخطوطات المصورة، وجلود الكتب، وأحدث المقتنيات.
ولعل السر في ذلك أن الذين تولوا الإشراف على الدار منذ إنشائها كانوا ينسجون في
تنسيق قاعاتها على منوال النظم التي كانت متبعة إذ ذاك في سائر متاحف العالم، ولعلهم
كانوا يخشون أيضًا إن هم رتبوا التحف بحسب العصور أن يصبح في الدار قاعة واحدة لصدر
الإسلام في مصر، ثم قاعة للعصر الطولوني، وقاعة أو قاعتان للعصر الفاطمي، بينما تزدحم
سائر القاعات بتحف من عصر المماليك؛ لأن الذي وصلنا منها أكثر عددًا من الذي وصلنا من
التحف التي ترجع إلى العصور الأخرى.
ومهما يكن من شيء فقد تنبه الأستاذ فييت المدير الحالي إلى أهمية العصر الفاطمي في
تاريخ الفنون الإسلامية في مصر، ورأى إعداد قاعة خاصة تعرض فيها نماذج مما وصل إلينا
من
التحف المصنوعة في ذلك العصر، وقد تم نقل بعض التحف من سائر قاعات الدار إلى القاعة
الفاطمية الجديدة، وسوف يعاد النظر في ترتيب معروضات الدار ترتيبًا أوفق وأصلح حين
يتوفر لنا المكان اللازم.
ويجدر بنا كي نتفهم هذه التحف ونقدر قيمتها الفنية أن ننتقل إلى الكلام عن الفنون
الفرعية في عصر الفواطم، وذلك في إيجاز يتفق والحجم الذي نريده لهذا البحث والغرض الذي
نرمي إليه به.
(١) النحت والتصوير
إن كون الدولة الفاطمية شيعية المذهب
يدعونا إلى إيجاز ما فصلناه في كتاب «التصوير في الإسلام» عن حكم رقم الصور وصناعة
التماثيل عند المسلمين،
١ فقد كتب المستشرقون وعلماء الغرب
٢ كثيرًا عن تحريم التصوير في الديانة الإسلامية، وزعم بعضهم أن القرآن
حرم نقش الصور وعمل التماثيل؛ ولكن هذا باطل، لا نصيب له من الصحة. وفطن آخرون إلى
أن تحريم التصوير جاء في الحديث الشريف، وهذا صحيح، وقد كان النبي — عليه السلام —
يقصد به إبعاد المسلمين عن كل ما من شأنه أن يقربهم من عبادة الأوثان، على أن بعض
هؤلاء العلماء والمستشرقين ظن أن حديث تحريم التصوير لا يقره من المسلمين إلا
السنيون، بينما الشيعة لا يعتقدون أن التصوير حرام، وبهذا علل أولئك العلماء ازدهار
صناعة التصوير في بلاد إيران، حيث يسود المذهب الشيعي، ووجود الصور الآدمية في
التحف الفنية، التي ترجع إلى عصر الفواطم في مصر، وقد كانوا — كما نعرف — من أتباع
المذهب الشيعي أيضًا، ولكن هذا بعيد عن الصواب؛ فإن النحت والتصوير مكروهان عند
علماء الشيعة كما هما مكروهان عند علماء أهل السنة. حقًّا إن الشيعيين لا يعترفون
بكتب الحديث التي صنفها علماء أهل السنة؛ ولكن لهم كتبًا خاصة جمعت الأحاديث
النبوية التي يعترفون بها، والتي تتفق وعقائدهم، ونحن نجد في كتبهم هذه ما نعرفه في
كتب أهل السنة من نهي عن التصوير وإنذار للمصورين بأنهم سوف يكلفون يوم القيامة أن
ينفخوا في صورهم الروح، وليسوا بنافخين.
وأكبر الظن أن التفرقة بين المسلمين في موقفهم من النحت والتصوير راجعة إلى أن
بلاد إيران — وهي بلا ريب أكبر ميدان ازدهر فيه التصوير الإسلامي — يقترن ذكرها
بالمذهب الشيعي؛ ولكن المستشرقين الذين يستنتجون من ذلك أن الشيعة يحلون التصوير،
فاتهم أن المذهب الشيعي لم يصبح الدين الرسمي لبلاد إيران إلا منذ أول القرن العاشر
الهجري (السادس عشر الميلادي)، حين اعتلت العرش الأسرة الصفوية، وهم ينسون أيضًا أن
العرب لم يكونوا ليخسروا كثيرًا بصرفهم عن التصوير؛ لأنهم منذ البداية لم يكن لهم
كفاية في هذا الفن، كما كان للفرس؛ الذين كانوا مهرة فيه منذ الزمن القديم، والذين
لم يكونوا بفطرتهم يعرضون عنه كالشعوب السامية،
٣ فكان طبيعيًّا أن يسبق الفرس غيرهم في غض الطرف عن كراهية الإسلام له،
ولم يكن بد من أن يغض سائر المسلمين الطرف عنها حين يختلطون بالروم أو بالفرس، وحين
تسود بلاط ملوكهم روح دنيوية، ومدنية متأثرة ببيزنطة أو إيران، وحين تنمو الثروة
وتزدهر الفنون؛ ولكن بالرغم من ذلك كله ظل المصورون مكروهين من رجال الدين، وظل
النقش والتصوير بعيدين عن المساجد، وما يدخل فيها، أو في الأدوات المستعملة بها من
زينة وزخارف.
٤
ومهما يكن من شيء فإن العرب أنفسهم عرفوا في الجاهلية نوعًا من نحت التماثيل
ليتخذوها آلهة لهم، ثم إننا نجد في تاريخ الفن الإسلامي ملوكًا وأمراء سنيين،
استنفدوا وسعهم في رعاية المصورين وتشجعيهم. والخليفة الأموي الذي أمر فبني له في
بادية الشام مقر للصيد والراحة — قصير عمرًا — وزينت جدرانه وسقفه بالنقوش الجميلة،
والخلفاء العباسيون الذين زينوا قصورهم في سامرا بالنقوش المختلفة الألوان، وملوك
إيران من أسرة تيمور الذين كانوا من أكبر رعاة النقش والتصوير، فنشأ في بلاطهم
بهزاد أعظم المصورين في الإسلام،
٥ وكذلك سلاطين المغول في الهند، وآل عثمان في تركيا، هؤلاء كلهم كانوا
سنيين.
فالمسلمون إذن، من سنيين وشيعيين، كانوا في أول أمرهم مجمعين على كراهية النحت
وتصوير الأحياء؛ لأنهم ظنوا أن فيهما تقليدًا للخالق — سبحانه وتعالى؛ ولأنهم زعموا
أن النبي — عليه السلام — قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا تصاوير»
و«إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» و«إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون
يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» … إلخ.
ومن ثم فقد اتجه المسلمون في زخرفتهم وجهة أخرى؛ فأبدعوا رسومًا جميلة يندر تصوير
الأحياء فيها، وإنما تتكون من أشكال نباتية وهندسية، يتداخل بعضها في بعض، وتكون
زخارف أصبحت من ميزات الفن الإسلامي، كما اتخذوا الكتابة عنصرًا أساسيًّا للزخرفة
عندهم، وقد ساعدتهم طبيعة الخط العربي في ذلك أكبر مساعدة.
٦
على أن انتشار الإسلام، وثبوت تعاليمه، وبعد الغرب عن الوثنية الجاهلية جعل من
اليسير ألا يلتزم المسلمون حرفية الحديث النبوي في تحريم النحت والتصوير، وكان
اختلاطهم بالأمم التي غلبوها على أمرها من أكبر العوامل التي ساقتهم إلى أخذ قسط
يسير من هذين الفنين.
٧
ولا غرو «فقد ورث العرب فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في حوزتهم الفنون
والصنائع؛ وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مداس المورثين، إذ لم يكن في استطاعتهم
أن يرتجلوا فنًّا كما ارتجلوا لهم ملكًا، ومع ذلك لم يمض زمن طويل حتى نبغ فيهم
البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون؛ دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص
كتابهم أو معارضة لشريعة نبيهم، ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة بل تعدوه إلى
التفنن والإبداع، فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا حتى طبعوا تلك
الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية، حرصًا على شخصيتهم أن تفنى،
وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا؛ فأصبح الروح العربي بارزًا واضحًا يندمج فيه غيره
ولا يندمج في شيء؛ ولهذا خلقت العرب لها فنًّا يوافق ذوقها، ويسير مع طبعها وسرعان
ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء.»
٨
وهكذا نرى أن المسلمين عرفوا فن تصوير الأحياء، وكانت عصور ازدهر فيها ذلك الفن،
وأعظم ما وصل إلينا من بقايا الصور في صدر الإسلام ما نجده على سقف قصير عمرًا
وجدرانه، ثم ما عثر عليه الألمان في سامرا.
٩
وأما في العصر الفاطمي فلا شك في أن صناعة التصوير أينعت، وكانت لها ثمرات طيبة؛
إذ إننا إذا استثنينا الحاكم بأمر الله، فقد كان خلفاء الفواطم شديدي التسامح
الديني، ويدل ما يرويه المؤرخون، ولا سيما المقريزي، على أنهم كانوا يشجعون
المصورين ويشملونهم برعايتهم، وكان الوزراء وكبار رجال الدولة يحذون حذو الخلفاء،
وطبيعي أيضًا أن يقفو أثرهم الأغنياء وأعيان التجار.
وقد أشار المقريزي
١٠ إلى كتاب في طبقات المصورين؛
١١ ولكن هذا الكتاب فُقِدَ، ولم يصل إلينا منه شيء مقتبس في كتابات مؤلفين
آخرين، اللهم إلا ما رواه المقريزي في هذه المناسبة، وليست هذه الحقيقة المرة مما
يشعر بأن المؤرخين والعلماء في عصر المماليك وفي العصور التي تلته كانوا يعنون
بالمصورين ورجال الفنون قسطًا من عنايتهم بالمحدثين، والأئمة، والشعراء، والأدباء،
والفلاسفة، والأطباء والخطاطين. وقد كتب المقريزي عن كتاب طبقات المصورين فقال: إنه
كان يسمى «ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس»، وذلك في الحديث
الذي رواه عن المنافسة بين المصورَين ابن عزيز وقصير.
وقد دعاه إلى ذكر هذا الحديث وصفه لصور ونقوش ملونة كانت في جامع القرافة الذي
بنته على نسق الجامع الأزهر السيدة زوجة الخليفة المعز، على يد الحسن بن عبد العزيز
الفارسي المحتسب.
١٢ وكانت فيه نقوش سماوية اللون وحمراء وخضراء، ورسوم ذات ألوان أخرى،
وكانت السقوف مزوقة كلها وكذلك الحنايا وباطن العقود وظاهرها، كل ذلك على يد نقاشين
أصلهم من البصرة، ومعهم بنو المعلم النقاشون المصريون، الذين تلقى عنهم هذه الصناعة
فنانان آخران، هما الكتامي والنزوك، وكان أمام الباب السابع قنطرة قوس منقوش، في
باطن عقدها رسم شادروان (سبيل) مدرج، عليه نقوش ورسوم سوداء وبيضاء وحمراء وخضراء
وزرقاء وصفراء، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها، رافعًا رأسه إليها، ظن أن
المدرج المزوق كأنه خشب كالمقرنص، وإذا أتى إلى أحد قطري القوس عند تمام نصف
الدائرة، ووقف عند أول القوس منها، ورفع رأسه رأى أن النقوش مسطحة لا نتوء فيها،
وإنما إتقانها وإبداعها هما اللذان يسببان هذا الوهم، وكان مثل هذا العمل من آيات
الفن عند النقاشين حينئذ. أما الذين صنعوا نقوش هذا العقد فهم بنو المعلم، وكان
سائر النقاشين يأتون إليها، ويحاولون عبثًا أن يصنعوا مثلها.
١٣
ومهما يكن من شيء فإن الكلام عن النقوش في جامع القرافة ساق المقريزي إلى ذكر ما
حدث لقصير وابن عزيز في أيام اليازوري، وكان هذا الوزير الجليل يعمل على إذكاء نار
المنافسة بينهما، ويحرِّض كل منهما على الآخر، فقد كان قصير مصريًّا له كفاية وغناء
عظيمان في صناعتي النقش والتصوير؛ ولكن أصابه العجب والغرور، وأخذ يشتط في أجرته،
فأراد اليازوري أن يخفف من غلوائه، وأرسل فاستدعى ابن عزيز من العراق؛ ليكون
منافسًا خطيرًا له. وفي الحق أنه لم يكن يقل عنه حذقًا ومهارة، حتى شبههما المقريزي
بابن مقلة وابن البواب في صناعة الخط، وحدث أن جمعهما اليازوري يومًا في مجلسه،
وقال ابن عزيز: «أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط.» فقال
قصير: «لكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط.» فقال الحاضرون:
هذا أعجب. وأمر اليازوري المصورين أن يصنعا ما وعدا به. فرسما الصورتين في حنيتين
متقابلتين، وكان رسم قصير راقصة بثياب بيض، فوق أرضية الحنية التي دهنها باللون
الأسود؛ فظهرت الراقصة كأنها داخلة في الحنية، بينما كان رسم ابن عزيز راقصة بثياب
حمر، فوق أرضية الحنية التي دهنها باللون الأصفر، فظهرت الراقصة كأنها بارزة من
الحنية، فاستحسن اليازوري ذلك وخلع عليهما كثيرًا من الذهب.
١٤
وذكر المقريزي أن دار النعمان بالقرافة كان فيها صورة سيدنا يوسف في الجب، وهي من
عمل المصور الكتامي، وتمثل يوسف عاريًا، ولون الجب أسود يخيل معه الناظر أن جسم
يوسف باب مفتوح فيه.
١٥
وقد مر بنا ذكر الخيمة التي صنعت لليازوري،
والتي كانت زخرفتها تمثل صور جميع الحيوانات المعروفة، على أن تزيين الخيام بالصور
المختلفة — إما نسجًا في قماشها أو نقشًا عليه — لم يكن مما أحدثه الفنانون في
العصر الفاطمي، فقد وصلتنا قصيدة للمتنبي قالها يمدح سيف الدولة عند رجوعه منصورًا
إلى أنطاكية بعد حروبه في أملاك الدولة البيزنطية، واستيلائه على حصن برزويه، الذي
كان يضرب المثل بمناعته. وفي هذه القصيدة أبيات يصف فيها المتنبي فسطاطًا كبيرًا
أقيم لسيف الدولة، وكان يزينه رسم قيصر الروم أسيرًا في يدي سيف الدولة، وحوله
كثيرون من الأمراء الروم المهزومين، وكانت حول هذا الرسم صور أخرى لحدائق وحيوانات
وطيور. قال المتنبي:
١٦
عليها رياض لم تَحُكها سحابةٌ
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
١٧
وفوق حواشي كل ثوب موجهٍ
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
١٨
ترى حيوان البر مصطلحًا به
يحارب ضدٌّ ضدَّه ويسالمه
١٩
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
٢٠
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلخ لا تيجان إلا عمائمه
٢١
قيامًا لمن يشفي من الداء كيه
ومن بين أذني كل قوم مواسمه
٢٣
قبائعها تحت المرافق هيبة
وأنفذ مما في الجفون عزائمه
٢٤
كما أن بعض كتب التاريخ تروي حكاية ظريفة عن الخليفة الفاطمي العزيز بالله.
فالمعروف أنه استوزر عيسى بن نسطورس، واستعمل على الشام منشا اليهودي، ويقال: إن
عيسى ومنشا اشتهرا بمحاباة اليهود والنصارى، وتعيينهم في مناصب الدولة، وإقصاء
المسلمين عنها، فتذمر الأخيرون واحتجوا على تلك المحاباة. ويذكر أبو الفدا
(٢ / ١٣٨) في هذه المناسبة أن «أهل مصر عمدوا إلى قراطيس، فعلوهما على صورة امرأة
ومعها قصة، وجعلوها في طريق العزيز، فأخذها العزيز، وفيها مكتوب: «بالذي أعز اليهود
بمنشا، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك، ألا كشفت عنا»؛ ولكن غيره من
المؤرخين يذكرون أن هذه المظلمة كانت تحملها امرأة رغبها الشاكون بالمال لتعترض
الخليفة. ويذكر ابن إياس أن بعض الناس عمد إلى مبخرة من حديد وألبسها ثياب النساء،
وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها «بالذي أعز النصارى … إلخ.»
٢٥
ويروي المقريزي أن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بنى في بركة الحبش منظرة من
خشب مدهون، وصور لها فيها شعراؤه، ثم طلب من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح،
كتبت بجوار صورته، وجعل إلى جانب كل صورة رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر وقرأ
الأشعار، طلب أن توضع على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارًا، وأن يدخل كل شاعر
فيأخذ صرته بيده. ففعلوا ذلك.
٢٦
بيد أن النماذج التي وصلت إلينا من صناعات النقش والتصوير والحفر نادرة جدًّا،
ولعل أهمها الآن النقوش المرسومة على الجص، والتي وجدت على جدران الحمام الفاطمي،
٢٧ الذي عثرت عليه دار الآثار العربية سنة (١٩٣٢) في الحفائر التي تقوم
بها للتنقيب عن الآثار بجوار أبي السعود في جنوبي القاهرة،
٢٨ وقد نقلت بقايا هذه الصور إلى دار الآثار العربية، حيث عرضت في القاعة
الفاطمية، وهي ملونة بالأحمر والأسود، ولا يزال يزي في إحداها رسم إنسان تحيط برأسه هالة،
٢٩ وعليه عمامة جميلة، وفي يده اليمنى كأس يحمله على النحو الذي نراه
كثيرًا على نقوش الخزف والأواني الفارسية الساسانية من فضة ونحاس،
٣٠ وفي إحدى الصور الأخرى رسم طائرين متقابلين، تعلوهما فروع نباتية
حمراء، وحولها شريط أسود به نقط بيضاء، وفي صورة ثالثة رأس شاب يلتفت إلى اليسار،
وفي صورة رابعة أثر رسم سيدة تتدلى عصابة رأسها إلى الجهة اليمنى،
٣١ وهذه النقوش الجصية تدل في مجموعها على تأثر بأساليب النقش في إيران
والعراق.
أما صناعة النحت عند الفاطميين، فالنماذج المعروفة منها ليست كثيرة العدد، وأهمها
في دار الآثار العربية كتلة من الرخام (رقم السجل ٢٩٥١)، عليها رسم سبع، نقش نقشًا
كبير البروز، ويخيل للرائي أن هذا السبع يزحف ببطء، وتدل دقة الرسم، وبيان العضلات،
وصلابة الظهر على أنه من صناعة العصر الفاطمي،
٣٢ فهو الفترة التي بلغ فيها الفنانون المصريون أقصى ما وصلوا إليه في دقة
رسم الإنسان والحيوان والطيور.
وفي دار الآثار كذلك لوح من رخام (رقم السجل ٦٩٥٠) عليه زخارف نباتية، بها رسوم
حمام وأسماك، وبقايا شريطين من الكتابة الكوفية،
٣٣ وربما كان صانعوها متأثرين بتقاليد فنية مسيحية، إذا تذكرنا ما للحمام
والسمك في الزخارف المسيحية من معانٍ رمزية خاصة.
٣٤
ومن مقتنيات الدار أيضًا حمالة زير من رخام على شكل سلحفاة (رقم السج ٩٧)، وفي
مقدمتها كتابة كوفية، ومنقوش على أحد جانبيها رسم سبعين، لهما جناحان، وكل منهما
يولي ظهره الآخر، ودقة رسم هذين الحيوانين، وطراز الكتابة الكوفية يدلان على أن هذه
التحفة الأثرية ترجع إلى العصر الفاطمي.
٣٥
وقد عثر في أطلال مدينة المهدية — العاصمة الفاطمية في شمالي أفريقيا — على لوح
من المرمر، عليه نقش بارز يمثل رسم أمير في يده كأس وأمامه فتاة تعزف على مزمار،
٣٦ ولا يفوتنا أن نلاحظ أن ملابس الأمير والعازفة وجلستهما، وشكل التاج
الذي يلبسه، كل ذلك يدل على التأثر بالأساليب الفنية التي كانت سائدة في بلاد
الجزيرة، والتي ورثتها هذه البلاد عن الأساليب الفنية الإيرانية.
٣٧
والواقع أن تونس فيها أنموذج آخر من صناعة النقش في العصر الفاطمي؛ فإن المسجد
الجامع بالقيروان لا تزال فيه بقايا سقف، عليه نقوش ترجع إلى عهد المعز أحد أمراء
بن زيري
٣٨ في إفريقية، وهي موجودة فوق عوارض خشبية خارجة من إفريز تسنده كوابيل
خشبية أيضًا.
وقد حلل الأستاذ جورج مارسيه
Georges Marçais
هذه النقوش في كتابه عن الفن الإسلامي،
٣٩ وفي كتاب صغير أصدرته إدارة الآثار في تونس.
٤٠ ومهما يكن من شيء فإن الزخارف المنقوشة على هذه الأخشاب تتألف من فروع
نباتية، منفصلة أو متصلة، ومن أشكال هندسية تذكر كلها بالموضوعات الزخرفية الموجودة
في الفسيفساء التي تزين قبة الصخرة، وكذلك بالزخارف التي نراها في ضرب من الخزف
المصري، محفورة حفرًا غير عميق تحت طبقة من الطلاء الملون.
وكذلك كتب الأستاذ جروهمان عن بعض قطع من الأوراق عثر عليها في الأشمونين،
ومحفوظة الآن في المكتبة الأهلية بفينا؛ وعليها رسوم ونقوش، ولكن الذي يرجع إلى
العصر الفاطمي من هذه الأوراق عدد قليل جدًّا؛ فإن أكثرها يرجع إلى القرنين الثالث
والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين)، وقد تحدثنا عن جزء منها في كتابنا
عن الفن الإسلامي في مصر.
٤١ ومن القطع التي قد تكون من العصر الفاطمي واحدة عليها رسم عصفورين،
وأخرى عليها رسم سبع، وثالثة عليه زخارف نباتية وهندسية.
٤٢
كما أن مجموعة المسيو رالف هراري فيها ورقة عليها صورة إنسان في يده كأس وبجانبه
بعض أواني النبيذ، وليس بعيدًا أن تكون هذه الصورة من العصر الفاطمي.
٤٣
ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئًا عن المخطوطات الفاطمية المزينة بالرسوم والصور،
والتي لا ريب في أن زخارفها كانت على جانب كبير جدًّا من الدقة والجمال والإبداع،
ذلك إذا حكمنا بما نعرفه من الزخارف في الخزف والنسيج الفاطمي، ومن الكتابات
الكوفية ذات الحروف المزينة بالزهور والنباتات، كما في جامع الحاكم؛ وإن كنا نعرف
أن الزخارف على المواد التي يسهل العمل بها؛ كالجبس والخزف أسرع في التطور منها على
سائر المواد.
ولعل المخطوطات الفاطمية التي سلمت من الشدة العظمى، أو التي جمعها الوزراء
والخلفاء في أواخر العصر الفاطمي، ذهبت ضحية قيام الدولة الأيوبية وترك المذهب الشيعي.
٤٤
وعلى كل حال فإن المتحف البريطاني فيه قرآن خطي
Add
11735 يشتمل على زخارف غاية في الجمال، وأكبر الظن أنه يرجع
إلى العصر الفاطمي؛ وإن كانت الآراء تختلف في تحديد تاريخه، ولا تتفق في أنه من صدر
العصر الفاطمي أو من آخره، على أن الأستاذ فلوري
S. Flury استنبط من الأشرطة المزخرفة فيه، ومن الوردات الموجودة في
هوامشه أنه صنع في القرن العاشر الميلادي؛ لأن العناصر الزخرفية فيه تشبه العناصر
الزخرفية في الجامع الأزهر.
٤٥
وقد ذكر فلوري في هذه المناسبة أننا يمكننا أن نتصور النقوش الإسلامية في مخطوطات
القرن الحادي عشر الميلادي، بما نعرفه من النقوش في المخطوطات اليهودية التي ترجع
إلى هذا العهد، ولا غرو فإن الشبه عظيم جدًّا بين النقوش والزخارف فيها، وبين
الزخارف التي نراها على سائر التحف الإسلامية في نفس العصر.
٤٦
ودرس فلوري مخطوطًا يونانيًّا في المتحف البريطاني، وأشار إلى الزخارف الإسلامية
الموجودة فيه، والتي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي،
ومن صور هذا المخطوط واحدة تمثل تتويج سيدنا داود؛ وفيها لوحة مذهبة بيضية الشكل
لها إطار من فروع نباتية عربية، وفي وسطها كتابة كوفية غير مقروءة؛ مما يدل على أن
المصور كان يعرف شيئًا من التحف الإسلامية، ويعجب بها إعجابًا يحمله على تقليدها.
٤٧
ومهما يكن من شيء فإن الأشخاص الموجودين في صور هذا المخطوط على سحنتهم مسحة غير
إسلامية؛ ولكن فيه رسومًا ونقوشًا نباتية وهندسية أخرى تشبه كل الشبهه الموضوعات
الزخرفية التي نراها في التحف الخشبية وفي المنسوجات الفاطمية، وفي بعض صناديق
العاج الصغيرة المصنوعة في صقلية أو في مصر إبان العصر الفاطمي، وربما أمكن تفسير
وجود هذين الطرازين من النقوش (البيزنطي والإسلامي) في المخطوط بأن مصوِّرًا
بيزنطيًّا قد اشتغل في تذهيبه وزخرفته، كما اشتغل فيها مصور آخر له دراية بأساليب
الفنون الإسلامية حينئذ، ولا سيما أن الفرق بين الصور ليس ملحوظًا في طراز النقوش
فحسب، بل في إبداعها ودرجة إتقانها على العموم، وإذا لاحظنا أن المخطوط متعلق
بالفلك، وأن المسلمين كانت لهم شهرة ذائعة في هذا الميدان أمكننا القول بأن الصور
الإسلامية الطراز منقولة عن مخطوط عربي في الفلك.
٤٨
وعلى كل حال فقد كانت القاهرة في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) مركزًا
رئيسيًّا للصناعات الفنية المختلفة؛ ومن المحتمل أنها كانت تصدر إلى سائر أنحاء
الشرق الأدنى كثيرًا من المخطوطات المذهبة والمصورة، تضاهي في الجمال تحفة وصلت
إلينا، وهي إنجيل من القاهرة تاريخه سنة (١٠١٠م) وغني بزخارفه وألوانه الزرقاء
والحمراء والذهبية.
٤٩
وقد حصلت دار الآثار العربية على تحفة كشفها الأستاذ فييت عند أحد تجار العاديات
في القاهرة، وهي ورقة عليها رسم رجلين في إطار من زخرفة مجدولة وفوقهما شريط من
كتابة بالخط الكوفي ذي الزخارف النباتية نصها: «عز وإقبال للقائد أبي منص.»
وبين الفارسين زخرفة نباتية فاطمية الطراز، فيها أوراق شجر مزهرة، ورسم أربعة
طيور جميلة، والفارس الأيمن في يده رمح وعلى رأسه عمامة في طرفها شريط عليه كلمة
«بركة»، وله ذؤابتان وشارب يتدلى، والفارس الأيسر في منطقته سيف عليه عبارة «عز
وإقبال» وفي يده رمح، وعلى رأسه غطاء رأس غريب الشكل، كما تتدلى من وسطه أشرطة من
الجلد أو النسيج تنتهي بحلي هلالية الشكل، وكلا الفارسين تحيط برأسه هالة.
٥٠
وقد ألقى الأستاذ فييت في المجمع العلمي المصري بحثًا عن هذا الرسم في أبريل سنة
(١٩٣٧)، وتفضل فسمح لنا بأن نجعله بين لوحات هذا الكتاب.
٥١
ولن يفوتنا أن نتحدث هنا عن الأثر الذي كان للفنون التصويرية الفاطمية في تطور
الفن بجزيرة صقلية، بعد أن أشرنا إلى ذلك في أول هذا الكتاب.
والمعروف أن الأمير الأغلبي زيادة الله نجح سنة (٢١٢ﻫ/٨٢٧م) في الاستيلاء على تلك
الجزيرة، وطرد البيزنطيين منها.
٥٢ ولما خلف الفاطميون بني الأغلب في شمالي أفريقيا أتموا إخضاع صقلية،
وجعلوها ولاية إسلامية ظلت تحتفظ رغم ذلك بكثير من مظاهر الاستقلال؛ نظرًا لطبيعة
العرب الذين كانوا هاجروا إليها منذ البداية، واتخذوها وطنًا لهم، وكانوا لا
يرتاحون إلى تدخل الحكام المبعوثين من إفريقية في شئونهم الخاصة، أو في أمور البلد
الذي كانوا يعتقدون بأحقيتهم في حكمه والسيطرة على شئونه. ولما رحل الفاطميون إلى
مصر أخرجوا صقلية من دائرة اختصاص الأمراء الذين فوضوا إليهم حكم إفريقية، وتركوها
تحت سيطرة أسرة عربية الأصل كان منها ولاتهم على الجزيرة في ذلك الوقت.
ولكن المنافسات بين العرب في صقلية والحروب الأهلية فيها، ثم ظهور النورمنديين،
كل هذا قضى على سيادة المسلمين في غربي البحر الأبيض المتوسط، وانتهى الأمر
باستيلاء النورمنديين على صقلية سنة (١٠٨٩م)، ولكن المدنية الإسلامية كانت قد رسخت
قدمها في البلاد،
٥٣ وبقيت الأساليب الفنية الإسلامية غالبة فترة طويلة من الزمن، وانتشرت
من صقلية إلى جنوبي إيطاليا وسائر أنحاء القارة الأوروبية؛ لأن النورمنديين اتبعوا
سياسة تسامح ديني عظيم وعملوا على اتخاذ عادات البلاد والمساواة بين رعاياهم من
العرب والبيزنطيين وسائر المسيحيين.
٥٤ وقد جاء في رحلة ابن جبير كثير مما يؤيد ازدهار الثقافة الإسلامية في
صقلية تحت حكم النورمنديين، فقد كتب هذا الرحالة المسلم الذي زار صقلية في الربع
الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي): «ملكها غليام … وهو كثير
الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله حتى إن الناظر في مطبخه
رجل من المسلمين …
وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك، وترتيب قوانينه، ووضع أساليبه، وتقسيم
مراتب رجاله، وتفخيم أبهة الملك، وإظهار زينته بملوك المسلمين … ومن عجيب شأنه
المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما علمنا به أحد خدمته المختصين
به: «الحمد لله حق حمده» وكانت علامة أبيه: «الحمد لله شكرًا لأنعمه.»
٥٥
وقال ابن جبير في وصفه عاصمة صقلية: «وللمسلمين بهذه المدينة رسم باقٍ من الإيمان
يعمرون أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها
بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب
الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة، دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاضٍ
يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه … وأما المساجد فكثيرة وأكثرها
محاضر لمعلمي القرآن.»
٥٦
ومهما يكن من شيء فإن تأثير الأساليب الفنية الإسلامية ظاهر في بعض أبنية
نورمندية بصقلية كقصر القبة
La Cuba، الذي بناه
وليم الثاني نحو سنة (١١٨٠م)، وتذكر بعض عناصره بقصور الأمراء في قلعة بني حماد،
وكقصر العزيزة
La Ziza الذي بدأه وليم الأول،
وأتمه وليم الثاني؛ وكذلك كنيسة المارتورانا، والكابلا بالاتينا، فإن في سقف
الكنيسة الأخيرة، وفي سقف آخر محفوظ بالمتحف الأهلي في بلرمو زخارف فيها حيوانات،
وفروع نباتية، وأشكال هندسية فاطمية الطراز؛ وكذلك أبواب كنيسة المارتورانا
بزخارفها في الخشب تشبه كل الشبه أبواب جامع الحاكم.
٥٧
على أن الذي يعنينا هنا بنوع خاص إنما هو ما في الكابلا بالاتينا من نقوش آدمية،
وحيوانية، ونباتية وهندسية، غطى بها الفنانون في عصر روجر الثاني كل الفراغ في
السقف؛ فنجد مناظر الرقص والطرب والموسيقى، ومناظر الصيد، والمصارعة، ولعب الشطرنج،
ونرى السباع والجمال، والطواويس، وسائر الطيور؛ كما نلاحظ طيورًا لها رءوس آدمية،
وغير ذلك من الموضوعات الزخرفية التي نمت وترعرت في الشرق الأدنى، ولا سيما في فارس
والعراق، ثم وصلت إلى صقلية عابرة في مصر الفاطمية، القنطرة العظمى بين الشرق
والغرب في ذلك الحين.
٥٨
(٣) المنسوجات
كانت عناية الخلفاء الفاطميين عظيمة بصناعة النسيج. وفي الحق أن المصريين كانوا
حاذقين فيها منذ العصور القديمة، وأنها تقدمت على يدهم في العصر القبطي، متأثرة في
الوقت نفسه بالأساليب الزخرفية الساسانية والبيزنطية، وظل التقدم مضطردًا في العصر الإسلامي؛
٦٩ إذ بقيت الصناعة في يد أهل البلاد سواء اعتنقوا الإسلام أو ظلوا على
دين المسيح.
٧٠
وقد تحدثنا في كتاب الفن الإسلامي عن صناعة النسيج في مصر منذ فتحها العرب حتى
نهاية العصر الطولوني، وتكلمنا عن احتكار الحكومة لها إلى حد كبير، وعن نظام
الطراز: طراز الخاصة حيث كانت تصنع المنسوجات للخليفة والأقمشة التي كان يخلعها على
كبار رجال الدولة وأفراد حاشيته، وطراز العامة: الذي كان يشتغل فضلًا عن هذا بإنتاج
المنسوجات اللازمة للشعب. أما المصانع الأهلية فكانت تسير جنبًا إلى جنب مع الطراز
الحكومي، وتثقلها الحكومة بضرائب فادحة ورقابة شديدة؛
٧١ كما يظهر مما كتبه المقدسي في هذا الشأن.
٧٢
أما في العصر الفاطمي فقد بلغ نظام الطراز من الجودة والدقة درجة زادت كثيرًا في
كمية منتجاته وفي نفاسة نوعها، وقد كانت هناك أصناف من الأقمشة الغالية المشغولة
بالحرير لا تنسج إلا للخليفة نفسه؛ ولكن أفراد الرعية كانوا يحصلون على قطع أخرى
نفيسة جدًّا، فكانت الجلاليب والأقمصة والعمائم والأحزمة تصنع من أقمشة غالية،
تزينها أشرطة مشغولة بالحرير، أخذ حجمها في الزيادة حتى صارت في القرن السادس
الهجري (الثاني عشر) تغطي أكثر الأرضية الكتانية في الأقمشة.
وكثيرًا ما أمر الخلفاء بصناعة منسوجات فاخرة لإهدائها إلى الأمراء والملوك الذين
كانوا يخطبون ودهم أو تربطهم بهم علاقات الصداقة وحسن الجوار، وقد كان الخلفاء
الفاطميون يعلمون حق العلم أن قياصرة بيزنطة والأمراء والحكام في أوروبا الجنوبية
يعجبون بالمنسوجات المصرية إعجابًا شديدًا.
وقد روى المقريزي أن دار الوزير يعقوب بن كلس حوِّلت بعد وفاته إلى مصنع حكومي
للنسج وصارت تعرف باسم دار الديباج.
٧٣
وكتب أيضًا في كلامه عن منظرة الغزالة أنها كانت مسكنًا للأمير أبي القاسم بن
المستنصر، ثم أصبحت بعد ذلك مقرًّا لناظر الطراز وكانت ميزانيتها في وزارة الأفضل
بن بدر الجمالي واحدًا وثلاثين ألف دينار؛ منها خمسة عشر ألفًا للقماش نفسه، وستة
عشر ألفًا للذهب الذي يستخدم في نسجه، وزادت هذه الميزانية في عصر الوزير المأمون
فبلغت ثلاثة وأربعين ألفًا وتضاعفت في الأيام التي كان الخليفة الآمر يحكم فيها
بنفسه.
ونقل المقريزي عن ابن الطوير حديثًا طويلًا عن صاحب الطراز وحقوقه وواجباته، وهذا
نصه:
الخدمة في الطراز، وينعت بالطراز الشريف، ولا يتولاه إلا أعيان
المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف،
٧٤ وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامة بدمياط وتنيس وغيرهما،
٧٥ وجارية أمير الجواري،
٧٦ وبين يديه من المندوبين مائة رجل لتنفيذ الاستعمالات بالقرى،
٧٧ وله عشارى دتماس
٧٨ مجرد معه،
٧٩ وثلاثة مراكب من الدكاسات،
٨٠ ولها رؤساء ونواتية لا يبرحون، ونفقاتهم جارية من مال الديوان،
فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة
٨١ التي منها المظلة،
٨٢ وبدلتها، والبدنة،
٨٣ واللباس الخاص الجمعي،
٨٤ وغيره هيئ بكرامة عظيمة، وندب له دابة من مراكيب الخليفة، لا
تزال تحته حتى يعود إلى خدمته، وينزل في الغزالة على شاطئ الخليج … ولو كان
لصاحب الطراز في القاهرة عشرة دور لا يمكن من نزوله إلا بالغزالة، وتجري
عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة، فيتمثل بين يدي الخليفة بعد
حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة،
٨٥ ويعرض جميع ما معه وهو ينبه على شيء فشيء بيد فراشي الخاص في
دار الخليفة مكان سكنه، ولهذا حرمة عظيمة؛
٨٦ ولا سيما إذا وافق استعماله غرضهم.
فإذا انقضى عرض لك بالمدرج الذي يحضره، سلم لمستخدم الكسوات، وخلع عليه
بين يدي الخليفة باطنًا،
٨٧ ويخلع على أحد كذلك سواه ثم ينكفئ إلى مكانه، وله في بعض
الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب عنه، ولا
يمكن أن يكون إلا ولدًا أو أخًا، فإن الرتبة عظيمة، والمطلق له من الجامكية
٨٨ في الشهر سبعون دينارًا، ولهذا النائب عشرون دينارًا؛ لأنه
يتولى عنه إذا وصل بنفسه، ويقوم إذا غاب في الاستعمال مقامه. ومن أدواته
٨٩ أنه إذا عبى ذلك عن الأسفاط استدعى والي ذلك المكان، ليشاهده
عند ذلك، ويكون الناس كلهم قيامًا لحلول نفس المظلة وما يليها من خاص
الخليفة في مجلس دار الطراز وهو جالس في مرتبته، والوالي واقف على رأسه
خدمة لذلك، وهذا من رسوم خدمته وميزتها.
٩٠
وليس غريبًا أن يعنى الخلفاء بصناعة النسج إلى هذا الحد؛ فقد كانت للبلاد تقاليد
فنية قديمة في هذا الميدان، وكان الخلفاء في حاجة ماسة إلى كميات هائلة من
المنسوجات لأنفسهم، ولرجال بلاطهم، وللكسوة الشريفة،
٩١ وللخلع التي كانوا يمنحونها أتباعهم، ورجال حكومتهم في كثير من
المناسبات على نحو ما تفعله الحكومات في العصور الحديثة من منح الرتب والأوسمة.
ولِمَ نذهب بعيدًا ومنح الخلع النفيسة لرجال الدين لا يزال قائمًا في بعض الدول
الإسلامية حتى الآن؟
وقد تحدث ناصر خسرو في وصف رحلته عن مدينة تنيس، وأعجب بما كان ينسج فيها من قصب
٩٢ ملون، تصنع منه العمائم والطواقي وملابس النساء، ولا ينسج في أي مكان
آخر قصب يوازيه في الجودة والجمال، وذكر أيضًا أن القصب الأبيض كان يصنع في دمياط،
وأن الذي كان ينسج في طراز الخاصة أي: في مصانع السلطان كان لا يباع ولا يستطيع أحد
الوصول إليه؛ حتى إنه ليروى أن أمير إقليم فارس في بلاد العجم أرسل عشرين ألف دينار
إلى تنيس؛ ليشتري له بها حلة كاملة من النسيج السلطاني؛ ولكن رسله ظلوا في المدينة
بضع سنين دون أن يوفقوا في المهمة التي ندبوا لها.
٩٣
وأعجب ناصر خسرو كل الإعجاب بمهارة النساجين الذين كانوا يشتغلون في المصانع السلطانية،
٩٤ وذكر أن واحدًا منهم نسج قطعة من الديباج لتصنع منها عمامة السلطان،
فمنح خمسمائة دينار. وكتب كذلك أن تنيس كان ينسج فيها دون غيرها من بلاد العالم
قماش البوقلمون الذي يتغير لونه باختلاف ساعات النهار، ويصدره المصريون إلى بلاد
الشرق والغرب.
ونحن نعرف أن مدينة تنيس كانت تقع على جزيرة في بحيرة المنزلة، ويمكن الوقوف على
أهميتها في تاريخ الصناعات الإسلامية في العصور الوسطى من الحكاية التي كان الشعب
يرددها والتي نقلها ناصر خسرو، وفيها يزعم القوم أن ملك الروم طلب إلى الخليفة أن
يمنحه مدينة تنيس، على أن يأخذ بدلها مائة مدينة رومية؛ ولكن المصريين — الذين
عرفوا بأن سواد الشعب فيهم يعتقد بأن مصر جنة الله في أرضه — كانوا يصرون على القول
بأن الخليفة أبى قبول هذا الطلب!
وقد ذكر ناصر خسرو أن الجزيرة التي كانت تنيس مبنية فوقها، كانت تحيط بها سفن
كثيرة أغلبها من سفن الحكومة، كما كانت فيها حامية عسكرية دائمة على قدم الاستعداد
لصد غارات الروم أو الفرنج، ويروون أن الضرائب التي كانت تدخل يوميًّا خزانة
السلطان من مدينة تنيس ألف دينار ذهب يجمعها شخص واحد، ويوصلها إلى خزينة السلطان،
دون أن يرفض أحد دفع ما عليه من الضرائب، أو يجبي من أحد أكثر مما يستحق أن يفرض
عليه. وقد لاحظ ناصر خسرو أن العمال الذين كانوا ينسجون القصب والبوقلمون في
المصانع الحكومية كانوا يتقاضون أجورًا طيبة، ولم يكن ديوان الخليفة يظلمهم، كما
كان الحال في الأقاليم الإسلامية الأخرى.
وكانت أكثر ما تقوم صناعة النسج في الجهات التي يكثر فيها الأقباط،
٩٥ وكان الكتان والقطن ينسجان في أنحاء عديدة من الديار المصرية ولا سيما
في تنيس والإسكندرية وشطا
٩٦ ودمياط ودبيق والفرما بالدلتا، واشتهرت أيضًا بنسجهما مدينة البهنسا في
مصر الوسطى وكذلك مدينة دميرة. أما الأقمشة المنسوجة بالحرير فكانت تصنع في
الإسكندرية وفي دبيق. وكما كانت إخميم وأسيوط مشهورتين بصناعة النسج في العصر
القبطي، فقد ظلتا كذلك في العصر الإسلامي، وكانتا تصدران إلى بيزنطة وإلى روما
والجمهوريات التجارية في إيطاليا كثيرًا من الأقمشة النفيسة التي كان يوهب جزء كبير
منها إلى الكنائس والأديرة، فيستخدم في عمل بعض الملابس أو تحفظ فيه بعض التحف
التذكارية، وإلى هذا يرجع الفضل في بقاء بعض التحف المشهورة في أوروبا.
وعلى كل حال فقد اشتهرت بعض بلدان الصعيد، ولا سيما أسيوط، بنسج الكتان حتى لقد
أعجب ناصر خسرو بما كان ينسج منه في تلك المدينة، وقال: إن الإنسان يظنه من الحرير.
٩٧
على أننا لا نعرف تمامًا هل اشتغلت المصانع المصرية في العصر الفاطمي بنسج الحرير
الصافي، أو أن ذلك لم يكن قبل عصر المماليك.
٩٨
وكانت أسماء الخلفاء تنسج في الأقمشة الثمينة بلحمة من الذهب أو الفضة أو الخطوط
المتعددة الألوان تمجيدًا لهم، وإشارة بذكرهم، ودليلًا على أنها صنعت في عصرهم،
ووثيقة لمن خلعت عليه، تدل بنوعها على درجته ووظيفته، وتشير إلى رضاء الأمير عنه.
٩٩
وقد تكون العبارة المنسوجة في الطراز طويلة كالتي نراها في قطعة من الشاش بمتحف
فكتوريا وألبرت ونصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله
صلى الله عليه … المستنصر بالله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه وعلى
آبائه الطاهرين وأبنائه المنتظرين.
١٠٠
ونجد مثل هذه الكتابة على كثير من قطع النسيج الفاطمية في دور الآثار والمجموعات
الأثرية المختلفة،
١٠١ كما قد يكون الطراز قاصرًا على عبارات تبريك نحو: «العز الدائم والصبر
والدولة لصاحبه.»
١٠٢
وعلى كل حال فإن كتابة اسم الخليفة أو الأمير في الطراز شارة من شارات الملك أو
الإمارة كنقش اسمه على السكة والدعاء له في الخطبة، ولكن الخليفة كان يأذن بكتابة
اسم وزيره على الطراز
١٠٣ تكريمًا له أو خشية منه وتسليمًا بحقيقة واقعة هي استيلاء الوزير على
السلطان الفعلي في البلاد، فالعزيز بالله وضع في الطراز اسم وزيره يعقوب بن كلس،
وكذلك يظهر من قطعة نسيج محفوظة في مكتبة الفاتيكان أن الوزير الأفضل حصل من
الخليفة المستعلي بالله على مثل هذا الحق، كما يتجلى ذلك أيضًا من «ملاءة سانت آن»
في مدينة آبت
Apt التي سيأتي الكلام عنها.
ومع ذلك فقد حدث أن بعض الأمراء كانت له مصانع نسيج أخرجت أقمشة عليها اسمه: ففي
متحف فكتوريا وألبرت بلندن قطعة من الحرير الأصفر القائم من طراز العراق في منتصف
القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وفيها شريطان من الكتابة نصهما واحد
وهو: السيد الأجل نصر الدولة أبو نصر أطال الله بقاءه.
١٠٤
وهناك بعض قطع فاطمية من هذا النوع، وردت في سجل
الكتابات التاريخية العربية Répertoire Chronolgique d’Epigraphie
Arabe.
ومن العبارات التي تراها مكتوبة على الأقمشة الفاطمية: «الملك لله» و«نصر من
الله» و«العز من الله» و«بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق» و«ما شاء الله كان»
و«العز الدائم».
١٠٥
ومما يدل على أهمية مصانع النسج في مصر ودخل الحكومة منها ما ذكره المقريزي من أن
الضرائب التي جمعت في يوم واحد من تنيس والأشمونين ودمياط في عهد الوزير يعقوب بن
كلس بلغت مائتي ألف دينار. ويعلق المقريزي على هذه الرواية بقوله: «وهذا شيء لم
يسمع قط بمثله في بلد.»
١٠٦
على أننا في الواقع لا نستطيع أن نعرف تمامًا كيف كانت ملكية هذه المصانع، ولا
سيما ما يعرف منها باسم طراز العامة، ولا غرو فإننا نعرف عن «الطراز»
١٠٧ حقائق متفرقة؛ ولكن تغيب عنا أشياء لا بد من معرفتها، إذا أردنا أن
نتبين تمامًا علاقة الحكومة بصناعة النسج الأهلية والضرائب التي كانت تثقلها بها،
وازدهار هذه الصناعة على الرغم من ذلك كله، وانخفاض أجور العمال، وتسرب الأرباح إلى
خزائن الحكومة، أو إلى جيوب موظفيها، أو جيوب أصحاب المصانع من علية القوم، أو إذا
أردنا أن نعرف إلى أي حد كانت تبلغ رقابة الحكومة على صناعة النسج في مراحلها
المختلفة، وهل كانت الأقمشة تختم بخاتم رسمي، ولا يتولى البيع والتجارة إلا تجار
تعينهم الحكومة، يقيدون ما يبيعونه في سجلات رسمية، كما كان لف الأقمشة وحزمها
وربطها وشحنها يقوم به عمال حكوميون يتناول كل منهم ضريبة معينة.
ومهما يكن من شيء فإن نظام الطراز انتشر في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وكان
لجزيرة صقلية نصيبها منه؛ فازدهرت صناعة النسج فيها على يد حكامها من المسلمين، حتى
لقد يصعب كثيرًا التمييز بين الأقمشة المنسوجة في مصانعها والأقمشة المنسوجة في مصر
وسورية والأندلس. وإن صح ما ذكره المقريزي من أن الأميرة عبدة ابنة المعز لدين الله
تركت فيما خلفته «ثلاثين ألف شقة صقلية»،
١٠٨ فإن ذلك يدل على كثرة ما كانت تنتجه المصانع الصقلية، ويثبت أن
منتجاتها كانت تقدر في مصر حق قدرها؛ فكان القوم يستوردون منها بعض الأقمشة
النفيسة.
وقد ظلت صناعة النسج بصقلية زاهرة في عصر النورمنديين، وتمت مصانع النسج في القصر
الملكي، ويشير ابن جبير في رحلته إلى فنى اسمه يحيى من فتيان الطراز، كان ممن
يطرزون بالذهب في المصانع الملكية بعاصمة جزيرة صقلية،
١٠٩ على أن المشاهد في الموضوعات الزخرفية على الأقمشة المنسوجة بصقلية في
العصر النورمندي هو أنها ذات صلة وثيقة بالأساليب الزخرفية البيزنطية؛ وذلك بتأثير
النساجين اليونانيين الذين أسرهم روجر الثاني في إحدى الغارات البحرية في بحر
الأرخبيل سنة (١١٤٧م)، وألحقوا بمصانع النسج في القصر الملكي، وأمرهم بأن يعلموا
رعاياه أسرار صناعتهم. واتسع نطاق صناعة النسج في صقلية،
١١٠ حتى أقبلت سفن البنادقة على الاتجار بمنتجاتها وتوزيعها في العالم
المسيحي وعلى الصليبيين.
١١١
وقد بدأت بشائر العصر الفاطمي تظهر في صناعة المنسوجات الإسلامية في أواخر القرن
الرابع الهجري (العاشر)؛ فأخذ الميل يزداد إلى الرقة في الزخارف والإبداع في
تنسيقها، ووصل الفنانون الفاطميون إلى حد الإتقان في جمال الزخرفة، وكذلك سارت
الألوان تزداد تدريجيًّا في الهدوء والتناسق والائتلاف، أما الكتابة فكانت تشبه
أولًا طراز الخليفة المطيع لله، ثم تطورت تدريجيًّا حتى أصبح فيها كثير من الرشاقة،
كما كبر حجم الحروف أحيانًا، وسارت سيقانها تتصل ببعضها، وينتهي كثير منها في أعلاه
بزخارف صغيرة على شكل وريقات شجر تقليدية.
ولعل أكثر الأنواع المعروفة من المنسوجات في العصر الفاطمي هي الأنواع الآتية:
- الأول: وهو أقدمها، وقوام زخارفه أشرطة من الكتابة، توازيها أشرطة أخرى
بها جامات سداسية أو بيضية الشكل أو معينات قد تتداخل في بعضها،
وفيها رسم حيوان أو طائر أو رسم حيوانين أو طائرين متقابلين أو
يولي أحدهما الآخر ظهره. وقد كانت هذه الأشرطة في البداية ضيقة
وقليل عددها؛ ولكنها منذ القرن الرابع الهجري (العاشر) أخذت في
الاتساع، وأخذ عددها في الازدياد.
- الثاني: عظم الشغف به في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) وألوانه غير
زاهية، ويسود فيه لون ذهبي، وتزينه أشرطة وجامات متداخلة، قد يكثر
عددها وفيها أيضًا رسوم وحيوانات أو طيور تقليدية أو أشكال آدمية.١١٢ وتكاد الأقمشة التي نسجت في هذا القرن تكون أبدع ما
أنتجته المصانع المصرية في حكم الدولة الفاطمية؛ ولا غرو فهو العصر
الذهبي في تاريخ هذه الدولة.
- الثالث: يرجع تاريخه إلى أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر)، وتتطور
فيه الزخرفة؛ فترى إلى جانب العناصر القديمة عناصر أخرى جديدة؛ إذ
يقل استخدام الجامات في الزخرفة، وتحل محلها شبكات من الأشرطة،
تتداخل في بعضها وتزينها معينات صغيرة وتمزج ألوانها، وتوزع بطريقة
يخيل معها للرائي أن في الزخارف شيئًا من البروز.١١٣
- الرابع: يمثل القرن السادس الهجري (الثاني عشر)، ويسوده اللون الأزرق
الغامق، وتبدأ فيه الحروف الكوفية في الاستدارة لتصبح حروفًا
نسخية؛ كما تظهر في الزخارف الفروع النباتية والأرابسك والحروف
المستديرة التي لا تقرأ والتي يظهر أن الغرض منها زخرفي
بحت.
والملاحظ في عناصر الزخرفة على المنسوجات الفاطمية أن الحروف تطورت تطورًا كبيرًا
فقدت معه في النهاية خواصها وأصبحت خطوطًا لا تقرأ بل تتكرر، لا لغرض إلا الحلية
والزينة؛ كما أن رسوم الحيوانات والطيور التي بلغت أحيانًا درجة عظيمة من الإتقان،
ومحاكاة الطبيعة بأمانة كبيرة، تطورت أيضًا حتى فقدت خواصها، وصارت أشكالًا تقليدية
مهذبة لا تمت إلى الطبيعة بصلة كبيرة.
ولعل خير وسيلة لتفهم مزايا المنسوجات الفاطمية ومظاهرها أن ندرس بعض القطع
الشهيرة المحفوظة في دار الآثار العربية، أو في المتاحف الأجنبية والأديرة والكنائس
والمجموعات الخاصة.
وإننا نظن أن أبدع المحفوظ منها في متاحفنا بالقاهرة قطعتان من المجموعة التي
أهداها المغفور له الملك «فؤاد الأول» إلى الدار، وهما باسم الخليفة الفاطمي الحاكم
بأمر الله.
والأولى (رقم السجل ١٦م) من شاش أسود، وعليها كتابة كوفية بحروف كبيرة في سطرين
متوازيين، وأحدهما مقلوب، ويقرأ في عكس اتجاه الآخر. ونص السطر العلوي:
بسم الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد.
ونص السطر السفلي:
الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه وعا.
وتحت الكتابة شريط أصفر فيه رسم مكرر لطائرين متقابلين باللون الأزرق.
١١٤
والقطعة الثانية (رقم السجل ١٥م) من شاش أسود أيضًا، وعليها كتابة نصها في كل من
السطرين:
بسم الله الرحمن الرحيم، نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبي علي
الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين.
وفوق الكتابة شريط من حرير أصفر، فيه كذلك رسم مكرر لطائرين متقابلين ولونهما أزرق.
١١٥
ومما يلفت النظر في هاتين التحفتين الثمينتين ما في كتابتهما من الخطأ بالرغم من
إبداع صناعتهما.
وفي دار الآثار العربية قطع باسم الخليفة المعز لدين الله، وهي في أغلب الأحيان
من نسيج أبيض بسيط، وعليها سطر بالخط الكوفي ذي الحروف الصغيرة (كالقطعة رقم ٨٩٣٤)،
وذي الحروف الكبيرة التي تنتهي أطرافها بزخارف نباتية (كالقطعة رقم ٩١٦٠)، وقد عثر
على هاتين القطعتين في حفائر دار الآثار العربية بمقابر عين الصيرة.
١١٦
وهناك أيضًا قطع باسم الخليفة العزيز، وباسم الخليفة الحاكم، بعضها كتابته بحروف
كبيرة، وعلى الأخرى كتابات بحروف صغيرة، ومنها قطعة من شاش أبيض (رقم السجل ٨٢٦٤)
عليها ثلاثة أشرطة منسوجة من حرير أحمر وأزرق، والشريط العلوي مكون من ثلاث مناطق:
في الوسطى منها رسم طيور، كل اثنين منها متقابلان، وذلك باللون الأبيض على أرضية
زرقاء، وفي المنطقتين العليا والسفلى؛ أي: فوق الطيور وتحتها، سطران من كتابة كوفية
بحروف دقيقة بيضاء اللون على أرضية حمراء، ونص هذه الكتابة:
بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله … ربك له محمد رسول … عليه …
الله عليه نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر
الله أمير المؤمنين ابن الإمام العزيز بالله … (منين) وولي عهد المسلمين
وخليفة أمير المؤمنين أبو القاسم عبد الرحمن بن إلياس بن أحمد بن المهدي
بالله أمير المؤمنين … سلامًا … لعبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم
بأمر … الإمام.
وبأسفل هذا الشريط شريط ثانٍ أصغر منه، وفي وسطه زخرفة الطيور التي وصفناها في
الشريط الأول وحولها عبارة: «الملك لله» بالخط الكوفي مكررة نيفًا وسبعين
مرة.
أما الشريط الثالث في هذه القطعة فمكون من منطقة زرقاء، فوقها وتحتها منطقتان
حمراوان، عليهما زخارف رفيعة مستديرة وبيضاء اللون.
١١٧
وفي الدار كذلك قطع عديدة ترجع إلى عصر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعضها غير
مؤرخ، ومنها قطعة (رقم السجل ٨١٧٥) عليها شريطان أحمران: أحدهما فيه رسوم حيوانات
بيضاء وسوداء، والآخر به مثل هذه الرسوم وفوقها وتحتها كتابة كوفية فيها تاريخ
القطعة (خمس وعشرين وأربعمائة).
١١٨
أما عصر الخليفة المستنصر بالله
١١٩ فتمثله في مجموعات المنسوجات بدار الآثار العربية عدة قطع: إحداها (رقم
السجل ٩٠٥٨) من نسيج دقيق، وعليها ثلاثة أشرطة: الأعلى والأسفل منهما فيهما زخرفة
من جامات على شكل معين، وفي كل جامعة رسم طائرين متقابلين بألوان مختلفة من أحمر
وأصفر وأزرق وأسود. والشريط الأوسط فيه مثل هذه الجامات محصورة بين سطرين من
الكتابة الكوفية باسم الخليفة المستنصر ووزيره بدر الجمالي.
وفي الدار قطع أخرى باسم المستنصر، كما أن فيها قطع لا كتابة فيها؛ ولكن أشرطتها
الزخرفية التي تجعلها تشبه سائر القطع المؤرخة من عصر المستنصر تحملنا على أن نرجح
نسبتها إلى هذا العصر.
والواقع أن في المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة قطعًا تجمعها مميزاتها
الزخرفية، وتكون منها نوعًا ينسب إلى عصر المستنصر. وأهم هذه القطع في دار الآثار
العربية وفي متحف فكتوريا وألبرت،
١٢٠ وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك،
١٢١ وفي متحف الفنون الجميلة بمدينة بوستن بالولايات المتحدة،
١٢٢ وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين،
١٢٣ وفي متحف بناكي.
١٢٤
وفي دار الآثار العربية قطعة (رقم السجل ١٢٣٩٥) باسم اليازوري وزير المستنصر،
عليها كتابة بالخط الكوفي المزهر، وحروفها باللون الأخضر تزينها فروع نباتية بيضاء
وسوداء، وفيها جامات عنابية موزعة بانتظام بين سيقان الحروف،
١٢٥ كما أن فيها أيضًا قطعًا باسم الخلفاء المستعلي والآمر والحافظ.
١٢٦
فضلًا عن أن مجموعة دار الآثار العربية تشتمل على قطع فاطمية يتجلى فيها جمال
الزخرفة؛ منها قطع من النسيج الأبيض (رقم السجل ١٠٨٣٦)، عليها شريطان من الزخارف في
وسطهما سطر من الكتابة الكوفية، وفي أعلاهما سطر ثانٍ، وفي أسفلهما سطر ثالث، وهذه
الزخارف كلها مطبوعة وليست منسوجة في القماش، والشريط العلوي عرضه خمسة سنتيمترات،
وبه زخرفة مطبوعة باللون الذهبي، وقوامها فرع نباتي كبير، ورسم باز أو نسر باسط
جناحيه ينقض على أوزة أدارت رأسها نحوه، ورسم نسر آخر ينقض على غزال في حركة استطاع
الفنان أن يحتفظ في رسهما برشاقة الغزال وخفته وقوة الطائر وشدته. والشريط السفلي
عرضه ٣٨ مليمترًا، وفيه زخارف من فروع نباتية كبيرة وغاية في الدقة والإبداع، وفيه
رسم نسر ينقض على أرنب وفهد يهاجم حمارًا وحشيًّا تتجلى في مظهره الذلة
والاستكانة.
والرسوم محدودة بخطوط رفيعة سوداء، ورسم الأرنب مموه بلون أزرق، والكتابة الكوفية
أرضيتها مموَّهة بالذهب، وحروفها محدودة بخطوط رفيعة سوداء، وهي أدعية مكررة نحو:
«بركة» و«نعمة» و«سلامة»، ورسوم هذه القطع غاية في الدقة وتمثل الطبيعة أصدق تمثيل،
وهي تدل كما يدل طراز الكتابة على أنها ترجع إلى النصف الأول من القرن السادس
الهجري (الثاني عشر)،
١٢٧ وتشبه زخارفها كل الشبه الزخارف الموجودة على علبة من العاج حصل عليه
حديثًا القسم الإسلامي من متاحف برلين، ونرجح مع الأستاذ فييت، والدكتور كونل مدير
المتحف المذكور أن هذا الصندوق من صناعة صقلية في العصر الفاطمي.
١٢٨
وفي متحفنا بالقاهرة عدة قطع (رقم السجل ٨٠٣٣ و١٣٠٠٦ إلخ) من صناعة القرن الخامس
الهجري (الحادي عشر) مزينة بزخارف مختلفة الألوان؛ من أبيض وأزرق وأحمر وأخضر
وأصفر، وذلك في أشرطة بها جامات تشتمل على صور الطيور أو الأرانب المتتالية أو
المتقابلة.
وفيه كذلك قطعة (رقم السجل ٣٣١١) من كتاب وحرير ذات لون أصفر ذهبي ينتهي أسفلها
بشراريب، وتزينها زخارف على شكل معينات تتخللها من كتابات ذات حروف حمراء وبيضاء
على أرضية زرقاء وحمراء، وهي تمنيات بالسعادة والإقبال، ويرجع تاريخها إلى القرن
السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
١٢٩
أما المنسوجات الأثرية الفاطمية في أوروبا وأمريكا، فقد عرف منها عدد بأسماء
الخلفاء كما اشتهر بعضها بزخارفه الجميلة.
ففي كنوز كاتدرائية نتردام بباريس قطعة عليها جامات مثمنة تشتمل على رسوم أرانب
بآذان طويلة ورسوم طيور وبط، وفي كنارها كتابة طويلة باسم الحاكم بأمر الله ثالث
الخلفاء الفاطميين في مصر.
١٣٠
ومن أبدع الأقمشة الفاطمية في أوروبا الملاءة المحفوظة في كنيسة سانت آن بمدينة
آبت
Apt جنوبي فرنسا، والتي تعرف باسم ملاءة
سانت آن، وقد نشر الأستاذان جورج
مارسيه
G. Marçais وجاستون فييت
G. Wiet
بحثًا شائقًا عنها.
١٣١
وأكبر الظن أن هذه القطعة أُتي بها إلى أوروبا بعد الحرب الصليبية الأولى على يد
شريف من الذين اشتركوا في الحروب الصليبية، وقد ثبت في بعض المستندات التاريخية أن
بعض أشراف المقاطعة الموجودة فيها هذه الملاءة الآن قد اشتركوا في الحرب الصليبية
الأولى.
والملاءة منسوجة من كتان رقيق جدًّا، وهي من المخلفات المقدَّسة التي تنسب خطأ
إلى القديسة آن والدة العذراء، وكان النساء يتبركن بها طلبًا للذرية؛ وقد فعلت ذلك
الملكة آن النمسوية
Anne d’Autriche في مارس سنة (١٦٦٠)،
١٣٢ وطول هذه الملاءة ٣١٠ وعرضها ١٥٠ سنتيمترًا وبها ثلاثة أشرطة متوازية
تمتد في طولها، والشريطان الخارجيان يزينهما جامات، وتحف بهما كتابة بحروف دقيقة
زرقاء، والشريط الأوسط عليه زخارف من دوائر ذهبية متداخلة في بعضها، وتقطعها ثلاث
جامات مستديرة، محاطة بكتابة من حروف كوفية كبيرة، ومنسوجة باللون الأحمر. وقد ثبت
من الكتابات في الجامات الثلاث أن هذه الملاءة نسجت في طراز الخاصة بدمياط، وأن
عليها اسم الخليفة المستعلي،
١٣٣ الذي حكم من سنة ٤٨٧ إلى سنة ٤٩٥ﻫ/١٠٩٤–١١٠١م واسم وزيره الأفضل
شاهنشاه، وأنها نسجت سنة تسع وثمانين وأربعمائة أو تسعين وأربعمائة (١٠٩٦-١٠٩٧م).
١٣٤
وزخارف الشريط الأوسط في الملاءة تتكون من دوائر متداخلة في بعضها كحلقة السلسلة،
وأرضيتها مذهبة، وفيها خطوط سوداء قصيرة تقسمها إلى مناطق متجاورة، والفراغ الناشئ
بين الدوائر عند اتصالها ببعضها مزين برسوم وريقات شجر ذات فصين أو ثلاثة.
١٣٥ وقد ذكرنا أن هذا الشريط الأوسط فيه ثلاثة جامات مستديرة، ونضيف الآن
أن اثنتين منها — قطر الواحدة نحو ١٤٠ مليمترًا — مكونتان من دائرتين متحدتي
المركز، في الدائرة الخارجية شريط من الكتابة الكوفية الحمراء، وفي الدائرة
الداخلية رسم حيوانين وهميين لكل منهما جسم أسد ووجه امرأة وعلى رأسه تويج، وكل
منهما يولي الآخر ظهره، والجسم مذهب إلا البطن فأبيض، فيه مربعات صغيرة سوداء،
وذيلا الحيوانين ملتفان بطريقة زخرفية، كما أن كل حيوان منهما له شبه جناحين،
والجناحان يلتقيان، ثم ينتهيان بزهرة زخرفية جميلة.
أما الجامة الثالثة فأكبر حجمًا؛ ولكن زخارفها تشبه في مجموعها زخارف الجامتين
السالفتي الذكر، غير أنها أقل وضوحًا.
والشريطان الآخران كل منهما ثلاث مناطق: الوسطى بها دوائر، في كل منها حيوان له
أذنان طويلتان وعقد حول رقبته، وتصل هذه الدوائر ببعضها أشكال متعددة الأضلاع تشبه
النجوم السداسية الفصوص؛ وفي كل منها رسم طائرين، وتحد كلًّا من هذين الشريطين من
أسفل ومن أعلى كتابة كوفية زرقاء.
تلك هي أهم العناصر الزخرفية في هذه التحفة الثمينة، ولا يتسع المجال هنا
للاستطراد في شرحها، ولا سيما أن الأستاذين مارسيه وفييت قد كتبا عنها في بحثهما
كتابة وافية،
١٣٦ وقارنا بينها وبين النقوش والتماثيل في الأديرة المصرية، وأظهرا نصيب
الأقباط والإيرانيين في الأساليب الفنية الفاطمية؛ كما تساءلا عن الغرض الذي كانت
تستخدم فيه هذه الملاءة، وقالا بأنها ربما كانت عباءة كالتي تلبس اليوم في بعض بلاد
الشرق الإسلامية،
١٣٧ وإنها قد تكون خلعة من الخليفة الفاطمي.
ومهما يكن من شيء فإن لهذه القطعة شأنًا خطيرًا في دراسة المنسوجات الفاطمية، ولا
سيما بعد أن قامت بإصلاحها مصانع جوبلان
Gobelins
بباريس؛ فإنها مثال حي ومؤرخ لغيرها من الأقمشة النفيسة في هذا العصر، والزخارف
التي نراها عليها — من جامات وحيوانات ورءوس حيوانات وفروع نباتية أنيقة، تذكر بما
كان يزين الحروف الكوفية في العصر الفاطمي — كل هذه الزخارف نراها على عدد كبير من
القطع التي تكشف عنها دار الآثار العربية في حفائرها بالفسطاط أو المحفوظة في شتى
المتاحف والكنائس، فضلًا عن أن الذي تصوره الأستاذان مرسيه وفييت في الشكل الذي
كانت عليه هذه الملاءة معقول جدًّا ويوافق كل الموافقة سير الزخارف فيها.
١٣٨
ومن الأقمشة الفاطمية التي أذاع صيتها أخيرًا قطعة في دير كادوان
l’Abbaye de Cadouin بمدينة بريجورد
Périgord في جنوبي فرنسا، وهي كفن مقدس من كتان،
طوله ٢٨١ وعرضه ١١٣ سنتيمترًا، وعليه كتابة بالخط الكوفي المشجر باسم الخليفة
الفاطمي المستعلي بالله ووزيره الأفضل شاهنشاه، وقد درس الأستاذ فييت هذه التحفة
ولاحظ استخدام الكتابة للغرض الزخرفي، وما ترتب على الرغبة في التناسق والتناسب من
حذف بعض سيقان الحروف، ووجود سيقان لا حاجة إليها، وإنما أتي بها للزخرفة فحسب.
ومهما يكن من شيء فقد استطاع فييت أن يقرأ الكتابة المنسوجة في هذه القطعة من
النسيج، وساعدته خبرته بالكتابات الأثرية وطول ممارسته إياها على معرفة جزء كبير من
الكلمات التي بليت حروفها، فأمكنه أن يقرر أن نص هذه الكتابة التاريخية هو:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول
الله، علي ولي الله صلى الله عليهما وعلى أهل بيتهما الأئمة الطاهرين …
الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه وعلى آبائه
الطاهرين وأبنائه الأكرمين، سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين
وهادي دعاة المؤمنين أبو القسم شاهنشاه المستعلي عضد الله به الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول
الله، علي ولي الله — صلى الله عليهما وعلى أهل بيتهما الأئمة الطاهرين …
الإمام أحمد أبو القاسم المستعلي بالله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه
وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين.
ما أمر بعمله السيد الأجل الأفضل أمير الجيوش … المستعلي … سيف الإسلام،
ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القسم شاهنشاه
المستعلي عضد الله به الدين.
١٣٩
أما زخارف هذا الكفن المقدس فمثال لما نعرفه من الأشرطة ذات لجامات والطيور في
العصر الفاطمي.
ونحن إن استطردنا في حديث التحفتين السالفتي الذكر؛ فلأن ما عليهما من الكتابة
يؤيد ما تعرفه على الكتابات الأخرى من ألقاب الخليفة ووزيره في ذلك العصر؛
١٤٠ ولأن هاتين القطعتين أصبحتا مثالًا يشار إليه، وتقارن به كثير من
المنسوجات الفاطمية التي يعثر عليها ويكتب عنها علماء الآثار ومؤرخو الفنون الإسلامية.
١٤١
كما أن متحف كلوني
Cluny بباريس فيه نماذج جميلة
من المنسوجات الفاطمية؛ أحدها يشتمل على دوائر فيها سباع وطيور، وتتكون الزخارف في
قطعة أخرى من جامات سداسية، بها طاوس، على جانبيه طاوسان صغيران.
١٤٢ ولا يسع المرء أمام هذه القطع ومثيلاتها في المتاحف والكنائس والأديرة
إلا أن يلاحظ الشأن الخطير الذي كان للحيوانات والطيور، وللتناسب والتوافق، وللتابع
والتكرار في الزخارف الفاطمية.
وفي اللوفر قطعة تتكون زخرفتها من ثلاث جامات، بها رسم حيوان، وفوق الجامات
وتحتها شريط من الكتابة فيه البسملة وتاريخ سنة (٤٤٨ﻫ)، فهي من عصر المستنصر كما
يظهر أيضًا من القطعة التي تكملها وهي محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت.
١٤٣
وفي هذا المتحف الأخير نخبة من الأقمشة الفاطمية بأسماء الخلفاء الحاكم والمستنصر
والظاهر، وأخرى فيها زخارف مكونة من أشرطة ذات جامات تشتمل على حيوانات وطيور،
فضلًا عما عليها من فروع نباتية وأشكال هندسية، وكل هذا يثبت أنها من صناعة العصر الفاطمي.
١٤٤
والقسم الإسلامي من متاحف برلين يمتلك كذلك نماذج جميلة من منسوجات العصر
الفاطمي، درسها الأستاذ الدكتور كونل
Kühnel في
كتابه عن الأقمشة الإسلامية.
١٤٥
ومنها قطعة من نسيج رخو، فيه شريطان، ارتفاع كل منهما سنتيمتران، وبينهما مسافة
ستة سنتيمترات، فيها كتابة كوفية مكررة نصها «الملك لله» وهي سوداء وبيضاء على
أرضية حمراء، ونراها في أحد السطرين مقلوبة ومعكوسة بالنسبة لاتجاهها في السطر
الأخير، وفوق هذين الشريطين ثلاث جامات بيضية الشكل، في وسط كل منها نسر مرسوم
رسمًا تقليديًّا مهذبًا، وفي الجوانب الأربعة رسم أربع بطات تفصلها أربعة خطوط تخرج
من زوايا المعين الذي يحيط بالنسر وتنتهي بشكل شبه بيضي. وهذه القطعة جميلة بتناسق
ما فيها من الألوان: الأحمر والأخضر والأزرق الفاتح والأسود، وتمثل العصر الفاطمي
بطراز كتابتها وبزخارفها وألوانها، ومسحتها الفنية العامة، ويرجع تاريخها إلى نهاية
القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس الهجري (العاشر أو الحادي عشر).
١٤٦
كما أن مجموعة متاحف برلين فيها عدا ذلك قطعة عليها شريط من جامات سداسية متصلة،
وفي كل منها صورة كلب يعدو إلى اليمين، وبين كل جامتين زخرفة مكونة من رأسي طائرين
فوق الجديلة التي تصل الجامتين، ورأسي طائرين تحتها، وفوق هذا الشريط وأسفله شريط
آخر من الكتابة الكوفية الزخرفية التي لا تقرأ، وأكبر الظن أن هذه القطعة من صناعة
القرن الخامس الهجري (الحادي عشر). وأهم ما يلفت النظر فيها الغرض الزخرفي الذي
استخدمت فيه الكتابة، والمسحة الهندسية التي تسود رسوم الحيوانات التقليدية
المهذبة، فضلًا عن تنوع الألوان وتوافقها.
١٤٧
وفي المتاحف المتروبوليتان بنيويورك بعض الأقمشة الفاطمية أيضًا: ففيه قطعة باسم
العزيز بالله؛ أي: من أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وفيه كذلك قطعة
تمثل الطراز الفاطمي خير تمثيل، وترجع إلى منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر
الميلادي)، وزخارفها مكونة من أشرطة ذات مناطق عديدة تتداخل في بعضها فتكون مناطق
على شكل معينات أو مستطيلات أو مثلثات تشتمل على رسوم طيور أو غزلان.
١٤٨
ولكن متحف بناكي بأثينا يمتاز في هذا الميدان بقطعة كبيرة من النسيج الحريري
عليها رسوم أشخاص جالسين.
١٤٩
كما أن متحف الآثار في بروكسل فيه قطعة عليها رسم طيور متقابلة، ترى على أجنحتها
عبارات البركة لصاحبه، ويفصل كل زوجين متقابلين منها قرص مكون من دوائر متحدة
المركز، وتحت القرص زخرفة من فروع نباتية تقليدية مهذبة.
١٥٠ على أن هذه القطعة لا يمكن الجزم بأنها من صناعة مصر في العصر الفاطمي؛
بل إننا نرجح أنها من صناعة صقلية على الرغم من أن الطيور المرسومة عليها تشبه
كثيرًا تلك التي نراها مرسومة بالبريق المعدني على بعض التحف الخزفية من العصر
الفاطمي، ونحن إن كنا نكاد نجزم بأن هذه القطعة ليست من مصانع الطراز الفاطمي في
مصر؛ فلأن النماذج التي وصلتنا حتى اليوم ليست بها أي رسوم لحيوانات على هذا النحو؛
فضلًا عن أن مستحها الفنية العامة تختلف كثيرًا عن مسحة القطعة التي نحن بصددها
الآن.
وفي المتاحف الملكية للفنون الزخرفية ببروكسل قطع فاطمية، تمتاز إحداها بزخرفتها
التي تتكون من أشرطة ليس فيها جامات أو حيوانات أو طيور.
١٥١
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى مجموعة القطع التي تنسب إلى الفيوم في القرون الثالث
والرابع والخامس الهجري (التاسع والعاشر والحادي عشر). والمعروف أن إقليم الفيوم
اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي ببعض منتجاته التي كانت بعيدة في أغلب الأحيان عن
الرقة ودقة الصناعة وجمال الذوق، وعرف صنَّاعه بأنهم كانوا ينسجون في الأقمشة أشرطة
ليس في زخارفها شيء إسلامي الطراز، اللهم إلا الكتابة بخط كوفي غريب الشكل تتصاعد
به سيقان الحروف على شكل مدرج؛ ولا غرو فهم أقرب الصناع إلى الأساليب الفنية
القبطية القديمة.
١٥٢
والواقع أن هذا النوع من الأقمشة مصنوع من الصوف أو من الكتان والصوف، وتبدو في
صناعته وزخارفه مسحة ريفية أولية غريبة، هي عين المسحة التي تبدو على مجموعة الفخار
المطلي ذي الأرضية البيضاء والزخارف السوداء أو السمراء، المكونة من أشرطة ونقط
ودوائر وكتابات وطيور.
١٥٣
وقد قر الرأي على نسبة هذه المجموعة إلى الفيوم نظرًا لورود اسم هذا الإقليم في
كتابة على قطعة من هذا الطراز محفوظة في دار الآثار العربية (رقم السجل ٩٠٦١)،
ومساحة هذه التحفة ٧٣ × ٢٧ سنتيمترًا، وفيها شريط أحمر به جمال بيضاء وخضراء مرسومة
بطريقة تخطيطية بسيطة، دون مراعاة للنسب أو محاكاة للطبيعة، وتحت هذه الرسوم كتابة
إما بيضاء أو سمراء وحروفها غريبة، ولها ذاتية خاصة بما في سيقانها من زخارف مدرجة
الشكل، وبما بين هذه السيقان من شتى الزخارف الصغيرة باللون الأصفر أو الأخضر. ونص
هذه الكتابة: ونعمة كاملة لصاحبه مما عمل في طراز الخاصة بمطمور من كورة الفيوم»،
واسم هذه البلدة غير معروف لنا؛ ولكن الكتابة خطيرة الشأن بما تدعونا إليه من نسبة
هذه المجموعة من الأقمشة إلى إقليم الفيوم.
١٥٤
وفي دار الآثار العربية قطعة أخرى من هذه المجموعة (رقم السجل ٩٠٥٠)، وهي تحفة
كبيرة الحجم إلى حد ما؛ إذ إنها ملاءة تكاد تكون تامة، وأرضيتها سوداء، وطولها ٢٦٢،
وعرضها ١٣٠ سنتيمترًا، ولا تزال في طرفها بضع شرابات حمراء وزرقاء، وفي أعلى هذه
القطعة شريط من رسوم حيوانات تتجه يمينًا، وتفصل كل منها عن الذي يليه زخرفة هندسية
مكونة من مثلثين متساويي الساقين يلتقيان عند رأسهما، وتحت هذا الشريط مستطيل كبير
يحيط به إطار من كتابة كوفية، قوامها كلمة أو عبارة لم يمكن قراءتها. والمستطيل
مقسم إلى ست مناطق: الأولى من جهة اليمين بها رسم أسدين متواجهين، والأولى من
اليسار بها رسم عنزتين متواجهتين، ترضع كل منهما صغيرًا لها، وفي منطقتين زخارف
هندسية، وفي الاثنتين الباقيتين زخارف هندسية بينها رسوم حيوانات.
وهذه القطعة أصدق نموذج لمجموعة الفيوم بحيواناتها الغريبة الرسم وزخارفها
الكتابية والهندسية المدرجة، وألوانها الزاهية المتفارقة.
١٥٥
ولا يتسع المقام هنا لوصف ما في دار الآثار من قطع نسيج تنسب إلى هذه المجموعة،
وتشتمل على أشرطة متعددة الألوان بها جامات فيها طيور وحيوانات ووريدات وحروف كوفية
مدرجة، كما تزين بعضها رسوم آدمية مختلفة (كالقطعة رقم السجل ٩٥٥٢).
١٥٦ أما القطع الموجودة في المتاحف الأجنبية من هذه المجموعة، فأهمها واحدة
في متحف المتروبوليتان بنيويورك،
١٥٧ وقد أهدى الدكتور لام
Lamm إلى دار
الآثار قطعة (رقم السجل ١٣١٦٤) من مجموعة الفيوم وهي من صوف أخضر، ومنسوج فيها شريط
به طيور بين زخارف نباتية وهندسية، وعليها كتابة تشتمل على اسم طراز لم يمكن
قراءته، وعليها تاريخ بالحروف ربما كان سنة (٣٧٥ﻫ/٩٨٥-٩٨٦م) أو سنة
(٣٩٥ﻫ/١٠٠٤-١٠٠٥م).
ولن يفوتنا أن نشير إلى النظرية التي يحاول الدكتور لام إثباتها، فهو يذكر أن أبا
منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي المتوفى سنة (٤٢٩ﻫ/١٠٣٨م) كتب في
مؤلفه «لطائف المعارف» أن «قد علم القوم أن القطن لخراسان وأن الكتان لمصر.»
١٥٨ ويرى الدكتور لام أن هذا يتفق وما أسفر عليه فحصه بالمنظار المكبر
عددًا كبيرًا من قطع النسيج ذات الكتابات التي يتراوح تاريخها بين القرن التاسع
والقرن الحادي عشر الميلاديين، والتي كشف أغلبها في حفائر دار الآثار العربية من
جهة البساتين شرقي القاهرة؛ فإن هذا الفحص جعله يذهب إلى أن أغلب المنسوجات التي
استوردت إلى مصر في المدة المذكورة كانت من مواد غير الكتان، والقطع التي قام
بفحصها كلها ظهر أنها من القطن، وبعضها له لحمة من الحرير، وبينها عدد قليل من
الحرير غير المصبوغ.
ومهما يكن من شيء فإنها كلها من صناعة إيران أو العراق أو اليمن، كما يظهر من
الأسماء التي ترى عليها: مرو أو نيسابور أو مدينة السلام (بغداد) أو صنعا. ومن
ناحية أخرى فإن لام
Lamm يقرر أن جميع القطع التي
فحصها والتي تدل كتاباتها على أنها صنعت في طراز بالقطر المصري أو تشبه القطع التي
ثبت أنها صنعت في مصر، نقول: إنه يقرر أن هذه القطع جميعها مصنوعة من الكتان؛
١٥٩ ولكنه يذكر في الوقت نفسه أنه لا يستطيع أن يؤكد أن القطن لم يكن
معروفًا في مصر قبل العصر المذكور
١٦٠ أو في القرون التي سبقته؛ فإن المصادر التاريخية تذكر أن قدماء
المصريين كانوا يعرفون القطن،
١٦١ وأن توران شاه حين أرسله أخوه صلاح الدين سنة (٥٧٣ / ١١٧٣م) لإخضاع
الثورات في إقليم قوص وأسوان أفلح في الاستيلاء على أبريم في بلاد النوبة، ووجد
فيها كمية من القطن حملها إلى قوص وباعها بثمن كبير.
١٦٢ بينما نعرف أن الكتان كان من المحاصيل الرئيسية في العصور الوسطى بمصر
وكازرون (من أعمال إقليم فارس بإيران)، وتذكر لنا بعض النصوص التي ترجع إلى القرن
الرابع الهجري (العاشر) أن كازرون كانت تصدر المنسوجات الكتانية، وكانت تعرف باسم
دمياط فارس.
١٦٣
وأما أشهر القطع التي تنسب إلى طراز بلرمو بصقلية، فهي لا ريب عباءة التتويج التي
نسجت في عاصمة صقلية سنة (٥٢٨ﻫ/١١٣٣م) أي: في حكم روجر الثاني ملك صقلية، وهي
أرجوانية اللون على شكل غفارة (حرملة) كنسية، وفي وسطها رسم نخلة تقسمها قسمين، كل
منهما يمثل ربع دائرة، منسوج فيه بخطوط الذهب واللآلئ رسم أسد ينقض على جمل ليفترسه،
١٦٤ وفي العباءة كنار منسوج فيه بالخيوط الذهبية الكتابة الآتي نصها:
مما عمل للخزانة الملكية المعمورة بالسعد والإجلال والمجد والكمال والطول
والإفضال والقبول والإقبال والسماحة والجلال والفخر والجمال وبلوغ الأماني
والآمال وطيب الأيام والليال بلا زوال ولا انتقال بالعز والدعاية والحفظ
والحماية والسعد والسلامة والنصر والكفاية بمدينة صقلية سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
١٦٥
ولا حجة بنا إلى أن نقول: إن هذه العباءة تحير الناظرين بعظمة زخرفتها وجلال
مظهرها وجمال نسجها. ولا غرو أن وقع عليها الاختيار لزيادة أبهة التتويج منذ قدم
بها هنري السادس إلى ألمانيا بعد تتويجه في بلرمو.
ومهما يكن من شيء فإن نسبة كثير من المنسوجات إلى صقلية أمر لا يزال موضعًا
للجدل، ولا سيما فيما يراد إرجاعه إلى العصر الإسلامي البحت؛ إذ يذكر البعض ما جاء
في بعض المصادر التاريخية من أن أميرًا من صقلية تحدث عن أقمشة استولى عليها
الصقليون في سفينة سنة (٩٧٥) ميلادية، فقال: إنها أحسن نسجًا من الأقمشة الصقلية.
كما أن أميرًا مسلمًا في بلرمو أهدى في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري
(الحادي عشر) إلى أحد الأمراء المسيحيين أقمشة إسبانية وليست صقلية. وقد يستنبط من
الروايتين أن الأقمشة الصقلية لم تكن بلغت حتى أواخر القرن الخامس (الحادي عشر) ما
بلغته بعد ذلك من الجمال والإتقان.
١٦٦
ومن المنسوجات الشهيرة التي ساد الجدل بشأنها حينًا من الزمن قطعة حريرية محفوظة
في كنيسة سانت أتيين دي
شينون
Saint-Etienne de Chinon كان يظن في البداية أنها ساسانية من القرن الخامس الميلادي،
ثم ظهر أن فيها كتابة كوفية؛ فذهب البعض إلى أنها فاطمية من صناعة مصر في القرن
الخامس الهجري (الحادي عشر)؛ ولكننا نرجح أنها من مناسج صقلية. وزخرفة هذه القطعة
تتكون من صفوف أفقية من نمور متقابلة ومقيدة بسلاسل تربطها، وهي بيضاء وصفراء
وخضراء على أرضية زرقاء قاتمة، ويفصل كل نمرين خط ينتهي في أعلاه بزخرفة كآنية
الزهور، ويتدلى على جانبيه في أسفله زهرتان، وهناك رسم طائر يتأهب لأن يحط على ظهر
كل نمر من النمور المرسومة، ورسم حيوان صغير بين أرجل كل واحد منها.
١٦٧ وفي رأينا أن المسحة الفنية العامة على هذه القطعة لا تدع مجالًا للشك
في أنها من منتجات فن تأثر بالأساليب الفاطمية كل التأثير، كالفن في جزيرة
صقلية.
وفي كاتدرائية راتسبون Ratisbonne قطعتان من
الحرير، يقال: إنهما هدية من الإمبراطور هنري السادس (١١٦٥–١١٩٧م) الذي ورث أملاك
النورمنديين الإيطالية بزواجه الأميرة كونستانس؛ فتوج ملكًا على صقلية سنة (١١٩٤م)؛
وعلى إحدى هاتين القطعتين كتابة يفهم منها أنها نسجت لوليم الثاني ملك صقلية
(١١٦٩–١١٨٩م)، على يد صانع اسمه عبد العزيز، وعليها كتابة أخرى فيها أدعية وتمنيات
طيبة. وهذه القطعة نموذج جيد يمثل ما تميزت به الأقمشة الصقلية من زخارف مكونة من
حيوانات مفترسة وطيور ووريدات ودوائر وجامات بها رسوم هندسية على نحو لا نرى مثيلًا
له إلا في صناعة النسج عند المسلمين في الأندلس، حتى إنه ليصعب في كثير من الأحيان
التمييز بين المنسوجات الأثرية المصنوعة في هذين الإقليمين.
ومن النماذج المعروفة للمنسوجات الصقلية قطعة من ثوب حريري لونه وردي وذهبي، وكان
قد دفن به الإمبراطور هنري السادس في كاتدرائية بلرمو، وظل مدفونًا فيها من سنة
(١١٩٧) حتى سنة (١٧٨٤). وتتكون زخرفة هذه القطعة من غزلان وببغاوات متواجهة، وهي
محفوظة الآن بالمتحف البريطاني.
١٦٨
ومهما يكن من شيء فإن في بعض الكنائس والمتاحف نماذج من منسوجات ثمينة، وفي
زخارفها ما قد يجعلنا نذهب إلى أنها من صناعة صقلية بتأثير الأساليب الفنية
الفاطمية؛ ولكن آراء مؤرخي الفن غير واحدة في هذا الميدان؛ فإن بعضهم ينسبها إلى
مصانع الأندلس، كما يظن آخرون أنها من نسيج بعض المدن الإيطالية. ولا يتسع المجال
هنا للاستطراد في دراستها؛ فضلًا عن أن هذا — في مذهبنا — غير مجد؛ لأن الآراء
المختلفة غير مدعومة بحجج قوية، بقدر ما تقوم على شعور وذوق واتجاه فكري، كما نرى
في موقف الباحثين في كثير من أسرار تاريخ الفن ومعمياته.
وقد حصلت دار الآثار العربية على قطعة جميلة من نسيج الحرير والكتان، عثر عليها
الأستاذ فييت عند أحد تجار العاديات في القاهرة، وأرضيتها بيضاء مائلة إلى
الاصفرار، وطولها ٦٢ وعرضها ٣٢ سنتيمترًا، وفي وسطها عصابة من خمسة أشرطة عرضها نحو
عشرة سنتيمترات.
والشريط الأوسط في هذه العصابة ذو أرضية حمراء، مكون من مثمنات ذات أرضية صفراء،
وداخل كل منها نجمة ذات ثمانية أركان وأرضيتها حمراء، وفي هذه النجمة نجوم أخرى
متشابكة.
ويعلو هذا الشريط الأوسط شريط ضيق، فآخر مثله وفيه معينات وأشكال هندسية بألوان
متعددة، فثالث أزرق، فرابع أعرض وذو أرضية بيضاء منسوج فيها باللون الأحمر أزواج من
الطيور المتقابلة، يفصلها خط أزرق يتفرع في أعلاه إلى فرعين، وينتهي في أسفله بشكل
معين صغير، كما ينتهي ذيل كل طائر بزخرفة على شكل علامة الاستفهام، وفوق هذا الشريط
شريط أصفر، فآخر في طرفيه حبات، وفي وسطه زخرفة حمراء هندسية، ترى فيها حيوانات
متقابلة ومرسومة رسمًا تقليديًّا مهذبًا.
وأما أسفل الشريط الأوسط ففيه أشرطة كالتي في أعلاه.
١٦٩
وألوان هذه القطعة حية ورائعة ولا سيما الأحمر والأخضر، ولا شك في أن أسلوب
زخرفتها متأثر بالزخارف الفاطمية؛ ولكنا لا نستطيع أن نعين تمامًا الإقليم الذي
نسجت فيه، فهي في الواقع أول مثال نراه من نوعها ولا يمكننا أن نلحقها دون تردد
بمجموعة من المجموعات المعروفة؛ إذ إنها تشبه كلًّا منها في شيء وتختلف في أشياء،
على أننا نميل رغم ذلك كله إلى نسبتها إلى مصانع صقلية في القرن السادس الهجري
(الثاني عشر) دون أن نستطيع أن ننفي إمكان نسبتها إلى الأندلس أو إلى مصر نفسها في
العصر الأيوبي.
١٧٠ وليست صعوبة التحديد أمرًا غريبًا إذا تذكرنا أن زخرفة الأقمشة
بالأشرطة والعصابات أمر ذاع في الشرق الإسلامي كله من الهند إلى الأندلس، كما أن
تكرار الموضوعات الزخرفية مع مراعاة التناسب والتعادل لم يكن قاصرًا على إقليم دون
آخر.
(٤) الخزف
الخزف من أقدم المصنوعات التي عرفها الإنسان، وهو من أهم الأشياء التي يعثر عليها
المنقبون عن الآثار، والتي يستنبطون منها درجة المدنية ونوع الحضارة التي بلغتها
الشعوب المختلفة في شتى العصور.
١٧١
والخزف في اللغة: ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخارًا. ولا حاجة بنا إلى أن
نذكر هنا تطور صناعته، وكيف كان الإنسان يصنعه في أول الأمر عاريًا عن الزينة، أو
مزخرفًا ببعض الرسوم الهندسية أو رسوم الحيوانات والطيور بطريقة أولية وتقليدية
تشعر بأن الإنسان الذي كان يعيش وسط الطبيعة لم يكن يحسن محاكاتها بعد، ثم اهتدى
إلى مواد زجاجية يصنع بها طلاء ليسد مسام الفخار، ويكسبه نظافة وجمالًا، ثم عمد إلى
تزيينه بالرسوم المختلفة قبل أن يكسوه بالمينا، وهي المادة الزجاجية التي تجمد في
الفرن فتكسب الخزف صقلًا ولمعانًا.
وقد كانت صناعة الخزف زاهرة في أكثر البلاد التي أخضعها الإسلام لسلطانه،
١٧٢ وتطورت هذه الصناعة في سبيل التقدم والرقي بعد أن ساد الإسلام في الشرق
الأدنى وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط. ولعل كثرة العناصر التي قامت عليها صناعة
الخزف في الإسلام سبب ما نراه في دراسته من صعوبة، وما يكتنف بعض مسائلها من إبهام
وغموض.
وحسبنا أن نشير إلى مسألة الخزف ذي البريق
المعدني
Lustre واختلاف الآراء في نشأته؛ فمن قائل: بأنه نشأ في مصر ومدل
بحججه في هذا الميدان، إلى آخر يفند هذه الحجج ويقول بأن الفخاريين العراقيين هم
الذين كشفوا سر هذه الصناعة، إلى ثالث يرى في إيران مهدها وموطنها. وقد عرضنا لهذا
الموضوع في كتابنا الفن الإسلامي في مصر؛
١٧٣ ولاحظنا أننا لا نملك أي دليل على وجود أي خزف ذي بريق معدني في
الفسطاط قبل القرن الثالث الهجري، ولا سيما قبل العصر الطولوني، وقلنا: إننا نميل
إلى أن ننسب إلى العراق نشأة الخزف المذكور، وإننا نظن أن صناعته نقلت إلى مصر على
يد أحمد بن طولون.
ومهما يكن من شيء فإن أنواع الخزف التي سادت صناعتها في العصر الفاطمي لم تكن
وليدة هذا العصر؛ بل مهدت لقيامها القرون السابقة، وكان قدوم أحمد بن طولون إلى
وادي النيل باعثًا على ازدهار الفنون الإسلامية في مصر، وتأثرها بالأساليب الفنية
العراقية فنمت صناعة الخزف ذي البريق المعدني،
١٧٤ حتى جاء العصر الفاطمي فكانت راسخة القدم، وأتيح للخزفيين الفاطميين أن
ينتجوا من الأواني ما ذاعت شهرته، وأعجب به المعاصرون — وعلى رأسهم ناصر خسرو —
إعجابنا بما وصلنا منه. وإن يكن مما يؤسف له أن النماذج السليمة التي نعرفها منه
نادرة جدًّا؛ فإن جل ما نعرفه منه وجد في أطلال مدينة الفسطاط التي كانت عامرة في
عصر الفاطميين، قبل أن يأمر الوزير شاور سنة (٥٦٤ﻫ/١١٦٨م) بحرقها، حتى لا تقع في يد
الصليبيين حين تدخلوا فيما كان بين وزراء الفواطم من نزاع ومنافسات.
١٧٥ والمعروف أن سكان القاهرة وسكان الأجزاء التي عمرت من الفسطاط بعد هذا
الحريق كانوا يلقون نفاية منازلهم فوق الأطلال القريبة منهم.
١٧٦
وعلى كل حال فإننا نرى أن فخر صناعة الفخار في العصر الفاطمي هو ذلك الخزف ذو
البريق المعدني الذي ذكرنا أنه كان يرد من العراق إلى مصر منذ قيام الدولة
الطولونية، والذي نعرف أن الفخاريين المصريين علموا على تقليده كما يظهر من قطع ذات
بريق معدني عثر عليها في أطلال الفسطاط، وأكثرها ذو لون واحد، وتمتاز بطبيعتها التي
تميل إلى الاحمرار، وبرقة الطلاء الذي يغطي مسطحها الخارجي، وتشبه زخارفها ما نعرفه
في الخزف المصنوع في سامرا.
وقد أشار ناصر خسرو إلى صناعة الخزف في العصر الفاطمي فقال: إن المصريين كانوا
يصنعون أنواع الخزف المختلفة، وأن الخزف المصري كان رقيقًا وشفافًا، حتى لقد كان
ميسورًا أن ترى من باطن الإناء الخزفي اليد الموضوعة خلفه. وكانت تصنع بمصر
الفناجين والقدور والبراني والصحون والمواعين الأخرى، وتزين بألوان تشبه لون القماش
المسمى بوقلمون وهي ألوان تختلف باختلاف أوضاع الآنية.
١٧٧ وقد كان قول ناصر خسرو في هذا الصدد بين الحجج التي أقامها بتلر
Butler؛ ليثبت نظريته في أن البريق المعدني
Lustre كان معروفًا في وادي النيل منذ
العصر الروماني ولم يكن مهده العراق أو إيران.
١٧٨
ومما يدل على ازدهار صناعة الفخار عامة في العصر الفاطمي ما كتبه هذا الرحالة
الفارسي عن استخدام التجار والبقالين الأواني الخزفية، فيما يستخدم فيه التجار
الورق في العصر الحاضر؛ فقد كانوا يضعون فيها ما يبيعونه، ويأخذها المشترون
بالمجان.
وعلى الرغم من ازدهار تلك الصناعة، فإن من الصعب أن نجزم بأن نماذج الخزف ذي
البريق المعدني التي نجدها في أطلال الفسطاط، أصلها كلها من صناعة الفخاريين
المصريين؛ إذ قد يكون من المحتمل أن بعضها صنع في سورية، أو استورد من العراق. وعلى
كل حال فإننا نميز طينة فخار الفسطاط بأنها ناعمة وهشة وسميكة ومائلة إلى الاحمرار،
وفضلًا عن ذلك فإننا نرى أن الخزف ذي البريق المعدني في سورية أحدث عهدًا منه في
مصر، ونعتقد أن الفنانين المصريين هم الذين أدخلوا صناعته في سورية، وأن هذه
الصناعة ازدهرت فيها كما ازدهرت في إسبانيا، بينما كان حريق الفسطاط سنة
(٥٦٤ﻫ/١٠٦٨) وسقوط الدولة الفاطمية إيذانًا باندثار هذه الصناعة في وادي النيل،
ولعل أخلاق صلاح الدين وبعده عن الترف واشتغاله بالحروب الصليبية، نقول لعل ذلك كله
يفسر بعض التفسير ما نذكره من اندثار صناعة الخزف ذي البريق المعدني بعد سقوط
الفواطم.
ومهما يكن من شيء فإن عصر الفاطميين في مصر شاهد تطور صناعة الخزف ذي البريق
المعدني تطورًا يكاد يؤدي بها إلى غاية في الجمال والإتقان، ولولا ما نعرفه من وجوه
الآنية والفضة والذهب عند الفاطميين لقلنا إنهم كانوا يكتفون بتلك الآنية المذهبة
ويتجنبون استخدام الآنية الفضية والذهبية التي كانت مكروهة في الإسلام كما كان
الأمر في بعض أنحاء العالم الإسلامي.
ومهما يكن من شيء فقد كانت الأواني الفاطمية تدهن بطلاء أبيض أو أبيض مائل إلى
الزرقة أو الاخضرار، وتعلو هذا الدهان الرسوم ذات البريق المعدني الذي كان في
الأغلب ذهبي اللون، وكان أحيانًا أحمر أو أسمر، أما الزخارف فكانت من الحيوانات
والطيور والفروع النباتية.
وعلى الرغم من أن المعروف في الفنون الشرقية أن الفنانين لم تنم شخصياتهم ولم
يفطنوا إلى حقهم في الافتخار بما تصنع أيديهم، وذلك بالتوقيع على منتجاتهم،
١٧٩ نقول: على الرغم من ذلك فقد وصل إلينا أسماء بعض الفنانين ممن شذوا عن
هذه القاعدة، وكان ذلك على الخصوص في صناعة التصوير بإيران، وفي صناعة بعض أنواع
الخزف في عصر المماليك.
١٨٠ وكان لعصر الفاطميين نصيب في هذا الميدان؛ فقد وصلت إلينا إمضاءات على
قطع من الخزف الفاطمي، يظهر منها أسماء بعض أعلام هذه الصناعة في ذلك الوقت، مثل:
مسلم، وسعد، وطبيب علي، وإبراهيم المصري، وساجي، وأبو الفرج، وابن نظيف، والدهان،
ويوسف، ولطفي، والحسين، ممن أنقذوا صناعة الخزف المصري من الركود الذي حل بها في
عصر الإخشيديين، حين قضي على دقة الصنعة وجمال الزخرفة المعروفين عن الخزف
الطولوني، حل محلهما كبر في حجم الأواني، وفي نسبة زخرفتها، التي كان أكثرها من
الفروع النباتية وأوراق الشجر المدببة، والتي لم يكن بينها في أكثر الأحيان التناسق
والتناسب اللذان نراهما في الخزف الطولوني أو في الخزف الفاطمي.
وعلى كل حال فإننا لا نستطيع أن نعرف في شيء من الثقة متى عاش أولئك الخزفيون
الفاطميون، ومن الذي كان منهم أقدم من غيره. وقد قام بين فئة من المشتغلين بالآثار
بعض الجدل بهذا الشأن، دون أن يستطيع أحد أن يثبت ببراهين قاطعة ما يراه
فيه.
ومهما يكن من شيء فإن أسماء «طبيب علي» و«ساجي» و«أبو الفرج» و«ابن نظيف»
و«الدهان» و«يوسف» و«الحسين» توجد على قطع خزفية محفوظة بدار الآثار العربية، وأكبر
الظن أنها ترجع إلى أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس الهجري (العاشر
والحادي عشر الميلادي). وقد صورت هذه القطع في كتاب الخزف الإسلامي في مصر لعلي بك
بهجت وفيلكس ماسول (اللوحتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين).
أما ابن نظيف فأكبر الظن أنه كان تلميذًا لسعد الذي سوف نشرح مميزات مدرسته؛ أو
هو كان على الأقل ممن قلدوه ونسجوا على منواله، بينما الخزفيون الآخرون كانوا لا
يزالون قريبي العهد بعصر الإخشيديين والطولونيين، كما يبدو من زخرفة القطع التي
عليها إمضاءاتهم.
١٨١
بينما تظهر إمضاء «إبراهيم» على سلطانية من خزف ذي بريق معدني بمجموعة حضرة صاحب
السعادة الدكتور علي باشا إبراهيم،
١٨٢ وقد كتب الأستاذ فييت عن هذه القطعة في الجزء الثالث من مجلة
الفنون الإسلامية
Ars Islamica،
١٨٣ وذكر أن لونها أصفر زيتوني، وأن الزخرفة الرئيسية فيها رسم فيل؛ ولا
غرو فقد كانت الرسوم الآدمية ورسوم الحيوان العنصر الأساسي في زخارف الخزف الفاطمي،
بينما كانت الفروع النباتية والأوراق عنصرًا ثانويًّا يصحب الموضوع الرئيسي الذي
يسوده بكبر حجمه وظهور أهميته. وعلى كل حال فإن الفيل يكاد يغطي السلطانية كلها،
وهو مرسوم بدقة كبيرة، وإن كان ذيله أطول مما يجب أن يكون، كما أن عينه مرسومة على
النحو الذي جرى عليه الفنانون في ذلك العصر، وهو حجز دائرة في أرضية الرسم، ووضع
نقطة سوداء في هذه الدائرة، وحافة السلطانية عليها زخرفة تشبه «الركامة»، وقوامها
شريط من قطاعات دوائر متصلة. أما السطح الخارجي فعليه زخرفة كانت منتشرة كل
الانتشار في تزيين السطوح الخارجية للأواني منذ العصر الطولوني إلى عصر الفواطم،
ونقصد بذلك تغطية أرضية السطح الخارجي بخطوط صغيرة منثورة فوقه دون عناية أو مراعاة
دقة، ونجد بين هذه الخطوط المبذورة أربع دوائر كبيرة في كل منها دائرة أصغر منها
حجمًا، وتتحد معها في المركز، وترى فيها نفس الزخرفة المكونة من الخطوط المنثورة
سالفة الذكر. وعلى كل حال فإننا نرى العبارة الآتية في النصف الخارجي لإحدى الدوائر
الكبيرة: «عمل إبراهيم بمصر.»
كما أن على قاع السلطانية من الخارج كلمة «صح»
١٨٤ التي ترى على بعض قطع خزفية أخرى، والتي فسرها علي بهجت بك، والمسيو
فيلكس ماسول بأن الصانع يعلن فيها فخره بهذه القطعة التي بلغت الإتقان وصحت
صناعتها، بينما يرى الأستاذ فييت في هذه الكلمة إشعارًا برؤية القطعة وإذنًا
بتسويتها؛ أي: إحراقها،
١٨٥ ولسنا ندري على أي التفسيرين نوافق، فإن رأي الأستاذ فييت يقوم ضده أن
كثيرًا من القطع التي نعثر عليها ليست عليها هذه الشارة أو «الإذن» بإحراقها، بينما
رأي بهجت بك والمسيو ماسول يغلب عليه الخيال والحماس.
وعلى كل حال فإن هذه التحفة الثمينة تشبه في زخارفها الخزف الطولوني؛ ولكن أكبر
الظن أنها من صناعة أواخر القرن الرابع الهجري (أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن
الحادي عشر).
وفي دار الآثار العربية بعض قطع من خزف ذي بريق ذهبي (رقم السجل ١٢٩٩٧)، وقد كتب
عنها الأستاذ فييت في المقال السالف الذكر، ولفت النظر إلى أهميتها نظرًا لإتقان
زخارفها؛ ولأنها تحمل اسم الخليفة الحاكم بأمر الله.
١٨٦ وغير خافٍ أن قطع الخزف المعروفة ليست باسم أحد من الخلفاء أو السلاطين
١٨٧ اللهم إلا قطعتين؛ الأولى: قاع باسم أمير أيوبي من حمص توفي سنة
(٦٣٨ﻫ/١٢٤٠م). والثانية: صحن مؤرخ في جمادى الثانية سنة (٦٠٧ﻫ/١٢١٠م)؛
١٨٨ وذلك على عكس تحف البرنز والمشكاوات المموَّهة بالمينا، فإن كثيرًا
منها بأسماء الخلفاء والأمراء والسلاطين.
وقد كانت هذه القطع الخزفية أجزاء من صحن كبير قطره ٥٢، وارتفاعه ١٣ سنتيمترًا،
وقوام زخرفته مراوح نخيلية (بالمت)، تلتقي أطرافها في قاع الصحن، وتتصل بها فروع
نباتية، ووريقات غاية في الجمال والإتقان، وتتبع الطراز الزخرفي الذي نقله الطوليون
إلى مصر. أما حافة الصحن فكان عليها شريط دائر من كتابة كوفية بسيطة وجميلة بحروف
ذهبية اللون على أرضية بيضاء، ونص الباقي منها:
ولا ريب في أن هذا الصحن بجمال زخرفته، ودقة صنعته، وروعة الحروف الكوفية فيه،
كان حقًّا تحفة ملكية بديعة.
١٨٩
ولننتقل الآن إلى مدرستي سعد ومسلم، فقد كانا على رأس هذه الصناعة في عصرهما،
واشتغل بإشرافهما وإرشادهما، كما نسج على منوالها عدد كبير من الخزفيين، فكان لكل
منهما مدرسة في هذا الفن، لها ذاتيتها، ولها ميزات سنحاول استقصاءها مما وصل إلينا
من القطع، دون أن نذهب إلى أن آراءنا تعتبر فصل القول في هذا الشأن.
على أننا إذا جاز لنا أن نستنبط شيئًا من التناسق والانسجام والرقة والرشاقة التي
نراها في طراز سعد، أكثر مما نراها في طراز مسلم، ومن الشبه الكبير الذي نجده بين
منتجات مسلم وبين منتجات العصر الطولوني، ومن المسحة الأولية التي تسودها القوة
والحرية في الخزف الذي صنعه مسلم، نقول: إذا جاز لنا أن نستنبط شيئًا من هذا كله،
فربما استطعنا — دون قرائن أو أدلة قوية — أن نرجح أن مسلمًا عاش في أوائل العصر
الفاطمي، وأن سعدًا عاش بعده بقليل، أو لعله أدرك حكم المستنصر الطويل؛ ولكن الواقع
أننا لا نستطيع أن نجزم بقول في هذا الشأن، ولا سيما إذا لاحظنا أن اسمي هذين
الفنانين ليسا مكتوبين على كل القطع التي خرجت من مصنعيهما؛ فإن هناك تحفًا كثيرة
ليس عليها اسم صانع ما، ولكنها تنطق بنوع بريقها الذهبي، وأسلوب زخرفتها، وطريقة
صنعتها بأنها من صناعة سعد أو مسلم، أو من صناعة خزفيين تربطهم وأحد هذين الصانعين
رابطة الأستاذ وتلميذه أو الناسج على منواله، ومن ثم فإن الأفضل أن يكون حديثنا عن
طراز مسلم أو مدرسته، وعن طراز سعد أو مدرسته وليس عنهما بالذات، فأكبر الظن أنهما
كانا علمين اهتدي بهما في هذه الصناعة، وكان لكل منهما في عصره السلطان الأعظم على
أهلها.
طراز مسلم
نرى الأواني في هذا الطراز مدهونة كلها بالطلاء حتى تكاد تختفي طينتها، أما
حرف قاعدتها فمنخفض جدًّا، وتكسوه المينا فتخفي عجينته.
والبريق المعدني الذي نجده في هذا الطراز ذو لون واحد في أغلب الأحيان، وهو
اللون الذهبي الناشئ عن مزيج من الفضة والقصدير؛ على أننا نشاهد على بعض القطع
بريقًا أحمر نحاسي اللون.
وقد استخدم مسلم وتلاميذه الزخارف الحيوانية والآدمية والنباتية، فضلًا عن
الحروف الكوفية. والحيوانات في زخارف هذا الطراز يبدو عليها شيء من المسحة
الأولية والقوة والحرية في الرسم، يذكرنا بالمنتجات الخزفية في القرن الثالث
الهجري (التاسع الميلادي).
على أن أفضل الزخارف التي كان يميل إليها أصحاب هذا الطراز إنما هي تلك التي
تتكون من حيوان أو طائر، له الصدارة في الموضوع الزخرفي، وتحيط به أو تتفرع منه
خطوط متداخلة ومتشابكة، وفروع نباتية تزين الأرضية، وتزيد الموضوع الزخرفي
الأساسي رونقًا وبهاء،
١٩٠ وقد وصل الخزفيون في هذه المدرسة إلى دقة عظيمة في رسم الحيوان
فأسبغوا عليه ثوبًا من الحياة وجعلوه صورة صادقة لطبيعته،
١٩١ على الرغم من بعض الأساليب التقليدية المهذبة التي لم ينج منها
الفنانون المسلمون في أغلب الأحيان،
١٩٢ والصور الآدمية التي نراها على بعض منتجات مسلم وأتباعه فيها قوة
تعبير تشهد بتفوقهم في هذا الميدان.
١٩٣
وهناك بعض موضوعات زخرفية تشعر بتأثير فارس في رسوم هذه المدرسة، وهذا واضح
في قطعة بدار الآثار العربية،
١٩٤ عليها إمضاء مسلم وفيها رسم طائرين متواجهين وبينهما رسم شجرة الحياة.
١٩٥ وقد لوحظ كذلك الشبه بين بعض رسوم الحيوانات على خزف مسلم ومدرسته،
وبين رسوم الحيوانات على قطع الخشب الفاطمي التي وجدت في مارستان قلاون، والتي
يرجع تاريخها إلى بداية القرن الخامس الهجري (الحادي عشر)، كما سنرى عند الكلام
عن صناعة النقش في الخشب عند الفاطميين.
١٩٦
وقد وصلت إلينا قطع خزفية عديدة عليها اسم مسلم، وأكثر ما نرى هذا الاسم إنما
على قاعدة الأواني، وبخط كوفي بسيط؛ ولكنا نراه أحيانًا مكتوبًا بطريقة زخرفية
بالقرب من حافة الإناء.
وقد ذهب المرحوم علي بك بهجت والمسيو ماسول إلى أن مسلمًا لم يكتب اسمه على
كل القطع التي أنتجها مصنعه، مكتفيًا بعلامة (ماركة) كانت معروفة لكل من يهمهم
الأمر، وأن هذه العلامة معروفة لنا، بفضل قطعة وجدت في الفسطاط وهي من القطع
التي لم تصلح عند التسوية في الفرن؛ وعلى كل حال فإن عليها إمضاء سعد ومعها
العلامة التي نحن بصددها، وهي تتكون من دائرتين متحدتي المركز، والدائرة
الداخلية مملوءة بخطوط قصيرة ومتوازية، بينما المسافة التي بين الدائرتين عادية
لا زخارف فيها، وهذه العلامة تشبه العلامات المستخدمة في خزف القرن الثالث
الهجري (التاسع).
١٩٧
وأكبر الظن أن مصنع مسلم كان في مدينة الفسطاط نفسها، كما يظهر مع وجود
القطعة التالفة في الفرن؛ لأن مثل هذه القطعة لا محل لاستيرادها من بلد
آخر.
ومن المحتمل أيضًا أن ورثته أو تلاميذه ظلوا يعملون باسمه، وينسجون على
منواله؛ فإن هذا الفرض يفسر وجود قطع من طراز صنعته دون أن تكون لها الدقة التي
نعرفها في القطع التي عليها اسمه، أو التي يمكننا أن نجزم بنسبتها إلى مدرسته
ودار الآثار العربية غنية بالخزف ذي البريق المعدني؛ ولكن بعض القطع الكاملة
وذات الشهرة العالمية من هذا النوع محفوظة في متاحف أوروبا أو مجموعاتها
الخاصة.
ومن القطع التي قد يمكن نسبتها إلى مدرسة مسلم الصحن المحفوظ بدار الآثار
العربية (رقم السجل ٥٥٠٢)، وعليه زخارف بالبريق المعدني ذي اللون الذهبي المائل
إلى الخضرة، وتتكون من ديك رافع ذيله، ويتدلى من منقاره فرع نباتي على النحو
الذي ترسم عليه الطيور أحيانًا في الفن الساساني، وحول الدائرة المرسوم فيها
هذا الديك دائرة أخرى فيها زخرفة نباتية مع تسع ورقات تقليدية مهذبة، رءوسها
نحو حافة الإناء وتفصلها فروع نباتية بها نقط وخطوط صغيرة.
١٩٨
وفي الدار سلطانية (رقم السجل ١٢٩٧٤)، أرضيتها أقل بياضًا من أرضية الصحن
السابق، وبريقها المعدني أميل إلى اللون الذهبي، وجسمها مفرطح على قاعدتها دون
استدارة تذكر، وزخرفة قاعها مكونة من طائر في وسط فروع نباتية متقنة، ويتدلى من
منقاره فرع نباتي آخر، أما زخرفة دائر السلطانية فمكونة من حروف كوفية مشجرة،
بينها فروع نباتية ووريقات جميلة.
١٩٩
وفيها سلطانية أخرى أصغر حجمًا (رقم السجل ١٢٩٧٥) وعليها زخرفة بالبريق
المعدني ذي اللون الذهبي على شكل أرنب يتدلى من فمه فرع فيه زهرة.
٢٠٠
والواقع أن الناظر إلى هذه الأواني الفاطمية من الخزف ذي البريق المعدني
يمكنه أن يفهم ما بعث كثيرين من مؤرخي الفن الإسلامي على القول بأن هذه الأواني
قصد بها الاستغناء عن الأواني الذهبية والفضية، كما أن في استطاعته أيضًا أن
يحكم بتفوق الصنَّاع المصريين في ذلك العصر الزاهر، وبما كان لهم من سلامة
الذوق ودقة الصنعة، وبقدرتهم الفائقة على هضم ما استعاروه من الأساليب الفنية
عن الأمم التي كان لهم بها اتصال، والتي كانوا يعترفون بها بالأسبقية في أي
ناحية من نواحي الفن والصناعة.
طراز سعد
وصلت إلينا قطع كثيرة عليها اسم سعد، وقطع أخرى يمكن الجزم بأنها من صناعة
مدرسته، وقد شوهد أن بعض العناصر النباتية في زخارف هذه المدرسة تذكر بالعناصر
الزخرفية النباتية على ألواح الخشب التي عثر عليها في مارستان قلاون، والتي
يرجع تاريخها — كما ذكرنا — إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
وكذلك إذا جاز لنا أن نستأنس بشكل الحروف في إمضاء سعد، ظهر لنا بمقارنتها
بكتابات شواهد القبور المؤرخة أن مدرسة هذا الفنان ازدهرت في نصف القرن السالف
الذكر.
والمعروف أن الآنية التي صنعها سعد وأتباعه لا تكون كلها مغطاة بالطلاء إلا
نادرًا جدًّا، وإنما نرى ارتفاع سنتيمترين أو ثلاثة من أسفلها لا دهان عليه،
إلا إذا كان الإناء قد ترك في الفرن مدة أطول مما يلزم، فسالت المينا إلى أسفل،
وركزت منها نقط سميكة عند قاعدته. وإمضاء سعد نجده مكتوبًا بالحروف الكوفية
المشجرة على السطح الخارجي للإناء. والمينا التي يستخدمها سعد وتلاميذه؛ إما
بيضاء اللون نقية وغنية بما فيها من قصدير، وإما زرقاء مائلة إلى الخضرة بما
فيها من نحاس، وإما حمراء وردية بما فيها من منجانيز. وفضلًا عن ذلك فإن سعدًا
كان يستخدم في بعض الحالات طلاءً بسيطًا من مادة زجاجية، شديد اللمعان، ويميل
لونه إلى الخضرة أو لون العاج.
٢٠١
وعلى كل حال فإن البريق المعدني الذي نراه على قطع هذه المدرسة قد يكون ذهبي
اللون، وقد يكون زيتونيًّا مائلًا إلى الاصفرار.
والظاهر أن مدرسة سعد في الزخرفة بالبريق المعدني لم تقتصر على الخزف فقط بل
تجاوزته إلى الزجاج؛ فدار الآثار العربية فيها قطع زجاج يذكر زخارفها بطراز سعد
في زخرفة الخزف ذي البريق المعدني، وكذلك متحف بناكي به قطعة مزخرفة بالطريقة
نفسها.
ومهما يكن من شيء فإن زخارف سعد ذات البريق المعدني متنوعة وغنية، وأكثر
الموضوعات الزخرفية ورودًا رسوم الحيوانات والطيور، تحيط بها الفروع النباتية
والزهور والمراوج النخيلية (البالمت) والجديلات؛ كل ذلك بدقة وعناية فائقتين،
هما اللتان أعلتا شأن سعد ومدرسته.
أما الرسوم الآدمية في منتجات سعد وأتباعه، ففيها أنوثة ورقة تذكر برسوم
الأشخاص في صور رضا عباسي، وإن كانت هذه من طراز آخر.
٢٠٢
وطبيعي أن يكون سعد قد أخذ أكثر موضوعاته الزخرفية عن الأساليب الفنية التي
كانت معروفة في ذلك الوقت؛ فالأسماك والطيور المتقابلة، والأشجار التي يتدلى
منها الثمر، والسلال المملوءة بالفاكهة، ورسوم الأرابسك والفروع النباتية، كل
هذه نراها في الزخارف الإيرانية والبيزنطية والمصرية قبل ذلك العهد.
٢٠٣
وفي دار الآثار العربية قطعة من خزف ذي بريق معدني (رقم السجل ١ / ٥٣٩٧)
عليها رسم رأس السيد المسيح مرسومة بأسلوب بيزنطي ناطق، وحولها إكليل النور المعروف،
٢٠٤ وينسب هذا الرسم إلى مدرسة سعد،
٢٠٥ وإلى نفس المدرسة يمكننا أن ننسب قطعة أخرى (رقم ٢ / ٥٣٩٦) عليها
رسم ثلاثة أشخاص، كتب فوق أوسطهم اسم «أبو طالب»، ولعل المقصود عم النبي — عليه
السلام — ولا سيما أن هناك كلمة اخرى يمكن قراءتها: «رسول.»
٢٠٦
كما أننا نرى إمضاء سعد على إناء في مجموعة ديكران كليكان المعروضة الآن في
متحف فكتوريا وألبرت بلندن. وقطر هذا الإناء ٢٢ سنتيمترًا، وقد وجد بالقرب من
الأقصر، وهو من خزف فاطمي مدهون بطلاء أبيض وعليه باللون المعدني الأسمر البراق
صورة رجل تتدلى من يده اليمنى مبخرة على شكل مشكاة،
٢٠٧ على أننا لم نكن لنستطيع أن نحكم من أول نظرة أن هذا الإناء من
صناعة سعد؛ وذلك لأن عليه مسحة بيزنطية، فلا تظهر خصائص الزخارف التي استخدمها
هذا الفنان إلا في أرضية الإناء، وعلى رداء الرجل الذي يحمل المبخرة. وقد ذهب
الدكتور لام
Dr. Lamm إلى أن بين الزخارف
التي تغطي أرضية الإناء علامة «عنخ» أي: علامة الحياة عند المصريين القدماء،
٢٠٨ وقد صارت بعد ذلك علامة الصليب عند الأقباط وظن لذلك ولوجود صورة
المسيح على القطعة السالفة الذكر أنه من المحتمل أن سعدًا كان من سلالة الأقباط،
٢٠٩ ونحن لا نستطيع أن ننفي هذا القول أو نؤيده؛ ولكننا نظن أن الزخرفة
التي يرى فيها الدكتور لام علامة «عنخ» ليست إلا ورقة نباتية تقليدية ومهذبة،
ويتفرع منها ورقتان صغيرتان من الجانبين يخيل للرائي أنهما ذراعا صليب
قبطي.
ومهما يكن من شيء فإن هذه التحفة آية في الجمال ودقة الصنعة، والطلاء الذي
يغطيها دقيق جدًّا.
وفي دار الآثار العربية والمجموعات الأثرية التي يمتلكها الهواة قطع ليست
عليها إمضاء سعد، ولكن لا مجال للشك في نسبتها إلى مدرسته.
ولعل أشهر هذه القطع القدر التي كانت في مجموعة الدكتور فوكيه
Dr. Fouquet بالقاهرة، والتي انتقلت إلى
مجموعة كيليكيان حيث نراها معروضة في متحف فكتوريا وألبرت، وقد وجدت هذه القدر
في صعيد مصر، وارتفاعها نحو ٣٢ سنتيمترًا، وهي من الخزف الفاطمي ذي البريق
المعدني، وطلاؤها رمادي اللون، وزخرفتها تتكون من ثلاثة أشرطة: أعلاها تحت عنق
القدر وفيه سمك يسبح في الماء، وثانيها فيه مراوح نخيلية (بالمت)، وثالثها فيه
زخرفة مجدولة، وكل هذا معروف لنا في الزخارف التي استخدمتها مدرسة سعد، والتي
نراها في القطع التي عليها توقيعه.
٢١٠ وتشبه القدر السالفة الذكر قدرًا أخرى من الخزف الفاطمي محفوظة في
دار الآثار العربية (رقم السجل ٤٣٠٠)، وهي مدهونة بالمينا البيضاء، وعليها
بالبريق المعدني ذي اللون المائل إلى الخضرة شريط عريض من الزخرفة، فيه أربع
جامات بكل منها رسم طاوس،
٢١١ وفي الدار قدر ثانية (رقم السجل ١٣٥١١)، عليها زخارف في أشرطة
دائرة: أكبرها به فروع نباتية وأوراق، وأحدها به خطوط منكسرة، والثالث فيه
دوائر متماسة.
٢١٢
ومما يؤسف له أن النماذج السليمة من الخزف ذي البريق المعدني نادرة جدًّا،
والقاعة الفاطمية في دار الآثار العربية بها آنية تنقص بعض أجزائها، كما أن
قاعة الخزف في نفس الدار تحوي بين جدرانها نماذج جميلة سوف تعنى الدار بالكتابة
عنها في مؤلف جامع عن الخزف الإسلامي. وحسبنا الآن أن نستعرض بعض التحف المهمة
فيها:
فهناك صحن كبير (رقم السجل ١٣١٢٣) مدهون بطلاء أبيض فوقه باللون الذهبي
البراق ثلاث جامات، وفي كل منها صورة أسد أو نمر يعدو ويتدلى من فمه فرع نباتي،
وعلى أرضية الصحن زخرفة نباتية من ورقة كبيرة وفروع نباتية، وعلى حافة الإناء
زخرفة على شكل أسنان المنشار. ومما يسترعي الانتباه في هذه التحفة مسحة العظمة
والخيلاء في صورة الحيوان، وروح التناسق والتناسب في زخرفة الصحن كله.
٢١٣
وفي الدار صحن آخر (رقم السجل ١٣٢٠٥) عليه باللون المعدني الأسمر البراق رسم
ثور كبير، وفوقه وتحته زخرفة من فرع نباتي جميل.
وفيها صحن (رقم السجل ١٣٤٧٧) به رسم فارس على ذراعه باز،
٢١٤ وأجزاء من صحن لآخر لا يزال ظاهر من زخرفتها رسم باز وصورة فارس
على رأسه خوذة غريبة الشكل.
٢١٥
وفي الدار كذلك صحن صغير (رقم السجل ١٣٤٨٧) عليه رسم شخص بيده كأس وبجواره
إبريق، وعلى ردائه زخارف من دوائر مظللة بخطوط متعارضة وخطوط تشبه سيقان الحروف.
٢١٦
الخزف الصيني وتقليده
وقد وجدت في حفريات الفسطاط قطع كثيرة من الخزف الصيني، أو من خزف حاول فيه
الصناع المصريون تقليد الخزف المصنوع في الشرق الأقصى، وأكبر الظن أن استيراد
الخزف الصيني إلى مصر راجع إلى عصر ابن طولون الذي عرف هذا الخزف في سامرا،
٢١٧ حيث تشهد بوجوده القطع التي عثرت عليها البعثة الألمانية في أنقاض
هذه العاصمة والتي توجد منها مجموعة نفيسة في القسم الإسلامي من متاحف برلين.
٢١٨
وليس غريبًا أن يسعى الخزفيون المصريون في تقليد الخزف الصيني إرضاءً للذوق
السائد في ذلك العصر؛ فقد كان الخزف الصيني مشهورًا في الشرق الأدنى، وكان
المسلمون يعجبون بتفوق أهل الصين في صناعة الطرف عامة، وخير شاهد على ذلك ما
كتبه النويري عن إقليم «الصين» وما اختص به. قال: فإن العرب تقول لكل طرفة من
الأواني: صينية، كائنة ما كانت لاختصاص الصين بالطرائف. وأهل الصين خصوا بصناعة
الطرف والملح وخرط التماثيل والإبداع في عمل النقوش والتصاوير؛ حتى إن مصورهم
يصور الإنسان فلا يغادر شيئًا إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك
الشامت وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهازئ، ويركب
صورة في صورة … إلخ.
٢١٩
فضلًا عن أن الطبري أشار إلى بعض طرف الصين حين ذكر فتح مدينة كش من أعمال
سمرقند على يد خالد بن إبراهيم والي بلخ سنة (١٣٤ﻫ/٧٥١م)، فقال: وفي هذه السنة
غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش، فقتل الإخريد ملكها، وهو سميع مطيع قدم
عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك مما يلي كش، وأخذ أبو داود من الإخريد
وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن
السروج الصينية، ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئًا كثيرًا.
٢٢٠
وقد أشار ابن خرداذبه في القرن الثالث الهجري (التاسع) إلى الغضار (الخزف)
الجيد الصيني.
٢٢١
وهناك نصوص تاريخية أخرى تثبت إعجاب المسلمين بالخزف الصيني؛ ولكن لا يتسع
المجال هنا لكتابتها أو الإشارة إليها بعد أن جمعها الأستاذ كاله
Dr. P. Kahle، ودرسها في مقال له عن
«المصادر الإسلامية لدراسة الخزف الصيني».
٢٢٢
وقد كانت العلاقة التجارية بين الصين والعالم الإسلامي ودية ووثيقة، وهي ترجع
إلى عهد أسرة طنج (٦١٨–٩٠٦م) التي ساد على يدها الرخاء في الشرق الأقصى، والتي
يقال: إن النبي أرسل إلى أحد ملوكها يدعوه إلى الإسلام، فاهتم هذا القيصر
بالجماعة الإسلامية الناشئة، وأحسن وفادة مبعوثها، وساعده على إنشاء مسجد في
كنتون، رغبة في أن ينشئ مع المسلمين علاقات تجارية،
٢٢٣ وقد نجح في الوصول إلى هذا الغرض، وبدأ منذ هذا التاريخ تبادل
تجاري بين الصين والعالم الإسلامي، أتيح له أن يكبر وينمو، ويكون ذا أثر بالغ
في تطور الفن الإسلامي ولا سيما صناعة الخزف.
٢٢٤
ويدل وجود الخزف الصيني في أطلال سامرا والفسطاط على تجارته الزاهرة بين
الشرق الأقصى والبلاد الإسلامية، وقد ذكر ابن خرداذبه شيئًا عن استيراد الخزف
الصيني من الشرق الأقصى، وكانت تقوم بهذه التجارة سفن صينية وسفن عربية، كانت
السفن الصينية تقبل إلى قرب مدينة البصرة التي كانت مركز توزيع الواردات
الصينية على العالم الإسلامي،
٢٢٥ وفضلًا عن ذلك فقد أشار اليعقوبي إلى شارع في بغداد كان مركزًا
لبيع التحف الواردة من الصين.
٢٢٦
وقد وصلنا وصف سياحة رحالة عربي اسمه سليمان في الهند والصين، كتب
Mez سنة (٢٣٧ﻫ/٨٥١م)، ومعه ذيل كتبه نحو
سنة (٣٠٤ﻫ/٩١٦م) مؤلف اسمه أبو زيد حسن. وفيه بيانات دقيقة عن علاقة المسلمين
بالصين في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (التاسع والعاشر).
٢٢٧ وقد طبع لانجلس
Langlés هذه
الرحلة سنة (١٨١١)، ثم نشرها رينو
Reinaud مع
ترجمة فرنسية سنة (١٨٤٥).
ومما جاء في وصف هذه الرحلة العبارات الآتية: «وذكر سليمان التاجر أن بخانفو،
وهو مجتمع التجار، رجلًا مسلمًا يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين
يقصدون إلى تلك الناحية يتوخى ملك الصين ذلك، وإذا كان في العيد صلى بالمسلمين
وخطب، ودعا لسلطان المسلمين،
٢٢٨ وأن التجار العراقيين لا ينكرون من ولايته شيئًا من أحكامه وعمله
بالحق، وبما في كتاب الله — عز وجل — وأحكام الإسلام. فأما المواضع التي
يردونها ويرقون إليها فذكروا أن أكثر السفن الصينية تحمل من سيراف، وأن المتاع
يحمل من البصرة وعمان وغيرها إلى سيراف، فيعبى في السفن الصينية بسيراف وذلك
لكثرة الأمواج في هذا البحر وقلة الماء في مواضع منه. والمسافة بين البصرة
وسيراف في الماء مائة وعشرون فرسخًا، فإذا عبى المتاع بسيراف استعذبوا منها
الماء وخطفوا — وهذه لفظة يستعملها أهل البحر يعني يقلعون — إلى موضع يقال له:
مسقط وهو آخر عمل عمان، والمسافة من سيراف إليه نحو مائتي فرسخ.»
٢٢٩
ويصف سليمان بعد ذلك المحطات المختلفة التي تقف فيها السفن في طريقها إلى
الصين، ويبدأ الكلام عن «أخبار بلاد الهند والصين أيضًا وملوكها». ويحدثنا «أن
أهل الهند والصين مجمعون على أن ملوك الدنيا المعدودين أربعة»: فأول من يعدون
من الأربعة ملك العرب، وهو عندهم إجماع لا اختلاف بينهم فيه أنه أعظم الملوك،
وأكثرهم مالًا وأبهاهم جمالًا (كذا)، وأنه ملك الدين الكبير الذي ليس فوقه شيء،
ويعد ملك الصين نفسه بعد ملك العرب!
٢٣٠ ثم يذكر سليمان أن السفن التي كانت تصل إلى المواني الصينية كان
يقابلها موظفون يخزنون حمولتها مدة ستة أشهر على ضمانتهم، وبعد انتهاء موسم
التجارة والإبحار يخرجون البضائع، ويستولون على ثلثها للدولة ويسلم الباقي إلى التجار.
٢٣١
وأما الذيل الذي كتبه أبو زيد حسن، ففيه أحاديث طلية عن علاقة المسلمين
بالصين؛ كحديث القرشي المسمى ابن وهب، الذي زار بلاط ملك الصين، ورأى فيه صور
الرسل، وبينها صورة محمد — عليه السلام — راكبًا جملًا وأصحابه محدقون به؛
٢٣٢ ولكن الذي يهمنا هنا أن أبا زيد يذكر أن السفن الصينية القادمة من
سيراف كانت إذا وصلت جدة أقامت بها ونقل ما فيها من الأمتعة التي تحمل إلى مصر
في مراكب خاصة كانت تسمى مراكب القلزم؛ لأن مراكب السيرافيين كانت لا تستطيع
الملاحة في شمالي البحر الأحمر.
٢٣٣ وهو يحدثنا فوق ذلك عن اللؤلؤ وتجارته مما يساعد على تصور اللآلئ
التي امتلأت بها خزائن الفاطميين،
٢٣٤ وفضلًا عن ذلك فإننا نجد في المسعودي وأبي الفدا وابن بطوطة وغيرهم
من مؤرخي المسلمين ورحالتهم أخبارًا كثيرة عن العلاقات التجارية بين العرب
والشرق الأوسط والأقصى.
٢٣٥
كما أن الرحالة البندقي ماركو
بولو
Marco Polo أتى في وصف رحلته بكثير من البيانات عن هذا الموضوع. أما
عن المدة المحصورة بين المؤرخين العرب في القرنين الثالث والرابع الهجريين
(التاسع والعاشر بعد الميلاد)، وماركو بولو في أواخر القرن الثالث عشر
الميلادي، فإن لدينا مصدرًا صينيًّا هو
Chau
Ju-Kua الذي كان مفتشًا للتجارة الخارجية في إقليم فوكين
بالصين. وكتب في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي مؤلفًا عنوانه
Chu-fan-chi وصف الأمم الأجنبية، درس فيه
التجارة الصينية العربية في القرن الثاني عشر الميلادي.
٢٣٦
ومهما يكن من شيء فإن صناعة الخزف ازدهرت في عصر الفواطم، وأصبحت مصر تستورد
من الشرق الأقصى كثيرًا من الخزف الثمين؛ بل وصارت مركز تجارته بين الشرق
والغرب، واتسعت هذه التجارة، ولا سيما منذ القرن الثاني عشر حين استخدم
الصينيون البوصلة، وظلت مصر مركز هذه التجارة، حتى كشف فاسكو دي جاما طريق رأس
الرجا الصالح سنة (١٤٩٧م).
لا غرابة إذن إن كان الخزفيون الفاطميون تأثروا بمنتجات زملائهم في الشرق
الأقصى، وإن كانت مدرسة سعد أنتجت نوعًا من الخزف الصيني ذي الزخارف المحفورة
تحت الدهان كانت تقلد بها خزف سونج Song
الصيني. وفي دار الآثار العربية كمية كبيرة من الخزف الذي كان الصنَّاع
المصريون المختلفون — ولا سيما سعد وتلاميذه — يقلدون به خزف سونج؛ ولكن الخزف
الذي أنتجه هؤلاء الصناع المصريون كان مزينًا بالبريق المعدني الذي لم يكن
معروفًا في الشرق الأقصى.
ولعل هذا يثبت أن المصريين لم يقلدوا تقليدًا أعمى؛ وإنما كانوا يعملون على
اقتباس أشكال بعض الأواني الصينية، وبعض زخارفها، وعلى إنتاج آنية تضارع الخزف
الصيني في جودته وبهائه؛ ولكن الظاهر أن تقليد الخزف الصيني تقليدًا جيدًا لم
تتسع دائرته في مصر إلا في عصر المماليك.
تحدثنا حتى الآن عن الخزف ذي البريق المعدني، وهو أبرز أنواع الخزف في العصر
الفاطمي. وطبيعي أن أنواعًا أخرى قامت إلى جانبه، وكانت صناعتها امتدادًا
للتقاليد الموروثة عند الفخاريين على ضفاف النيل.
فالفخار غير المدهون كانت تصنع منه أبسط الأواني اللازمة لطبقات الشعب؛ ولا
سيما القلل التي كانت من الفخار غير المطلي؛ إلا في النادر جدًّا؛ لأن المقصود
منها تبريد الماء ولا بد من المسام للوصول إلى هذا الغرض؛ ومن ثم فإن الذي وصل
إلينا منها يكاد يكون خاليًا من أي دهان زجاجي، على أن شبابيك القلل كانت
تزينها زخارف دقيقة هندسية أو حيوانية، وعلى بعضها عبارات دعاء وتبريك، وربما
كان أقدم ما في دار الآثار العربية يرجع إلى العصر الطولوني؛ ولكن طراز
الحيوانات وشكل الكتابة على بعض هذه الشبابيك يجعلنا نذهب إلى أن جزءًا منها
يرجع إلى عصر الفواطم؛
٢٣٧ لأنها تذكر بالحيوانات والكتابة، التي نراها على تحف الخزف المطلي،
والخشب والنسيج من العصر المذكور.
وفضلًا عن ذلك فإن في الدار قطعتين: كلتاهما من عنق إناء (رقم السجل
١٦٧ / ٨٥٧٧ و١٦٨ / ٨٥٧٧)، وقد بقي في كل منهما شباك، وهذان الجزءان مدهونان
بطلاء أزرق عليه زخارف نباتية ببريق معدني من طراز الزخارف التي نراها على
الخزف في القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة (العاشر والحادي عشر).
وفي الدار كذلك جزء من عنق إناء (رقم السجل ١٦٧ / ٨٥٧٧) عليه بالبريق
المعدني بقايا زخارف هندسية ونباتية، وأثر صورة سمكة على أرضية بيضاء، وشبابيك
القطع الثلاث ليس عليها أي دهان.
وفي مجموعة صاحب العزة كامل غالب بك نخبة طيبة من شبابيك القلل تمثل جل
الأنواع التي تعرفها من هذه التحف الدقيقة.
ولا شك في أن شبابيك القلل التي عثر عليها في أطلال الفسطاط،
٢٣٨ قد صنعت في الفسطاط نفسها؛ لأن بعض القطع التي عثر عليها كانت مما
تلف أثناء صناعتها أو تسويتها، ولم يكن ثمة داعٍ لجلبها من مكان بعيد وهي في
هذه الحال من التلف.
وقد وصلت إلينا قطع عليها اسم صناع شبابيك القلل، فإن في دار الآثار قطعة
(رقم السجل ٩٠ / ٣٨٥٦) عليها بالكتابة النسخية «عمل عابد» كما أن فيها قطعًا
عليها بعض عبارات أخرى نحو: «من صبر قدر» و«من شرب سر» و«من اتقا فاز» و«العز
الدائم» و«اقنع تعز»؛ ولكن كل هذه القطع ذات الكتابات يرجح أنها من عصر
المماليك، اللهم إلا الشباك المسجل في الدار برقم (٧١٠٢)، والمهدي إليها سنة
(١٩٢٦) من الأستاذ مارتن، فإن عليه بالخط الكوفي المشجر كلمة «كاملة»، وأكبر
الظن أنه من العصر الفاطمي.
٢٣٩
ومما صنعه الفخاريون المصريون قوارير النفط (قنابل صغيرة) من عجينة ثخينة،
وعلى أشكال مختلفة محببة، وفي بعض أجزائها بروز ليسهل مسكها، وقد استخدمت كميات
كبيرة من هذه القوارير في حرق الفسطاط سنة (٥٦٤ﻫ/١١٦٨م). وكتب المقريزي في وصف
هذا الحريق: «وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار،
فرق ذلك فيها؛ فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرًا مهولًا،
واستمرت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة
وخمسين يومًا.»
٢٤٠
الخزف ذو الزخارف المحفورة تحت الدهان
ومن أنواع الفخار التي عرفت في العصر الفاطمي الخزف ذو الزخارف المحفورة أو
المحزوزة في طينة الإناء تحت طلاء ذي لون واحد، وقد وجدت في أطلال الفسطاط قطع
من هذا النوع لم تصلح صناعتها أو تسويتها في الفرن، مما يمكن أن يستنبط منه أن
مدينة الفسطاط نفسها كانت مركزًا لصناعة هذا الخزف.
ومهما يكن من شيء فإن هذا النوع أقل نفقة من الخزف ذي البريق المعدني، وكان
أكثر إنتاجه في القرن السابع الهجري (الثالث عشر)، وزخارفه نباتية أو حيوانية،
ويمكن مقارنة بعضها بأنواع من الزخارف النباتية المحفورة على بعض التحف الخشبية
الفاطمية. أما الحيوانات المحفورة على هذا النوع
من الخزف فلا تشبه الحيوانات في الزخارف
الفاطمية شبهًا كبيرًا،
٢٤١ مما يجعلنا نظن أن الأرجح أن ننسبه كله إلى العصر الأيوبي.
والمشاهد أن ألوان الطلاء فيه متنوعة وغاية في النقاوة، ومنها الأبيض، والأخضر،
والأزرق، والبنفسجي، والأصفر؛ فضلًا عن اللون الأخضر البحري السيلادون
celadon بدرجاته المختلفة، ويشاهد كذلك أن
الدهان يتجمع في أجزاء الزخارف المحفورة فيجعلها أقتم لونًا من سائر
القطعة.
وهناك أنواع أخرى من الفخار في العصر الفاطمي، منها الخزف المدهون في بعض
أجزائه، وقد وجدت نماذج منه في مصر وفي العراق، ومنها خزف زخارفه منقوشة تحت
الدهان، وكان الفخاريون ينقشونها على الإناء ثم يسوونه في الفرن تسوية أولى؛
لتثبيت النقوش وتقوية الإناء قبل دهنه بالطلاء وتسويته في الفرن تسوية ثانية؛
ولكن علي بك بهجت، والمسيو ماسول نسب هذا النوع إلى العصر الأيوبي.
٢٤٢ ونحن نميل إلى اتباعهما في هذا الرأي وإن كنا لا نملك لإثباته أي
دليل قوي، اللهم إلا الشعور بأن هذا الأسلوب في الصناعة أكثر تقدمًا في التطور
العام من سائر الأساليب التي نعرفها في العصر الفاطمي، فضلًا عن أنه يناسب ما
نعرفه عن العصر الأيوبي من رجوع عن أبهة الفواطم وبذخهم.
ولسنا نستطيع أن نختم كلامنا عن الخزف الفاطمي دون أن نكرر ما ذكرناه عن
صعوبة دراسة الخزف الإسلامي في الوقت الحاضر، وفي اعتقادنا أن مثل هذه الدراسة
لن تكون مجدية نافعة قبل الانتهاء من دراسة مجموعة دار الآثار العربية درسًا
وافيًا، وكتابة المؤلف الجامع الذي تعتزم الدار إخراجه عن هذا الموضوع.
(٥) صناعة الزجاج
لم تكن هذه الصناعة في مصر وليدة العصر الإسلامي؛ بل إنها ترجع إلى الأسرة
الثامنة عشرة من حكم الفراعنة، فقد كشف فلندرز
بتري
Flinders Petrie آثار مصنع من مصانع الزجاج في
تل العمارنة، كما حفظ قبر أمينوفيس الثاني في
بيبان الملوك كثيرًا من الأواني الزجاجية المتعددة الألوان،
٢٤٣ وظلت هذه الصناعة زاهرة في العصر الإغريقي الروماني،
٢٤٤ ثم تطرق إليها الانحلال قبيل الفتح العربي؛ ولكنها أخذت تتقدم سريعًا
في العصر الإسلامي.
وكذلك ازدهرت صناعة الزجاج في سورية منذ العصور القديمة، وظلت هذه البلاد في
العصر العربي موطن تلك الصناعة بعد أن أصابها شيء من الركود قبيل الفتح العربي؛
بسبب احتلال الفرس والاضطرابات السياسية؛ بل إنها أثرت في العصر الإسلامي على صناعة
الزجاج في الشرق الأدنى بتمامه، فكان صانعو الزجاج في العراق — وحتى في مصر —
يقلدون أشكال الأواني، والأساليب الزخرفية في التحف
٢٤٥ الزجاجية التي كانت تنتجها أمهات المدن في سورية وفلسطين، كصور
وأنطاكية وعكا والخليل ودمشق وحلب.
وهكذا نرى أن مصر وسورية كانت لهما القيادة في صناعة الزجاج منذ العصور القديمة،
وإن هذه القيادة ظلت لهما في العصر الإسلامي، وطبيعي أن يكون صناع الزجاج في
الإسلام ورثوا قسطًا كبيرًا من الأساليب الفنية عن أجدادهم القدماء، وأن يكون
التطور في هذه الصناعة تدريجيًّا حتى إننا لا نستطيع في أكثر الأحيان أن نجزم بنسبة
تحفة زجاجية إلى العصر الإسلامي، إلا إذا كان في شكلها أو في أساليب زخرفتها ما
ينطق تمامًا بأنها إسلامية. ولا غرو فإن الحفائر في أطلال المدن الإسلامية كشفت عن
عدد كبير من القناني والقوارير والأواني الزجاجية، هيئتها هلنستية أو رومانية، وقد
يكون عليها من الكمخ أو التقزيح
٢٤٦ ما نراه على الأواني التي صنعت في العصور القديمة.
وقد جاء ذكر الزجاج الإسلامي في كثير من كتب الأدب والتاريخ والرحلات، ولا محل
لأن نأتي هنا بكل النصوص الخطيرة الشأن في هذا الموضوع، بعد أن جمعها الدكتور
لام
C. J. Lamm ونقلها إلى الألمانية في
الكتاب الذي ألفه عن زجاج الشرق الأدنى في العصور الوسطى.
٢٤٧ وهو أوفى المراجع وأتمها في هذه الناحية من دراسات الفنون
الإسلامية.
وحسبنا الآن أن نشير إلى الشهرة التي كانت لليهود في صناعة الزجاج بصور وأنطاكية،
٢٤٨ وأن نذكر أن الثعالبي المتوفى في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) كتب
أن المثل كان يضرب برقة الزجاج السوري ونقاوته،
٢٤٩ كما أننا نعرف أن ابن النديم ذكر اسم إسحاق بن نصير في أخبار
الكيميائيين والصنعويين من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وكتب أنه كان ممن يتعاطى
الصنعة وله معرفة بالتلويحات وأعمال الزجاج، وأن له من الكتب كتاب التلويح،
٢٥٠ وسيول الزجاج، وكتاب صناعة الدر الثمين.
٢٥١
ومن النصوص التاريخية التي جاء فيها ما يشهد بتقدم مدينة حلب في صناعة الزجاج
حكاية في باب فضل القناعة من كتاب «جلستان» لسعدي، الشاعر الإيراني، تحدث فيها عن
تاجر ثرثار أخبره أنه يستعد لرحلة جديدة، فسأله سعدي: أين تكون تلك السفرة؟ وأجاب
التاجر: «أريد أن أحمل الكبريت من إيران إلى الصين، فقد سمعت أن له قيمة عظيمة
فيها، ومن هناك آخذ الخزف الصيني إلى بلاد الروم، ثم أحمل الديباج الرومي إلى
الهند، والفولاذ الهندي إلى حلب، وآخذ الزجاج الحلبي إلى اليمن، والأقمشة اليمنية
إلى إيران.»
٢٥٢
والواقع أن حلب ذاع صيتها في إنتاج الأواني الزجاجية، ولا سيما في عصر المماليك،
فكان سوق الزجاج فيها قبلة التجار والغواة والأثرياء، وكانت مصنوعاتها ذات الصفة
الدقيقة والزخارف البديعة من أثمن الهدايا وأجمل المقتنيات.
٢٥٣
ونحن إذا استطردنا في الكلام عن صناعة الزجاج في المدن السورية؛ فذلك لأن سورية
ومصر كانتا في أكثر عصور التاريخ جزأين من حكومة واحدة، أو أن حكام وادي النيل كانت
تدفعهم الضرورة الحربية إلى السيطرة على سورية. والذي يعنينا في هذا المقام أن
الطولونيين والفاطميين والأيوبيين ثم المماليك كانوا يسيطرون على أجزاء واسعة من
سورية، إلا في فترات قصيرة.
٢٥٤
ولنعرج الآن على تاريخ تلك الصناعة في مصر نفسها؛ فيسترعي انتباهنا منذ البداية
أننا لا نكاد نملك شيئًا يثبت لنا تقدمها وازدهارها في القرون الثلاثة الأولى بعد
الفتح العربي، فالقوارير التي عثر عليها وتنسب إلى تلك الفترة ليست لها قيمة فنية
كبيرة؛ لبساطة زخارفها أو لخلوها من الزخارف، فضلًا عن أن صنعتها ليست دقيقة جدًّا.
أما إبداع شكلها واعتدال نسبها في بعض الأحيان فراجع إلى بقية من الأساليب الفنية
المورثة منذ القدم، ولكن نوعًا من المصنوعات الزجاجية كان رائجًا في هذا العصر وفي
العصر الفاطمي، ونقصد بذلك الأقراص الزجاجية التي كانت تتخذ عيارات وزن وكيل، فكان
يطبع بها على الأواني لبيان أحجامها المختلفة،
٢٥٥ وكثير منها بأسماء ولاة مصر وبأسماء الخلفاء الفاطميين. وقد أهدى
المغفور له الملك «فؤاد الأول» إلى دار الآثار العربية مجموعة خطيرة الشأن من هذه
الأقراص الزجاجية، والمعروف أن الزجاج كان مستعملًا بمصر في هذا الشأن إبان العصر
الروماني.
ويحدثنا المقريزي عند الكلام على قرية سمناي من قرى تنيس، أن قومًا كشفوا فيها
سنة (٨٣٧ﻫ/١٤٣٣م) عن «غضارات زجاج كثيرة مكتوب على بعضها اسم الإمام المعز لدين
الله، وعلى بعضها اسم الإمام العزيز بالله نزار، ومنها ما عليه اسم الحاكم بأمر
الله، ومنها ما عليه الإمام الظاهر لإعزاز دين الله، ومنها ما عليه اسم المستنصر
وهو أكثرها.»
٢٥٦
ومهما يكن من شيء فإن صناعة الزجاج تقدمت في العصر الفاطمي تقدمًا عظيمًا، كان
سبيلًا إلى بلوغها الذروة العليا في عصر المماليك، الذي صنعت فيه المشكاوات المموهة
بالمينا وهي فخر صناعة الزجاج عند المسلمين على الإطلاق.
ويقوم على جودة الأواني الزجاجية الفاطمية أدلة تاريخية، وأدلة مادية: الأخيرة
مستمدة مما وصلنا من كئوس وقوارير وغيرها، وأما الأولى فقوامها ما كتبه ناصر خسرو
عن رحلتيه في مصر بين عامي (٤٣٩ و٤٤١ﻫ/١٠٤٦ و١٠٥٠م).
فقد كتب هذا الرحالة الفارسي أن البقالين والعطارين وبائعي الخردة كانوا يأخذون
على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق ليوضع فيها ما يبيعونه؛ فلم يكن
لازمًا أن يبحث المشتري عن شيء يضع فيه ما يبتاعه.
٢٥٧
كما كتب أيضًا أن التجار الذين يذهبون إلى بلاد النوبة كانوا يبيعون فيها الخرز
والأمشاط والمرجان،
٢٥٨ وأن المصريين كانوا يصنعون في مصر زجاجًا شفافًا عظيم النقاوة يشبه
الزمرد ويباع بالوزن.
٢٥٩
وكان ناصر خسرو شديد الإعجاب بسوق القناديل — بجوار جامع عمرو — فقال: إنه لم
يعرف مثله في أي بلد آخر، ووصف رواج التجارية فيه، ذاكرًا أن أثمن التحف وأندرها
كانت ترد إلى هذه السوق من جميع أنحاء الدنيا،
٢٦٠ ولسنا نزعم أن هذه السوق كان يسمى «سوق القناديل» نسبة إلى مصابيح كانت
تصنع فيه كما زعم بعض مؤرخي الفن الإسلامي، فقد نبه الأستاذ فييت إلى أن منشأ هذه
التسمية أن سكان هذا الحي كان لكل منه قنديل معلق على باب مسكنه؛
٢٦١ ولكننا رغم ذلك نعلم أن المصنوعات الزجاجية كانت من البضائع الرائجة في
ذلك السوق.
ومهما يكن من شيء فإن مراكز صناعة الزجاج في مصر الإسلامية كانت في الفسطاط
ومدينة الفيوم والأشمونين والشيخ عبادة، ولا ريب في أن الإسكندرية لم تفقد كل ما
كان لها من خطير شأن في هذا الميدان، على الرغم من أن الفسطاط انتزعت منها القيادة
فيه.
ومع ذلك فقد عثر على بقايا تحف زجاجية في غير هذه المراكز التي ذكرناها؛ فكشفت
بعض النماذج في مدينة حابو، وكوم بلال، وقوص، وأبيدوس، وأخميم، وأسيوط، والمنيا،
والبهنسا، وأهناسية المدينة، وهوارة، وأطفيح، وسقارة، وميت رهينة، وكوم الأتريب
٢٦٢ … ولكننا لسنا نظن أن كل هذه النماذج ترجع إلى العصر الإسلامي.
ثم إننا يجب أن نذكر الزجاج الذي وجد في أطلال الفسطاط أو غيرها من المدن التي
أشرنا إليها ليس كله من منتجات الصناعة؛ فإن بعضه وارد من سورية، كما كانت سورية
نفسها بل والبلاد الأوروبية ترد إليها كثير من التحف الزجاجية المصنوعة على ضفاف
النيل.
ولا شك أيضًا في أن زخرفة الزجاج في بداية العصر الفاطمي لم تكن تختلف كثيرًا عن
زخرفته في عصر الإخشيديين، وأنها أخذت تتطور بعد ذلك في خطوات سريعة ليكون لها
الطابع الفاطمي الخاص؛ على أن هذا التطور كان في دقة الصنعة وإتقان الزخرفة وغناها
أكثر مما كان في الأساليب الفنية أو في الهيئة نفسها، فإننا نرى أن في عصر الفواطم
ما كنا نراه قبله من زخرفة الأواني بخيوط رفيعة من الزجاج تلف وتضغط عليها، كما نرى
فيه أيضًا القناني الصغيرة ذات الأضلاع التي تزينها الخطوط المتعددة
الألوان.
ودار الآثار العربية غنية بما فيها من القناني والزجاجات الصغيرة المصنوعة بطريقة
القطع والنفخ، وبعضها ملون، بينما أغلبها لا لون عليه ولا يستخدم في غير
العطر.
وفيها قطعة من سلطانية (رقم السجل ٢٤٦٣)، مادتها من الزجاج الأبيض اللبني وعليها
زخارف زرقاء عظيمة البروز، كان قوامها شريطًا فيه رسم تيوس متقابلة وفوق هذا الشريط
كتابة بالخط الكوفي، وأكبر الظن أن هذه القطعة ترجع إلى بداية العصر الفاطمي.
٢٦٣
ومن القناني التي عرف بها العصر الفاطمي نوع كروي الجسم وله رقبة أسطوانية طويلة،
وعليه زخارف هندسية أو حيوانات في جامات، ومثال ذلك: قنينة في القسم الإسلامي من
متاحف برلين ترجع إلى القرن الخامس أو السادس الهجري (الحادي عشر أو الثاني عشر)،
٢٦٤ واثنتان في متحف المتروبوليتان بنيويورك.
٢٦٥
وفي دار الآثار العربية قطع شطرنج من الزجاج، عليها زخارف بيضاء فوق أرضية حمراء،
وتشبه هذه القطع الزجاجية القطع التي كانت تصنع في العصر الفاطمي من مواد أخرى
كالعاج والعظم والبلور الحجري؛ ولذا أمكن نسبتها إلى عصر الفواطم، وإن كانت في
الواقع لا تختلف كثيرًا عما كان يصنع من نوعها في عصر العباسيين.
على أن أرقى المصنوعات الزجاجية الفاطمية وأكبرها قيمة فنية، إنما هو الزجاج
المذهب والمزين بزخارف ذات بريق معدني، وقد وصلت إلينا بعض نماذج كاملة منه؛ ولكنها
ليست لسوء الحظ من النوع الممتاز، الذي لا نعرفه إلا بقطع مكسورة عثر عليها في
حفائر الفسطاط، وحفظت في دار الآثار العربية أو أمكن إرسالها إلى متحف بناكي بأثينا
وبعض المتاحف الأجنبية الأخرى.
ومن أهم أنواع الزجاج ذي البريق المعدني نوع أحمر عليه زخارف من رسوم طيور
بالبريق المعدني، تمت بصلة كبيرة إلى الرسوم التي نعرفها على الخزف الفاطمي ذي
البريق المعدني؛ بل إن هناك قطعة من هذا النوع عليها إمضاء سعد وهي محفوظة في متحف
بناكي بأثينا. والمشاهد أن القطع غير الممتازة من هذا النوع تتكون زخارفها من رسوم
نباتية أو من أشرطة وخيوط متعرجة ونحو ذلك من الزخارف الهندسية.
وهناك نوع آخر يميل لونه إلى الخضرة وزخارفه المعدنية، ليس فيها لمعان البريق
المعدني المعهود. وقوام هذه الزخارف أشكال نجمية وهندسية متداخلة في بعضها أو
وريدات متعددة الفصوص أو خطوط لولبية الشكل.
٢٦٦
وقد وصل إلينا نوع ثالث نظن أن الفاطميين كانوا يتخذونه عوضًا عن الخزف. وعلى كل
حال فهو غير شفاف، وقد يكون أخضر اللون — كالسيلادون — كما قد يكون أبيض أو أحمر،
أما زخارفه ذات البريق المعدني فتعلو السطحين الداخلي والخارجي في الإناء، وهي
كثيرة الشبه بالزخارف في الخزف ذي البريق المعدني.
ومهما يكن من شيء فإن استخدام الزخارف ذات البريق المعدني في الزجاج من مستحدثات
الفنون الإسلامية، ولعل الباعث عليه كراهية استعمال الأواني الذهبية في الدين
الإسلامي، والرغبة — على الرغم من ذلك — في شيء يتفق وأبهة الخلفاء والأمراء وثروة
البلاد وميل الشرق إلى الترف والعظمة، ويخرج في الوقت نفسه عن نطاق التحريم.
وقد وجدت في سامرا بعض قطع زجاجية عليها رسوم فروع نباتية بالبريق المعدني
٢٦٧ مما يحمل على القول بأن استخدام البريق المعدني في زخرفة الزجاج نشأ
بالعراق في القرن الثالث الهجري (التاسع)، ثم قلده القوم على ضفاف النيل، حيث نرى
أن القطع الزجاجية المزخرفة على هذا النحو أحدث عهدًا وأقل دقة في الرسم واللون.
٢٦٨
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين قنينة من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر
الميلادي) وعلى جسمها المخروطي الشكل شريط من زخرفة بالبريق المعدني، قوامها فرع
نباتي دائر (أرابسك)، كما أن على رقبتها شبه زخرفة كتابية بالبريق المعدني أيضًا.
٢٦٩
ومن التحف الزجاجية النادرة محبرة من القرن السادس الهجري (الثاني عشر) محفوظة في
القسم الإسلامي من متاحف برلين،
٢٧٠ وهي من زجاج سميك يقلدون به البلور الصخري.
والواقع أن دار الآثار العربية والقسم الإسلامي من متاحف برلين غنيان بنماذج
القناني والكئوس الزجاجية، ولا سيما ما كان منها ذا زخارف مضغوطة،
٢٧١ كما أن في دار الآثار عددًا من القماقم (رقم السجل ١٣٥٠٤ و١٣٥٠٦)
الجميلة بزخارفها المضغوطة، وبالأسلاك الزجاجية الملفوفة حول كل رقبة منها، فضلًا
عن شكلها الممشوق ولونها الطبيعي. بينما نرى في القسم الإسلامي من متاحف برلين
كأسًا ذات أذنين جميلتي الشكل، وعليها زخارف مضغوطة في الزجاج الأزرق اللون أو
ملصوقة به، وهيئة هذه الكأس غاية في التناسب والتناسق والإبداع،
٢٧٢ وأكبر الظن أنها من صناعة سورية.
بقي علينا الكلام عن نوع من الأقداح الزجاجية يسميه الغربيون كئوس القديسة
هدويج
Hedwigsglas وهو من الزجاج السميك
الثقيل، ذي الزخارف المقطوعة والمضغوطة. والأصل في هذه التسمية أن كأسين من هذا
النوع كانت في حيازة الدوقة القديسة هدويج الألمانية المتوفاة سنة (١٢٤٣) ميلادية،
وتتميز هذه الأقداح بأنها في هيئتها العامة تشبه شكل الدلو أو السطل، وبأن دائر
قاعدتها بارز إلى الخارج، وبأن سطحها تغطيه زخارف مقطوعة تمتد على مساحته كلها حتى
لا يسهل تمييز الأرضية من الموضوعات الزخرفية،
٢٧٣ وتتكون تلك الزخارف من أسود وطيور ناشرة أجنحتها، وأشجار خلد ومراوح
نخيلية (بالمت)، وعلى إحدى هذه الكئوس رسم هلال وعدد من النجوم كأنها رنك،
٢٧٤ كما أن بعضها رسم تِرَسة غريبة تشبه شكل العين.
٢٧٥
والمعروف من كئوس القديسة هدويج نحو عشر تحف، أهمها موجود في كاتدرائية مدينة
مندن
Minden بمقاطعة بروسيا،
٢٧٦ وفي كاتدرائية كراكاو ببولنده،
٢٧٧ وفي متحف امسترام
٢٧٨Rijksinuseum وفي المتحف الألماني بمدينة نورنبرج،
٢٧٩ وفي متحفي غوطا وبرزلاو، وفي كاتدرائية هلبرشتاد
Halberstadt بمقاطعة بروسيا.
٢٨٠
وقد كان الاختلاف كبيرًا بين علماء الآثار ومؤرخي الفن على تعيين الإقليم الذي
صنعت فيه هذه الكئوس، فنسبها بعضهم إلى بوهيميا وإلى أقاليم ألمانية أخرى، كما
نسبها أكثرهم إلى مصر في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في نهاية العصر
الفاطمي وفي بداية عصر الأيوبيين. وقد كشفت قنينة عليها زخارف تشبه زخارف كئوس
القديسة هدويج؛ وهي محفوظة الآن في متحف بناكي بأثينا، وهي ترجح نسبة هذه الكئوس
إلى مصر.
ومهما يكن من شيء فإننا يجب أن نذكر أن جل هذه الكئوس انتقلت إلى أوروبا منذ زمن
بعيد؛ فالقديسة هدويج حصلت على ما كانت تملكه منها قبل وفاتها سنة (١٢٤٣)، وربما
تكون قد أحضرتها معها حين زيارتها للحج في الأماكن المقدسة.
(٦) البلور الصخري
نقل القزويني عن أرسطو أن حجر البلور صنف من الزجاج، إلا أنه أصلب، وقال: إنه
يصبغ بألوان الياقوت فيشبه الياقوت، وإن الملوك يتخذون من البلور أواني، معتقدين أن
للشرب فيها فوائد.
٢٨١
وعلى كل حال فقد استخدم المسلمون البلور الصخري في عمل الكئوس والأباريق وغيرها
من التحف الثمينة، وقد جاء في بعض المصادر الأدبية والتاريخية أن الخليفة الراضي
بالله (٣٢٢–٣٢٩ﻫ أو ٩٣٣–٩٤٠م) كان يجمع التحف ولا سيما ما كان منها من البلور
الصخري، وأنه كان ينفق في هذا السبيل أكثر مما كان ينفقه في أي شيء آخر،
٢٨٢ حتى قال الصولي: «ما رأيت عند ملك أكثر منه عند الراضي، ولا عمل ملك
منه ما عمل، ولا بذل في أثمانه ما بذل، حتى اجتمع منه له ما لم يجتمع لملك قط.»
٢٨٣
وقد كتب الغزولي
٢٨٤ في مؤلفه «مطالع البدور في منازل السرور» عن كنوز البلور في قصور الفاطميين،
٢٨٥ كما تحدث عن البلور وأنواعه وخواصه وخاصيته، وذكر أنه يوجد ببلاد العرب
ويؤتى به من الصين ومن بلاد أفرنجة؛ والنوع الصيني دون النوع العربي، بينما الفرنجي
جيد جدًّا. وأشار إلى وجوده بالمغرب الأقصى على مقربة من مراكش؛ ونقل أن تاجرًا من
تجار الأفرنجة أهدى إلى ملك من ملوك المغرب قبة من البلور قطعتين، يجلس فيها أربعة
نفر، ورأى من البلور صورة ديك مخروطًا، إذا صب فيه الشراب ظهر لونه في أظفار الديك
ورءوس أجنحته، وكان هذا من صنعة بلاد الفرنجة،
٢٨٦ والظاهر أن المسلمين كانوا يعتقدون أن من علق عليه شيء من البلور لم ير
منام سوء قط.
٢٨٧
ويروون أن الجامع الأموي بدمشق كان به في محراب الصحابة إناء من البلور، يلمع
ويضيء مثل السراج ويسمى القليلة، وكان الخليفة الأمين يحب البلور، فكتب إلى صاحب
الشرطة في دمشق أن ينفذ إليه القليلة، فسرقها ليلًا، وبعث بها إليه، فلما قتل
الأمين، رد المأمون القليلة إلى دمشق، ليشنع بها على الأمين.
٢٨٨
وقد مر بنا حديث ناصر خسرو عن سوق القناديل ونضيف هنا أنه أعجب أشد الإعجاب بما
شاهده من البلور الصخري فيه، وأثبت أنه كان غاية في الجمال والإبداع، وأنه كان
مشغولًا بأسلوب فني، على يد صناع لهم ذوق رقيق، وذكر في هذه المناسبة أن البلور كان
يجلب من بلاد الغرب، حتى قبل رحلته إلى مصر بزمن وجيز، حين جيء ببعضه من إقليم
البحر الأحمر، وكان هذا النوع الجديد أجمل من المغربي وأكثر منه شفافية.
٢٨٩
ومن المحتمل أن جلب البلور الصخري من مصر نفسها كان سببًا في انخفاض ثمنه، وإنتاج
التحف الكثيرة منه حتى كان منها في كنوز الخلفاء الفاطميين ووزرائهم وكبار رجال
دولتهم ما مر بنا ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب، وما نقرأ من أخباره في كتاب
المستطرف للأبشيهي وكتاب مطالع البدور للغزولي.
وليس في دار الآثار العربية نماذج خطيرة الشأن من التحف المصنوعة من البلور
الصخري، فإن أكثرها محفوظ الآن في كنائس الغرب ومتاحفه، ولعل السر في الحرص عليه
وبقائه حتى الآن أن البلور الصخري كان يعتبر رمزًا للنقاء الروحي؛ نظرًا لشفافيته
ونقاوته، فكان الغربيون يحفظون فيه بعض المخلفات المقدسة التي كانوا شديدي التعلق
بها في العصور الوسطى.
وتشتمل مجموعة المسيو رالف هراري على بعض قطع من البلور الصخري، ولكن ليست لها
شهرة القطع المعروفة في المتاحف والكنائس،
٢٩٠ على الرغم من أن فيها قنينات صغيرة غاية في الدقة والجمال.
٢٩١
وليس تحديد التاريخ الذي ترجع إليه التحف المصنوعة من البلور الصخري أمرًا
عسيرًا؛ فبعض تلك التحف يرجع إلى ما قبل العصر الفاطمي، وقد يكون من مصر في العصر
البيزنطي أو من بيزنطه، أو من إيران، أو من العراق، أو من مصر في القرن الثالث
الهجري (التاسع الميلادي)،
٢٩٢ وبينها سلطانية
٢٩٣ عليها شريط زخرفي من الفصيلة التي عرفناها في سامرا وفي الفن الطولوني.
٢٩٤
أما القطع الباقية، فإننا نعرف منها اثنين، على كل منهما كتابة تحدد تاريخها:
- الأولى: إبريق على شكل كمثرى، محفوظ في كنوز كاتدرائية سان ماركو بمدينة البندقية،٢٩٥ ومقطوع فيه زخارف، قوامها رسم أسدين بينهما شجرة
الخلد، وعلى المقبض خروف صغير، وبين رقبة الإبريق وبدنه شريط من
الكتابة الكوفية نصها:
بركة من الله للإمام العزيز بالله.
٢٩٦
- الثانية: حلقة من البلور على شكل هلال في المتحف الجرماني بمدينة نورنبرج بألمانيا،٢٩٧ وعليها بالخط الكوفي العبارة الآتية: «لله الدين كله
الظاهر لإعزاز دين الله أمير المؤمنين.»٢٩٨
على أن كاتدرائية مدينة فرمو
Fermo بإيطاليا تحوي بين كنوزها إبريقًا من البلور
الصخري، رقبته مفقودة، وعلى بدنه زخرفة من طائرين متواجهين، بينهما فروع نباتية
غاية في الدقة، وفوق ذلك شريط من الكتابة الكوفية نصه:
٢٩٩ «بالسيد الملك المنصور.»
ولا يمكن أن يكون المقصود هنا الخليفة
الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور (٣٨٦–٤١١ﻫ أو ٩٩٦–١٠٢٠م)، كما لا يمكن أن تكون
الإشارة إلى الخليفة الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور (٤٩٥–٥٣٤ﻫ أو ١١٠١–١١٣٠م)،
كما يظن الدكتور لام؛ فإن لقب السيد الملك يشير إلى الوزراء إلى آخر العصر الفاطمي،
٣٠٠ ولكننا لا نستطيع أن نجزم بصحة نسبة هذا الإبريق إلى مصر؛ فإن أسلوب
الفروع النباتية فيه، وشكل الكتابة الكوفية، ونصها، كل ذلك يجعلنا نظن أنها صنعت في
أوروبا تقليدًا للتحف المصرية.
وهناك عامل آخر يساعد على تحديد التاريخ الذي صنعت فيه التحف البلورية المحفوظة
في كنائس أوروبا ومتاحفها، ذلك أن بعضها مركب على قطع أخرى أوروبية الصنعة، ويمكن
معرفة تاريخها بطرازها الفني أو بما تتصل به من حوادث.
٣٠١
والمشاهد في التحف المصنوعة من البلور الصخري أن أقدمها تكون زخارفه تامة البروز،
وقطعها في البدن ظاهرًا، بينما نرى في التحف التي ترجع إلى نهاية العصر الفاطمي أن
بروز الزخارف لا يكاد يفصلها تمامًا عن بدن التحفة، أو أرضية الرسم.
ومهما يكن من شيء فإن الذي وصلنا من هذه التحف متنوع الأشكال والأحجام من أباريق
على هيئة الكمثرى، إلى فناجين وأطباق، وقناني وكئوس، وعلب وصحون، وقطع
شطرنج.
أما الأباريق فمعروف منها واحد في متحف
اللوفر، أصله من كاتدرائية سان دني
Saint Denis
وعليه زخرفة من شجرة فيها مراوح نخيلة (بالمت)، في كل من جانبيها ببغاء على أحد فروعها،
٣٠٢ وفوق هذه الزخرفة شريط من كتابة دعائية بالخط الكوفي، ويظن أن هذه
التحفة كانت هدية من روجر الثاني ملك صقلية إلى الكونت تيبولت من شمبانيا
Thibauld de Champagne، وأن هذا أعطاها
إلى الأب سوجر المتوفى سنة (١١٥١م).
٣٠٣
وفي متحف فكتوريا وألبرت إبريق آخر، قوام زخرفته مجموعتان من الحيوان، تتكون كل
منهما من صقر ينقض على غزال ليفترسه.
٣٠٤
وهناك إبريق ثالث في بتي بفلورنسة بتي بفلورنسة
Palazzo
Pitti، وهو على
شكل الكمثرى أيضًا؛ وتتكون زخرفته من بجعتين، بينهما فرع نباتي متقن، وفوقهما كتابة
دعائية بالخط الكوفي.
٣٠٥
كما أن متحف الهرميتاج
Ermitage بليننغراد، فيه
إبريق ذو مقبض قائم الزاوية، وحول عنقه القصير شريط، به زخرفة من فرع نباتي دائر،
وأما بدنه فعليه رسم أربعة أسود، كل اثنين منها متواجهان.
٣٠٦
على أن ضيق المقام في هذا الكتاب يحول دون استعراض بقية النماذج المعروفة من هذا
النوع؛ أن نذكر أن أكثرها كان له مقبض مستقيم، وفي أعلاه هيئة حيوان أو طائر صغير
ليرتكز عليه الإبهام عند مسك الإبريق. أما البدن فكان مزينًا بزخارف مقطوعة فيه،
وقوامها حيوانات أو طيور، أو فروع نباتية، مرسومة بدقة وانسجام، وتناسب وتناسق،
تدعو بجدة منظرها في بعض تلك النماذج إلى الشك في صحة نسبته إلى الفن الإسلامي،
وتجعلنا نرجح أنه صنع في الغرب، تقليدًا للنماذج التي لا شك في صحة نسبتها إلى
الشرق.
ومن أهم الأنواع الأخرى التي وصلتنا من التحف المصنوعة من البلور الصخري زجاجات
ذات جسم كروي ورقبة أسطوانية؛ ففي كاتدرائية استورجا
Astorga بمقاطعة ليون بإسبانيا قارورة من هذا النوع، كتب الدكتور
لام أنها من صناعة مصر في بداية القرن الحادي عشر الميلادي؛
٣٠٧ ولكننا لا نرى هذا الرأي؛ لأن الزخارف الموجودة على بدن الزجاجة طرازًا
يجعلنا نميل إلى القول بأنها صنعت في أوروبا. وهناك قارورة أخرى من هذا النوع في
كاتدرائية هلبرشتات
Halberstadt بألمانيا،
٣٠٨ على بدنها ورقبتها وقاعدتها زخارف نباتية.
كما أن هناك بعض كئوس أسطوانية الشكل، بينها ما له رقبة وما لا رقبة له، أما
زخارفها فمن فروع نباتية وأرابسك، ومن أحسن نماذج هذه الكئوس واحدة في كنوز
كاتدرائية سان ماركو بمدينة البندقية،
٣٠٩ لها رقبة ضيقة وعليها كتابة دعائية، ويزعم القوم أنها تحتوي على نقط من
دم السيد المسيح.
وفي بعض المتاحف والمجموعات الأثرية أباريق من البلور الصخري، بدنها على شكل
كمثرى؛ ولكنه ذو فصوص، ومنها واحد في متحف تاريخ الفنون بفينا، له مقبضان جميلان.
٣١٠ ويقال: إنه كان من جهاز الأميرة الإسبانية ماريا تيرنزيا، الزوجة
الأولى للقصير ليوبولد الأول.
٣١١
أما قطع الشطرنج فأهمها في مجموعة الكونتس دي بهاج في باريس
Contesse de Béhague.
٣١٢
ولسنا نريد هنا أن نستطرد في استعراض بقية المعروف من تحف البلور الصخري، من علب
وصحون، وفناجين وأطباق، وزجاجات متنوعة الشكل؛ فإنها لا تختلف في جوهر زخرفتها عما
أشرنا إليه حتى الآن.
(٨) النقش في الخشب
ربما كان النقش في الخشب بالحفر أحسن فروع الفن الفاطمي حظًّا، في وفرة النماذج
التي وصلت إلينا منه، فبينما لا نعرف في سائر الصناعات نماذج كثيرة من الطراز
الأول، تعبر حق التعبير عما كانت عليه تلك الصناعات من تقدم وازدهار، إذ نرى
المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة، والمساجد، والكنائس القبطية، تضم بين جدرانها
تحفًا خشبية، لا تزال في حالة جيدة من الحفظ، ويمكن في الوقت نفسه معرفة التاريخ
الذي صنعت فيه؛ إما بما عليها من كتابات، أو بتاريخ المساجد والقصور والكنائس التي
استخدمت فيها، والتي تحمل على القول بأن هذه القطع لم تكن من النماذج العادية،
وفضلًا عن ذلك كله، فإن النتائج التي حصلنا عليها من دراسة هذه القطع المؤرخة، أو
التي يمكن معرفة تاريخها، تجعل من اليسير علينا أن نتبين أن بعض التحف الخشبية
المعروفة ترجع إلى العصر الفاطمي؛ لأنها من نفس طراز القطع السالفة الذكر.
ومهما يكن من شيء فإن المصريين عنوا بإتقان صناعة النجارة والنقش في الخشب بالحفر
منذ الأزمنة القديمة، كما تشهد بذلك التحف الخشبية المحفوظة في المتحفين المصري
والقبطي، وهذا كله على الرغم من أن مصر كانت ولا تزال فقيرة في إنتاج الخشب، ولا
سيما ما يصلح منه للحفر والزخرفة والأعمال التي تتطلب متانة النوع ودقة الصنعة،
فالواقع أن ما في وادي النيل من الخشب كالجميز، والسنط، والنبق، والسرور، والزيتون،
لا يصلح إلا لأعمال النجارة البسيطة.
فالمصريون إذن كانوا يعتمدون إلى درجة كبيرة على الأنواع الطيبة من الخشب الذي
كانوا يستوردونه من الأقطار المجاورة، كالأرز والصنوبر، من أسيا الصغرى وسورية،
والتك من الهند، والآبنوس من السودان، وكانت بلدان أوروبا الجنوبية من المصادر التي
أمدت مصر بالخشب في العصور الوسطى.
٣١٩
وعلى كل حال فقد كان للخشب في الفسطاط أسواق عامرة منذ العصر الطولوني،
٣٢٠ وأخذت الحكومة منذ قيام الدولة الفاطمية تعني بالغابات وزرع الأشجار،
وحق أنها كانت ترمي بذلك إلى استخراج الخشب اللازم لمراكب الأسطول؛ ولكن جزءًا
كبيرًا من الخشب الذي أمكن إنتاجه استخدم في صناعة الأثاث وأعمال العمارة.
٣٢١
وقد ذكرنا في الجزء الأول من كتابنا عن الفن الإسلامي في مصر (ص٩٢) أن الأخشاب
ذات الزخارف المحفورة كان لها شأن خطير في تأثيث الكنائس والأبنية القبطية
وتزيينها، وأن المسلمين لم يحتاجوا إلى استخدام الخشب في مساجدهم بمثل هذه الوفرة؛
فإن جل استعمالهم إياه كان في عمل السقوف، والأبواب، والمنابر، والدكك، وأشرطة
الكتابة التاريخية أو الزخرفية، وفي صناعة القباب أو تقويتها، وفي ربط القوائم
والأعمدة ببعضها، كما استخدموه إبان العصر الفاطمي في صناعة محاريب غير
ثابتة.
وقد تحدثنا في الكتاب المذكور عن التحف الخشبية التي يرجع تاريخها إلى عصر
الانتقال من الطراز القبطي إلى الطراز الإسلامي، وعن التحف الخشبية الطولونية،
وتأثرها بطراز سامرا فلا محل للرجوع إلى ذلك هنا.
٣٢٢
أما التحف الخشبية التي ترجع إلى عصر الفاطميين فعظيمة القيمة بنوعها، ودقة
صناعتها، وجمال زخارفها، وخطر المناسبات التي صنعت فيها، أو الأبنية التي استخدمت
بها.
وهي موزعة على عصر الفاطميين كله، فبينها ما يرجع إلى حكمهم في شمالي أفريقيا،
وما يرجع إلى بداية حكمهم في وادي النيل، أو إلى أوج عزهم فيه، أو إلى نهاية دولتهم
وبدء اضمحلالها، وبينها ما صنع في صقلية وتأثر بأساليبهم الفنية، وما ينسب إلى بني
زيري، خلفائهم في شمالي أفريقيا، الذين كانوا أتباعهم فنيًّا، كما كانوا أتباعهم
سياسيًّا، فترة غير قصيرة من الزمن.
أما الذي يرجع تاريخه إلى حكمهم في شمالي أفريقيا فباب في جامع سيدي عقبة على
مقربة من مدينة بسكرة بالجزائر، ويظن أنه صنع بأمر الخليفة الفاطمي المنصور
(٣٣٤–٣٤١ﻫ/٩٤٦–٩٥٣م) لضريح سيدي عقبة في جامع طبنة وهي بلدة قريبة من بسكرة،
٣٢٣ وهذا الباب من خشب الأرز، وله مصراعان، في كل منهما قضيب خشبي يقسمه
قسمين عدا القضيب الخشبي الذي يغطي ملتقى المصراعين، وعلى كل حال فإن إطار الباب
وعتبته الفوقانية، والقضبان الخشبية الثلاثة، كلها مغطاة بزخارف محفورة من رسوم
هندسية، وفروع نباتية، وخطوط منحنية على شكل حرف
S،
والناظر إلى طراز هذه الزخارف يرى لأول وهلة أن ثمة علاقة بينها وبين طراز الزخرفة
العباسي، وأنها ليست غريبة عن بعض الزخارف التي ترى فوق بواطن بعض العقود بالجامع الطولوني.
٣٢٤ ولا ينفي كل هذا أن زخارف هذا الباب تقوم على أساليب من الفنين الأغلبي
والبيزنطي، ووجود العلاقة الوثيقة بين كل هذه الأساليب الفنية التي سادت على ضفاف
البحر الأبيض المتوسط أمر مفروغ منه، ومهما يكن من شيء فإننا سنرى أن الزخارف
المحفورة على الأخشاب الفاطمية تأخذ في التطور، حتى تبتعد الشقة بينها وبين زخارف
الباب السالف الذكر.
ولعل أقرب التحف إلى طراز هذا الباب هي — بطبيعة الحال — التحف التي ترجع إلى
العصر الذي كان يحكم فيه بنو زيري في إفريقية، تابعين للفاطميين أولًا، ثم مستقلين
عنهم بعد ذلك.
وأهم تلك التحف أخشاب صنعت بأمر المعز بن باديس لجامع القيروان في منتصف القرن
الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وهي المقصورة ومدخل المكتبة.
٣٢٥
أما المقصورة فمن الخشب المشبك، وفيها زخارف محفورة، وفي أعلاها شريط من الكتابة
الكوفية المشجرة على أرضية من الفروع النباتية،
٣٢٦ ويشبه طراز هذه الكتابة طراز الكتابة المعاصرة عند الغزنونيين.
٣٢٧
بينما مدخل المكتبة فيه ألواح مكونة من حشوات؛ محفور عليها زخارف نباتية، غنية
ومتقنة، وفي توزيعها تناسق وتناسب على الرغم من وفرتها، وهي تكون في مجموعها
أشكالًا متوازية الأضلاع، موزعة توزيعًا غير منظم،
٣٢٨ وليست هي الأشكال الهندسية النجمية والمتعددة الأضلاع والرءوس، مما
اعتدنا رؤيته في الزخارف الإسلامية بعد العصر الفاطمي، ولا سيما في تزاويق مخطوطات
القرآن، وفي زخارف السقوف والجدران والأبواب والمنابر والمحاريب.
أما ما نجده من التحف الخشبية في صقلية متأثرًا بالطراز الفاطمي فألواح باب في
كنيسة المرتورانا
Santa Maria dell’Ammiraglio
التي شيدت في بلرمو سنة (١١٣٦) ميلادية على يد أحد أمراء البحر في خدمة الملك روجر
الثاني. والمعروف أن هذه الكنيسة من الأبنية الصقلية التي يظهر في ترتيب قبابها
وأساليب زخارفها تأثير الفنين الإسلامي والبيزنطي، والألواح المذكورة تتجلى فيها
الأساليب الفنية التي نعرفها في أزهى عصور الفاطميين في مصر، فتمتاز بعمق الرسوم
ودقة صنعتها.
٣٢٩
وفضلًا عن ذلك فإن سقف الكنيسة الصغيرة الموجودة في القصر الملكي بمدينة بلرمو،
والتي تعرف باسم الكابلا
بالاتينا
Capella Palatina، غني بالزخارف المنقوشة ويشهد بتأثير الصناعة والأساليب
الفنية الإسلامية، وبين تلك الزخارف النباتية صور طيور وحيوانات، مما تمتاز به
التحف الفاطمية التي كانت تزين سقوف القصور الفاطمية وأبوابها وجدرانها؛
٣٣٠ ولكننا نلاحظ أن الحيوانات المنقوشة على الحشوات الخشبية الفاطمية ليست
في دقة التي نراها في سقف الكابلا بالاتينا؛ فإن الأخيرة أحدث عهدًا من الأولى،
ورسومها أكثر تطورًا، وأصدق في تمثيل الطبيعة، وأكثر تعبيرًا عن الحركة والحياة،
وليس هذا غريبًا إذا تذكرنا ما نراه في الفن الإسلامي عامة من نقص في هذا الميدان،
يرجع إلى كراهية التصوير في الإسلام وإلى اتخاذ الفنانين المسلمين تقاليد خاصة في
رسم المخلوقات الحية، دون اهتمام بمراعاة الدقة في تأمل الطبيعة، والأمانة في
تصويرها؛ حتى ليمكن أن نقول: إن الفنان المسلم كان يرسم الحيوانات مجردة عن
طبيعتها، ومتخذًا منها رمزًا لا حياة فيه ولا روح.
وإذا نحن عرجنا الآن على التحف الخشبية التي صنعت بمصر في عصر الفواطم أمكننا أن
نقسم حكمهم إلى فترات؛ لنستطيع أن ندرس في وضوح وإيجاز خصائص الأساليب الفنية في كل
فترة منه.
وطبيعي أن تكون الفترة الأولى عصر انتقال بين طراز الحفر الذي كان سائدًا في
العصرين الطولوني، والإخشيدي، وبين الطراز الذي عم في الفترة التالية. فالدعامات
الخشبية تحت قبة جامع الحاكم عليها زخارف من فروع نباتية متصلة، وتكوِّن رسوم أوراق
شجر محفورة حفرًا عميقًا.
٣٣١ وتبدو العلاقة الوثيقة بينها وبين الطراز الطولوني في الحفر على الخشب والجص.
٣٣٢
ومن التحف التي يمكن نسبتها إلى هذه الفترة باب ذو مصراعين من خشب شوح تركي، وهو
محفوظ الآن بدار الآثار العربية (رقم السجل ٥٥١)، وأصله من الجامع الأزهر،
٣٣٣ وفي كل مصراع منه سبع حشوات مستطيلة: الأولى والثالثة والأخيرة موضوعة
وضعًا أفقيًّا، وبين الأولى والثالثة حشوتان متجاورتان، وموضوعتان وضعًا عموديًّا،
وبين الثالثة والأخيرة الحشوتان الباقيتان، وهما عموديتان أيضًا، وعلى الحشوة
العليا في كلا المصراعين كتابة بالخط الكوفي؛ ولكن الواضح أن هاتين الحشوتين
انقلبتا عند إعادة تركيبهما، فاختلف وضع الكتابة وانتقلت كتابة اليمين إلى الشمال،
والشمال إلى اليمين فصارتا على النحو الآتي:
(الحشوة اليسرى) |
(الحشوة اليمنى) |
مولانا أمير المؤمنين |
الإمام الحاكم بأمر الله |
صلوات الله عليه وعلى |
آبائه الطاهرين وأبنائه* |
*
راجع:
j. David Weill: Les Bois à
Epigraphes Jusqu à l’Epoque
Mamelouke ص١٦-١٧.
وتدل هذه الكتابة على أن الباب صنع حين قام الخليفة الحاكم بعمارة الجامع الأزهر
والتجديد فيه سنة (٤٠٠ﻫ/١٠١٠م).
٣٣٤
أما سائر حشوات هذا الباب فعليها زخارف نباتية محفورة حفرًا عميقًا، وليست الشقة
بعيدة بينها وبين الطراز الطولوني، وإن كانت تقل عنه روعة وقوة تعبير، والظاهر أن
بعض هذه الحشوات يرجع إلى عصر متأخر؛ ولكنه صنع على نمط الحشوات القديمة، وقد حلل
المسيو بوتي
E. Pauty زخارف هذه الحشوات تحليلًا
دقيقًا في الفهرس العلمي، الذي كتبه عن الأخشاب ذات الزخارف في دار الآثار العربية.
٣٣٥ ولسنا نريد أن نستطرد هنا في وصف الموضوعات الزخرفية فيها وصفًا تغني
عنه — في رأينا — نظرة تمحيص وتدقيق في صورة الباب؛ وحسبنا أن ننبه إلى ما تشهد به
كل هذه الحشوات من قدرة الصانع في الفن الإسلامي على مراعاة التناظر والتقابل فضلًا
عن البساطة والغنى في الوقت نفسه.
وفي دار الآثار العربية حشوات وألواح خشبية أخرى ترجع إلى الفترة الأولى من حكم
الفاطميين في مصر، وزخارف أكثر هذه الحشوات مكونة من فروع نباتية وتشبه في طرازها
وصنعتها زخارف الحشوات الموجودة في الباب السالف الذكر؛
٣٣٦ غير أن بعضها محفور فيه رسوم طيور وحيوانات.
ومما يمكن نسبته إلى بداية العصر الفاطمي حشوات على شكل محاريب صغيرة، وفي دار
الآثار العربية خمس
٣٣٧ منها؛ وإحداها (رقم السجل ٨٤٦٤) فيه رسم عقد مدبب يقوم على عمودين
حلزونيين، ولكل منهما محمل وقاعدة رمانية الشكل، ونرى البسملة مكتوبة بين العقد
والعمودين بخط كوفي فاطمي، وحولهما إطار فيه أسماء النبي وعلي والحسن والحسين وسائر
الأئمة من ذريتهم.
٣٣٨
وإذا ذكرنا ما نعرفه من أن القبط كانت لهم القيادة في صناعة النجارة، وأن
الفاطميين عرفوا في أكثر أيامهم التسامح الديني العظيم، لم ندهش إذا رأينا في
الكنائس القبطية نفس الزخارف التي نراها على خشب الجوامع والأثاث الإسلامي؛ ففي
المتحف القبطي قبة مذبح أصلها من الكنيسة المعلقة وعلى جزئها السفلي عقود وصلبان في
فروع نباتية محفورة حفرًا دقيقًا تذكر بالزخارف الجصية في الجامع الأزهر.
٣٣٩
ومن أهم التحف الخشبية التي ترجع إلى بداية العصر الفاطمي حجاب الهيكل في كنيسة
بربارة بمصر القديمة، وهو محفوظ الآن في المتحف القبطي، وقد وصفه مرقص سميكة باشا
في دليله بالعبارة الآتية: «حجاب من كنيسة الست بربارة مكون من ٤٥ حشوة خلاف دائرة
العتبة العليا، وعلى الحشوات نقوش بارزة من حيوان مفترس وطيور وغزلان وأشخاص ومناظر
للصيد والقنص، يتخلل بعضها صلبان، ويعتبر هذا الحجاب أجمل ما بقي من صناعة العصر
الفاطمي الزاهر، ويرى فيه تأثير الفن الفارسي — من القرن العاشر — (مقاسه ١٢٧ × ٢١٨ سنتيمترًا).»
٣٤٠
والواقع أن هذا الحجاب غني جدًّا بزخارفه الوافرة؛ فلا غرو إن كان من أصدق
الأمثلة على ازدهار صناعة الحفر في الخشب إبان العصر الفاطمي، على يد الفنانين من
القبط ومن المسلمين على السواء.
٣٤١ ونلاحظ أن في وسطه مدخلًا من مصراعين، في أعلاهما من اليمين واليسار
ركنان (كوشتان)، ولكل مصراع أربع حشوات مستطيلة وأفقية، ونرى سائر الحشوات مركبة
على جانبي هذا المدخل في تناظر وتقابل جميلين.
٣٤٢ والزخارف المحفورة في حشوات الحجاب متنوعة الموضوعات، وقوامها فروع
نباتية تقوم بينها صور آدمية أو رسوم حيوانات.
أما الركنان ففي وسط كل منهما دائرة تضم رسم فارس يصطاد بالباز، وفوق رأسه عمامة،
وعلى قبضة يده طائر جارح على أهبة الانطلاق،
٣٤٣ بينما نرى في حشوات الباب رسوم صيادين آخرين ومع كل منهم الباز الذي
يصطاد به والطائر الذي اصطاده، وفي الجزء السفلي من كل حشوة رسم إناء تخرج منه
الفروع النباتية الملتوية، ويحف به من الجانبين رسم وعلة،
٣٤٤ ومهما يكن من شيء فإن دقة الحفر وإتقان الصنعة يتجليان في استيعاب
الأجزاء الدقيقة في أجسام الحيوانات والطيور، وفي حسن أداء الزخارف التي تزين ملابس
الفارس.
ومن الموضوعات الزخرفية التي نراها محفورة في الحشوات الأخرى رسم صراع بين أسد وإنسان،
٣٤٥ ورسم سلطانية تخرج منها فروع نباتية، فوقها لبؤتان، تولي كل منهما
الأخرى ظهرها، وفوق اللبؤتين طاوسان متواجهان.
٣٤٦ كما نرى على حشوات أخرى رسم أسد ينقض على وعلة لافتراسها، أو رسم
موسيقيين يعزفان على العود وحولهما أشخاص يرقصون رقصًا توقيعيًّا، وقد روعي في رسم
الأشخاص تقابل دقيق.
٣٤٧ ومن الرسوم الغريبة المنقوشة في بعض تلك الحشوات مناظر قتال بين فارس
ورجلين يهجم أحدهما عليه من خلفه والآخر من أمامه،
٣٤٨ وطريقة رسم هذين الرجلين تذكر بالرسوم البارزة على المعابد المصرية
القديمة وبالتماثيل الفرعونية.
ولسنا نستطيع أن نستعرض كل الموضوعات الزخرفية في الحشوات التي يتكون منها حجاب
الست بربارة، فلا نملك إلا أن نحيل القارئ إلى الأبحاث التي كتبها في هذا الصدد
باتريكولو ومونريه دي فيلار وبوتي ولام وغيرهم.
وحسبنا أن نختم حديثنا عن الحجاب المذكور بالتنبيه إلى الشبه بين الزخارف
النباتية في أرضية هذه الحشوات، وبين بعض أنواع الزخارف الموجودة في منارتي جامع
الحاكم وذات الصلة الوثيقة بالأساليب الزخرفية البيزنطية، كما أننا نلاحظ أيضًا أن
الرسوم الآدمية في تلك الحشوات عليها مسحة من الدقة تدل على صدق تصوير الطبيعة وعدم
الخلود إلى الرسوم الخيالية المهذبة، وأن الموضوعات الزخرفية فيها تشبه ما نراه على
حشوات كثيرة أخرى من العصر الفاطمي، أغلبها محفوظ في دار الآثار العربية. وأكبر
الظن أن كثيرًا من هذه الموضوعات الزخرفية يرجع إلى أصول كانت معروفة في الشرق
الأدنى منذ الأزمان القديمة، وهضمت بيزنطة جل هذه الأصول ثم أحيتها في بلاد البحر
الأبيض المتوسط.
وربما كانت حشوات هذا الحجاب أصدق مثال لتأثير الأساليب البيزنطية في الفنون
الفاطمية، ولا سيما على يد الصناع من القبط؛ ولكن علينا أن نذكر في الوقت نفسه أن
الأساليب الفنية الفاطمية كان لها في مواضع أخرى تأثيرات كبيرة في الفنون
البيزنطية، كما يظهر من وجود تقليد الكتابة الكوفية على أحجار بيزنطية من القرن
الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي). على أننا لا نعني أن تأثير الفنون البيزنطية
حدث حتمًا في العصر الإسلامي؛ إذ إننا نعرف أنه كان ملموسًا في مصر قبل الفتح
العربي، فضلًا عن ذلك كله فإن جل العناصر الزخرفية في حجاب الست بربارة لم يكن
وقفًا على مصر في العصور الوسطى؛ إذ إن الأشكال الآدمية تذكر بمثيلاتها في التحف
العاجية التي كانت تصنع في الأندلس؛
٣٤٩ بينما نرى في الفن البيزنطي رسوم الحيوانات والطيور التي نعرف أنها تقل
كثيرًا منها عن الفن الساساني.
ونحن إذا عرجنا الآن على الفترة الوسطى من عصر الفاطميين في مصر — وتشمل حكم
الخليفين الظاهر والمستنصر — رأينا ما يعظم به إعجابنا من نماذج لصناعة النقش من
الخشب، نلاحظ فيها تطور هذا الفن إلى أقصى ما بلغه في عهد الفواطم، ونرى الأساليب
الزخرفية الطولونية تقل شيئًا فشيئًا، وعلى كل حال فإن هذه الفترة ممثلة خير تمثيل
في مجموعة دار الآثار العربية، وهي كما نعلم أغنى المجموعات الخشبية في متاحف
العالم أجمع.
ففي متحفنا جزء من مصراع باب (رقم السجل ٤١٢٨) لم يبق منه إلا ثلاث حشوات،
٣٥٠ وهو من مجموعة التحف الخشبية التي جيء بها من مارستان قلاون، والتي
يرجح أنها كانت مستعملة بالقصر الغربي في العصر الفاطمي وهو القصر الذي قام في
مكانه مارستان قلاون وضريحه.
٣٥١
وعلى كل حال فإن أرضية هذه الحشوات مكونة من زخارف نباتية دقيقة، قوامها سيقان
وأوراق ذات ثلاثة فصوص، أما الزخرفة الأساسية فأكبر حجمًا، وتتكون من سيقان وأوراق
ذات فصين، وتلتف الأوراق في تماثل وتعادل، وفي وسطها غزالان متواجهان (في إحدى
الحشوات) أو حمامتان متواجهتان (في الحشوتين الوسطى والسفلى)، وفي جانبيهما طائران
كأنهما جزء من الزخارف النباتية التي تبرز في كل حشوة.
٣٥٢
وفي دار الآثار قطعة أخرى (رقم السجل ٣٥٥٣)، أصلها جزء من مصراع باب، وهي كذلك من
مجموعة التحف الخشبية التي جيء بها من مارستان قلاون، وقد بقي فيها ثلاث حشوات
عليها زخارف نباتية من سيقان وأوراق تحيط بموضوع زخرفي رئيسي، مكون من رأسي فرسين
تتجه إحداهما إلى الجانب الأيمن للحشوة والأخرى إلى الجانب الأيسر، وبينها زخارف
نباتية أخرى مفرغة بدقة وعناية.
٣٥٣ وعلى أن هذه الحشوات ليست في حالة جيدة من الحفظ؛ ولكننا نستطيع أن
نعرف حالتها الأولى بفضل حشوة خشبية أخرى في المتحف نفسه
٣٥٤ (رقم السجل ٣٣٩١)، وقد اشترتها الدار سنة (١٩٠٩)، ولا يزال لهذه الحشوة
جمالها الأول وتتجلى فيها الدقة والإتقان اللذين كانا رائد الصانع في نقش السيقان
والزهور ورأسي الحصانين بما في كل منهما من لجام وأدوات، وهناك تحفة أخرى تشبه هذه
الحشوة كل الشبه، وهي محفوظة الآن في متحف المتروبوليتان بنيويورك،
٣٥٥ ويتجلى في زخرفتها انسجام وتناسق عظيمان.
وهناك مجموعة من حشوات خشبية صغيرة مخرمة، أبدعها قطعة بدار الآثار العربية (رقم
السجل ٥٨٢٧)، وقد عثر عليها في أطلال الفسطاط، وهي تمثل أسدًا يفترس أيلة في حركة،
بها من العنف ودقة الرسم وقوة التعبير ما يذكرنا بمثل هذه المناظر في منتجات التحف المعدنية
٣٥٦ من الفن السيتي.
وثمة قطعة أخرى من هذا النوع محفوظة في المتحف المصري (رقم السجل ٤٥٠٨١) عثر
عليها في دندرة، وتمثل فارسًا يعدو على حصانه، وقد التفت إلى الخلف ليطلق سهمًا من قوسه.
٣٥٧
وفي دار الآثار العربية ومتحف فكتوريا وألبرت بلندن مجموعة فريدة من التحف
الخشبية الفاطمية، وهي أجزاء من ألواح خشبية، عثر عليها بضريح السلطان الناصر محمد
بن قلاون وبمارستان قلاون في سنة (١٩١١) والسنين التي تلتها، وكانت هذه الألواح
مستخدمة في تغطية الإفريز الأعلى بالجدران، وطراز زخارفها ليست له علاقة بعصر
المماليك؛ وإنما يقوم شاهدًا على أنها من العصر الفاطمي؛ ولأن عليها — كما سنرى —
زخارف آدمية فلا يمكننا القول بأنها أخذت من إحدى الأبنية الدينية الفاطمية، وأعيد
استعمالها في أبنية السلطان قلاون وابنه السلطان الناصر؛ ولكن غنى الزخارف وإتقان
الصنعة في هذه الألواح يحملان على الظن بأن مصدرها لم يكن مسكنًا عاديًّا. ومن ثم
فقد استنبط العلماء أنها كانت في القصر الغربي الفاطمي؛ وهو القصر الذي بناه
الخليفة العزيز، وأتمه المستنصر وأقيم على أنقاضه بعد ذلك مارستان قلاون.
٣٥٨ ولم يكن غير مألوف في ذلك الوقت أن يستخدم الأمراء والعاملون على
البناء بعض أجزاء الأبنية القديمة وأخشابها في الأبنية الجديدة، وخير شاهد على ذلك
ما ذكره المقريزي عن الملك الظاهر بيبرس حين «بنى خانًا للسبيل بظاهر مدينة القدس،
ونقل إليه باب العيد (من أبواب القصر الشرقي الفاطمي) فعمله بابًا له سنة ٦٦٢ هجرية.»
٣٥٩
وعلى كل حال فإن عرض هذه الألواح نحو ثلاثين سنتيمترًا، وفي كل منها إفريز من
أعلى وإفريز من أسفل، ويشتمل هذان الإفريزان على فروع نباتية بين شريطين عاريين عن
الزخرفة، وترتفع هذه الفروع وتنخفض مكونة زخرفة نباتية قوامها أقواس تحصر بينها من
أسفل وريدات ذات ثلاثة فصوص، ومن أعلى شكلًا مكونًا من نصفي مروحتين نخيلتين
(بالمت).
وبين الإفريزين عصابة رئيسية عليها مناظر من رسوم آدمية وحيوانية فوق أرضية من
فروع نباتية أقل بروزًا،
٣٦٠ والرسوم المذكورة موضوعة في خانات تتكون — على التعاقب — من أشكال
هندسية سداسية وممدودة ومن جامات رباعية الشكل،
٣٦١ ونرى في الخانات السداسية الشكل أن الرسوم منقوشة بين أقواس تتفرع
أحيانًا من إناء من رسمين.
وكانت هذه الرسوم مدهونة الألوان مما كان يظهر دقائقها ويزيدها وضوحًا. وعلى كل
حال فإن أول ما يلاحظه المشاهد المدقق أن توزيع المناظر المنقوشة روعي فيه التناظر
والتقابل، فتتوسط اللوح جامة رباعية الشكل ثم تتلوها من اليمين واليسار بقية
المناظر في تناسب وحسن ترتيب؛ ولكن التنوع في الموضوعات المنقوشة ليس كبيرًا، ولا
غرو فإن الصناع كانوا يصورون موضوعات تقليدية في الفن الإسلامي، ولم يكن لهم في
ميدان الصور الآدمية ما كان لهم في الزخارف الهندسية من رغبة في التشعيب والتعقيد
وقدرة على الخلق والابتكار والتنويع.
وعلى كل حال فهي مناظر طرب أو موسيقى أو صيد أو سفر أو قتال، بينها صور طيور
وحيوانات يقلد الفنان في رسمها الطبيعة بأمانة وبساطة، لم يبلغها تصوير الإنسان
والحيوان في الفن الإسلامي المصري إلا في عصر الدولة الفاطمية.
فموضوعات هذه الزخارف مأخوذة إذن عن حياة الترف التي كان يقضيها الأمراء، ومناظر
الصيد على أنواعها، ورسم الأمير وفي يده الكأس كل ذلك مألوف في الفن الساساني،
ويذكرنا بقول أبي نواس يصف كأسًا مذهبة مرقوم في أسفلها صورة كسرى، وفي جوانبها صور
بقر وحشي يطارده الفرسان:
تدار علينا الكأس في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
٣٦٢
وقصارى القول أن أهم المناظر المنقوشة في الأخشاب التي نحن بصددها الآن
هي:
- (١)
رسم الأمير جالسًا على أريكة، وفي يده اليمنى كأس، وفي اليسرى زهرة،
وعلى رأسه عمامة ضخمة، وإلى يساره الساقي يصب الخمر في كأس، وإلى يمينه
تابع يقدم إليه صينية ذات غطاء، ربما كان المفروض أن تحته شيئًا من
الطعام أو الحلوى.
٣٦٣
- (٢)
رسوم المطربين أو المطربات من عازفين أو عازفات على القيثارة أو
العود أو القانون أو الناي أو المزمار أو النقارة.
٣٦٤
- (٣)
مناظر رقص ليست جديدة في الفن الإسلامي فقد عرفها الفراعنة والإغريق
والفرس قبل أن صورها المسلمون في قصير عمرا وفي سامرا.
٣٦٥ ولم يكن الرقص وقفًا على النساء؛ فإن في متحف اللوفر قطعة
من العاج عليها رسم شخص يرقص، ويظهر من جبته وعمامته أنه فتى. وأكثر
الراقصات أو الراقصين في الصور التي نحن بصددها هنا يقفون وقفة تشبه
وقفة لاعبي الشيش، وفي يدي كل منهن أو منهم منديلان، ورقصاتهم لا تشبه
في شيء «رقص البطن» الذي يتسرب إلى الذهن كلما جاء الحديث عن الرقص في
الشرق؛ بل هي تذكر ببعض الرقصات التي لا تزال حية في بلاد الأندلس حتى
الآن، ويرقص الرجال في كثير من بلاد الشرق الإسلامي حتى العصر
الحاضر.
- (٤)
رسوم عرض لشبه قتال بين رجلين أو لرقصة عسكرية تبدو كأنها قتال، بما
يحمله كلا الرجلين من سيف ودرقة.
٣٦٦
- (٥)
رسوم رجال تسير منفردة أو بجانب إبل عليها هودج أو أحمال من البضائع.
ورجلان منهما يلبسان خوذتين وفي يد كل منهما رمح طويل، وأحدهما رابط في
ظهره درقة مستديرة على النحو الذي نراه في قطعة من العاج محفوظة في دار
الآثار العربية (رقم السجل ٥٠٢٤).
٣٦٧
- (٦)
رسوم صيد كثيرة، ولا غرو فقد كان للصيد في العالم الإسلامي في العصور
الوسطى شأن خطير،
٣٦٨ ومناظر للصيد كثيرة جدًّا على مختلف التحف الإسلامية، ونحن
نرى على هذه الألواح الفاطمية رسم الأمير يصيد بالباز، أو يصيد الأسد
وهو راكب فرسه، أو يهجم عليه وهو راجل يشهر سيفه ويحتمي بترسه.
- (٧)
رسوم طيور جارحة ومعها فريستها؛ كالأسد والغزال والبط.
- (٨)
رسوم حيوانات خرافية أهمها أبو الهول وله جسم أسد وجناحان ورأس امرأة
وتذكر هيئته بالبراق؛ مطية النبي — عليه السلام — وهناك عدا ذلك رسوم
طائر له رأس امرأة.
- (٩)
رسوم حيوانات وطيور مختلفة؛ كالباز والتيس والطاوس والأرنب.
أما اللوحان المحفوظان من هذه المجموعة في المتحف القبطي فأصلهما من دير البنات
بمار جرجس؛ وعلى إحداهما مناظر طرب من رقص وموسيقى، وعلى الأخرى رسوم بارزة لأرنب
وفيل وإيل وشخص يقود فرسًا،
٣٦٩ وأكبر الظن أن هذين اللوحين أصلهما أيضًا من القصر الفاطمي
الغربي.
وقد قامت لجنة حفظ الآثار العربية في سنة (١٩٣٢) باستخراج بعض الأخشاب الفاطمية
من سقف مارستان قلاون، وهي محفوظة الآن بدار الآثار العربية، وفي بعضها نماذج جميلة
من الخط الكوفي المزهر ورسوم حيوانات عديدة؛ كالفرس والأسد والغزال والأرنب وأكثرها
مرسوم في أشكال بحمية متنوعة.
٣٧٠
ومن التحف الخشبية الفاطمية التي تختلف في أسلوب زخرفتها، وإتقان نقشها عما
تحدثنا عنه حتى الآن ثلاث لوحات محفوظة بدار الآثار العربية (رقم السجل ٦٤٣٢ و٦٤٣٣
و٦٤٣٤)، وقد اشترتها الدار في سنة (١٩١٧)، وأكبرها القطعة الأولى (٦٤٣٢) فطولها ٧٥
وعرضها ٢٦٫٥ سم، وزخارف أرضيتها مكونة من رسوم نباتية مقطوعة بدون دقة أو عناية،
وفوقها رسوم أرانب وطيور، وفي وسط القطعة مربع به رسم شخص جالس القرفصاء على أريكة
أو عرش،
٣٧١ وعلى القطعتين الباقيتين رسوم طواويس وأرانب مقطوعة في الخشب، وليست
بارزة بروزًا يذكر وهي كرسوم الحيوانات في القطعة الأولى، جانبية وليست صنعتها
دقيقة كل الدقة.
ولعل أكثر ما يشبه هذه النقوش في عدم بروزها وفي هيئتها العامة الرسوم المنقوشة
على حشوتين أعيد استخدامهما في محراب السيدة رقية المحفوظ بدار الآثار العربية،
والذي سيأتي الكلام عليه.
٣٧٢ وفي وسط إحدى هاتين الحشوتين نجمة ذات سبعة أطراف، فيها حيوان متجه إلى
اليمين؛ وحول هذه النجمة وريدات وفروع نباتية تخرج من إناء في أسفل الحشوة.
٣٧٣ أما الحشوة الثانية ففي وسطها نجمة ذات ستة أطراف تشتمل على رسم
حيوانين أو طائرين، وفوق النجمة دائرتان، في كل منهما حيوان آخر، وتصل النجمة
بالدائرتين فروع نباتية ووريقات متعددة الفصوص.
٣٧٤
على أن أبدع التحف الخشبية التي تنسب إلى هذه الفترة التي نحن بصددها من حكم
الدولة الفاطمية هي بلا ريب منبر حرم الخليل في فلسطين. وقد نقشت على بابه وعلى
جانبيه كتابة تاريخية من اثني عشر سطرًا بخط كوفي مزهر وباز ودقيق، باسم الخليفة
المستنصر ووزيره بدر الجمالي في سنة (٤٨٤ﻫ/١٠٩١-١٠٩٢م).
٣٧٥ والمعروف أن المنبر صنع في هذه السنة لمشهد الحسين الذي بناه بدر
الجمالي بعسقلان، ويظن أنه نقل إلى الخليل على يد صلاح الدين سنة
(٥٨٧ﻫ/١١٩١م).
وعلى كل حال فإن أهم ما يلفت النظر في زخارف هذا المنبر هو دقة الفروع النباتية
المنقوشة في مناطق من أشكال هندسية، ومن نجمات مكونة من سير عصابات من سيقان نباتية
بين شريطين عاديين عن الزخرفة. والواقع أننا نشاهد لأول مرة في هذا المنبر أسلوب
الحشوات الخشبية الصغيرة المجمعة، كما نرى دقة في رسم السيقان وحبات العنب
والوريقات تحملنا على القول بأن المنبر لم يصنع في مصر؛ لأن صناعة النقش في الخشب
لم تتطور فيها فتصل إلى مثل هذه الدقة قبل القرن السادس الهجري (الثاني عشر
الميلادي). والناظر إلى زخارف هذا المنبر لا يسعه إلا أن يلاحظ أن البارز فيها،
والذي يشغل المكانة الخطيرة إنما هي الزخارف النباتية، بينما الأشكال الهندسية التي
تصحبها تبدو كأنها تابعة لها ولا تحجب أهميتها، كما نرى في بعض الزخارف المصرية في
العصور التالية.
٣٧٦
ولكن إذا صح ما ذكره ابن دقاق فقد كان في أسيوط منبر يشبه المنبر السالف الذكر،
٣٧٧ وفي دار الآثار العربية جزء من عتب باب منبر يظن أنه هو الذي ذكره ابن
دقاق. وعلى كل حال فإن على هذه القطعة (رقم السجل ٤١٥) كتابة بالخط الكوفي المشجر
الصغير، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم والعاقبة للمتقين، مولانا وسيدنا الإمام المستنصر
بالله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه و[على آبائه] الطاهرين ونصر عساكره
وأولياءه وأهلك أضداده وأعداءه، وحرس الإسلام والمسلمين بتخليد ملكه
وإطا[لة] عمره …
٣٧٨
وقد كانت هذه القطعة الخشبية في المسجد الجامع بأسيوط (الجامع العمري أو الأموي)،
وحروف كتابتها جميلة مع بساطتها وروعتها، وقد استنبط فان برشم أن تاريخها — على
الأرجح — سنة (٤٧٠ﻫ/١٠٧٧)، وهي السنة التي مر فيها بدر الجمالي بأسيوط حين أخضع
الثائرين على المستنصر.
٣٧٩
ولا يزال هناك أثر زخرفة باقية في طرفها، قوامها ساقان نباتيان منحنيان.
٣٨٠
أما التحف الخشبية في العصر الأخير من حكم الدولة الفاطمية، فإن أقدم ما يسترعي
انتباهنا منها قطعة في دار الآثار الوطنية بدمشق (خ٤٤)، وقد وصفها الأمير جعفر
السني في الدليل الذي وضعه لمقتنيات تلك الدار، بالعبارة الآتية: «جانب سدة جامع من
خشب الحور الرومي، آية في جمال الصنع وحسن الذوق مزينة بنقوش بديعة، وبمشربيات من
الخشب المخروط وكتابات قرآنية مشجرة متناسقة جميلة جدًّا، وقد رقم في أعلاها هذه
العبارة: «… بن محمد بن الحسن بن علي صفي أمير المؤمنين تقبل الله منه، وذلك في
شهور سنة ٤٩٧» وجدت في جامع مصلى العيدين (جامع باب المصلى) في دمشق.»
٣٨١
كذلك نجد على المنبر الخشبي في مسجد دير سانت كاترين بشبه جزيرة سينا كتابة بارزة
بالخط الكوفي المشجر باسم الإمام الآمر بأحكام الله ووزيره الأفضل شاهنشاه في ربيع
الأول سنة (٥٠٠ﻫ/١١٠٦م)،
٣٨٢ ويشبه هذا المنبر منبر الخليل بعض الشبه ولا سيما في الهيئة؛ ولكن
الزخارف أقل غنًى وتطورًا بالرغم من أنها أحدث من زخارف منبر الخليل.
٣٨٣ وعلى كل حال فإن أكثر حشواته مستطيلة وتشتمل على فروع نباتية ووريدات
ومراوح نخيلية، وهي فضلًا عن ذلك مرتبة ترتيبًا هندسيًّا يذكر بوضع اللبن والآجر في
البناء.
وفي الجامع السالف الذكر كرسي من الخشب على شكل هرم مقطوع من أعلاه، ويدور حول
جوانبه الأربعة شريطان من الكتابة الكوفية المشجرة باسم «الأمير الموفق المنتخب
منير الدولة وفارسها أبي منصور أنوشتكين الآمري».
٣٨٤
ومن أشهر التحف التي ترجع إلى الفترة الأخيرة من حكم الفاطميين في مصر المحاريب
الثلاثة الخشبية المحفوظة بدار الآثار العربية؛ أقدمها كان في الجامع الأزهر،
والثاني من جامع السيدة نفيسة والثالث أتى به من مشهد السيدة رقية.
أما الأول فأقلها خطرًا من الناحية الفنية، وقد كان أعلاه لوح خشب منقوش عليه
بالخط الكوفي المشجر العبارة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لله
قَانِتِينَ،
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا مما أمر بعمل هذا
المحراب المبارك برسم الجامع الأزهر الشريف بالمعزية القاهرة مولانا وسيدنا
المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين — صلوات الله عليه
وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين — ابن الإمام المستعلي بالله أمير
المؤمنين ابن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين — صلوات الله عليهم
أجمعين — وعلى آبائهم الأئمة الطاهرين بني الهداة الراشدين وسلم تسليمًا
إلى يوم الدين في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة، الحمد لله وحده.
٣٨٥
والمحراب مكون من قبلة من خشب الفلق، على جانبيها عمودان ينتهي كل منهما بمحمل
وبقاعدة رمانية الشكل ويرتكز عليها عقد فارسي كعقود الرواق الرئيسي في الجامع
الأزهر، ويحيط بالقبلة شبه إطار، في كل من جانبيه الأيمن والأيسر أربع حشوات من خشب
النبق، فيها زخارف نباتية ووريقات ذات ثلاثة أو خمسة فصوص.
أما محراب السيدة نفيسة فالظاهر أنه صنع في خلافة الحافظ حين عمر مسجد السيدة
نفيسة سنة (٥٤١ﻫ/١١٤٥-١١٤٦)، وهو مكون من حشوات مجمعة ورسومات هندسية أخرى فيها
زخارف نباتية دقيقة وله إطار يجري في شريط من الكتابة الكوفية التي تؤذن ببدء الخط النسخي،
٣٨٦ ويجري شريط آخر حول حنية القبلة نفسها.
ولكن أهم ما يلفت النظر في هذا المحراب إنما هو دقة الزخارف النباتية فيه؛ ففي
الفروع سيقان ووريقات بينها أوراق العنب وحباته مرسومة بأسلوب يمثل الطبيعة أحسن
تمثيل. أما زخرفة حنية القبلة فتختلف عن زخارف سائر أجزاء المحراب، وفيها رسوم
هندسية مشبكة، والوريقات في فروعها النباتية أكبر حجمًا، وأغنى بما فيها من مراوح
نخيلية وموضوعات زخرفية من أوراق العنب وحباته.
والمحراب الثالث أصله من مشهد السيدة رقية،
٣٨٧ وهو آية في دقة الصنعة، ولا يزال في حالة جيدة جدًّا، ويشبه محراب
السيدة نفيسة في هيئته، ويختلف عنه في أنه مزين بالزخارف من الظهر والجانبين.
٣٨٨
وحنية القبلة في هذا المحراب مكونة من حشوات سداسية الشكل، مجمعة بحيث تحصر بينها
حشوة على شكل نجمة ذات ستة أطراف، وتزين كل حشوة من تلك الحشوات سيقان نباتية دقيقة
فيها وريقات ذات فصوص طويلة وتحيط بحنية القبلة كتابة بالخط الكوفي المشجر تتضمن
بعض آيات قرآنية.
٣٨٩
وأما وجهة المحراب فمن خشب قرو ومزخرفة بحشوات من ساج هندي وخشب زيتون على شكل
نجوم وأشكال هندسية أخرى كثيرة الأضلاع وغنية بما فيها من سيقان ووريقات دقيقة،
ويحيط بالزخارف إطار من كتابة كوفية مشجرة، منها النص الآتي: «مما أمر بعمله الجهة
الجليلة المحروسة الكبرى الآمرية
٣٩٠ التي كان يقوم بأمر خدمتها القاضي أبو الحسن مكنون، ويقوم بأمر خدمتها
الآن الأمير السديد عفيف الدولة أبو الحسن يمن الفائزي الصالحي
٣٩١ برسم السيدة رقية ابنة أمير المؤمنين علي.»
٣٩٢
وظهر المحراب مزين بتسع حشوات كبيرة، بين رسومها تباين جميل؛ فالمعينات والأشكال
النجمية مزينة بفروع نباتية قليلة الحفر، بينما الحشوات الأخرى محلاة بأوراق عنب
وعناقيد عميقة الحفر.
٣٩٣
ومهما يكن من شيء فإن العبارة التاريخية التي جاءت في هذا المحراب تحمل على القول
بأنه صنع في حياة الخليفة الفائز ووزيره الصالح طلائع؛ أي: بين سنتي (٥٤٩ و٥٥٥
هجرية / ١١٥٤ و١١٦٠ ميلادية).
٣٩٤
وهناك تحفة خشبية أخرى ترجع إلى نهاية حكم الفواطم في مصر، ولا تقل خطرًا عن
المحاريب الثلاثة التي انتهينا الآن من الحديث عنها.
فالجامع العمري بقوص فيه منبر عليه لوحة من الخشب تشتمل على العبارة الآتية
مكتوبة بخط كوفي مشجر وذي حروف صغيرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أمر بعمل
هذا المنبر المبارك الشريف مولانا وسيدنا الإمام الفائز بنصر الله أمير
المؤمنين — صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتظرين — على
يد فتاه وخليله السيد الأجل الملك الصالح ناصر الأئمة، وكاشف الغمة أمير
الجيوش سيف الإسلام غياث الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين
عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى
كلمته في سنة خمسين وخمسمائة.
٣٩٥
ويشبه هذا المنبر في شكله منبر الخليل والمنبر الموجود في جامع دير سانت كاترين
بطور سينا، على أن جنبيه تكسوهما زخارف من حشوات تكون أشكالًا هندسية من مستطيلات
ونجوم ومسدسات ممدودة مغطاة كلها بفروع نباتية ومراوح نخيلية وعناقيد عنب،
٣٩٦ وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين حشوة من هذا الطراز، حتى ليظن أنها
مأخوذة من هذا المنبر.
٣٩٧
وفي دار الآثار العربية باب ذو مصراعين (رقم السجل ١٠٥٥) كان في جامع الملك
الصالح طلائع الذي شيد في سنة (٥٥٥ﻫ/١١٦٠م)، ويشتمل كل مصراع على ثلاث حشوات
مستطيلة وأفقية، بين الأولى والثانية حشوتان قائمتان وعموديتان، وبين الثانية
والثالثة مثلثهما، والحشوات تزينها زخارف نباتية من سيقان ووريقات، محفورة بعمق
عظيم في مثمنات ونجوم ذات ستة أطراف أو اثني عشر طرفًا.
٣٩٨
وقد عثرت لجنة حفظ الآثار العربية في مسجد الصالح طلائع على عدد من القطع الخشبية
المنقوشة، أمكن تجميعها واستنباط شكل السقف التي كانت مستخدمة فيه.
٣٩٩
وقد أمدنا المسجد المذكور بقطعة من الأثاث الفاطمي نادرة المثال، وهي واجهة خزانة
(دولاب) كانت في إحدى جدرانه قبل أن تنقل إلى دار الآثار العربية (رقم السجل ٦٧٢)،
وتنقسم هذه التحفة إلى أربع مناطق:
- الأولى: مكونة من أربع كوات على كل منها عقد ذو فصوص وفيه زخارف
نباتية.
- والثانية: تشتمل على ثلاثة صفوف من مربعات فيها زخارف نباتية أو مستطيلات
بها عبارات بالخط الكوفي أو النسخي، نصها: «البركة الكاملة» أو
«الجد الصاعد» أو «البقا لصاحبه».
- والمنطقة الثالثة: من ثلاث كوات، على أوسطها عقد ذو فصوص.
- والمنطقة الأخيرة: بها مربعات ذات زخارف نباتية أو مستطيلات فيها عبارات نسخية أو
كوفية ونصها: «العز الدائم» أو «العمر الطويل» أو «البركة الكاملة»
أو «الملك لله وحده».٤٠٠
ولا يسعنا أن نختم حديثنا عن النقش في الخشب عند الفاطميين دون أن نشير إلى بعض
النماذج البديعة، التي لا يتسع المقام هنا لدراستها جميعًا؛ كباب دير سانت كاترين
في طور سينا،
٤٠١ وكالتابوت المحفوظ في مشهد السيدة رقية بالقاهرة،
٤٠٢ وحجاب كنيسة أبي سيفين.
٤٠٣
(٩) العاج
يظهر أن أكثر ما استخدم فيه العاج على يد الصنَّاع المصريين إنما كان في التطعيم،
وطبيعي أن يكون المسلمون قد تأثروا بأساليب الفن القبطي في عمل حشوات العاج
الكاملة؛ لأن وادي النيل كانت له شهرة طيبة في هذا الميدان منذ ازدهار الإسكندرية؛
لأننا نظن أن صناعة النقش في العاج ظلت تقوم في الأقاليم المصرية التي يكثر فيها
السكان القبط، كما لا يزال الحال حتى العصر الحاضر.
وإذا نحن استثنيا قطع الشطرنج التي عثر عليها في حفائر الفسطاط، والتي إن اشتملت
على زخرفة، فمن دوائر محفورة ومتحدة المركز،
٤٠٤ نقول: إن استثنيا ذلك فأحسن التحف العاجية المصرية التي نعرفها حشوات
ذات نقوش يمكن مقارنتها ببعض النقوش على التحف الخشبية والخزفية، وتحمل على القول
بأن هذه الحشوات يرجع تاريخها إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر
الميلادي).
وقد مر بنا الكلام على إحدى هذه الحشوات، التي عثر عليها في حفائر الفسطاط ثم
حفظت في دار الآثار العربية (رقم السجل ٥٠٢٤)،
٤٠٥ وفيها رسم سيدة في هودج، وجندي في يده رمح وترس، وصائد بالباز على ظهر
جواده، وفي نفس المتحف قطع صغيرة أخرى من العاج على إحداهما (رقم السجل ٥٠٢٧) رسم
شخص في يده رمح، يظهر أنه كان يطعن به أسدًا ذهب رسمه في الجزء المفقود من هذه
القطعة، وفي بعض الحشوات الأخرى رسوم طيور وحيوانات كالأرنب والطاوس.
وفي مجموعة كران بمتحف قصر بارجلو بمدينة فلورنسة سبع حشوات من العاج، يظهر أن
ستًّا منها كانت جزءًا من علبة صغيرة، والقطعة السابعة منقوش عليها رسم عقابين
متواجهين على أرضية من سيقان وعناقيد عنب، وفي يمين الحشوة ثلاث مراوح نخيلية، وفي
طرفها الأيسر ثلاث مثلها،
٤٠٦ بينما القطع الست الأخرى عليها رسوم طرب أو موسيقى أو صيد أو فلاحة أو حصاد.
٤٠٧
وعلماء الآثار الإسلامية مختلفون في أمر هذه الحشوات؛ فبعضهم ينسبها إلى مصر
وبعضهم إلى صقلية. ونحن نرى أن الشقة بعيدة بين نقوش هذه القطع والنقوش التي نعرفها
في الأخشاب الفاطمية أو قطع العاج التي عثر عليها في الفسطاط، وأكبر الظن عندنا أن
حشوات متحف بارجلو قد صنعت في صقلية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)
إن لم تكن قد صنعت في إقليم أوروبي وروعي فيها تقليد المناظر الشرقية المصرية
تقليدًا لم يكن له من النجاح نصيب يذكر، فإحدى الراقصات يكاد يكون رسمها هندي
الأسلوب، ومنظر الصيد ضعيف لا قوة فيه ولا روح، وهناك رسم عازف على المزمار يبدو
كأنه يدخن شيشة، ورسم شخص معه كلبه ولا أثر للروح الشرقية في المنظر كله.
ومهما يكن من شيء فإن حشوات متحف بارجلو تمتاز بدقة وعناية وافرتين في إظهار رسوم
هندسية فوق ملابس الأشخاص، فتظهر كأنها حشوات من منبر أو محراب، ولسنا نعرف أقمشة
إسلامية كانت زخارفها على هذا النحو.
وقد أشار ميجون
migeon إلى حشوات من العاج
بمجموعة ألبرت فجدور
Albert Figdor بفينا، وقد
ركبت في إطار مرآة في عصر متأخر، وهو يميل إلى اعتبارها من منتجات الصناعة العراقية
في العصر العباسي.
٤٠٨
وفي متحف اللوفر حشوتان من العاج المشبك عليهما رسوم راقص وصائد بالباز، وشخص
يحتسي الخمر وثالث يقبض على حيوان أو طائر، كل ذلك فوق أرضية من الفروع النباتية
وحبات العنب، وطراز هذه الرسوم قريب جدًّا من اللوحات التي عثر عليها في مارستان
قلاون، ومن حشوات العاج الفاطمية المحفوظة بدار الآثار العربية.
٤٠٩ والغريب أن ميجون كتب أن حشوات متحف بارجلو ومجموعة فجدور من نفس
العلبة التي منها حشوتا اللوفر.
٤١٠ ونحن نظن أن ذلك بعيد عن الصواب؛ لأن الفرق بين أسلوبي النقش وبين دقة
الصنعة في هذه الحشوات المختلفة بيِّن وشاسع.
أما ما نعرفه من تحف عاجية غير الحشوات السالفة الذكر، فليس بينه ما يمكن نسبته
على وجه التحقيق إلى العصر الفاطمي في مصر، ولعل أهم هذه التحف أبواق للصيد
٤١١ عليها زخارف بارزة من حيوانات وطيور، ومناظر صيد في دوائر أو أشرطة،
وتختلف كل الاختلاف عن زخارف أبواق الصيد المعروفة بأوروبا في العصور الوسطى، فتبدو
عليها مسحة إسلامية قوية، وقد اختلف العلماء في تحديد المكان الذي صنعت فيه هذه
الأبواق؛ فبعضهم ينسبها إلى صقلية، كما يظن آخرون أنها صنعت في جنوبي إيطاليا، ومن
مؤرخي الفنون من يذهب إلى أنها صنعت في مصر أو في العراق أو في الأندلس، ولكن الذي
لا شك فيه هو أن زخارف هذه الأبواق تمت بصلة كبيرة إلى الزخارف الفاطمية في الخشب
والعاج، حتى إننا نرجح أنها صنعت في صقلية على يد فنانين من المسلمين في القرنين
الخامس والسادس بعد الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر للميلاد)،
٤١٢ وليس بعيدًا أن يكون الصناع في الجمهوريات التجارية بشبه جزيرة إيطاليا
قد قلدوها، كما قلدوا غيرها من المنتجات الإسلامية في ذلك العهد.
٤١٣
وثمة علب صغيرة مستطيلة الشكل وذات غطاء على شكل هرم ناقص، وزخارف تشبه زخارف
أبواق الصيد المذكورة ويصدق عليها ما ذكرناه عن أبواق الصيد من تاريخ وأسلوب؛ على
أننا نجد في زخارفها رسوم رجال ذوي لحى في أطراف العلب،
٤١٤ وعليهم ملابس شرقية، وهناك نماذج من هذه العلب في القسم الإسلامي من
متاحف برلين، وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك،
٤١٥ وفي متحف فكتوريا وألبرت
٤١٦ بلندن.
وفضلًا عن ذلك فإن متحف المتروبوليتان به محبرة من العاج تدخل بزخارفها في مجموعة
أبواق الصيد والعلب التي ذكرناها الآن، وتتكون زخارف هذه المحبرة من رسوم غزلان
وأسود وأرانب وسباع، كما نجد عليها رسم طاوسين متقابلين، وعنقاهما مجدولان في بعضهما
٤١٧ على النحو الذي نراه في بعض التحف العاجية المصنوعة على يد بني أمية في الأندلس.
٤١٨
وهكذا نرى أن الأساليب الفنية في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة كانت زاهرة
في العالم الإسلامي على يد الفاطميين في مصر، وامتد تأثيرهم إلى صقلية وجنوبي شبه
جزيرة إيطاليا والأندلس.
ولا يزال في بعض المتاحف وكنوز الكنائس الغربية عدد كبير من علب عاجية ليست
نقوشها محفورة أو بارزة، وإنما هي مرسومة عليها، والموضوعات الزخرفية فيها متنوعة
جدًّا؛ فنرى فيها الصياد بالباز والعازف على آلات الطرب والجامات ذات الزخارف
النباتية، والحيوانات والطيور المختلفة، والعبارات بالخط الكوفي أو النسخي، كل ذلك
بالألوان: الأزرق والأحمر والأخضر.
وقد نسب ديتز
Diez هذه المجموعة من العلب
العاجية إلى العراق في بداية الأمر؛
٤١٩ ولكن كونل قال بأنها من صناعة صقلية في العصر النورمندي.
٤٢٠ ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الرأي؛ لأن زخارف تلك العلب فيها شيء غربي
على الرغم من مسحتها الشرقية العامة.
وشكل هذا التحف إما مستطيل ولها غطاء مسطح أو على هيئة هرم غير كامل، وإما
أسطواني، ومن أهم نماذجها علبة في القسم الإسلامي من متاحف برلين؛ عليها نقوش
نباتية وحيوانات وطيور وآثار تذهيب،
٤٢١ كما أن كاتدرائية ورتزبرج
Würzburg
بها علبة خشبية عليها طبقة من العاج، مرسوم فوقها دوائر فيها حيوانات وطيور، وعلى
جوانب العلبة كلها رسوم عقود تحتها أشخاص بينها أمير على أريكة، وبينها عازفات على الموسيقى.
٤٢٢
وفي متحف فكتوريا وألبرت نماذج من هذه العلب،
٤٢٣ وكذلك في متحف قصر بارجلو بمدينة فلورنسة، وفي متحف كلوني والمتحف
البريطاني، وبعض التحف المذكورة عليها رسوم رسل وقديسين وموضوعات زخرفية مما يحمل
على القول بأنه هذه العلب كانت تصنع خصيصًا للغرب، وإن كان صانعوها من المسلمين.
٤٢٤
وفي دار الآثار العربية علبة أسطوانية من سن الفيل (رقم السجل ١٢٦٣٣) ذات غطاء،
وعلى قاعها من الداخل رسم طائرين وفرعين نباتيين باللونين الأسود والأصفر، من
المحتمل أن تكون هذه التحفة من العصر الفاطمي.
بقي أن نشير إلى التطعيم بالعاج، وإن كنا لا نعرف أي تحفة يمكن نسبتها إلى
الصناعة المصرية في العصر الفاطمي؛ فجل الذي وصل إلينا من نماذج هذه الصناعة نرجح
أنه من صناعة الأندلس.
وقد عثر في الحفائر التي عملت في كاريون دي لوس
كونديس
Carrion de los
Condes من أعمال بلنسية بإسبانيا على علبة من العاج، صنعت في
إفريقية للخليفة المعز لدين الله الفاطمي بين عامي (٣٤١ و٣٦٢) هجرية، وهي محفوظة
الآن في المتحف الأهلي للآثار بمدريد، وعلى غطائها كتابة مطعمة بالأحمر والأخضر، ونصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
نَصْرٌ مِّنَ الله وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ لعبد الله ووليه معد أو تميم الإمام المعز لد[ين الله]
أمير المؤمنين — صلوات الله عليه وعلى آبائه الطيبين وذريته الطاهرين — مما
أمر بعمله بالمنصورية المرضية … صنعه …ﺪ الخراساني.
٤٢٥
والظاهر أن صناعة التطعيم بالعاج ازدهرت في صقلية؛ فإن في الكابلا بالاتينا
ببلرمو علبة من الخشب ذات غطاء مقبب، وعليها طبقة من الدهان الأدكن اللون، وتزينها
زخارف مطعمة، قوامها عبارات مكتوبة بالخط النسخي، ودوائر تشتمل على أزواج من
الحيوانات أو الطيور أو الصور الآدمية؛ وهذه الأخيرة نراها مهذبة تهذيبًا يبعدها عن
الطبيعة، فتصبح رمزًا وحلية فحسب، ولا سيما إذا لاحظنا أن كل دائرة تشتمل على صورة
شخصين نرى فيها رسم أحدهما مقلوبًا، فيكون رأسه بجوار قدمي الشخص الآخر.
٤٢٦ وأكبر الظن أن هذه العلبة من صناعة صقلية في القرن السابع الهجري
(الثالث عشر الميلادي).
وقصارى القول أن النماذج التي نعرفها من هذه الصناعة ليست من صناعة مصر في العصر
الفاطمي؛ ولكننا نجد في زخارفها صدى لازدهار الفن في ذلك العصر بما نراه من تأثير
باقٍ من موضوعاته الزخرفية وأساليبه الفنية.