قمر ميرو الأحمر
اتَّفق الجميع على أن بازار مالوود آبي (المُقام بموافقةٍ ساميةٍ من الليدي ماونت إيجل) كان يحقِّق نجاحًا كبيرًا؛ حيث وُجِدت به الألعاب الدورانية والأرجوحات والعروض الجانبية الترفيهية التي استمتع بها الناس كثيرًا، كما ينبغي أن أذكر أيضًا الأعمال الخيرية التي كانت هي الغاية الرائعة من هذا العمل، فقط إذا كان باستطاعة أيٍّ منهم أن يخبرني بماهيتها. على أي حال، نحن لسنا معنيِّين إلا بمجموعةٍ قليلةٍ منهم؛ بثلاثةٍ على وجه الخصوص وهم سيدة ورجلان، كانوا يمرُّون بين اثنتين من الخيام الرئيسية أو السُّرادِقات، وأصواتهم عالية بسبب جدال دائر بينهم. وكانت عن يمينهم خيمة سيد الجبل؛ ذلك العرَّاف الذائع الصيت مع كرته البلورية وقراءته للكفِّ، وهي خيمة باللون الأرجواني الداكن، مرسوم عليها باللونَين الأسود والذهبي خطوط ممتدة تمثِّل الآلهة الآسيوية وهي تلوِّح بعدد كبير من الأيادي وكأنها أخطبوط. ربما كانت هذه الأيادي ترمز لاستعداد الآلهة لمساعدتك في الداخل، وربما تعني ضمنيًّا أن الكينونة المثالية لقارئ الكف الورِع لها عدد كبير من الأيادي قدر الإمكان. على الجانب الآخر توجد خيمة فروسو عالم الفرينولوجيا، وقد كانت الخيمة أكثر بساطة في شكلها من الأولى؛ ومزيَّنة برسومات توضيحية لرءوس سقراط وشكسبير، ومن الواضح أنها من النوع ذي النتوءات، لكن هذه الرسومات كانت فقط باللونَين الأبيض والأسود، وبها أرقام وملحوظات، تمامًا مثلما أصبحت المنزلة الجامدة لعلم عقلاني بطريقة بحتة. كان للخيمة الأرجوانية فتحة توحي بأنها لكهف مظلم، وكل ما بداخلها هو صمت يتناسب وهذا الظلام. بينما فروسو عالم الفرينولوجيا — وهو رجل نحيل رث الثياب داكن البشرة، وله شارب وسالفتان بلون أسود يوحي بشراسةٍ غير متوقعة — كان يقف خارج مَحفَله ويتحدَّث بأعلى صوته، ليس لأحد على وجه الخصوص، وإنما يحاول شرح أن جمجمة أي شخص يمر من أمامه سيَثبُت بلا شك — وبالتجربة — أنها تشبه تمامًا في نتوءاتها نتوءات جمجمة شكسبير. وبالفعل، في اللحظة التي ظهرت فيها السيدة بين الخيمتَين، قفز أمامها فروسو النشيط وعرض عليها — بحركةٍ إيمائيةٍ لَبِقةٍ تعود لزمنٍ غابر — أن يتحسَّس النتوءات في رأسها.
رفضت السيدة عرضه بكياسة أقرب إلى الفظاظة، لكن لا بد أن نلتمس لها العذر؛ لأنها كانت في خضم جدال دائر. وكان من الضروري أيضًا أن نلتمس لها العذر — وهي معذورة على أي حال — لأنها كانت الليدي ماونت إيجل. وهي سيدة ذات شأن مرموق، وتبدو جميلة وجامحة في ذات الوقت، وفي عينيها العميقتَين السوداوَين تبدو نظرة تائقة، وفي ابتسامتها شيء من حماسة وشراسة. وهي ترتدي فستانًا غير معتاد في تلك الفترة؛ ذلك أن هذه الأحداث قد وقعت قبل أن تتركنا الحرب العالمية الأولى في حالةٍ مزاجيةٍ من الجدية والتذكُّر؛ فالفستان، في الواقع، يُشبه الخيمة الأرجوانية؛ حيث إنه ذو طابعٍ شبه شرقيٍّ، ومغطًّى برموزٍ وشعاراتٍ غريبة وغامضة، لكن الجميع كانوا يعرفون أن آل ماونت إيجل يتَّسِمون بالجنون، وهذه هي الطريقة الشائعة للقول بأنها وزوجها كانا يُبديان اهتمامًا بالثقافات والعقائد الشرقية.
كانت الغرابة التي تتَّسم بها السيدة على طرف النقيض من التقليدية التي يتسم بها الرجلان اللذان كانا متبعين بشكل كامل للموضة السائدة في ذلك الوقت الغابر، من أطراف قفازيهما وحتى قبعتيهما العاليتين الزاهيتَين، لكن حتى في تقليدية الرجلَين كان هناك اختلاف؛ ذلك أن جميس هاردكاسل تمكَّن من أن يبدو بمظهر لائق ومميز في ذات الوقت، فيما بدا تومي هانتر بمظهر لائق ومألوف. كان هاردكاسل رجلًا سياسيًّا واعدًا، وقد بدا في المجتمع مهتمًّا بكل شيء عدا السياسة. ويمكن تبرير ذلك، بكل أسًى، بأنه من المؤكد أن كل سياسي هو سياسي واعد، لكن وحتى نحكم عليه بعدالة، هو غالبًا ما يقدم نفسه على أنه سياسي يهتم بالأداء. وعلى الرغم من ذلك، لم يتم توفير أي خيمة أرجوانية له في البازار ليعمل فيها.
قالت السيدة: «تومي، بكل بساطة أنت سخيف. لماذا تظل تُقحم نفسك في أشياء أنت لا تفهمها؟ تبدو كصبي في المدرسة يصرخ بأنه يعرف كيف فعل الساحر خدعة سحرية ما. إن تلك الشكوكية من فترة المدرسة تعود لبدايات العصر الفيكتوري. أما عن التنويم المغناطيسي، فيخالجني الشك بأننا نستطيع أن نجعله يتسع ليشمل …»
في تلك اللحظة بدت السيدة ماونت إيجل وكأن نظرها قد وقع على شخص كانت تنتظره؛ وهو رجل قصير وبدين يرتدي ملابس سوداء ويقف عند كشك حيث يقوم الأطفال بإلقاء الأطواق على زخارف قبيحة موضوعة على طاولة. فانطلقت مسرعة نحوه وصاحت قائلة:
«الأب براون، كنت أبحث عنك. وأريد أن أسألك شيئًا: أتعتقد في التنجيم؟»
بدا الشخص الذي وُجِّه إليه الكلام حائرًا وهو ممسك بالطوق في يده، ثم قال في النهاية:
«أتساءل بأي معنًى تقصدين استخدام كلمة «تعتقد في». بالطبع لو كان كله خدعة …»
صاحت قائلة: «أوه، لكن سيد الجبل ليس مُخادعًا أبدًا. إنه ليس بساحر مبتذل أو عرَّاف عاديٍّ على الإطلاق. إنه لشرف كبير له أن يتلطَّف ويخبر الطالع في حفلاتي؛ إنه زعيم ديني كبير في موطنه، إنه مُلهم وعرَّاف كبير. كما أن تنجيمه ليس بالحديث عن أشياء مبتذلة كأن تحصل على ثروة؛ إنما يخبرك بحقائق روحانية عميقة عن نفسك، وعن مُثُلِك العليا.»
قال الأب براون: «بالطبع، هذا هو ما أعترض عليه. كنت على وشك أن أقول إنه إذا كان الأمر كله عبارة عن خدعة وكذب، فأنا لا أمانع فيه كثيرًا. ولا يمكن أن يكون الأمر أكثر من مجرد خدعة، تمامًا كما هو الحال مع بقية الأشياء في البازارات المبهرجة. وبشكل أو بآخر، فإن كل شيء في هذه البازارات هو، عمليًّا، نوع من الخِداع أو المزاح، لكن إذا كان التنجيم شيئًا دينيًّا ويكشف للمرء عن حقائق روحانية، إذن فهو كذِبٌ جهنمي وسأُحجم عنه تمامًا.»
قال هاردكاسل مبتسمًا: «يبدو هذا كمفارقة من نوعٍ ما.»
قال القس متأملًا: «أتساءل ما هي المفارقة. يبدو لي الأمر واضحًا بما فيه الكفاية. أعتقد أنه إذا قام شخص ما بالتنكُّر في زي جاسوس ألماني والادِّعاء بأنه أخبر كل أنواع الأكاذيب للألمان؛ فإن ذلك لن يؤدي إلى ضرر كبير، لكن إذا ما قام رجل، بالفعل، بإخبار الألمان بمعلومات حقيقية، فكيف سيكون الحال؟ لذا أعتقد إن كان العرَّاف سيخبر بحقائق مثل تلك …»
قال هاردكاسل متجهمًا: «أتعتقد ذلك حقًّا؟»
قال الآخر: «أجل، أعتقد أنه يتعامل مع العدو.»
انفجر تومي هانتر في ضحك مكتوم، وقال: «حسنًا، إذا كان الأب براون يعتقد أنه لا بأس بالتنبؤات ما دامت كذبًا، أعتقد أنه سيعتبر ذلك المُلهَم ذا اللون النحاسي قديسًا من نوعٍ ما.»
قالت الليدي ماونت إيجل: «أعتقد أنه لا سبيل إلى تقويم ابن عمي توم. إنه دومًا ما يسعى لمهاجمة المشاهير، كما يطلق هو على الأمر. وأعتقد أنه لم يأتِ إلى هنا مسرعًا إلا حين سمع بأن سيد الجبل كان آتيًا. إنه على استعداد لمهاجمة بوذا أو موسى.»
قال الشاب وقد علت وجهَه المستدير ابتسامة: «اعتقدت أنكِ في حاجة لمن يعتني بكِ؛ لذا فقد جئت إليكِ؛ فأنا لا أحب رؤية ذلك القرد البُني وهو يزحف في الأرجاء.»
قالت الليدي ماونت إيجل: «ها أنت تعاود نفس الحديث مرة أخرى! منذ سنوات، حين كنت في الهند، أعتقد أننا كنا جميعًا متحيِّزين ضد الأشخاص ذوي البشرة البُنِّية، لكنني الآن أعرف شيئًا عن قُواهم الروحانية الرائعة، ويسرني أن أقول إنني أعرف عن ذلك أفضل من أي شخص.»
قال الأب براون: «يبدو أن انحيازاتنا تتعارض هنا. إنكِ تتسامحين مع كونه بُنِّي البشرة لأنه براهماني، بينما أتسامح أنا مع كونه براهمانيًّا لأنه بُني البشرة. وبصراحة، أنا لا أُعير القوى الروحانية الكثير من الاهتمام. إنني أهتم أكثر بنقاط الضعف الروحانية، لكني لا أرى سببًا يدفع أحدًا لكرهه فقط لأن لون بشرته بنفس لون النحاس الجميل، أو حبوب القهوة أو الجعة البُنِّية، أو تلك الجداول المائية البنية في الشمال.» ثم أضاف وهو ينظر إلى السيدة ويغلق عينيه على نحو شبه تام: «لكنني أظن أني متحيِّز لصالح أيِّ شيءٍ يمكن أن يُقال عنه إنه بُنِّي.»
صاحت الليدي ماونت إيجل بنبرة تنمُّ عن انتصار: «هاك الآن! كنت أعلم أنك تتفوَّه بكلام فارغ!»
قال الشاب المضطهد ذو الوجه المستدير متذمرًا: «في الواقع، حين يتحدَّث أحدهم بكلام منطقي فإنكِ تُطلقين عليه شكوكًا صبيانية. متى سنبدأ بالتحديق في الكرة البلورية؟»
ردت السيدة: «في أي وقت تحب. وفي الواقع، لن نُحدِّق في الكرة البلورية، إنما سنقوم بقراءة للكف؛ أعتقد أنك ستقول إنهما على نفس القدر من الهراء.»
قال هاردكاسل مبتسمًا: «أعتقد أن هناك مسارًا وسطًا بين الهراء والمنطق؛ فهناك تعليلات طبيعية وليست هراءً على الإطلاق، ومع ذلك تكون النتائج مذهلة تمامًا. هل ستأتي لتجربة هذه الأشياء على نفسك؟ أعترف بأن الفضول يعتريني.»
قال المتشكك مغمغمًا وقد تحوَّل وجهه المستدير إلى اللون الأحمر بفعل حرارة شعوره بالازدراء والتشكك: «أوه، لا أطيق صبرًا على هذا الهراء، سأدعكم تُضيعون وقتكم مع ذلك المشعوذ البني؛ إنني أُفضل أن أقضي وقتي في إلقاء الكرات الخشبية على ثمار جوز الهند.»
كان عالم الفرينولوجيا لا يزال يحوم بالقرب منهم، فتوجَّه نحوهم كالسهم.
وقال: «الرءوس يا سيدي العزيز. للجمجمة البشرية شكل أرقُّ بكثير من ثمار جوز الهند. لا يمكن لثمرة جوز الهند أن تقارن ﺑ…»
كان هاردكاسل قد دلف بالفعل إلى المدخل المظلم للخيمة الأرجوانية، وسمعوا أصواتًا خفيضة أقرب إلى التمتمة تأتي من الداخل. وفيما استدار توم هانتر نحو عالم الفرينولوجيا وردَّ عليه بطريقة تنمُّ عن نفاد صبره، أظهر من خلالها عدم اكتراث مؤسف منه نحو الفرق بين العلوم الطبيعية والخارقة للطبيعة، كانت السيدة على وشك أن تكمل جدالها القصير مع القس؛ ذلك حين توقفت عن حديثها وقد بدت الدهشة على وجهها؛ فقد خرج جيمس هاردكاسل من الخيمة مرةً أخرى بوجهه المتجهم ونظارته الأحادية اللامعة، وكانت أمارات الدهشة واضحة تمامًا على وجهه. قال الرجل السياسي بسرعة: «إنه ليس بالداخل، لقد اختفى. وذلك الزنجي المسن المسئول عن ترتيب جناحه ثرثر بشيء عن أنَّ الرجل قد فضَّل الذهاب على بيع أسراره المقدسة مقابل الذهب.»
استدارت الليدي ماونت إيجل نحو الآخرين وقد تلألأ وجهها وصاحت: «هاكم! قلت لكم إنه يختلف عن أي شيء تتخيلونه ويسمو عنه! إنه يكره وجوده هنا وسط الحشود؛ لقد عاد إلى عزلته.»
قال الأب براون بنبرة جادة: «أنا آسف؛ ربما لم أكن منصفًا في الحُكم عليه. أتعرفين أين ذهب؟»
قالت مضيفته بنبرة جادة: «أعتقد ذلك. إنه حين يريد أن يكون وحيدًا، فهو دومًا ما يتَّجه إلى ساحة الدير، عند نهاية الجناح الأيسر، بعد مكتب زوجي ومتحفه الخاص. ربما تعلم أن هذا المنزل كان ديرًا للرهبان فيما مضى.»
أجابها القس وعلى وجهه ابتسامة باهتة: «سمعت عن ذلك.»
قالت السيدة في حماس: «سنذهب إلى هناك، إذا أردتم. ينبغي لكم حقًّا أن تشاهدوا مقتنيات زوجي؛ أو القمر الأحمر على أي حال. ألم تسمعوا من قبل عن قمر ميرو الأحمر؟ أجل، إنه ياقوتة.»
قال هاردكاسل بنبرة هادئة: «سأُسرُّ كثيرًا برؤيتي لتلك المقتنيات، بما فيها سيد الجبل، إذا كان ذلك الرجل المُلهم هو أحد القطع المعروضة في المتحف.» ثم توجهوا جميعًا نحو الممر المؤدِّي إلى المنزل.
غمغم توماس المتشكك قائلًا بينما كان في مؤخر المسير: «لا يهمني هذا، لكني أرغب بشدة في أن أعرف سبب قدوم ذلك المتوحش البُني إلى هنا، إذا لم يكن قد أتى ليقرأ الطالع.»
وبينما اختفى توماس من أمام فروسو العنيد، انطلق الأخير وراءه مرة أخرى فكاد يمسك بذيل معطفه وقال: «إن النتوء …»
قال الشاب: «ليس نتوءًا، بل تحدُّب. ذلك التحدُّب الذي يُصيبني دومًا حين آتي لرؤية ماونت إيجل.» وأسرع في خطاه ليفرَّ من قبضة العالم.
وفي طريقهم إلى ساحة الدير، كان على الزوار أن يمروا عبر الغرفة الطويلة التي خصصها اللورد ماونت إيجل لتصبح متحفه الخاص والمميز الذي يحوي العجائب والتمائم الآسيوية. ومن خلال الباب الوحيد المفتوح، وعلى طول الجدار المواجه له، كان باستطاعتهم رؤية الأقواس الجدارية القوطية الطراز ولمعان ضوء الشمس من بينها، والتي تحيط بالمساحة المفتوحة المربعة الشكل؛ حيث كان الرهبان يمشون في ممراتها المسقوفة في الأزمنة الغابرة، لكن كان عليهم أن يمروا بشيء بدا للوهلة الأولى استثنائيًّا أكثر من كونه مجرد شبح لراهب.
كان رجلًا نبيلًا عجوزًا، يرتدي الملابس البيضاء من قمة رأسه وحتى أخمص قدمه، وعمامة بلونٍ أخضر فاتح، لكن بشرته كانت إنجليزية تقليدية بمزيج من اللونين الأبيض والوردي، وله شارب أبيض ناعم يشبه شارب كولونيل أنجلو هندي يتَّسم باللطف. كان ذلك هو اللورد ماونت إيجل الذي تعامل مع متعه الشرقية بشكل أكثر مهابة، أو على الأقل بشكل أكثر جِدِّية من زوجته؛ حيث لم يكن يتحدَّث عن أي شيء سوى الأديان والفلسفات الشرقية، وكان يعتقد أنه من الضروري له أن يرتدي ملابسه على طريقة النُّسَّاك الشرقيين. وبينما كان مسرورًا بعرض كنوزه، بدا وكأنه يقدِّر هذه الكنوز بسبب الحقائق التي من المفترض أنها تمثلها، لا بسبب قيمتها كمقتنيات، فضلًا عن قيمتها المالية. وحتى حين أخرج الياقوتة الحمراء الكبيرة — والتي ربما تكون هي القطعة الوحيدة في المتحف ذات القيمة العظيمة من الناحية المالية فقط — بدا أنه مهتم باسمها أكثر من حجمها، فضلًا عن قيمتها المالية.
كان الآخرون يُحدِّقون فيما بدا أنه حجر كريم أحمر اللون وكبير بشكل مذهل، وهو يلمع وكأنه شعلة وسط شلال من الدماء، لكن اللورد ماونت إيجل أخذ يُدير الحجر في يديه بلا مبالاة ومن دون أن ينظر إليه؛ وبينما كان يحدِّق إلى السقف، قصَّ عليهم قصةً طويلةً عن طابع جبل ميرو الأسطوري، وكيف أن ذلك الجبل في الأساطير الغنوصية كان مكانًا للصراع بين القوى المقدسة البدائية المجهولة الأسماء.
وبحلول نهاية المحاضرة عن خالق الكون المادي عند الغنوصيين (من دون أن يغفل علاقة هذا بمفهوم المانيشية الموازي)، رأى السيد هاردكاسل اللبِق أنه قد حان الوقت لإحداث تحويل في مسار الحديث؛ ذلك أنه طلب الإذن له بأن يلقي نظرة على الحجر. ونظرًا لأن خيوط المساء قد بدأت تنسدل على المكان، وكانت الحجرة الطويلة ببابها الوحيد قد لفَّها ظلام مُطَّرد، خرج السيد هاردكاسل للممر المسقوف الخارجي ليفحص الجوهرة في إضاءة أفضل. حينها بدءوا وللمرة الأولى يدركون، ببطء وبشكل مريب، وجود سيد الجبل في المكان.
كان المكان يتبع نفس التخطيط المعتاد من حيث هيكله الأصلي، لكن صفَّ الأعمدة القوطية والأقواس المستدقة التي أحاطت بالساحة الداخلية المربعة كانت تتصل بعضها ببعض على طولها بواسطة جدار منخفض الارتفاع يصل تقريبًا إلى مستوى الخَصر، فتحولت الأبواب القوطية لتشبه النوافذ، ولكل نافذة نوع من عتبة حجرية مسطحة. كان هذا التعديل الذي جرى على شكل المكان يعود إلى حقبة قديمة، لكن كانت هناك تعديلات أخرى من نوع أغرب تشهد على الأفكار الفردية غير الاعتيادية للورد ماونت إيجل وزوجته؛ حيث توجد بين الأعمدة ستائر رفيعة معلَّقة هي أقرب إلى حُجب وهي مصنوعة من خرز أو خيزران خفيف ومصفوفة بطريقة قارية أو جنوبية؛ وعلى تلك الستائر، كان بالإمكان رؤية خطوط وألوان لتنانين وآلهة آسيوية، تتناقض مع الإطار الرمادي القوطي الذي علقت عليه، لكن هذه الستائر — وبينما كانت تحجب المزيد من الضوء الخافت في المكان — كانت هي آخر التناقضات التي أصبح الحاضرون على وعْيٍ بها، مع اختلاف ما ينتابُهم من شعور.
وفي المساحة المفتوحة المحاطة بالممرَّات كان هناك ممشًى دائريٌّ هو أشبه بدائرةٍ داخل إطار مربع الشكل، وهو مرصوف بحجارة باهتة مع حافة مطلية بالإينامل الأخضر وكأنها عشبٌ مزيَّف. وبداخل هذا الممشى، عند المنتصف يوجد حوض نافورة بلون أخضر داكن، أو يمكن القول بأنه بِركةٌ ذات حوافَّ مرتفعة، تطفو زنابق الماء على سطحها، بينما تتلألأ الأسماك الذهبية ذهابًا وعودة بداخلها. وفوق هذا الحوض وُضع تمثال أخضر ضخم، لم تَعُد تفاصيله واضحة بسبب خفوت ضوء النهار. وكان ظهر التمثال مواجهًا لهم ووجهه مختفيًا تمامًا عنهم بفعل انحنائه بحيث بدا التمثال وكأنه لا رأس له تقريبًا، لكن على الرغم من اختفاء تفاصيله بفعل الشفق الخافت، كان بإمكان بعضهم رؤية أن هذا التمثال لا يمثل أي شيء له صلة بالمسيحية.
وعلى بُعد ياردات قليلة في ذلك الممشى الدائري كان الرجل الذي يُدعى بسيد الجبل واقفًا ينظر نحو تمثال المعبود الأخضر الضخم. وقد بدت ملامحه المستدقَّة الوسيمة كأنها قناع من نحاس صنعه حِرَفيٌّ ماهر. وعلى النقيض من ذلك، كانت لحيته ذات اللون الرمادي الداكن تبدو بلون أزرق نيلي؛ إذ تبدأ بخصلة نحيلة عن الذقن، ثم تنتشر على وجهه وكأنها مروحة كبيرة أو ذيل طائر. وكان الرجل يرتدي ثوبًا بلون أخضر قاتم يشبه لون الطاووس، ويضع على رأسه الأصلع قبعةً عاليةً شكلها غير مألوف؛ حيث لم يكن أيٌّ منهم قد رأى هذه القبعة من قبل، لكنها بدت مِصريةً أكثر من كونها هندية. وقد وقف الرجل محدقًا بعينَيه، وهما مفتوحتان عن آخرهما فبدتا أشبه بأعين السمك، وكانت نظرته جامدة حتى إنها بدت كأعين مرسومة على تابوت مومياء، لكن على الرغم من أن شكل سيد الجبل كان متفردًا بما يكفي، فإن بعض الصحبة ومن بينهم الأب براون لم ينظروا إليه، بل ثبَّتوا أنظارهم على المعبود الأخضر القاتم الذي كان سيد الجبل نفسه ينظر إليه.
قال هاردكاسل بامتعاض بعض الشيء: «يبدو هذا شيئًا غريبًا لكي يوضع في وسط دير عتيق كهذا.»
قالت الليدي ماونت إيجل: «لا تكن سخيفًا؛ كان هذا هو مقصدنا، أن نجمع بين الأديان الشرقية والغربية العظيمة، أن نجمع بين بوذا والسيد المسيح. لا بدَّ أنك تدرك أن كل الأديان في حقيقتها متشابهة.»
قال الأب براون بنبرة معتدلة: «إذا كان الأمر كذلك، فيبدو من غير الضروري أن تذهبوا إلى أواسط آسيا لتحضروا واحدًا.»
قال هاردكاسل: «الليدي ماونت إيجل تقصد أنها ذات مظاهر أو جوانب مختلفة، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لهذا الحجر.» وقد أصبح مهتمًّا بموضوع النقاش الجديد، بينما وضع الياقوتة الكبيرة على العتبة أو الحافة الحجرية تحت القوس القوطي واستطرد قائلًا: «لكن هذا لا يستتبع أن بإمكاننا المزج بين هذه الجوانب في أسلوب فني واحد. ربما يمكن أن نمزج بين المسيحية والإسلام، لكن لا يمكن أن نمزج بين الطراز القوطي والطراز العربي الإسلامي، فضلًا عن الطراز الهندي الحقيقي.»
وفي أثناء حديث هاردكاسل، بدأت الحياة تدبُّ في سيد الجبل وكأنه يستفيق من غيبوبة، وبدأ الأخير يتحرَّك بخطًى ثابتة حول رُبع آخر من الدائرة، فوقف في الناحية الخارجية من صف الأقواس، بينما ظهره مستدير نحوهم وأخذ ينظر نحو ظهر التمثال. كان من الواضح أنه يتحرك على مراحل حول الممشى الدائري، وكأنه أحد عقارب الساعة، لكنه كان يتوقف بين الحين والآخر ليتلو صلاة أو ليتأمل التمثال.
سأل هاردكاسل بنبرة تنمُّ عن شيء من نفاد الصبر: «ما ديانته؟»
أجاب اللورد ماونت إيجل بنبرة تبجيل: «يقول بأن ديانته أقدم من البراهمانية وأنقى من البوذية.»
قال هاردكاسل: «أوه.» وظل يحدِّق عبر نظارته ذات العدسة الواحدة وهو يقف وكلتا يديه في جيبيه.
قال الرجل النبيل بنبرته اللطيفة التعليمية: «يُقال إن المعبود الذي يُطلق عليه سيد الآلهة منحوتٌ على شكل تمثالٍ ضخمٍ في كهف جبل ميرو …»
انقطعت فجأة محاضرة اللورد الهادئة بفعل الصوت الذي أتى من خلفه؛ حيث أتى الصوت من قلب ظلمة المتحف الذي تركوه لتوِّهم، حين دخلوا إلى الممر. بدا الشابان عند سماعهما للصوت مرتابين في البداية، ثم انتابهما شعورٌ بالغضب، ثم كادا يتهاويان من شدة الضحك.
قال البروفيسور فروسو؛ ذلك المناضل العلمي الذي لا يُقهر، بصوته المهذب والجذاب: «آمل أني لا أتطفل عليكم، لكن يُهيَّأ لي أن بعضكم قد يخصص بعض الوقت لعلم النتوءات الذي يزدريه الكثيرون، والذي …»
صاح تومي هانتر في اندفاع قائلًا: «اسمع، ليس لديَّ أي نتوءات، لكنك على وشك أن تتسبَّب لنفسك في الحصول على بعضها، أيها …»
كان هاردكاسل قد أمسك به بلطف بينما انسحب مرة أخرى من الباب؛ ومن ثم التفت الوقوف جميعًا وعادوا ينظرون مرةً أخرى باتجاه الغرفة الداخلية.
في تلك اللحظة حدث الأمر؛ حيث كان تومي المندفع، مرة أخرى، هو أول من تحرَّك، وكان لتحرُّكه هذه المرة نتيجةٌ أفضل؛ ذلك أن هاردكاسل حين تذكَّر أنه قد ترك الجوهرة على الحافة الحجرية قفز من مكانه، وقبل أن يتمكَّن أي أحد من رؤية أي شيء، كان تومي قد عبر الممر بقفزة منه وكأنه قطة، وبينما كان منحنيًا برأسه وكتفَيه خارج الفتحة بين اثنين من الأعمدة، صاح بصوت رنَّ صداه في الأرجاء قائلًا: «لقد أمسكت به!»
خلال تلك اللحظة، وفور أن التفتوا، وقبل أن يسمعوا صيحته المنتصرة، كانوا قد رأوا كل شيء وهو يحدث. ذلك أنه عند زاوية أحد العمودين، اندفعت يدٌ كالسهم ذات لون بني أو هو أقرب إلى البرونزي، كاللون الذهبي المنطفِئ، وبدت كما لو أنهم قد رأوا مثيلًا لها في مكان آخر. كانت اليد قد انسلت بصورة مباشرة خاطفة وكأنها ثعبان يهجم على فريسته، أو ضربة لسان حيوان آكل النمل الطويل. وهكذا اختطفت اليدُ الجوهرة. وبدا اللوح الحجري لحافة النافذة خاليًا رغم لمعانه في تلك الإضاءة الخافتة الباهتة.
قال تومي هانتر لاهثًا: «لقد أمسكت به، لكنه يتملَّص بقوة. قابلوه يا رفاق من الأمام — لا يمكن أن يكون قد تخلص من الجوهرة على أي حال.»
نفَّذ الآخرون كلامه، فهرع البعض إلى الممر وقفز البعض الآخر عن الجدار المنخفض، فكانت النتيجة أن ذلك الحشد الصغير الذي يتكوَّن من هاردكاسل واللورد ماونت إيجل والأب براون وحتى السيد فروسو عالم النتوءات، والذي لا يمكن التخلص منه، قد أصبحوا جميعًا يُحيطون بسيد الجبل الأسير الذي كان هانتر يمسك به بشدةٍ من ياقة ثيابه بإحدى يديه؛ بينما يحاول سيد الجبل التملُّص بين الحين والآخر بطريقة غير معقولة تمامًا بالنسبة لجلالة ومهابة رجل ملهم.
قال هانتر متنهدًا وهو يطلق سراحه: «الآن وبعد أن أمسكنا به، ينبغي فقط أن نفتِّشه. لا بدَّ أن الجوهرة هنا.»
وبعد ثلاثة أرباع ساعة تواجه في الممر كلٌّ من هانتر وهاردكاسل — بقبعتيهما وربطتَي عنقيهما وقُفازيهما وقميصَيْهما التحتيَّين وجوربيهما اللذين اتسخا بطريقة ما بسبب ما كانا يفعلانه منذ قليل — وراح كلٌّ منهما يُحدِّق في الآخر.
سأل هاردكاسل في تحفُّظ: «حسنًا، هل لديك أي آراء حول هذا اللغز؟»
أجابه هانتر: «توقف، لا يمكنك أن تطلق على ما حدث أنه لغز. لقد رأينا جميعًا الرجل وهو يأخذ الحجر الكريم.»
رد الآخر: «أجل، لكننا لم نره وهو يتخلص منه. ويكمن اللغز في المكان الذي تركه فيه بحيث لا يمكن لنا أن نجده؟»
قال هانتر: «لا بدَّ أنه في مكانٍ ما. هل بحثت في النافورة وحول تمثال ذلك المعبود المتعفِّن؟»
قال هاردكاسل وهو يرفع نظارته الأحادية العدسة وينظر إلى الآخر: «لم أفتِّش بداخل بطون الأسماك الصغيرة. أتظن أننا نبحث عن خاتم بوليكراتس؟»
على ما يبدو أن نظرته إلى ذلك الوجه المستدير أمامه من خلال النظارة قد أقنعتْه أن الرجل لم يُلقِ بالًا لتلك الأسطورة الإغريقية.
صاح هانتر قائلًا فجأة: «أعترف أن الحجر ليس معه، ما لم يكن قد ابتلعه.»
سأله الآخر مبتسمًا: «هل سنبحث عنه أيضًا في بطن ذلك المُلهَم؟ ها قد أتى مُضيفنا.»
قال اللورد ماونت إيجل بينما برم شاربه الأبيض في انفعال، بل بيدٍ مرتعشة أيضًا: «هذا أمر محزن للغاية. من المريع أن تحدث سرقة في بيتك، فضلًا عن ربط هذه السرقة برجل كسيِّد الجبل، لكنني أعترف أني لا أستطيع أبدًا أن أفهم أي شيء من الطريقة التي يتحدَّث بها عمَّا حدث. آمل أن تأتوا إلى الداخل وتبحثوا في الأمر.»
دخلوا معًا، بينما تأخَّر هانتر عنهم وقد انخرط في محادثة مع الأب براون، الذي كان يتجوَّل حول الممر.
قال القَسُّ بنبرةٍ لطيفة: «لا بدَّ أنك تتمتَّع بقوة بدنية كبيرة. لقد كنت تمسك بالرجل بيد واحدة، وقد بدا أنه قوي أيضًا، حتى حين كنا نمسك به بثماني أيادٍ، كأحد أولئك الآلهة الهندية.»
ثم استكملا الدوران حول الساحة مرة أو اثنتين وهما يتحدَّثان، ثم دلفا أيضًا إلى الغرفة الداخلية، حيث كان سيد الجبل جالسًا على أريكة، بصفته محتجزًا، إلا أن مظهره كان يبدو وكأنه ملك.
كان صحيحًا، كما قال اللورد ماونت إيجل، أن نبرة صوته ومظهره من الصعب فهمهما؛ فقد راح يتحدَّث بنبرة هادئة لكنها تنمُّ عن إحساسه سرًّا بالقوة والزهو. وبدا مندهشًا من اقتراحاتهم بشأن الأماكن المبتذلة التي يمكن أن يكون الحجر الكريم مخبَّأً بها، ومن المؤكد أنه لم يُبدِ أيَّ استياء، وقد بدا كأنه يضحك في نفسه بشكل مبهم على جهود الآخرين في البحث عن الحجر الذي رأوه جميعًا وهو يأخذه.
قال سيد الجبل في نزعة غطرسة وتكبُّر: «أنتم لا تعلمون شيئًا عن قوانين الزمان والمكان، وهي أشياء يتأخر فيها أحدث ما توصَّلتم إليه من علوم عن أقدم ما اعتنقنا من عقائد بألف عام. أنتم لا تعرفون حتى معنى إخفاء الأشياء. لا، أيها الأصدقاء المساكين، أنتم لا تعرفون حتى معنى أن تشاهدوا شيئًا، وإلا فربما كنتم ستَرَون هذا الحجر بوضوحٍ كما أراه.»
صاح هاردكاسل بنبرة صارمة: «أتقصد أنه هنا؟»
أجابه سيد الجبل: «إن كلمة «هنا» تحمل الكثير من المعاني أيضًا، لكنني لم أقُل إنه هنا. إنما قلت فقط إني أستطيع رؤيته.»
ساد صمت مزعج، ثم استطرد الرجل بنبرة هادئة.
«إذا استطعتم أن تصمتوا صمتًا تامًّا لا يُسبر غوره، فهل تعتقدون أن باستطاعتكم أن تسمعوا صيحة في الجهة الأخرى من العالم؟ صيحةَ متعبدٍ وحيد في تلك الجبال، حيث تكمن الصورة الأصلية فتتخذ شكل الجبل. يقول البعض إنه حتى اليهود والمسلمون ربما يعبدون تلك الصورة؛ ذلك أنها لم تكن قط من صُنع الإنسان. أنصتوا! هل تسمعون نداءه وهو يرفع رأسه وينظر في محجر الجوهرة — الذي كان فارغًا لسنين طويلة — ليرى القمر الغاضب والأحمر المتفرد الذي هو عين الجبل؟»
صاح اللورد ماونت إيجل وهو يرتعش قليلًا: «أتقصد حقًّا أن باستطاعتك أن تنقلها من هنا إلى جبل ميرو؟ لقد كنت أعتقد أنك تتمتع بقوًى روحية عظيمة، لكن …»
قال سيد الجبل: «ربما أمتلك أكثر مما يمكنك أن تصدِّق بكثير.»
هبَّ هاردكاسل من مكانه وقد نفد صبره وبدأ يخطو في الغرفة ذهابًا وإيابًا بينما كانت يداه في جيبيه.
«لم أكن أعتقد كثيرًا مثلك بوجود مثل هذه القوى الروحانية، لكنني أعترف أن قوًى من نوع معين ربما … يا إلهي!»
انقطعت نبرته العالية الصارمة، ووقف يُحدِّق، فوقعت العدسة عن عينه. ووجَّه الجميع وجوههم نحو الاتجاه نفسه الذي راح ينظر فيه، وظهرت على وجه كلٍّ منهم ملامح الدهشة نفسها.
كان قمر ميرو الأحمر موجودًا على حافة النافذة الحجرية، تمامًا حيث رأوه للمرة الأخيرة. ربما كان يبدو كشرارة حمراء تطايرت من شُعلة لهب، أو ربما كان بتلة زهرة حمراء اقتُطعت من زهرة مقطوفة، لكنه كان في مكانه تمامًا وفي نفس الموضع الذي وضعه فيه هاردكاسل دون أن يُلقي للأمر بالًا.
لم يحاول هاردكاسل في هذه المرة أن يُمسك به مرة أخرى، لكن تصرُّفه كان فريدًا نوعًا ما؛ ذلك أنه قد استدار ببطء وبدأ يخطو في الغرفة مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت حركته متقنة، أما عن المرة الأولى فقد كانت حركته تنمُّ عن ضيق صدر وقلق. وفي النهاية، توقَّف عن حركته أمام سيد الجبل الجالس، وانحنى أمامه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة من نوعٍ ما.
ثم قال: «أيها السيد، إننا جميعًا ندين لك باعتذار، والأهم من ذلك أنك علمتنا جميعًا درسًا. صدقني، سنتذكره دومًا كدرس ومزحة. وسأتذكر دومًا قواك الاستثنائية التي تتمتع بها حقًّا، وكيف أنك تستخدمها في غير الأذى وإلحاق الضرر. أيتها الليدي ماونت إيجل …» ثم استطرد بعد أن استدار نحوها: «اعذريني على أن وجَّهت كلامي للسيد أولًا، لكنني شرُفت بإبداء ذلك التفسير أمامك أنتِ قبل ذلك. وربما أقول إنني فسَّرت الأمر قبل أن يحدث. لقد أخبرتكِ أن معظم هذه الأشياء تُفسَّر على أنها نوع من أنواع التنويم المغناطيسي. يعتقد الكثيرون أن هذا هو التفسير الوحيد لكل القصص الهندية عن نباتات المانجو والطفل الذي يتسلق حبلًا معلقًا بالجو. إن هذه الأمور لا تحدث فعلًا، لكن يتم تنويم الناظرين مغناطيسيًّا كي يخالوا أنها تحدث؛ لذا فقد خُيِّل إلينا جميعًا أن السرقة قد وقعت؛ فتلك اليد السمراء التي تسللت من النافذة، وأخذت الجوهرة لم تكن سوى وهمٍ لحظيٍّ، وكأنها جزءٌ من حلم. إلا أننا وبعد أن رأينا الحجر الكريم قد اختفى، لم نبحث عنه في المكان الذي كان فيه. بل توجَّهنا للبحيرة وحرَّكنا كل ورقة من أوراق زنابق الماء، وكدنا نتسبَّب للأسماك الذهبية أن تتقيَّأ، لكن الياقوتة كانت هناك في مكانها طوال الوقت.»
ثم رمق عينَي سيد الجبل البراقتَين وفمه الباسم المغطَّى بشعر شاربه، فرأى أن ابتسامته قد اتَّسعت أكثر. وكان في ابتسامته شيءٌ جعل الآخرين يثبون على أقدامهم وقد انتابتهم فجأة مشاعر الاسترخاء والارتياح العام الذي لا يخلو من انبهار.
قال اللورد ماونت إيجل وهو يبتسم ابتسامة قلقة: «هذا مخرج سعيد لنا جميعًا. ليس هناك أدنى شكٍّ في حديثك. إن ما حدث كان مؤلمًا حقًّا ولا أعلم صدقًا كيف أعتذر …»
قال سيد الجبل وما زالت البسمة تعلو مُحياه: «لست غاضبًا من شيء. أنتم لم تمسُّوني على الإطلاق.»
وفيما ذهب الآخرون فرحين، بما فيهم هاردكاسل الذي كان بطل الموقف، كان عالم الفيرنولوجيا ذو السوالف في طريق عودته إلى خيمته الغريبة. وحين نظر خلفه تفاجأ من رؤية الأب براون يتبعه.
سأله الخبير بنبرته الساخرة المعتدلة: «أيمكنني أن أتحسس نتوءاتك؟»
قال القس في مزاح خفيف: «لا أعتقد أنك تريد أن تتحسس أي شيء بعد الآن، أليس كذلك؟ أنت تعمل محقِّقًا، أليس كذلك؟»
أجابه الآخر: «بلى، لقد طلبت مني الليدي ماونت إيجل مراقبة سيد الجبل والتي لم تكن حمقاء رغم اعتقاداتها الروحانية؛ وحين غادر خيمته، لم أستطع تتبُّعه إلا بالتصرف كشخص مزعج ومهووس بمهنته، ولكن إذا ما دخل أحدهم إلى خيمتي كي أتحسس نتوءاته، كنت سأضطر للبحث عن معنى كلمة «نتوءات» في إحدى الموسوعات.»
قال الأب براون بصورة مرحة: «نتوءات، يا لها من امرأة! انظر مادة «فولكور». في الواقع، لقد كنتَ بارعًا في أداء دور المزعج — في البازار.»
أضاف عالم الفرينولوجيا المزيَّف: «كانت قضية غريبة، أليس كذلك؟ من الغريب أن تفكر أن الحجر الكريم كان في مكانه طوال الوقت.»
قال القس: «غريب جدًّا.»
كان في نبرته شيءٌ جعل الرجل الآخر يتوقَّف ويُحدِّق فيه.
ثم صاح: «اسمع! ما خطبك؟ لماذا تبدو هكذا؟ ألَا تعتقد أن الحجر كان في مكانه طوال الوقت؟»
رمش الأب براون بعينيه كما لو كان قد تلقَّى لطمة، ثم قال بنبرة بطيئة وبتردُّد: «نعم، الحقيقة أنه … لا أستطيع … لا أستطيع أن أحمل نفسي على الاعتقاد بذلك.»
قال الآخر بدهاء: «أنت لستَ من الرجال الذين يقولون شيئًا من دون أن يكون هناك سبب لقولهم إياه. لماذا لا تعتقد أن الياقوتة كانت في مكانها طوال الوقت؟»
قال الأب براون: «لأنني أنا من أرجعتها إلى مكانها بنفسي.»
وقف الرجل الآخر بلا حَراك في مكانه، كما لو كانت القُشَعْريرة قد سرت بجسده كله. وفغر فاه من دون أن ينطق بكلمة واحدة.
أكمل القس قائلًا: «أو على وجه الدقة، كنت أنا من أقنع اللص بأن يدعني أرجعها إلى مكانها. لقد أخبرته بما سيحدث وأقنعته بأنه ما يزال هناك وقت للتوبة. لا أمانع إخبارك هذا بثقة مهنية، بالإضافة إلى أنني لا أعتقد أن آل ماونت إيجل سيتقدمون ببلاغ للشرطة الآن وقد عاد لهم ما يخصهم، خاصةً بالنظر إلى مَن قام بسرقة الحجر فعلًا.»
سأله الرجل الذي كان متنكرًا في شخصية فروسو: «أتقصد سيد الجبل؟»
قال الأب براون: «لا، سيد الجبل لم يسرق الياقوتة.»
أبدى الآخر اعتراضه قائلًا: «لكنني لا أفهم. لم يكن هناك أحد يقف خارج النوافذ عدا سيد الجبل، ومن المؤكد أن هناك يدًا تسللت من الخارج.»
قال الأب براون: «تسللت اليد من الخارج، لكن السارق جاء من الداخل.»
«يبدو أننا نعود إلى التفسيرات الروحانية مرة أخرى. اسمع، أنا رجل عملي؛ لم أبتغِ سوى أن أعرف إذا ما كانت الياقوتة في أمان …»
قال الأب براون: «كنت أعلم أن هناك شيئًا خاطئًا، حتى قبل أن أعرف بوجود الياقوتة.»
وبعد أن توقَّف برهة، استطرد في كلامه بعد تفكير عميق: «منذ تلك اللحظة التي كانوا يتجادلون فيها بجوار الخِيام علمت في الحال أن هناك شيئًا خاطئًا. يقول الناس إن النظريات ليست ذات أهمية وإن المنطق والفلسفة ليسا بشيئين عمليَّين. لا تصدقهم؛ فالتفكير السليم هبة من الله، وحين تكون الأمور خارج هذا الإطار تعرف أن هناك خطبًا ما. ولقد انتهى ذلك الجدال الموجز للغاية الذي دار بينهم بصورة فكاهية. ومع أخذ تلك النظريات التي كانت مطروحة، في الاعتبار، نجد أن هاردكاسل متغطرس تافه وقال بأن كل شيء ممكن، إلا أن أي شيء يحدث يكون في الغالب نتيجة تنويم مغناطيسي أو تبصر وهذه كلها أسماء علمية للألغاز الفلسفية في شكلها المعتاد، لكن هانتر كان يعتقد أن كل شيء هو محض احتيال، وأراد أن يبرهن على ذلك. وبشهادة الليدي ماونت إيجل، فإنه لا يعمل على إثبات أن العرَّافين وأمثالهم مخادعون فقط، وإنما جاء إلى هنا بصورة خاصة لكي يواجه هذا العرَّاف. وهو لم يكن يأتي في الغالب؛ لأنه لا ينسجم جيدًا مع اللورد ماونت إيجل، الذي كان يحاول أن يقترض منه الأموال دائمًا، ذلك أنه شخص مبذِّر، لكنه هرع إلى هنا حين سمع بأن سيد الجبل كان آتيًا. هذا جيد للغاية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هاردكاسل هو من ذهب ليتلقَّى استشارة العرَّاف بينما رفض هانتر ذلك. لقد قال إنه لن يضيِّع وقتًا على هذا الهراء، بينما من الواضح أنه أضاع الكثير من عمره على إثبات أن تلك الأمور ما هي إلا هراء بالفعل. وهو ما يبدو غير متَّسق. لقد كان هانتر يعتقد في هذه الحالة أن التبصُّر سيتم بالتحديق في الكرة البلورية، لكنه اكتشف أنه سيتم عن طريق قراءة كف اليد.»
سأله رفيقه وقد بدا متحيرًا: «أترمي إلى أنه كان يُقدم عُذرًا؟»
أجابه القس: «لقد اعتقدت ذلك في البداية، لكنني أعرف الآن أنه لم يكن عذرًا، إنما كان سببًا. لقد ارتبك حقًّا حين عرف أن التبصُّر سيتم عن طريق قراءة الكف، لأنه …»
ألحَّ الآخر وقد نفد صبره: «لأنه ماذا؟»
قال الأب براون: «لأنه لم يُرِد أن يخلع قفازه.»
كرر السائل الكلام مرة أخرى: «يخلع قفازه؟»
قال الأب براون بنبرة معتدلة: «لأنه لو فعل، لكنا قد رأينا جميعًا أن يده كانت ملوَّنة بلون بُني فاتح بالفعل … أوه، أجل، لقد أتى إلى هنا خصوصًا لأن سيد الجبل كان موجودًا. لقد أتى وهو على أهبة الاستعداد.»
صاح فروسو: «أتقصد أن يد هانتر التي قام بطلائها بلون بني، كانت هي تلك اليد التي تسللت إلى النافذة؟ كيف هذا؟ لقد كان معنا طوال الوقت!»
قال القس: «اذهب وجرِّب الأمر في نفس المكان، تَجدْ أنه من الممكن فعل ذلك. لقد وثب هانتر إلى الأمام وانحنى خارج النافذة؛ وفي لمح البصر، استطاع أن يخلع قفازه ويُشمر ساعده ويمد يده حول الجهة الأخرى من العامود، فيما كان يمسك بالهندي بيده الأخرى ويصيح بأنه أمسك باللص. لقد لاحظت حينها أنه يمسك اللص بيد واحدة، في حين أن أي رجل عاقل كان سيستخدم كلتا يديه، لكن يده الأخرى كانت تدس الجوهرة في جيب بنطاله.»
ساد الصمت طويلًا، ثم قال عالم الفرينولوجيا السابق بنبرة بطيئة: «في الواقع، الأمر صادم. لكن ما يربكني هو أن تفسيرك لا يوضِّح السلوك الغريب للساحر العجوز نفسه. إذا كان بريئًا تمامًا، فلمَ لم يقل ذلك؟ لمَ لمْ يغضب من كونه متهمًا ومن تفتيشه؟ لمَ جلس وابتسم وأشار بخبث إلى الأشياء الخارقة والمذهلة التي بإمكانه أن يفعلها؟»
صاح الأب براون بنبرة حادة: «أه، لقد وضعت يدك على أهم نقطة في الأمر! تلك النقطة التي لا يفهمها هؤلاء الأشخاص ولن يفهموها. لقد قالت الليدي ماونت إيجل إن كلَّ الأديان متشابهة. أهذا صحيح، بحق الرب؟ أؤكد لك أن بعضها يختلف كثيرًا عن البعض الآخر حتى إن أفضل رجل في معتقد ما يكون قاسيًا وغاشمًا، فيما يتسم أسوأ رجل من أتباع معتقد آخر بأنه مرهف الحس. لقد أخبرتك أنني لا أحب القوى الروحانية؛ ذلك أن التوكيد يكون على كلمة القوى. وأنا لا أقول إن سيد الجبل يمكن أن يسرق الياقوتة، من المرجَّح كثيرًا ألَّا يسرقَها؛ ومن المرجَّح كثيرًا ألَّا يعتقد أنها تستحق السرقة. إن ما يُغريه ليس هو سرقة الجواهر، ولكن تلقِّي المديح على معجزاتٍ لا يملكها، تمامًا كما لا يملك تلك الجوهرة. كان ذلك النوع من الإغراء، ذلك النوع من السرقة، هو ما استهواه اليوم. لقد أحبَّ أن نعتقد نحن أنه يمتلك قوًى عقلية مذهلة يستطيع من خلالها أن يحرك شيئًا ماديًّا في الفضاء، حتى على الرغم من أنه لم يفعل ذلك، فقد سمح بأن نعتقد أنه فعل. إنه لا يفهم تمامًا المغزى من كلمة ملكية خاصة. لن تظهر أمامه المسألة بهذا الشكل: «أينبغي أن أسرق هذا الحجر؟» وإنما ستظهر أمامه بهذا الشكل: «أيمكنني أن أجعل الحجر يختفي ويظهر مرة أخرى على جبل بعيد؟» أما عن ملكية الحجر فسيرى أنها غير ذات صلة. هذا هو ما أرمي إليه بقولي إن الأديان والمعتقدات مختلفة. إنه يتباهى كثيرًا بامتلاك ما يُطلِق عليه القوى الروحانية، لكن ما يُطلِق هو عليه صفة روحي لا يعني أن نُطلق نحن عليه صفة أخلاقي. إنما صفة الروحانية هنا في معناها أنها عقلية أكثر؛ أي قوة العقل في التحكم في الأشياء المادية؛ كالساحر الذي يتحكم في العناصر. أما نحن فلسنا شبهًا لذلك، حتى حين لا نكون في مقام أفضل، أو حتى حين نكون في مقام أسوأ. إننا — نحن من كان آباؤنا على الأقل يدينون بالمسيحية وقد نشأنا تحت هذه الأقواس التي تعود للقرون الوسطى، وحتى إذا كنا نكسوها بكل تلك الشياطين الآسيوية — أقول إننا نطمح لأمر مناقض تمامًا لما يطمح مثل هؤلاء إليه ويلحق بنا خزي مناقض تمامًا لما يلحق بهم؛ كنا سنرغب نحن في ألَّا يعتقد أحدٌ أننا فعلنا ذلك، أما هو فكان يريد أن يعتقد الجميع أنه هو من فعل ذلك؛ حتى على الرغم من أنه لم يفعل ذلك. في الواقع، لقد سرق الرجل مفخرة وقوع السرقة. وبينما كنا نحاول جاهدين أن نبعد التهمة عنا كما لو كانت ثعبانًا سيؤذينا، كان هو في الواقع يحاول أن يستقطب التهمة إليه وكأنه ساحر الثعابين، لكن الثعابين ليست بحيوانات أليفة في بلادنا هذه! هنا تقاليد العالم المسيحي تصبح مؤثرة في ظل اختبار كهذا. انظر إلى اللورد ماونت إيجل العجوز نفسه على سبيل المثال! يمكنك أن تكون مستشرقًا أو غامضًا كما يحلو لك، ويمكنك أن ترتدي عمامة ورداءً طويلًا وتعيش وفقًا لأقوال الزعماء الروحانيين، لكن إذا سُرقت جوهرة من بيتك ووجدت أن أصدقاءك هم المشتبه بهم فسرعان ما ستجد نفسك رجلًا نبيلًا إنجليزيًّا تقليديًّا للغاية وتشعر بالقلق. لم يكن الرجل الذي ارتكب السرقة بالفعل يرغب قط في أن نعتقد أنه فعلها؛ لأنه أيضًا رجل إنجليزي نبيل، كما أنه يتحلَّى بصفة أفضل، وهي أنه لص مسيحي، ويحدوني الأمل وأعتقد أيضًا أنه لص تائب.»
قال رفيقه ضاحكًا: «وفقًا لروايتك لما حدث، فإن اللص المسيحي وذلك المحتال الوثني كانا على طرفَي النقيض تمامًا بعضهما من بعض. كان أحدهما يشعر بالأسف جرَّاءَ فعلته، وكان الآخر يشعر بالأسف أنه لم يفعلها.»
قال الأب براون: «لا ينبغي أن نقسو على أيٍّ منهما؛ فهناك رجال من النبلاء الإنجليز الآخرين الذين ارتكبوا سرقات قبل وقتنا هذا، وقد تستَّروا خلف القانون والسياسة، كما أن الغرب أيضًا يعرف كيف يغطِّي على السرقات بالسفسطة والمغالطات. وفي نهاية المطاف، لم تكن تلك الياقوتة هي الحجر الكريم الوحيد في العالم الذي تغيَّر مالكوه؛ فالأمر نفسه ينطبق على أحجار ثمينة أخرى؛ غالبًا ما تكون منحوتة كالنقوش وملونة كالأزهار.» نظر إليه الرجل الآخر مستفسرًا عما يرمي إليه، فأشار إصبع القس نحو إطار الدير الكبير الذي كان على الطراز القوطي. ثم قال: «إنه حجر منقوش رائع، وهو مسروق أيضًا.»