صور تمثيل المثقف
ولكن قوة ما ينعيه بندا في موقف المُثقفين الذي يصِمه بالخيانة لا تكمُن في دقة حُجته أو دهائها، ولا في الصورة المُطلعة التي يرسُمها، وهي محالة التحقيق، لرسالة المُثقف، وهي التي يُعبر عنها بألفاظٍ لا تقبل المهادنة على الإطلاق؛ إذ إن تعريف بندا للمُثقف الحقيقي يفترض أنه على استعدادٍ لأن يُحرَق علنًا، أو أن يُنبَذ من المجتمع تمامًا، أو يُصلَب، فالمثقفون في نظره شخوص رمزية تتَّسِم بابتعادها عن الشئون العملية ابتعادًا لا يقبل أدنى تنازُل، ومن ثم فمن المحال أن نجد عددًا كبيرًا منهم، ومن المحال إعداد من يقومون بهذا الدور بصورةٍ منتظمة. لا بد أن يكونوا أفرادًا يتصفون بالكمال، ويتمتَّعون بقوة الشخصية، وقبل هذا كله، عليهم أن يكونوا دائمًا مُعارضين للوضع الراهن في زمانهم، وبصورةٍ دائمة تقريبًا. ومن المحتوم، لهذه الأسباب كلها، أن يقلَّ عدد المثقفين الذين يصفهم بندا، وأن يكونوا رجالًا بارزين — فهو لا يُدرج المرأة في تعريفه إطلاقًا — أصواتهم جَهْوَرِيَّة رنَّانة، يصبُّون اللعنات الفظَّة من علٍ على الجنس البشري، ولا يُوضح بندا قطُّ كيف يتأتى لهؤلاء الرجال أن يعرفوا الحقيقة، أو ما إذا كانت ثمار بصائرهم النافذة في المبادئ الخالدة لا تزيد عن كونها أوهامًا فردية مثل أوهام دون كيخوته.
وأما التحليل الاجتماعي الذي يُقدمه جرامشي للمُثقف باعتباره شخصًا يؤدي مجموعةً مُحددة من الوظائف في المجتمع، فهو أقرب إلى الواقع من أي شيءٍ يُقدمه بندا لنا، خصوصًا في آخر القرن العشرين، حيث نشهد مِهنًا جديدةً كثيرةً تؤكد صحة رؤية جرامشي، مثل العاملين بالإذاعة، والمِهنيين الأكاديميين، ومُحللي الكمبيوتر، والمحامين العاملين في مجال الرياضة البدنية وأجهزة الإعلام، ومستشاري الإدارة، وخبراء السياسات، والمستشارين الحكوميين، ومؤلفي تقارير السوق المُتخصصة، بل ومجال الصحافة الجماهيرية الحديثة برمته.
كما اتَّسع انتشار المثقفين في مجالاتٍ بالِغة الكثرة، وهي المجالات التي أصبحوا فيها محلًّا للدراسة، وقد يكون ذلك نتيجة أقوال جرامشي الرائدة في مذكرات السجن، وهي الأقوال التي تَنْسب للمثقفين، لا للطبقات الاجتماعية، الدورَ المحوري في عمل المجتمع الحديث، وربما كانت هذه أول مرةٍ يُقال فيها ذلك، وما عليك إلا أن تسبق كلمة «المُثقفين» بحرف الجر «عن»، ثم تردفها بحرف العطف «و»، حتى تبرُز أمامك، في الوقت واللحظة تقريبًا، مكتبة كاملة من الدراسات الخاصة عن المُثقفين، مُخيفة في تنوُّعها وبالِغة الدقة في تفصيلاتها، فلدَينا الآن آلاف الدراسات المختلفة عن المثقفين وأدوارهم الاجتماعية، إلى جانب دراساتٍ لا حصر لها عن المُثقفين والقومية، والمثقفين والسلطة، والمثقفين والتقاليد، والمثقفين والثورة وهلمَّ جرًّا. فلقد أخرج كلُّ إقليمٍ من أقاليم العالم مُثقفيه، وكل صورة من صور هؤلاء تتعرض لمناقشات ومجادلات تحتدِم فيها المشاعر وتلتهب، فلم يحدُث أن قامت ثورة كبرى في التاريخ الحديث دون مثقفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركة مناهضة كبرى للثورة دون مثقفين. فلقد كان المثقفون آباء الحركات وأُمهاتها، وكانوا، بطبيعة الحال، من أبنائها وبناتها، بل ومن أبناء الأخ والأخت، وبنات الأخ والأخت أيضًا.
يلوح لي خطر اختفاء صورة المثقف، أو احتجاب مكانته، في خِضم هذه التفصيلات الكثيرة، أي خطر النظر إلى المثقف باعتباره أحد المِهنيين وحسب، أو مجرد رقم نحسبه في حساب تيَّارٍ من التيارات الاجتماعية، والحُجة التي أنتوي إقامتها في هذه المحاضرات تُسلِّم بوجود حقائق الواقع المذكورة في نهاية القرن العشرين، وهي التي ألمَحَ إليها جرامشي أول الأمر، ولكنني أودُّ أيضًا أن أؤكد هنا أن المثقف ينهض بدورٍ مُحدد في الحياة العامة في مجتمعه، ولا يمكن اختزال صورته بحيث تُصبح صورة مِهنيٍّ مجهول الهوية، أي مجرد فردٍ كفء ينتمي إلى طبقةٍ ما ويمارس عمله وحسب. وأعتقد أن الحقيقة الأساسية هنا هي أن المُثقف فرد يتمتع بموهبةٍ خاصة تُمكنه من حمل رسالةٍ ما، أو تمثيل وجهة نظرٍ ما، أو موقفٍ ما، أو فلسفةٍ ما، أو رأيٍ ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمعٍ ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع. وهذا الدور له حدٌّ قاطع؛ أي فعَّال ومؤثر، ولا يمكن للمثقف أداؤه إلا إذا أحسَّ بأنه شخص عليه أن يقوم علنًا بطرح أسئلةٍ محرجة، وأن يُواجه ما يجري مجرى الصواب أو يتَّخِذ شكل الجمود المذهبي، (لا أن يُنشئ هذا أو ذاك)، وأن يكون فردًا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه، وأن يكون مُبرِّر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادةً ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهُل والإخفاء. ويقوم المُثقف بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية، وهي أن جميع أفراد البشر من حقِّهم أن يتوقَّعوا معايير ومستويات سلوكٍ لائقةً مُناسِبة من حيث تحقيق الحرية والعدل من السلطات الدنيوية أو الأُمم، وأن أي انتهاكٍ لهذه المستويات والمعايير السلوكية، عن عمدٍ أو دون قصد، لا يمكن السكوت عليه، بل لا بدَّ من إشهاره ومحاربته بشجاعة.
ولأطبق الآن ما أقول على حالتي الشخصية: إنني بصفتي مُثقفًا أُقدم مشاغلي إلى جمهور أو إلى قاعدةٍ عريضة، ولكن الأمر لا ينحصِر في كيفية تعبيري عن هذه المشاغل بل يتجاوزه إلى ما أُمثِّله أنا نفسي، باعتباري شخصًا يُحاول تعزيز قضية الحرية والعدل، فأنا أقول أو أكتُب هذه الأشياء لأنني وجدتُ أنها، بعد تفكيرٍ وتأمُّلٍ كثير، تُمثل ما أؤمن به؛ كما إنني أريد أن أُقنع الآخرين أيضًا بهذا الرأي. وهكذا نجد لدَينا هذا الخليط المُعقَّد حقًّا بين العالَمين الخاص والعام، أي نجد من ناحيةٍ تاريخي الشخصي وقِيمي وكتاباتي ومواقفي المُستمدَّة من خبراتي، ومن ناحيةٍ أخرى كيف تتداخل هذه المسائل جميعًا في عالَم المجتمع، حيث يُناقش الناس قضايا الحرب والحرية والعدل ويتَّخذون قراراتٍ بشأنها، ولا يمكن أن يُوجَد، من ثَم، مَن يُسمَّى بالمثقف ذي العالم الخاص، لأنك ما إن تخط الكلمات على الورق وتنشرها حتى تدخُل العالَم العام، كما إنه لا يُوجَد ما يمكن أن يُسمى بالمثقف ذي العالم العام فقط، أي المُثقف الذي ينحصر دوره في كونه رمزًا أو متحدثًا باسم قضيةٍ أو حركة أو موقفٍ يكون علَمًا عليه ووقفًا عليه؛ إذ دائمًا ما نلمح تأثير الجانب الشخصي والحساسية الفردية الخاصة، وهذان عاملان يُضيفان المعنى على ما يُقال وما يُكتَب. وأبعد ما يُتصوَّر، وجود مُثقف يسعى إلى جعل جمهوره يشعُر بالرِّضا والارتياح، فالمقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، والمُعارضة، بل والاستياء.
وهكذا فالعبرة آخِر الأمر بصورة المثقف أو المفكر باعتباره يُمثل شيئًا ما — فهو شخص يمثل بوضوحٍ موقفًا من لَونٍ ما، وهو شخص يُقدم صورًا «تمثيلية» مُفصلة إلى جمهوره، على الرغم من شتَّى ألوان الحواجز والعراقيل. وما أقول به هو أن المُثقفين أو المفكرين أفرادٌ لهم رسالة، وهي رسالة فنِّ تمثيل شيءٍ ما، سواء كانوا يتحدثون أو يكتبون أو يُعلِّمون الطلاب أو يظهرون في التلفزيون، وترجع أهمية هذه الرسالة إلى إمكان الاعتراف بها عَلنًا، وإلى أنها تتضمَّن الالتزام والمخاطرة في الوقت نفسه، وكذلك الجسارة والتعرُّض للضرَر، ولذلك فعندما أقرأ جان بول سارتر أو برتراند راسل، أجد أن ما يُؤثر فيَّ هو الصوت والحضور الفردي الخاص إلى جانب الحُجج التي يَسُوقونها لأنهما يُعربان هنا عن معتقداتهما. ومن المحال أن أتصوَّر أن أحدهما موظف مجهول أو بيروقراطي حريص.
ولا بدَّ لنا أن ننظُر إلى الحياة العامة في المجتمع الحديث باعتبارها روايةً طويلة أو مسرحية، لا باعتبارها عملًا تجاريًّا أو المادة الأولية اللازمة لكتابة دراسةٍ اجتماعية، حتى يتيسَّر لنا تفهُّم وإدراك ما يُمثله المثقف أو المفكر وكيف يُمثله: إنه لا يُمثل فقط حركة اجتماعية باطنةً أو هائلة، بل يُمثل أيضًا أسلوب حياةٍ خاصًّا، وهو أسلوب مُزعج مُنفِّر، كما يقوم «بدور اجتماعي» يتفرَّد به صاحبه تمامًا عن سواه، ولن نجد ما يُحدِّد ملامح ذلك الدور خيرًا من بعض الروايات الفذَّة التي صدرت في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، مثل رواية الروائي الروسي تورجنييف «آباء وأبناء» أو الكاتب الفرنسي فلوبير «التربية العاطفية» أو الكاتب الأيرلندي جويس «صورة الفنان في شبابه» (التي ترجمها إلى العربية ماهر البطوطي بهذا العنوان) وهي الروايات التي يتأثر فيها تمثيل الواقع الاجتماعي تأثيرًا عميقًا، بل وتتغيَّر صورته تغيُّرًا حاسمًا، بسبب الظهور المفاجئ للمُثقف الشاب الحديث، الذي يُمثل «قوة» جديدة على مسرح الحياة.
إن تصوير تورجنييف للحياة في أقاليم روسيا في ستينيَّات القرن التاسع عشر تصويرٌ لحياة هادئة شاعرية لا يكاد يحدُث فيها شيء؛ إذ يرث المُلَّاك الشبَّان عادات حياتهم من والديهم، فيتزوَّجون ويُنجبون، وتسير الحياة دون تغييرٍ تقريبًا. ويظلُّ هذا الحال قائمًا حتى ينفجر الموقف بظهور شخصية بازاروف، الذي يجمع المؤلف في تصويره بين النزعة الفوضوية والتركيز الشديد. وأول ما نُلاحظه فيه هو أنه قد قطع روابطه مع والدَيه، بحيث يبدو لنا أقربَ إلى الإنسان الذي أوجد نفسه بنفسه منه إلى الابن الذي ورث خصال أبويه، فهو يتحدَّى رتابة الحياة ويُهاجم انعدام التميُّز والتفوُّق، واستخدام القوالب الجاهزة، ويؤكد ضرورة اتخاذ قِيَم علمية جديدة غير عاطفية تبدو لنا عقلانيةً وتقدُّمية. وقد قال تورجنييف إنه رفض أن «يغمس بازاروف في محلول السكر.» بل كان يقصد أن يجعله «فظًّا، غليظ القلب، ذا جفاء وقسوة.» وبازاروف يسخر من أُسرة كيرسانوف، وعندما يعزف الأبُ الذي كان في وسط العمر مقطوعةً موسيقية من تأليف شوبرت، يضحك بازاروف منه ويُقهقه، وبازاروف يدعو للأفكار التي أتى بها العِلم المادي الألماني؛ فهو لا يرى أن الطبيعة معبد بل يراها «ورشة» وعندما يُحب «آنا سيرجييفنا»، تنجذِب الفتاة إليه لكنها تخافه كذلك، فهي ترى في طاقته الذهنية المُتفجرة المُتحرِّرة الطليقة ما يشي بفوضى «العلماء»، وهي تقول في إحدى مواقف الرواية إن وجودها معه يجعلها تشعُر أنها تقف مُضطربة على شفا هوةٍ سحيقة.
ويرجع جمال الرواية وما تُشيعه من تعاطُفٍ، إلى أنَّ تورجنييف يُوحي لنا بعدَم إمكان التوفيق بين روسيا التي تحكمها تقاليد الأسرة ومظاهر استمرار الحب ومشاعر البنوَّة الصادقة، أي الأسلوب «الطبيعي» القديم للحياة، وبين القوة «العدَمية» التي تقطع أمثال هذه الروابط، مُمثلةً في بازاروف؛ فهو يختلف عن باقي شخصيات الرواية جميعًا في استحالة سرد قصته، فمِثلما يظهر فجأة ليتحدَّى كلَّ شيء، يموت فجأةً بعد أن أصابته عدوى المرض الذي كان يُعالجه عند أحد الفلاحين. وما نذكُره نحن عن بازاروف هو القوة «الخالصة» التي لا هوادة فيها للمَسعى الذي يشدُّه، ولذِهنه الوقَّاد الذي يُحفِّزه في أعماقه على مواجهة ما حوله. وإذا كان تورجنييف يعتقِد أنه أشدُّ شخصياته إثارةً للتعاطف، فلقد كان المؤلف نفسه حائرًا، وإلى حدٍّ ما مذهولًا إزاء القوة الفكرية التي لا تَعبأ بشيءٍ عند بازاروف، وكذلك ردود الفعل المُتباينة والعنيفة عند القرَّاء؛ إذ كان بعضهم يرَون أن شخصية بازاروف تُمثل هجومًا على الشباب، وامتدح بعضهم هذه الشخصية باعتبارها شخصية بطلٍ حقيقي، ورأى فريق آخر أنه يُمثل خطرًا من لونٍ ما. ومهما تكن مشاعرنا إزاء بازاروف «الإنسان» فإن رواية «آباء وأبناء» لا تستطيع أن «تستوعبه» باعتباره «شخصية روائية»، ولذلك فإن أصدقاءه من أفراد أُسرة كيرسانوف، بل ووالدَيه المُسِنَّين المُثيرَين للشفة، يواصلان العيش، ولكن نزوعه للقطْع في الأمور وتحدِّي ما حوله باعتباره مُثقفًا، يُخرجه من القصة، فهو لا يُناسبها ولا يصلُح معه الترويض أو «الاستئناس».
وعندما نصل إلى آخر الرواية نجد أن انتقادَه واعتزاله أفراد أُسرته والمكافحين في سبيل الاستقلال لا يَقِلَّان شدَّةً عن ابتعادِه عن أي مذهبٍ أيديولوجي قد يؤدي إلى الانتقاص من اعتزازه بفرديته ومن شخصيته التي تبدو في كثيرٍ من الأحيان «مُرَّة المذاق». وهكذا فإن جويس يُشبه تورجنييف في تصويره اللاذِع للتناقُض ما بين المُثقف الشابِّ وبين التدفق المُستمر للحياة البشرية. والرواية التي تبدأ بدايةً تقليدية يقصُّ الكاتب فيها نموَّ الصبي وترعرُعه في كنَف الأُسرة، وانتقاله إلى المدرسة ثم الجامعة، تنتهي نهايةً غريبة تُشبه «تحلُّل المادة العضوية»، إذ تتحوَّل إلى سلسلةٍ من المذكرات المُتقطعة غير المُترابطة مِن مفكرة البطل ستيفن ديدالوس، فالمُثقف أو المفكر هنا لن يتكيَّف مع الواقع ولن «يُستأنس»، ولن يستسلِم أو يخضع لرَتابة الحياة المُملَّة. ويُعبر ستيفن في أشهر «أحاديث» الرواية عمَّا يُمكن اعتباره في الواقع مذهبَ الحُرية عند كل مُثقفٍ أو مفكر، وإن كانت نبرات المُبالغة الميلودرامية فيما يقوله ستيفن تُمثل أسلوب الكاتب جويس في تقليم وتشذيب مَيل الشابِّ إلى الألفاظ الرنَّانة الطنانة: «سأُخبركم بما سوف أفعلُه وما أُحجِم عن فعله، لن أعُبد ما لا أومن به، سواء أطلَقَ على نفسه اسمَ منزلي أو وطني أو كنيستي، وسوف أُحاول التعبير عن نفسي بأسلوبٍ ما من أساليب الحياة أو الفن، وبأقصى ما أستطيع مِن حرية ومِن استغراقٍ كامل، ولن أدافع عن نفسي إلَّا بالأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها، ألا وهي الصمت، والمَنفى، والدهاء.»
ولكننا لا نرى ستيفن، حتى في رواية أوليس، إلا في صورة شابٍّ عنيدٍ يخالف غيره الرأي وحسب. وأشدُّ ما يُثير الانتباه في مذهبه تأكيده للحرية الفكرية، وهي قضيةٌ كُبرى من قضايا «أداء» المُثقف أو المفكر، لأن الظهور بمظهر الغضوب ومُكدِّر الصفو لا يكفي ولا يصلح في ذاته هدفًا؛ فالغرض من النشاط الفكري هو نصر قضية الحرية والمعرفة الإنسانية، وأعتقد أن هذه المقولة لا تزال صادقةً على الرغم من التُّهمة التي سمعناها مرارًا، والتي تزعم بأن «الأقاصيص الكبرى للتحرُّر والتنور» لم تعُد متداولةً على الإطلاق في عصر ما بعد الحداثة، والعبارة المُقتطفة هي التي استعمَلَها الفيلسوف الفرنسي ليوتار في الإشارة إلى الطموحات البطولية المرتبطة بالعصر «الحديث» السابق، وهو يقصد عصر «الحداثية» الذي انقضى وباد، ويقول هذا الرأي إنَّ «الأقاصيص الكُبرى» قد حلَّت محلَّها «أوضاع محلية» و«مباريات لغوية»، وإنَّ مُثقفي ما بعد الحداثة اليوم يُعلون من شأن الكفاءة لا القِيَم العامة العالمية مثل الحقيقة والحرية. ولطالما رأيتُ أن ليوتار ومَن اتبعوه يُقِرُّون (في أمثال هذه الآراء) بمَناحي كَسَلِهم وضَعفهم، بل وباللامُبالاة التي تشين موقفهم، بدلًا من وضع تقديرٍ صحيح للمَوقف الذي لا يزال يُتيح للمُثقَّف ضُروبًا بالِغة التنوُّع من الفرص السانحة، على الرغم من «ما بعد الحداثة»، فالواقع يقول إن الحكومات لا تزال تظلم الشعوب، وإن الانتهاكات الجسيمة للعدالة ما زالت تُرتَكب، وإن استقطاب «السلطة» للمُثقفين وضَمَّهم تحت جناحها ما زالا قادِرَين، فعليًّا، على إضعاف أصواتهم، وانحراف المُثقفين أو المفكرين عن أداء رسالتهم لا يزال يجري في حالاتٍ بالِغة الكثرة.
وقد كان فلوبير، في رواية التعليم العاطفي، أشدَّ إعرابًا من غيره عن خَيبة أملِه في المُثقَّفين أو المُفكرين، وأقسى من غيره، مِن ثَمَّ، في انتقادِهم. وتدور أحداث الرواية في باريس إبَّان فترة القلاقل التي شهدتها في الفترة من ١٨٤٨–١٨٥١م، وهي الفترة التي أطلق عليها المؤرِّخ البريطاني الشهير لويس ناميار وصفَ ثورة المُثقفين أو المُفكرين، فالرواية تُقدِّم لنا صورةً عامة مُنوَّعة الملامح للحياة البوهيمية والسياسية في «عاصمة القرن التاسع عشر»، وفي مركز الرواية نجد اثنَين من سُكان الأقاليم في فرنسا هما فريدريك مورو، وشارل ديلورييه، ويُصوِّر فلوبير، في وصفه «لمُغامراتهما» الشبابية، غضبَه وحنقَه من عجزِهما عن السَّير في طريق المُثقفين أو المُفكرين المُستقيم. ويرجع جانب كبير من احتقار فلوبير لهما إلى ما قد نرى فيه مُبالغةً من جانبه في توقُّع ما كان يُمكنهما أن يفعلاه، وثمرة تصويره لهما هي أنصع وأبرع تمثيلٍ للمُثقف أو المُفكر الذي ضلَّ سبيله، فالشابَّان يبدآن حياتهما باعتبارهما قادرَين على أن يُصبحا من فقهاء القانون، والنقَّاد والمؤرخين، وكُتَّاب المقالات، والفلاسفة وأصحاب النظريات الاجتماعية الذين يَضعون رفاهية الشعب نُصب أعيُنهم، ولكن مورو ينتهي «بتضاؤل طموحاته الفكرية، فلقد فاتت الأعوام وهو يُعاني من «البطالة» الذهنية و«القصور الذاتي» في القلب.» وأما ديلورييه فيُصبح «مديرًا استعماريًّا في الجزائر؛ فهو يعمل أمين سِرِّ أحد الباشوات، ومديرًا لإحدى الصحف، ووكيلًا لشركة إعلانات … وهو يعمل حاليًّا مُستشارًا قانونيًّا لإحدى الشركات الصناعية.»
ويرى فلوبير أن مظاهر الإخفاق التي شهدها عام ١٨٤٨م تُمثل مظاهر إخفاقِ جيلِه، وكأنما كان يتنبَّأ بما أصبحنا عليه؛ إذ يُصور مصير مورو وديلورييه باعتباره نتيجة عدم تركيز إرادتهما، وباعتباره الضريبة التي يفرضها المجتمع الحديث، بشتَّى مظاهره التي تصرِف انتباه الناس عن مقاصدهم، وبدوَّامة مَسراته ومَلاذه، وقبل كل شيء، بظهور الصحافة والإعلانات وسرعة تحقيق الشهرة، ونشأة ما يُتيح الدوران بلا توقُّف، حيث يغدو من المُمكن تسويق جميع الأفكار، وتغيير أشكال جميع القِيَم، واختزال جميع المِهن في غرضٍ أوحد، هو السعي لكسب المال بيُسر وتحقيق النجاح بسرعة. وهكذا فإنَّ المشاهد الرئيسية في الرواية تدور رمزيًّا حول سباق الخيل، وحفلات الرقص في المقاهي ومنازل الدِّعارة، والمظاهرات، والمواكب، والاستعراضات والاجتماعات العامة، وفي كلٍّ منها يُحاول مورو دائبًا الظفَر بالحب وتحقيق الإشباع الفكري، ولكنَّ شيئًا ما يحُول دائمًا بينه وبين هذَين.
ولا شكَّ أن بازاروف وديدالوس ومورو يُمثلون نماذج مُتطرفة، ولكنها نماذج تفي بالغرض — وهو غرضٌ بانورامي برعت وتفرَّدت في أدائه الروايات الواقعية في القرن التاسع عشر — وأقصد به تقديم صورٍ حية للمُثقفين وقد أحاطت بهم صعوبات ومُغريات عديدة، وهم يُوفون بما خُلِقوا من أجله أو يَخونون رسالتهم، لا باعتبارها مُهمةً ثابتة يتعلم المُثقف أو المُفكر كيف يؤدِّيها مُهتديًا بكتاب إرشادات، بل باعتبارها خبرةً عملية واقعية تواجِهُ التهديد المُستمر من الحياة الحديثة نفسها. و«المواقف الرمزية» التي يقِفُها المُثقف أو المفكر، بمعنى قُدرته على التعبير للمجتمع عن قضيةٍ ما أو فكرةٍ ما، لا ترمي في المقام الأول إلى تدعيم ذاته أو الاحتفاء بمكانته، ولا هي مقصودٌ بها أساسًا خدمة الأجهزة البيروقراطية القوية لدى أصحاب العمل الأسخياء، بل إن هذه «المواقف الفكرية» تُعتبَر في ذاتها نشاطًا مُستقلًّا، يعتمد على نوعٍ من الوعي الذي يتشكك فيما حوله، ويتميز بالالتزام، ويُكرِّس عمله دائمًا للبحث العقلاني والأحكام الخلقية؛ ومن شأن هذا أن يلفت النظر إليه، ويُعرضه للخطر معًا. وهكذا فإنَّ عليه أن يعرف كيف يُجيد استخدام اللغة وكيف يتدخَّل باستخدام اللغة، وهاتان سِمَتان جوهريَّتان من سِمات عمل المُثقف أو المُفكر.
يُعتبر الفنان المُستقل والمفكر المستقل من الشخصيات القليلة الباقية المؤهَّلة لمقاومة ومحاربة تنميط كلِّ ما يتمتع بالحياة حقًّا، وقتله. ونُضرة الرؤية الآن تتضمن القدرة على مُداومة نزْع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر التي تُغرقنا فيها وسائل الاتصالات الحديثة [أي نظم الصور التمثيلية الحديثة].
هذه الفقرة جديرة بالقراءة وإعادة القراءة، لِما تزخر به من إشاراتٍ دالة مُهمة، وما تؤكده في أكثر من موضع: إن السياسة حولنا في كل مكان؛ وليس بوسع أحدٍ أن يَفِرَّ إلى عالم الفن أو حتى إلى عالَم الفكر أو حتى إلى عالَم الموضوعية المُنَزَّهة عن الغرض أو النظريات التعالية؛ فالمثقفون ينتمون إلى عصرهم، وتسوقُهم معًا السياسة الجماهيرية القائمة على الصور الفكرية التي يُجسِّدها الإعلام أو صناعة أجهزة الإعلام، وهم لا يستطيعون مقاومة هذه الصور إلا بالطعن فيها، والتشكيك فيما يُسمَّى «بالروايات الرسمية»، ومُبررات السلطة التي تُروِّجها أجهزة إعلامية ذات قوةٍ متزايدة — بل لا يقتصر الأمر على أجهزة الإعلام؛ إذ يتضمَّن اتجاهاتٍ فكريةً تُكَرِّس بقاء الأوضاع الراهنة ووضع الأمور في إطار منظورٍ مقبول للأمر الواقع — كما إنهم يقومون بما يُسمِّيه ميلز نزع الأقنعة، وتقديم صورٍ بديلة يحاول المُثقف فيها أن يكون صادقًا ما وَسِعه الصِّدق.
ولكن ذلك أبعد ما يكون عن المهمة اليسيرة، فالمثقف دائمًا ما يقِف بين العُزلة والانحياز. ما كان أصعب على المثقف أو المُفكر أن يُذكِّر المواطنين الأمريكيين، خلال حرب الخليج الأخيرة ضد العراق (١٩٩١م) بأنَّ الولايات المتحدة لم تكن دولةً بريئة أو مُنزَّهة عن الغرَض (وقد رأى واضعو السياسات أن نسيان غزو فيتنام وغزو بنما مُفيد فنسوا هذا وذاك.) وأن أحدًا لم يُعيِّن الولايات المتحدة شُرطيًّا للعالَم، بل هي التي عيَّنت نفسها. ولكنني أعتقد أن ذلك كان من مهامِّ المُثقف أو المفكر آنذاك، أي أنْ ينبش ويذكِّر بما هو مَنْسي، ويُقيم الروابط التي كان المسئولون يُنكرونها، وأن يُشير إلى طرائق عمل بديلةٍ كان يمكن أن تُجنِّبنا الحرب والهدف المصاحب لها وهو إهلاك البشر.
والقضية الأساسية عند ميلز هي التعارُض بين الجماعة والفرد؛ إذ ما أشدَّ التفاوت بين قوة المُنظمات الضخمة، من الحكومات إلى الشركات، وبين الضعف النِّسبي لا للأفراد فحسْب بل أيضًا للبَشَر الذين يُعتبَرون في منزلة ثانوية، مثل الأقليات، والشعوب والدول الصغيرة، والثقافات والأجناس التي تُعتبر في منزلةٍ أدنى أو أقل من غيرها. ولا شك لديَّ على الإطلاق في أن المثقف أو المفكر مُنحاز إلى صفوف الضعفاء والذين لا يُمثلهم أحد في مَراقي السلطة. من المُحتمَل أن يقول البعض إنه مثل روبين هود، لكنه ليس دورًا بسيطًا، ولذلك فمِن المُحال أن نرفضه بسهولة باعتباره ضربًا من المثالية الرومانسية المفرطة. فمفهومي لمصطلح المثقف أو المفكر يقول إنه «في جوهره»، ليس داعيةَ مُسَالَمَةٍ ولا داعية اتِّفاقٍ في الآراء، لكنه شخصٌ يُخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحسَّاس، وهو موقف الإصرار على رفض «الصيغ السهلة»، والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المُهذبة القائمة على المصالحات اللبقة، والاتفاق مع كلِّ ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية. ولا يقتصر رفض المُثقف أو المفكر على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ.
ولا يعني هذا، في جميع الأحوال، انتقاد السياسات الحكومية، بل يعني اعتبار أنَّ مهمة المثقف والمفكر تتطلَّب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة باستمرار. ومن شأن هذا أن يستلزِم واقعيةً مُطردة ثابتة، ويستلزِم طاقةً عقلانية فائقة، وكفاحًا مُعقدًا للحفاظ على التوازُن بين مشكلات الذات عند الفرد (في إحدى الكفتَين) ومُتطلَّبات النشر والإفصاح عن الرأي علنًا (في الكفة الأخرى) وذلك هو الذي يجعل منه جهدًا دائبًا متواصلًا، لا يكتمل قط، ولا بدَّ أن تعيبه عيوب. ولكنني أرى، من وجهة نظري الشخصية على الأقل، أن العوامل التي تهَبُهُ القوة، وتعقيداته أيضًا، تزيد المرء ثراءً نفسيًّا وذهنيًّا، حتى إن لم تجعله يحظى بالحُب الجمِّ من عامة الناس.