الكلمات المفاتيح
أعيشُ لحظةً عقيمة؛ الورقة مطروحة أمامي، منذ آنٍ لا تبرقُ في آفاقي بارقة، لا أظفر بشيء، ولا بكلمة أفتتِح بها خطابي إليك؛ فإن الأمر لديَّ كامن في كلمات مفاتيح، ما إن أستأنِف واحدةً وأصْفُفْها في مستهلِّ الصفحة، حتى تنزل عليَّ شآبيب الكلام، لكن اللحظة عقيمةٌ، لقد شبِعتُ في السقف تحديقًا وفي الخواطر تقليبًا، تنهدتُ كثيرًا ولا يفتح الله عليَّ بشيء، قلتُ إذن فَلْنكتب عن اللحظات الغبيات العواقر.
الفقرة السابقة من مستهل رسالة كتبها الكاتب الكبير الراحل عبد الحكيم قاسم إلى صديقه الكاتب محمد صالح، وقد نُشِرَتْ في كتاب «نوبة حراسة» الذي جمع فيه الصحافي محمد شعير رسائلَ عبد الحكيم قاسم إلى أقاربه وأصدقائه خلال فترة إقامته وعمله في ألمانيا.
إنها كلمة قد تومض في الذهن فجأةً وسط الضجيج والزحام لتفجِّر الشرارة الأولى لنصِّك الأدبي، وكلُّ كلمة طَرفُ خيطٍ، ما عليك إلَّا أن تمسك بهذا الطرف وتسحبه إليك أو تتبعه حتى تصل إلى مبتغاك: النص؟ القصيدة؟ القصة؟ الرواية؟ ولعلَّ تلك الكلمة تكون اسم علم «كليوباترا»، أو اسم شيء «الساقية»، أو فعلًا «يتعرَّى»، أو صفة «بخيل»، أو حالًا «مُسرعًا»، والاحتمالات بلا نهاية تحت كلِّ فئةٍ من هذه الفئات، لكن «الكلمة-المفتاح» تبقى بؤرةً في المركز تمدُّ مَن حولها بأشعةٍ وخيوطٍ في اتجاهات عديدة كأنها بيت العنكبوت.
هناك أكثر من طريقة يمكنك بها اكتشاف المناطق والاتجاهات التي يمكن لهذه الكلمة المفتاحية أن تأخذك إليها؛ مثلًا عندك طريقة التداعي الحر، شفويًّا أو كتابةً، بأن تردِّد أو تكتب كل الكلمات التي يمكن لكلمتك الأساس أن تجرها إليك، مثلًا: الساقية، المياه، الغيطان، الفلاحين، الترعة، الزلعة، الفجر، الصلاة، الديك، الاستيقاظ، الاغتسال، الشقاء … إلى آخِره. بهذه الطريقة تسمح لكلمتك المفتاحية بأن تشقَّ سبيلها لتكتشف ذاتها بين أقاربها من الكلمات، وترسم محيطها الخاص بها. وثَمَّةَ طريقة أقرب إلى الرسم منها إلى التداعي اللفظي الحر، وهي أن ترسم دائرةً في منتصف صفحة بيضاء كبيرة، وتكتب في قلبها كلمتَك المفتاحية، وكأنَّ هذه الدائرة هي شمس صغيرة تخرج منها مجموعة من الأشعة، وكل شعاع ينتهي بدوره بدائرة أخرى، بداخلها كلمةٌ جديدة تفرَّعت عن الكلمة الأم، فلو كان مركزُ الدائرة «كليوباترا» يمكن أن تمتدَّ منه كلماتٌ مثل: تاريخ، وسجائر، وإليزابيث تايلور، وغرام، وأنطونيو، وحتى عبد الوهَّاب … فهنا يرتسم أمامَك أفقٌ كامل من الدلالات، ودورك هو تبيُّن العلاقات وعَقْد الصلات بين تلك الأطراف الشعثاء المتباعدة؛ أن تلملمها في روابط وعبارات واحتمالات؛ هل يمكن أن تخرج الملكةُ كليوباترا من صورة على علبة سجائر؟ هل التقَتْ إليزابيث تايلور بكليوباترا في العالَم الآخَر فأَطْلَعتها الملكة القديمة على رأيها في أدائها لدورها؟ والاحتمالات تكاد تكون دائمًا بلا نهاية.
في الطريقة الأولى؛ التداعي الحر، تحصل على تسلسل زمني يقودك إلى استنفاد احتمالات الكلمة المفتاحية، أمَّا في الطريقة الثانية فإنك ترسم خريطةً للاحتمالات والعَلاقات تراها بعينَيْك تكبر وتتَّسِع في كل الاتجاهات الممكنة.
انطلاقًا من كلمة أساسية ينفتح أمامك أفقُ النص — الذي ما زال جنينًا في رَحِم الغيب حتى الآن — وكذلك ترتسم أمام عينَيْك مجموعةٌ من الاحتمالات السردية التي يمكن البناء عليها، أو على الأقل يمكن أن تؤدي إلى احتمالات أخرى أكثر تعقيدًا وذكاءً. من هنا يمكنك أن تصل إلى فكرتك، أو ربما إلى عبارتك الأولى؛ الجملة المفيدة التي سيدور حولها نصُّك الوليد.
في حالة عدم ظهور كلمة مفتاحية تلقائيًّا في لحظة شرود أو تجلٍّ، يمكنك أن تتريَّث حتى تكشف عن نفسها لك، وربما يطول انتظارك، كما يمكنك — وهو الأفضل — أن تذهب أنت إليها بأن تتلاعب بأكبر قدر ممكن من الكلمات، وأن تعامِل كلًّا منها باعتبارها كلمة مفتاحية، العبْ معها لُعبةَ التداعي الحر للمفردات، وارسُمْها في قلب بيت العنكبوت، واكشف عَلاقاتها الخفية بالمفردات الأخرى. كرِّرِ الأمر حتى تجد كلمتك المنشودة.
لو راجعتَ فقرة عبد الحكيم قاسم من جديدٍ، فستجده قد نجح في الفرار من عُقْم اللحظة التي لا يجد فيها كلمة مفتاحية تنجده بمواجهة هذا العقم نفسه، وبالكتابة عن «اللحظات الغبيات العواقر»، وهذه حيلة في غايةٍ من البراعة؛ يمكنك أن تنفِّذها أحيانًا بأن تمسك بالكلمة التي تضايقك ثم تفكِّكها وتتداعى معها، وأن تكتشف أفق دلالاتها. فَلْتكتب عن العجز عن الكتابة حين تشعر به يدقُّ بابَك، وسرعان ما سيتحوَّل شبحُ العجز هذا إلى تدفُّقٍ ووفرةٍ وطاقةٍ.
تمرين
ليس عليك أن تكتب الآن، أنت تلعب فقط، تلعب بالكلمات. اختَرْ كلمةً والعب معها لعبة التداعي وانظر إلى أين تقودك؛ ثم ارسم هذه الكلمة في قلب دائرة، وارسم أربعة أو خمسة أسهم تخرج من الدائرة لتنتهيَ بدوائر أخرى أصغر، واكتب أول أربع أو خمس كلمات توحي لك بها الكلمة الأم، ثم كرِّرِ الأمر مع كل دائرةٍ فرعية حتى تتكوَّن أمامك شبكة أو خريطة. تأمَّلِ العلاقاتِ الممكنةَ بين تلك المفردات، كوِّنْ جملًا منها؛ جملًا مفيدة ذات معنًى يمكنها أن تكون أساسًا لنصٍّ جميل.
نصيحة
احتفِظْ معك على الدوام بدفترٍ صغير، لتلعب فيه مع مفرداتك، أو لتدوِّن به سريعًا الخواطرَ والأفكارَ العابرة التي سرعان ما تذوب في زحمة المشاوير وصخب الدنيا. سيكون هذا الدفتر هو بنك أفكارك ومغارة الكنوز الخاصة بك عندما تخلو إليه في الليل. لا تعتمد على الذاكرة؛ لأن الأمر كما قال كونفوشيوس: «إن أضعف حبر يُكتَب به شيء على الورق لَهُوَ أقوى من أفضل ذاكرة إنسانية.»