احرص على توءم روحك (قارئك)
ظاهرها الوحدة وباطنها الزحام
ما الذي نحتاجه لنكتب؟ في الظاهر قلمٌ وأوراق، ربما أحيانًا آلة كاتبة أو جهاز كمبيوتر، لكننا في حقيقة الأمر نحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، تقريبًا نحتاج إلى كل شيء؛ الأرض بتاريخها وطبقاتها وألوانها، والسماء بأفقها اللانهائي الذي يحتشد بالكواكب والمجموعات الشمسية والمجرَّات، جنبًا إلى جنب مع الديانات العتيقة والآلهة المتنوعة، وكل تلك الطرق الغامضة للأفلاك والمدارات والقَدَر والحظوظ؛ وبكل تأكيد نحتاج إلى لغةٍ ما، وإلى الناس الذين خَلَقُوا تلك اللغة ذات مرَّة فيما مضى، وما زالوا يُعِيدون خلقها وتشكيلها يومًا بعد يوم. إذن فليس من الحقيقي أو المؤكَّد يا صديقي أن حياة الكتابة حياة عزلة تامة، ولو كنتَ تجلس بمفردكَ تمامًا في غرفةٍ مغلقةٍ عليك، تحاوِل أن تنظِّم الحروفَ السوداء فوق بياض صفحة الورق أو الشاشة، فتلك الغرفة مزدحمة بالكائنات الأخرى، أغلبهم موتى وبعضهم أحياء وكثيرون بينَ بينَ، لا يهم، ولكن المهم أن تُبدِي لتلك الكيانات ما يليق بها من احترام وامتنان وشغف؛ فبفضل وجودها الطيفيِّ لن تكون وحدتُك سجنًا انفراديًّا، بل أقرب إلى رحلة جماعية ممتعة، قد تدوم يومًا أو عمرًا كاملًا.
رفيق رحلتك – شريك حياتك
ما أكثر النصائح — والكتب ربما — التي قد يجدها أحدنا حول اختيار شريك الحياة المناسب (الزوج أو الزوجة)، غير أنه في رحلة الكتابة، لن نجد مثل تلك الوفرة، ولا نقصد بشريك رحلتك هنا الناشر أو المحرر الأدبي أو حتى صديقك الأقرب الذي يطَّلع على كتاباتك قبل أيِّ شخصٍ آخَر، على الرغم من أهمية وضرورة هؤلاء جميعًا، بل نقصد الطرف الأهم في لعبة الكتابة (القارئ)؛ ذلك المتخيَّل الغامض، والهدف النهائي لرقصة الحروف على الورق، الذي إذا غاب تنكسر المرآة وتنتفي المتعة. لعلَّك تسهر الليالي — كما في الروايات العاطفية — حالمًا به، تتخيله محاوِلًا التعرُّفَ على ملامحه: أهو شيخ أم شاب؟ أهو مثَّقف مُطَّلِع أم بالكاد «يفكُّ الخط»؟ ليس في محاولات التخيُّل تلك أي إهدار للوقت والطاقة، على العكس، فمحاولتك لاكتشاف قارئك لا تبتعد بك كثيرًا عن اكتشاف نوعية الكتابة التي تنوي الانخراط فيها. ربما لا يسبق أيٌّ من الاكتشافين الآخرَ بقدر ما يسيران معًا خطوة بخطوة، فلا جدوى من الحرص على إرضاء قارئٍ له طبيعة وملامح محدَّدة على حساب شغفك وطموحك الأدبي، كما يُعَدُّ من الخطر عدم الاستقرار على ملامح عامة لتوءم روحك (قارئك) ولو بالظن، ولو بالحُلْم الغامض به.
هل حقًّا نكتب لأنفسنا؟
سوف يُجِيب كثيرٌ من الكُتَّاب عند توجيه السؤال الشهير إليهم: «لمَن تكتبون؟» بالقول إنهم يكتبون لأنفسهم. وقد لا يكونون كاذبين أو مبالِغين بالمرَّة بهذه الإجابة، لكنهم حينما يجلسون للكتابة بهدف إمتاع أنفسهم وإرضائها، ينقسم الواحد منهم — بقدرة قادر — إلى اثنين: هذا الذي يكتب، وذلك الذي يقرأ ما يكتبه — من وراء كتفَيْه — لحظةً بلحظة، ولا بدَّ من أن تكون الرقصة متكافئة، لا سبيل للتسامح أو المجاملة، فبمجرد أن يتهاون الكاتب منهما ويميل للاستسهال، يشعر بذلك صاحبه (القارئ بداخله)، وتكفي نظرة واحدة من عينَيْه وهزَّة رأسٍ صغيرة حتى ينكشف أمام ذاته.
حتى ونحن نكتب لأنفسنا بغير نية في النشر والانتشار، ولا قاصدين جمهورًا من آلاف أو ملايين القرَّاء؛ فإن هناك دائمًا قارئًا واحدًا ضمنيًّا نعمل على إرضائه مستمتعين. قد يكون من الأسلم لك أن تتخيَّل قارئك شبيهًا بك، شخصًا حميمًا، تجمع بينكما أشياء كثيرة، ولكنه سيكون صادقًا معك تمامًا ولن يُخفي عنك الحقيقة إذا ما قصَّرْتَ في أداء واجبك نحوه (إمتاعه في الرقصة المشتركة).
إنه انعكاسك على صفحة المرآة، وعلى صفحة الورق، يُشبِهك، ويختلف عنك مع ذلك؛ إنه صاحبٌ وندٌّ لك، ليس عليك أن تلعب دور المهرِّج طوال الوقت لتسليته، فأنت لستَ مهرج القصر، لكنه سوف يلتقط إشاراتك الذكية بين السطور إذا ما كان على الموجة ذاتها معك. كما أنه ليس عليكَ أيضًا أن تكون له المرشِد الهادي، توجِّهه في عالَم نَصِّكَ وتستقطر له خلاصةَ الحكمة بابتسامة القِدِّيسِين والوعَّاظ؛ فإن هذا كفيل بأن ينفِّره منك إلى الأبد، فإن حياته لا تنقصها تلك الإرشادات الخشبية المباشرة. إن كل ما يريده منك — في ظني، ولعلي مخطئ — هو ما تريده منه أنت أيضًا: رفيق رحلة، تستمتعان معًا بالمشاهدة والعبور المطمئن على أعجوبة الحياة، المعكوسة في مرآة اللغة والخيال.
ما رأي «فيرجينيا وولف» يا تُرى؟
أنا واثق أنكَ سمعتَ من قبلُ بالكاتبة الإنجليزية المهمة فيرجينيا وولف، وأرجو أن تكون قرأتَ كتابها الصغير الثري عن الكتابة وتحدياتها أمام المرأة الكاتبة خصوصًا، بعنوان: «غرفة تخص المرء وحده»، وله ترجمة جيدة صادرة عن المركز القومي للترجمة في مصر قبل سنوات. ولعلَّ أعمالها الأدبية كانت تمثِّل تحديًا جماليًّا جديدًا، وخاصةً أمام القارئ العادي، وقد اعتادَتْ هي الإشارة إلى القارئ العام: شخص تفترض هي أنه يتمتع بقدر من النباهة والذكاء، ويريد أن يُجابِه تحديًا بما يقرؤه لها من أعمال. كانت تفترض أن هذا المجهول سوف يتبعها أينما شاءت أن تأخذ النَّصَّ، وسوف يجتهد ليواكب خطواتها ويبقى على الموجة معها. وأظن أن عليك أن تفترض هذا أيضًا، فكثيرًا ما يكون التبسُّط والتسطيح شكلًا خفيًّا من التعالي على القارئ؛ شأنه شأن الغموض والإلغاز سواء بسواء. القارئ صديقك، ورفيق دربك، وما من أحد منَّا يَوَدُّ أن يفسد متعةَ رحلته بسوء الفَهم والتناحُر، فَلْتمدَّ إليه جسورَ التواصل بنِدِّيَّة ومَوَدَّة واحترام، واستمتع بالرفقة.