الوجه الآخَر للحبكة
ولو شربة ماء
في تعريف الحبكة — بصيغتها التقليدية — أشرنا أن سلسلة الأحداث المترابطة لا بد وأن تتعلَّق بشخصية … وَلْنتوقف عند هذا العنصر الهام من التعريف لوهلة، قبل أن نتناول مسألةَ رسم الشخصية تفصيلًا فيما بعدُ. من زاوية الحبكة، لا بدَّ أن تكون شخصيتك ترغب في شيءٍ ما، تسعى إلى تحقيقه، عظيمًا كان هذا الشيءُ أم تافهًا؛ فهذا هو المحرِّك الأساسي لسلسلة الأحداث، وبحسب تعبيرٍ مَرِحٍ للقاصِّ والروائي الأمريكي كورت فونيجت، فإنه «حتى الشخصيات المتعثرة في عبثية الحياة المعاصرة ما زالت بحاجة إلى شرب كوب ماء من وقتٍ لآخَر.» قد يكون صراعُ شخصيتك — أو بالأحرى أزمتها — له طبيعة نفسية وداخلية أكثر منها اجتماعية وخارجية، ولكن يرى البعض أنه لا بدَّ من انعكاس هذا الصراع خارجيًّا؛ أن يكون مرئيًّا وملموسًا في حركة وحدث وحوارات؛ أي في سلسلة الحبكة المتصلة الحلقات.
بينما يدافع آخَرون — على الناحية الأخرى — بأن هذا قد يأخذ العملَ الروائيَّ بعيدًا عن خصوصيته الأدبية، ويجُرهُ إلى عالم الدراما المثقَل بالأسباب والنتائج؛ عالَمِ المسرح والسينما والتليفزيون، ويَحْرم الرواية من إحدى أقوى خصوصياتها؛ أي الإبحار في الحياة الداخلية للشخصيات. وليس من المستبعَد بالمرَّة أن تدور قصةٌ أو روايةٌ بالكامل في ذلك العالَم الداخلي للشخصية، لكن يبقى السؤال: هل سيكون هذا كافيًا لتوريط القارئ؟ أين هو الكاتب الذي يملك من القدرة الخاصة بحيث يستغني تمامًا عن الأحداث الخارجية، وخطوط الحبكة ولو هَشَّة ومتوارية، مستغرِقًا في عقل بطله، وأمواج أفكاره، دون أن يدفع هذا القارئَ إلى فقدان الاهتمام والإعراض تمامًا عن القراءة؟
إنني أضمن لك أنه ما من مخطَّطٍ لقصة حديثة، ولو خلا من الحبكة تمامًا، سوف يمنح القارئ الإشباع الحقيقي، إلَّا إذا كان فيه إحدى تلك الحبكات العتيقة الطراز، وقد تم تهريبها خلسةً في موضعٍ ما. إنني لا أمتدح الحبكة بوصفها التمثيلَ الأمينَ للحياة، بل بوصفها طريقةً لتشجيع القارئ على مواصلة القراءة.
هنا أكثر من نقطة: حياتنا بلا حبكة، بلا شكل، لكنَّ الفن يحاول منذ وجوده أن يُضفي شكلًا على تلك الفوضى، حتى في تلمُّسه للفوضى سيُنتِج شكلًا ما. الحبكة ليست عنصرًا أساسيًّا وثمينًا في حَدِّ ذاته، بقدر ما هي وسيلة، شأنها شأن سائر عناصر اللعبة السردية. هي عنصر له دوره المحدد، ويمكن الاستغناء عنه إذا ما لم يرَ الكاتب أهميةً خاصة لهذا الدور، أو إذا ما وجد بديلًا يمكن اللجوء إليه مع الاحتفاظ بنفس التأثير.
الوجه الآخَر
لنعُدِ الآن إلى إي إم فورستر، وكتابه أركان القصَّة، في فصله المخصَّص للحبكة؛ حيث يكاد يتَّخذ الاتجاه المقابل لرأي كورت فونيجت، رافضًا السلطة المطلَقة للروائي على مادته السردية، وضرورة إحكام الحبكة التي قد يَنتج عنها في النهاية شيءٌ ميِّت سلفًا. وفقًا له، إذا كانت الحبكة جميلةً، فإن الشعور النهائي الذي يتسلَّل إلى القارئ ليس مجرد شعور بمفاتيح تؤدِّي إلى حل ألغاز، بقدر ما سيكون شعورًا بشيءٍ جميل مترابط … شيء كان يمكن للروائي أن يُرِيَنا إياه مباشَرةً، ولكنه لو فعَلَ لَمَا بَدَا هذا الشيء جميلًا على الإطلاق. فورستر هنا يقرن الحبكة بالجمال، وهي فكرة قد لا نصادفها كثيرًا في الكلام حول الحبكة، أي مجرد حيلةٍ لأَسْر القارئ في سلسلة الأحداث. الجمال المنشود هنا له عَلاقة بتوزيع النور والظلال؛ ما المكشوف وما المخفي، ثُمَّ — بالطبع — الترابُط الكلي الذي قد لا يكون مجرَّد نتيجة آلية لسلسلة الأسباب والنتائج، بمعناها المنطقي المحسوم، بقدر ما يرتبط بطريقة الكاتب الخاصة في تنظيم عناصر عمله.
بين أرسطو وجودار
وَفقًا لأرسطو، فإن كلَّ حبكة لها بداية ووَسط ونهاية، وإن أفضل الحبكات هي ما تتكوَّن من سلسلة من الإدراكات والتكشُّفات؛ إننا هنا في عالَم الدراما المحض، عالَم السببِ والنتيجة. بينما يقول المخرج الفرنسي جان لوك جودار: «لا بد أن يكون لكل فيلمٍ بداية ووسط ونهاية، ولكن ليس من الضرروي أن تكون بذلك الترتيب.» هنا نبتعد خطوات عن الدراما، نقترب أكثر من الأدب والسينما؛ حيث التركيب النهائي للعمل الفني أهم وأشمل من مجموع أجزائه. الترتيبُ الزمني والمنطقي مجرد حكاية — وفقًا لفورستر — أمَّا انتظام الأحداث وفقًا لرؤية المبدع، فهو الحبكة؛ سواء بمعناها التقليدي أم الحديث.
أَلَا يمكن للروائي بدلًا من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه، أن يُلقِيَ بنفسه فيه فيحمله إلى هدفٍ لم يكن يتنبَّأ به؟ وقد تكون الحبكةُ مثيرةً وقد تكون جميلةً، ولكن أَلَيست صنمًا استعرناه من الدراما ومن القيود المكانية التي تسيطر على المسرح؟ أَلَا يستطيع الروائي أن يبتدع إطارًا لا يتَّبِع قوانين المنطق إلى هذا الحد، ويكون أكثر ملاءمةً لعَظَمة القَصص؟
الأصل الواحد
هناك اثنتان وثلاثون طريقةً لكتابة قصة، وقد استخدمتُها جميعًا، ولكن هناك حبكة واحدة فقط؛ وهي: ظاهرُ الأمور خادِعٌ.
لا توجد إلا قصتان أو ثلاث قصص إنسانية، تُواصِل تَكرارَ ذاتها بقوة كما لو أنها لم تحدث قبل ذلك قطُّ.