فتنة الشخصية
مَلِيكُ الحكاية
تذكَّرْ أنَّ الروايات قد تكون حبكتُها خفيفةً وقد يكون أسلوبها هشًّا، لكنَّ الشيء الوحيد الذي يُمكنه إنقاذ أيِّ كتاب واكتساب تعاطف القُرَّاء هو شخصياتٌ من لحمٍ ودَمٍ، ذات صفاتٍ ودوافع قابلة للتصديق.
لا تعني هذه الفقرةُ بالمرَّة عدمَ أهمية الاعتناء بالحبكة أو الأسلوب، لكنها تؤكد في المقابل على عنصر الثِّقَل الأهم للكتابة السردية؛ وهو الشخصية ومقدار مصداقيتها وجاذبيتها للقارئ. قد لا نبالغ كثيرًا إذا قلنا إن الشخصية ليستْ مجرَّد عنصر من عناصر السرد، شأنها شأن الحبكة أو الوصف أو الحوار، بقدر ما هي الجسد الحي للسرد ذاته. دون شخصية ليس لديك جسر يَصِلُكَ بقارئك، فأنت وهو — كاثنين من البشر — بحاجة إلى ذلك الكيان الشبح المؤقَّت لِتَتَقابَلا في داخله، لتسكُنا جسده وتتابِعَا حياته وأفكاره، حتى تصدِّقا اللُّعبةَ فتتحوَّل إلى شيءٍ آخَر، ويصير هذا الطَّيْفُ المصنوع من كلمات أكثر قوةً وحضورًا منكما أنتما الاثنين، يزيح كاتبه وقارئه معًا، متربِّعًا على عرش خيالهما كَمَلِيكٍ مُطلَق السيادة في لُعبة الحكاية.
طبعًا؛ لا تصل كلُّ شخصية مكتوبة إلى هذا الحدِّ من المصداقية وقوة الحضور والإيهام بالواقع، ولكي تبلغ هذا المقصد فأمام كاتبها رحلة طويلة وغير هيِّنة؛ لذلك كله، فإن مسائل مثل ابتكار الشخصيات ورسم ملامحها وتحريكها أو استكشاف حركتها الخاصة دائمًا ما تشغَل مساحةً هائلة من التفكير في الكتابة الإبداعية، عند التفكير في السرد ومناقشته والتدريب عليه، وحتى خارج مجال السرد، في فنون أخرى، مثل الدراما وكتابة السيناريو للسينما والتليفزيون، تظل الشخصية مركزَ الدائرة الحَرِج، إذا ما تمَّ ضبطه وصقله فإنَّ كل شيء فيما بَعْدُ يصبحُ يسيرًا؛ لذلك كله قد تَجِدُ الكثيرَ من المواد التي تتناول مسائلَ الشخصية في فنون الكتابة، يناقضُ بعضها بعضًا أحيانًا، والخوضُ في غمارها للخروج بمبادئ واضحة وعلامات مرشِدة ليس بالمهمة الهيِّنة على الدوام.
دون شخصية لا وجودَ لقصة، إنها غالبًا ما تكون السبب الذي يجعلنا نقرأ ونواصل القراءة. من المهم أن نعرف بالطبع «عمَّا» تدور الحكاية، وبالقَدْر نفسه من الأهمية نريد أن نعرف «عمَّن» تحكي الحكاية. نحتاج كقرَّاء إلى إنسان يشبهنا، «بطل» من نوعٍ ما وإن افتقَرَ لكل سمات «البطولة» بمعناها التقليديِّ القديم، إنسان يمكننا أن نتعاطف معه ونتوحَّد به على مدار الحكاية. وأفضل الشخصيات في الأدب تصبح مع الوقت جزءًا من تراثنا الإنسانيِّ وثقافتنا المشتركة وذكرياتنا؛ فكم من المرات وجدتَ نفسك تناقِش آخَرين حول شخصيات في رواية أو فيلم، كما لو كانت تلك الشخصيات بشرًا حقيقيين، أقارب أو أصدقاء أو جيرانًا، لهم وجودهم وحياتهم المستقلة! لكن لا تحسب أن تلك الشخصيات وُلِدَتْ هكذا مكتملة النمو والملامح والخصال، فأنت لم تَرَها إلَّا في صورتها النهائية، على الشاشة أو الورق. قبل ذلك مرَّت هذه الشخصية بمراحل عديدة، وذات يومٍ قديم لم تكُن شيئًا أكثر من اسم عَلَم أو وجه في الزحام أو صورة فوتوغرافية أو حلم غامض.
تَتَبَّعْ آثارَهم
كتمرينٍ مبدئيٍّ للغاية، فيما يخص الشخصية وبناءها، استعِدْ عملًا فنيًّا كبيرًا، قد يكون فيلمًا أو رواية، استطاعت شخصياته — أو شخصيته الرئيسية على الأقل — أن تفتنك تمامًا، وحاوِلْ أن تتبيَّن السرَّ وراء فتنتك هذه. ما الشيء المميَّز بخصوص هذه الشخصية؟ أهي كما يُقال حقًّا أكبر من الحياة؟ كيف؟ أكانت مُقْنِعةً وقابلةً للتصديق؟ بأيِّ الوسائل استطاع العمل الفني أن يُقنِعَك بهذه الشخصية ويجعلك تتفاعل معها كما لو كانت أكثر صدقًا وحضورًا من كل ما يحيط بك من أشخاص وأشياء؟ إذا قمتَ بهذا مع عمل واحد وطابت لك اللعبة، فَلْتُعِدَّ قائمةً صغيرة وتكرِّر الأمرَ مع أعمال أخرى، تَبَيَّنِ المشترَكات وضَعْ يدك على تلك الحِيَل والأساليب الظاهرة والخفية التي أوقعَتْكَ في الفخ، فسوف تحتاج إليها عمَّا قريب.
أَنْسِنْ مخلوقاتِك
تراث القَصص الإنساني محتشِدٌ بشخصياتٍ غيرِ بشريَّة، من جميع الأنواع، سواءٌ أكانت كائنات لها وجودٌ حقيقيٌّ من جمادٍ أو حيوان أو نبات، أم كائنات لا نعلم عنها شيئًا عِلْم اليقين كالجن والعفاريت والأرواح الخيِّرة والشريرة، إلى آخِر كتيبة المخلوقات العجيبة. وبعيدًا عن حكايات الجن وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، سنجد في الأدب والسينما — حتى يومنا هذا — شخصيات من تلك الفئة، وفي كل مرة نجد أنَّ تلك المخلوقات تفكِّر أو تتكلم وتتصرَّف كما يفعل البشر تقريبًا، لم نصل بالعلم بَعْدُ إلى ما يتيح لنا أن نتحدَّث على لسان كلبٍ مثلًا واثقين كلَّ الثقة من أنَّ هذه هي الطريقة الدقيقة والأكيدة لأفكار الكلب، كل ما نستطيع القيام به فنيًّا، عند تناول شخصيات غير إنسانية، هو أن «نُؤَنْسِنَها»؛ أيْ أنْ نُضْفِي عليها صفات الإنسان؛ لا يعني هذا أن نحوِّلها إلى بَشَرٍ عاديين، بقدراتهم المحدودة وصفاتهم المتوقَّعة؛ لا، سيظل العفريت عفريتًا يطير ويلعب ويختفي ويظهر، لكنه في نهاية الحكاية سيكون مختلفًا عن البشر بمقاييس البشر أنفسهم، أيْ بقدر ابتعاده عن صفاتهم وشروطهم.
سيكون الإنسان هو نقطة انطلاقك دائمًا، حتى حين تكون شخصيتك الرئيسية ربًّا من أرباب الإغريق، أو ريحًا موسمية، أو قطةً مقطوعةَ الذيل. ستدخل إلى تلك الكائنات بوعي الإنسان وفي حدود تجربته؛ أيْ حدود المعروف والمتفَّق عليه، ثم لتلعب مع تلك الحدود كيفما شئتَ. والسبب الأهم من ذلك أن قارئك المستهدَف إنسانٌ، يريد أن يرى نفسه وأحلامه وأزماته في الشخصيات، حتى إنْ كانت فأرًا طبَّاخًا أو زهرة سحرية أو ملاك الموت.
•••
نواصل في الفصول التالية رحلتنا مع الشخصية في السرد.