جرِّبِ القصَّ واللصقَ
ناس وشخصيات
فنحن في الحياة اليومية لا يفهم أحدُنا الآخرَ؛ إذ لا يوجد التنبؤ ولا الاعتراف الكامل؛ فنحن يعرف بعضُنا بعضًا على وجه التقريب، بإشارات خارجية، وهذه تكفي جدًّا كأساسٍ لاجتماع الناس بعضِهم ببعض، بل للألفة أيضًا. ولكن القارئ يمكنه فَهم الناس في الرواية فهمًا تامًّا، «إذا أراد الروائي»؛ إذ يمكن إظهار حياتهم الداخلية والخارجية، وهذا هو السبب في أنها تبدو أكثر وضوحًا من شخصيات التاريخ، أو حتى من أصدقائنا؛ فقد قِيل لنا عنهم كل ما يمكن قوله، حتى لو كانوا غير كاملين أو غير حقيقيين؛ فهم لا يحتفظون بأسرار، بينما أصدقاؤنا يحتفظون بأسرارهم فعلًا؛ لأن إخفاء الأسرار المتبادَل شرطٌ من شروط الحياة على هذه الأرض.
تأكيد فورستر على التمييز بين الإنسان كما يوجد في الحياة وبين الشخصية المكتوبة في رواية، لا يمنعنا من بعض الاحترازات هنا، ولعلَّك لاحظتَ التنصيص الموضوع حول عبارته: «إذا أراد الروائي»؛ فالفَهم التامُّ والوضوح الكامل للشخصية مَنُوطٌ برغبةِ وإرادةِ الروائي، وبطبيعة روايته بلا شكٍّ. كَمْ من رواياتٍ ممتعة ومؤثِّرة خالفَتِ الطريقة التقليدية في رسم شخصياتها، ولم تقدِّمْها في صورة واضحة ومفهومة تمامًا، وأبقت على غموضها كأنها أطيافٌ لا يمكن تحديد ملامحها! والاختيار في نهاية الأمر يعتمد على الكاتب وحده، وطريقته التي اختارها في الكتابة.
بعد هذا الاستثناء نعود لفكرة فورستر الأساسية، وهي عدم المطابقة بين الناس بالمعنى الواسع واليومي وبين الشخصيات في كتاب سردي، وربما تبدو هذه الفكرة أبسط وأوضح من اللازم لكثيرين، غير أنك ستجد طول الوقت مَن يقول لك إن هذه الشخصية مستمَدَّة بالكامل من الحياة، وأن هذا ما حدث لها حقًّا وصدقًا؛ هؤلاء لا يدركون المسافةَ بين غُرَفِ الحياة اليومية وسطور دفاترهم، بين تشوُّش الواقع وصفاء الفن، بين ما يحكم خبراتنا من عبث وفوضى وما ننشده في الحكايات الجميلة من معنًى وانتظام.
وجوه وأقنعة
بحسب كينتين بيل — كاتب سيرة الروائية الإنجليزية البارزة فرجينيا وولف — قد ابتكرت وولف شخصية كلاريسا دالاوي (في روايتها الأشهر «السيدة دالاوي»)، باستلهام صديقة العائلة كيتي ماكس، كمصدر أساسي للشخصية؛ غير أن وولف كتبت أيضًا في مذكراتها أنها استمدَّت جزءًا من تلك الشخصية ذاتها من الليدي أتولين موريل. وربما إذا واصلنا البحث لوجدنا أن السيدة دالاوي مستمَدَّة من العديد من الأشخاص الحقيقيين، وبالطبع من ملامح خاصة من فرجينيا وولف ذاتها، مهما بَدَتْ أبعد ما تكون عن شخصيتها. نحن البشر ليس لنا وجه واحد؛ لذلك لا تستسهلِ اصطيادَ شخصيةٍ أعجبَتْك بإلقاء شبكة الحكاية فوقها كأنها حيوان أسير، وحَبْسها في نصٍّ. ليس لنا جانب واحد، لا أنا ولا أنت ولا السيدة دالاوي ولا فرجينيا وولف.
لا بأس بالمرَّة في الاعتماد على شخصيات واقعية، ممَّن تقابِلهم في حياتك كل يوم، ولكن محاكاة ملامحهم وصفاتهم بالكامل لن تكون في صالح حيوية سردك بالمرَّة. استعمالُ ملامح وحياةِ هؤلاء الأشخاص كما هم، من شأنه أن يحدَّ من درجة الخيال ويؤثِّر سلبًا على درجة موضوعيتك معهم؛ وهكذا، بدلًا من استخدام زميلك في العمل كما هو، فكِّرْ كيف يمكنك مثلًا أن تمزج بعض صفاته البارزة بمعارف آخَرين، أو حتى بملامح في شخصيتك أنت، أو بسماتٍ متخيَّلة مائة في المائة. لكن الشرط الأساسي لِلُعبة القص واللصق هذه، أن تكون السبيكة النهائية للشخصية المكتوبة متماسِكةً ومنطقيةً ومُقنِعةً، وليست مجرد اجتماع عشوائي لعناصر متنافرة من هنا وهناك. ومن أجل الوصول إلى هذا الانسجام والتماسُك، عليك أن تلمسَ العمود الفقري لتلك الشخصية؛ محورها، كلمة السر الخاصة بها، أي قناعٍ تعتلي به خشبة السرد، ولن تعرف ذلك كله إلا وأنت تضيف لمسةً بعد أخرى على البورتريه الخاص بها حتى يكتمل تقريبًا.
قصٌّ ولصق
اختَرْ شخصيةً عامةً تُكِنُّ لها إعجابًا كبيرًا؛ كاتبًا أو ممثلًا أو سياسيًّا، وامزج بعضَ ملامحه المعروفة من سيرته بملامحك الشخصية الحميمة. ليس بالضرورة أن يكون الناتج منكما شخصيةً عظيمة ورائعة، لكن المهم أن تكون شخصيةً إنسانية، فيها تناقُضات البشر جميعًا، لها مزاياها ومساوئها، وبالطبع أن تكون قابلةً للتصديق كشخصية في قصة أو رواية.
الآن، فَلْتكرِّرْ هذا التمرين نفسه، ولكن بعيدًا عنك وعن شخصيتك المحبوبة، اختَرْ شخصين أو أكثر من حياتك اليومية أو تاريخك الشخصي، وحاوِلْ أنْ تدمج بينهما لتكوين شخصية واحدة متَّسِقة الملامح والطباع. خُذْ من كل شخصية شيئًا ما؛ على سبيل المثال: الحركات العصبية باليدين والذراعين لمدير العمل، تتفق مع النَّهَم في التدخين لأحد الأصدقاء، وهما متناسبان تمامًا مع ذلك الشاب الطَّموح القَلِق الذي قابلْتَه مؤخرًا. وأنت تمارس لعبة القص واللصق هذه لا تغفُلْ عن شيئين؛ أولًا: إضافة لمسات من خيالك الخاص، وثانيًا: أن تسأل نفسَك ما مركز هذه الشخصية الذي يدور حوله سائر السمات والأحوال؟
بصمات الأصابع
الأمر أقرب إلى اتخاذ أصدقاء خياليين طُوالِ القامة كأنهم بنايات المدينة. الصفحات التي تكتبها هي بصمات أصابعهم، مكتوبة فقط لكي تُثْبِتَ للغرباء أن هؤلاء موجودون حقًّا؛ وعليه فإن قراءة روايةٍ بنجاح هي معجزة عَرْض بصمات الأصابع، والقدرة من خلالها على تخمين وجه أحدهم، وكيف يسير، والأوقات التي أحبَّ فيها حبًّا خاطئًا، أو أتى بعواقب سيئة … إلى آخِره.