الصور تدِبُّ فيها الحياة
اتركْ لها الزِّمام
في اللحظة التي تفعل فيها الشخصية المتخيَّلة أو تقول شيئًا ما لم تفكِّر أنت فيه، في هذه اللحظة ذاتها تكون حيَّة، فاتركْ لها الزِّمام.
ربما يكون قد سبق لك بالفعل أن جرَّبتَ مثل تلك اللحظة السحرية، حينما تجد فجأةً الشخصيةَ التي رسمتَ بنفسك ملامحَها وأبعادَها تكتسب استقلالها وتتصرف بمعزِل عنك. إنها لحظة سحرية لأنها بداية الحياة الحقيقية لشخصياتك؛ بلوغهم سن الرشد، وانفصالهم — ولو نسبيًّا — عن سُلطة خيالك وتوجيهك، ولأنها أيضًا تتيح لك متعةَ الرصد والاكتشاف، وكأنك لم تكن تعرف شيئًا تقريبًا عن هذه الشخصية. ينفتح باب الدهشة أمامك وأنت تتأمَّل أبعادًا جديدةً لهذا الشخص الحي على الورق؛ لذلك فَلْتعمل بنصيحة جراهام جرين، واترك للشخصية الزمام، فلا تحاوِلْ أن تفرض عليها الذهاب نحو وجهة بعينها، أو أن تضع على لسانها حديثًا محدَّدًا تريد منها أن تنطق به لسببٍ أو لآخَر.
في هذه المرحلة يا صديقي اكتفِ بدور المُشاهِد المندهش ولو لبعض الوقت، واتبع خطوات شخصيتك أينما ذهبَتْ، وسوف يحين فيما بعدُ الوقتُ المناسب للغربلة والاختيار من بين أفعال وأقوال شخصيتك، بعد أن تكون قد قطعتَ معها الرحلة، وتبادلتُما موقع القيادة لأكثر من مرة فيما بينكما.
الفرار من اللوحة
من الصحيح أن فَنَّ رسم البورتريهات الشخصية ليس سهلًا، وأنه يحتاج إلى وقت وممارسة لإتقانه، لكنه يبقى بعيدًا عن حركة الحياة وسخونتها، تلك الحركة التي ينشدها كل سَرْدٍ جيد. لنفترِضْ أنك الآن قد انتهيتَ من وضع بطاقة التعريف الخاصة بشخصياتك الأساسية، أو شخصية واحدة على الأقل في قصة متوسطة الطول، واعتنيتَ بالأبعاد الثلاثة المعروفة لها، من مظهر خارجي وخلفية اجتماعية وطبيعة نفسية خاصة، ثم ماذا بعدُ؟ ليس من المُجدي أو الممتع أن تضع هذا البورتريه الصامت كتقريرِ حالةٍ جافٍّ في سياق سردك.
إننا نعيش حياتنا ونتعرَّف على الناس في سياق الزمن، في سياق الحركة، في سياق الحكاية الكبرى، وهكذا أيضًا نحبُّ أن نتعرَّف على الشخصيات في السرد، دون أن تتوقَّفَ عجلةُ السرد لبعض الوقت لتقديم الشخصية لنا في بِضع فقرات أو صفحات، ولو أنَّ هذا كان متَّبَعًا ومعمولًا به على مدى سنوات طويلة في الروايات الكلاسيكية، ومن الممكن الاستفادة منه بطرق مختلفة في الوقت المناسب، ما دامت المتعةُ متحقِّقةً من نواحٍ أخرى، لكن يظل من الأسلم أن تستلهم بورتريه الشخصية — بطاقة البيانات الخاصة بها — دون أن تنقلها نصًّا، استعِنْ بها في رسم المشهد وفي تقديم الشخصية بصورة غير مباشِرة. فَلْتعتبر أن البطاقة الخاصة بالشخصية ضرورة من ضرورات إعداد الوليمة، لكنها لا بدَّ أن تبقى بين جدران المطبخ، ولا تخرج منه، فلا يرى المدعُوُّونَ إلى وليمتك قشر البصل أو نثار الطحين وغير هذا من الأواني المتراكمة، سَيَرون فقط الطبق النهائي في أفضل صورة ممكنة له؛ وكأنَّ الشخصية حطَّمَتْ إطارَ لوحتها، وفرَّت منها إلى الواقع واكتسبَتْ حياتها الخاصة بتعبير جراهام جرين؛ لم تَعُدْ مسطَّحةً ذات بُعْدين، مجرد ألوان على قماش، بل ثلاثية الأبعاد، شأن جميع الموجودات، مثل كل الأحياء، لها نسيج ومذاق وملمس وروائح.
عند حديث الكاتب الأمريكي «سيد فيلد» عن تكوين وبناء الشخصية في كتابه «السيناريو»، يفرِّق بين مستويَيْن من حياة كل شخصية: الحياة الداخلية والخارجية، ولا يعني بهذا التعارُضَ بين باطن كل شخصية وظاهرها، بل يقصد بالحياة الداخلية تاريخَ حياة الشخصية منذ مولدها وحتى لحظة بَدء الأحداث أمام أعين المشاهدين؛ الخلفية والتكوين النفسي والاضطرابات والذكريات، إنها البورتريه نفسه أو بطاقة البيانات التي قمتَ بكتابتها مسبقًا. أمَّا الحياة الخارجية، فهي كل ما يراه المشاهد من تصرُّفات وأفعال وأقوال تقوم بها الشخصيةُ من بَدء الأحداث لمنتهاها، وهذه هي حكايتنا، التي لا بدَّ أن تعكس أهمَّ ما يتعلَّق بالحياة الداخلية؛ أيْ إننا نتعرَّف تدريجيًّا على ذلك الماضي والخلفية في سياق الحركة والحكاية، دون استغراقٍ في التوقُّف أو استرجاع الماضي إلا للضرورة.
لمحة عن الإظهار والإخبار
لكن يجب التأكيد هنا أيضًا — ومن جديد — أنه لا قواعد مطلقة ونهائية في أي فن، وخصوصًا الكتابة السردية، ويمكن كتابة أعمال أدبية مهمة بالاعتماد على الإخبار بصورة أساسية، أو بالمزج بينه وبين الإظهار، لكنَّ هذه — كما قلنا — حكايةٌ أخرى يطول شرحها.