ألسنةٌ تبوح وتوحي
أنا أفهم مَقْصِدَك
ينبغي ألَّا يقتصر الحوار على كشف أشياء عن المتكلم ممَّا يعرفه عن نفسه وفقط، ولكن أن يكشف أيضًا عن أشياء قد لا يكون يعرفها عن نفسه، ولكن يدركها الطرفُ الآخَر في الحوار.
الإفصاح عن الباطن
إذا أردتَ أن تكشف عمَّا يجري في باطن شخصياتك، فسيُمْكِنك بالطبع أن تتسلَّل بنفسك — كرُوحٍ خفية — إلى داخله، وتنقل وساوسَه وحديثَه الداخلي لنفسه، عن طريق حِيَل من نوع: «فكَّرَ … قال لنفسه … تساءَلَ في عقل باله …» إلى آخِره. لكن الإفراط في اللجوء لتلك السُّبُلِ يُضعِف قيمتها، وكثير من أفكار وعواطف الشخصيات يمكن أن يكتسب مزيدًا من القوة والأثر إذا خرج كحوار منطوق، وليس كمجرد حديثٍ نفسيٍّ داخلي؛ كلُّ ما عليك لتحوِّلها إلى حوار هو أن تضع الشخصيةَ في موقف محدَّد يضطرها للإفصاح عمَّا بداخلها، حتى ولو عبَّرَتْ دون وضوح كافٍ بسبب اضطرابها. ضَعْ شخصيةً أخرى بجانبها، شخصيةً رئيسية أو ثانوية، أَدِرْ حوارًا بينهما يَجُرُّ شخصيتَك لأنْ تُفضِي وتبوح بمكنونها؛ عندئذٍ تكتسِب جملةٌ منطوقة بلسانها وأسلوبها تأثيرًا يفوق كلَّ ما قد تفكِّر فيه بداخلها، في صمتِ عزلتِها.
يصير بوسعك عندئذٍ أيضًا أن تدَّخر تسلُّلَك إلى باطن الشخصية للحظاتٍ أنسب، حين تغزوها أفكارٌ وتساؤلاتٌ أكثر ارتباكًا واختلاطًا بالمشاعر والهواجس، وأيضًا حين تفتقد أي أُذُن تستمع إليها. وهكذا، كلَّما سارعْتَ إلى نقْلِ ما تفكِّر فيه شخصيتُك، وما تشعر به، في لحظةٍ ما من الحكاية، اسألْ نفسك: أليس من الأفضل تحويل هذا إلى حوارٍ منطوق؟ أمْ أنَّ قوة أثره تكمُن في أنه مونولوج داخلي، لا يطَّلِع عليه أحدٌ؟ وبناءً على إجابتك التمسِ الوسيلةَ الأنسب، فكلُّ تلك أدواتٌ بين يدَيْك للوصول لأنسب الصِّيَغ وأجملها.
لا تَصُبَّ الكلامَ صبًّا
باستثناء بعض المواقف الخاصة التي قد تندفع فيها إحدى الشخصيات إلى التصريح باعترافٍ كامل من البداية للنهاية، ليس من المستحسن أن تُلقِي شخصيتك بكل ما في جعبتها دفعة واحدة. توسَّلْ بالتلميح والإشارة والمراوغة، دون أن يعني هذا الثرثرة بالضرورة. لا تُشعِر القارئ بأن شخصيتك تتكلَّم مثل ببغاءٍ أو رجلٍ آليٍّ مُبرمَج، أو كأنَّ على عاتِقها حِمْلًا تريد أن تتخلَّص منه بأسرع وسيلة ممكنة. ليَكُنْ حوارُك استدراجًا من نقطةٍ إلى أخرى، حتى تجد الشخصيةُ نفسها تنطق بما لم تكن تنوي ذِكْرَه، أو تُراوِغ بإظهار ورقة وإخفاء أخرى، وهنا يمكن للقارئ أن يشارِك بأن يقرأ ما بين السطور ويستشفَّ المخفي من المكشوف.
كُنْ ميزانًا حسَّاسًا
لا شكَّ أن بعض شخصياتك ستكون أقرب إليك من أخرى، إمَّا لأنها أقرب إلى طبيعتك وتكوينك، وإمَّا لأنها هي نجم قصتك الذي تدور من حوله سائرُ الكواكب، وإمَّا لغير ذلك من أسباب؛ لكن هذا لا يعني أن تنحاز إليها في أي حوار يدور بينها وبين بقية الكواكب من سكَّان فضاء حكايتك، فتجعل نَصْرَها عليهم أمرًا مؤكدًا على الدوام، بالمنطق السديد أو ذكاء النكتة أو قوة الشخصية.
وزِّعْ منطقَك بالعدل على شخصياتك. دافِعْ عن مبررات وحجة وموقف كلٍّ منها، حتى ولو كانت إحدى الشخصيات نموذجًا لأسوأ وأحطِّ ما في الطبيعة البشرية، فَلْتلعب معها أنت دور محامي الشيطان، وأوجِدْ لها فلسفتها وأسبابها ودفاعها القوي. إذا وجدتَ نفسك ميَّالًا لشخصية على حساب أخرى، في حوارٍ ما، فلا بدَّ أن تُعِيد النظرَ فيه. اسأل: هل يقدِّم هذا الحوار شيئًا مهمًّا بحيث لا يمكن الاستغناء عنه، أم أنه مجرد استعراضٍ لذكاء وظرف شخصيتك الأثيرة؟ كيف يمكنك أن تقوِّي موقفَ الشخصية الأخرى ولو قليلًا، وتمنحها من داخلك لسانًا أفصح وحجةً أقوى؟ إن لم يشعر القارئ أنه أمام مبارَزةٍ حقيقية، خصوصًا في المواقف المتوترة والحاسمة، سيفتُر اهتمامُه بالحوار ككلٍّ، حتى ولو نطقَتْ شخصيتك المفضَّلة بالدُّرَر والبدائع.
فصحى أم عامية؟
إذا كنتَ قد حاولتَ كتابةَ القصة أو الرواية ولو مرَّةً واحدةً، فلا بدَّ أنك وجدتَ نفسك حائرًا أمام هذا السؤال القديم الجديد، والخاص بأي بلد ينقسم لسانها إلى اثنين: مكتوب فصيح، ومنطوق عامي أو دارج على الألسنة. للأسف أو ربما لحُسْن الحظ، لا توجد إجابة نهائية شافية على هذا السؤال، وكلَّما واصلتَ القراءةَ واستكشافَ مدارس واتجاهات الأدب العربي، وجدتَ أن كلَّ كاتب توصَّلَ إلى إجابته الخاصة؛ فمنهم مَن يميل لكتابة حواره بالفصحى لأسبابٍ عديدة، منها رغبتُه في التوجُّه لجمهور القرَّاء في العالَم العربي بكامله، أو لكي لا يسقط الحوارُ في ركاكة وابتذال الكلام الدارج؛ ومنهم مَن يفضِّل العامية إيمانًا بالمصداقية وبجماليات اللغة العفوية والطزاجة الكامنة في ألسنة الناس وحواراتهم اليومية المتجددة.
وعلى وجه العموم، حاوِلْ أن تجيب عن هذا السؤال بما يتناسب مع العالَم الخاص بعملك السردي، وما يتفق مع طبيعته، وجرِّبِ الطريقتين أحيانًا حتى تعرف مزايا وعيوب كلٍّ منهما، وحتى إذا اخترتَ الارتكانَ إلى الحوار الفصيح، فلا تحرمه من لمسات العامية ومذاقها من حيث التركيب والبساطة، فكثيرٌ من الكتَّاب المصريين وضعوا على ألسنة شخصياتهم جُمَلًا حوارية سليمة وفصيحة، لكنها تجري مجرى الكلام العامي أو تكاد، فتسمع شخصياتِهم تقول مثلًا: «ملعون أبو الدنيا.» أو «ماذا جرى؟ كفى الله الشر.» أو «اعملي الشاي يا بنت.» فلا تتلكأ العبارةُ أمام أُذُن القارئ طويلًا، وتتسرَّب إليها مثل موسيقى خفية مجهولة المصدر.
•••
في الفصل التالي المزيد حول تحويل الحوار إلى خطابٍ غير مباشِر، وتفقُّد الحوار بعد كتابته.