في مديح الأسئلة الصغيرة
إذا كان يمكنك مع الكتابة الحرة أن تنطلق في الكتابة من الفراغ تقريبًا، دونَ تفكيرٍ أو حُكْم بأهون قدرٍ؛ فإنك ستكون بحاجة إلى أداةٍ أخرى توفِّر لك درجةً أكثر تقدُّمًا من العمل على مادتك الأوَّلية وتطويرها. يمكنك أن تُسَمِّي هذه الأداة الأخرى بالكتابة المتشعِّبة أو التوسُّعيَّة أو حتى طريقة «الأسئلة الصغيرة» … كما تشاء. مع هذه الأداة تنطلق في الكتابة بِناءً على شيءٍ ما سابقٍ بين يديك: عبارة، فكرة مجردة، فقرة مكتوبة سلفًا … إلى آخِره. وعلى خِلاف الكتابة الحرة، تكون لديك هنا درجة أعلى من السيطرة على المادة التي تكتبها، تتدخَّل بوعي وقصد وتحدِّد مسارَها؛ ولكن لا داعيَ أيضًا للتقييم أو الحكم المعوِّقَيْن للتدفُّق، ويكمُن كلُّ دورك في تحفيز خيالك بانتظام عن طريق مواصلة طرح الأسئلة «الصغيرة».
- (١)
أحمد عامل نسيج متوسط العمر.
- (٢)
قد ذهب إلى المدرسة الليلية لمحو الأمية في دار المناسبات في مركز البلدة.
- (٣)
ذهب بعد أن فَرَغَ من صلاة العشاء مباشَرةً.
- (٤)
فقط ليَرى مُعلِّمة محو الأمية؛ الأرملة الشابة الجميلة …
يمكنك أن تستكمل هذا المثال، أو أن تعيد الإجابة عن الأسئلة نفسها على هواك؛ والاحتمالات — كما صرتَ تعلم الآن جيدًا — بلا نهاية تقريبًا.
إشارة
الكتابة الحرة وطريقة الأسئلة الصغيرة أداتان مختلفتان، لكنهما متكاملتان مع هذا، فما قد تخرج به من نوبات الكتابة الحرة من موادَّ خام أوليَّة، لا رابطَ أو ضابطًا يحكمها، يمكنك العمل عليها بعد ذلك بطريقة طرْحِ التوسُّع التدريجي هذه. كل ما عليك هو أن تطرح أكبر عدد ممكن من الأسئلة الصغيرة على جملتك أو مادتك المكتوبة، وتجيب عنها بإجابات غير متوقَّعة، فلا تتَّبِع السككَ المطروقة والمعبَّدة، غامِرْ وجازِفْ واكتشِفْ وفاجِئْ نفسك لكي تستطيع أن تفاجِئ قارِئَك بكل مدهش وغريب؛ فليس من الضروري بالمرة أن يكون أحمد ذلك هو تلميذًا في المدرسة الابتدائية، بل يمكنه حتى أن يكون فَرَّاشًا في المدرسة ذاتها، أو وليَّ أمرِ أحدِ التلاميذ تمَّ استدعاؤه لمشكلةٍ ما، أو معلِّمًا على المعاش ما زال يتردد من وقتٍ إلى آخَر على المكان الذي احتلَّ ثلاثة أرباع حياته، والاحتمالات … حسنًا، لا داعي لتكرارها.
خبرة
يستعين بالأسئلة الصغيرة في كتابة رواياته الروائيُّ الكنديُّ السيريلانكيُّ الأصل «مايكل أونداتجي»، صاحب الرواية الجميلة والشهيرة «المريض الإنجليزي»، التي تحوَّلت إلى فيلم أكثر شهرةً بالعنوان نفسه، يقول: «لا تكون في ذهني أية موضوعات كبيرة.» وسوف تسمع هذه العبارة تتردَّد على ألسنة كُتَّاب كبار آخَرين، وبدلًا من الانطلاق من سؤالٍ ضخم من نوعية: ما الشخصية التي يمكن لها أن تفتن القرَّاء؟ أو ما أهم أحداث القرن العشرين؟ فإنه يجلس ليتأمَّل بضعة أحداث صغيرة ومحدَّدة، مثل تحطُّم طائرة، أو مريض مُغطًّى بكامله بالضِّمَادات البيضاء يتحدَّث إلى ممرضة جميلة بجانبه، ثم يبدأ أونداتجي يسأل نفسه: مَن هذا الرجل؟ كيف أتى إلى هنا؟ لماذا تحطَّمَتْ طائرته؟ في أيِّ عامٍ حدث هذا؟ ومَن هذه الممرضة؟ أَلَهَا حبيب؟ ومن خلال إجاباته على كل تلك الأسئلة الجزئية الصغيرة — بحسب قوله — «تتجمَّع تلك الشذرات، أو قِطَع الفسيفساء الصغيرة، بعضها إلى بعض، فيصير بوسعك اكتشاف ماضي تلك الشخصيات، أو أن تبتكر ماضيًا لبعضها.»
تمرين
اطرَحْ على نفسك تلك الأسئلة الصغيرة وأَجِبْ عنها فورًا بينما تكتب، تشعَّبْ مع جملتك في كل اتجاه ممكن لتَبْنِي حولها كتلةً من العلامات والروابط والصلات، وستكون الكتابة المتشعِّبة هذه هي أداتك النافعة حين تريد كسْرَ قيد جملة مُصمَتة لا تريد أن تلين أمام رغبتك في الكتابة، ومع ذلك تَجِدها جميلةً ومُغْوِيةً بالسير خلفها. مارِسْ طريقةَ الأسئلة الصغيرة لفترةٍ حتى تتقن استخدامَها كأداة عمل. اختَرْ جُمَلًا سابقة لك، مُنتزَعة من سياقها، أو من نصوص لكتَّاب آخَرين بصورة عشوائية — هذه ليست سرقة ما دُمنا في إطار التمرينات — تلمَّسِ الفجوات الموجودة فيها، واطرح عددًا من الأسئلة «الصغيرة» حول عناصرها ومفرداتها، وأجِبْ عنها إلى أن تتحوَّل تلك الجملة الأولى إلى شيءٍ مختلف. ليس من الضروري أن ينتج عن هذه التمرينات شيءٌ له قيمة أدبية، فما هي إلا تمرين لعضلاتك الكتابية، ولكي تتسلح بتلك الأداة حينما يأتي وقتُ الجِدِّ، الذي صار وشيكًا.
نصيحة
في نصائحه المعنونة «كيف تكتب رواية في ١٠٠ يوم أو أقل»، كتب جون كوين: «على الرغم من عدم وجود قواعد بشأن أفكار القصص، فإني سأقدِّم لكم تحذيرًا صغيرًا: تناوَلُوا الأفكار الصغيرة. من أسوأ الأخطاء التي قد يبدأ بها روائيٌّ العملَ على روايته، هو الاستعانة بالأفكار الكبيرة في محاولةٍ للتوصُّل إلى قصة تَختزل العالَم كله بداخلها، على اعتقاد أنه كلما كانت الفكرةُ أكبرَ كانت أفضل؛ وهذا ليس صحيحًا، فلتَكُنْ فكرةُ قصتك صغيرةً ومركَّزة. انبش في رُوحك المبدعة عن قصة صغيرة لها مغزًى عميق عندك أنت، فكلُّنا أبناء في عائلة إنسانية واحدة، وإذا أبدعتَ قصةً ذات مغزًى عميق بالنسبة إليك، فغالبًا ما ستكون كذلك بالنسبة إلى الآخرين.»