الأماكن كلها ملكُ يدَيْك
رؤية
كلُّ فنٍّ هو رؤيةٌ قادرة على اختراق أوهام الواقع.
بلا حدود
لا بدَّ من التذكير بأن المبادئ والأفكار التي نعرضها هنا هي أبعد ما تكون عن الإحاطة التامة بجوانب اللعبة السردية، وبعناصرها الكبرى، وخصوصًا مع عنصرٍ على قدر كبير من الاتساع مثل عنصر المكان في السرد، وُضِعت عنه مئاتُ الدراسات وعشراتُ الكتب، ويزداد مفهومه بمرور العقود تطوُّرًا وثراءً، وربما تعقيدًا.
من الضروري أن نشير إلى هذه النقطة كلَّما أمكن؛ لأهمية عدم الاكتفاء بالخطوط العريضة لأي عنصر سردي دون محاولة التوغُّل فيه من وقتٍ إلى آخَر، وخوفًا من فرط التبسيط الذي قد يصل إلى حد التسطيح عند التعامل مع أفكارٍ ذات شأن؛ لذلك يجب ألَّا نتوقَّف عن النبش وراء هذا الجانب أو ذاك من جوانب اللعبة السردية، سواء أكان في داخلنا، عن طريق طرح الأسئلة والتأمُّل والاستكشاف العملي أحيانًا، أم في خارجنا، عن طريق القراءة والبحث وربط الخيوط المتباعدة بعضها ببعض، لا سيما حين نجد في أنفسنا ميلًا خاصًّا نحو أحد جوانب لعبة السرد دون غيره؛ حبًّا غامضًا لفكرة الزمن أو المكان أو الشخصية؛ على سبيل المثال: عندما تصير رحلة الاستكشاف والبحث واجبًا وحقًّا بقدر ما هي متعة فكرية واعدة بالجديد مع كل خطوة.
فإذا اكتشفتَ أنك تهتم في كتاباتك بالمكان، وتحتفي به دون بقية العناصر، فلا تتردَّدْ في القراءة عن دوره وأهميته ومستويات دلالاته الاجتماعية والنفسية، بل الروحية كذلك، وكلَّما بحثتَ وجدتَ المزيدَ من الدراسات والكتب التي ستجعل المكان في خيالك — كما هو في الحقيقة — فضاءً لا حدودَ له.
ما من مكان يضيقُ بالخيال
قد نعتقد في بعض الأحيان أن الأماكنَ التي نشأنا فيها، أو تلك التي نقضي فيها أغلبَ حياتنا، خانقةٌ للخيال؛ أضيق من أن تزوِّدنا بفسحة رحبة ومضيئة للَّعِب والانطلاق. الخبر السارُّ الأول أنه اعتقاد خاطئ تمامًا، وأن حدود أي مكان هي ذاتها حدود خيالك وفكرك ولغتك، حتى لو كان صندوقًا صغيرًا مغلقًا، فما بالك بغرفة أو شارع أو ميدان؟! الخبر السار الثاني أن القول المأثور والمبتذل عن المحلية التي يمكنها أن تحتوي بداخلها العالميةَ، يحمل قدرًا من الصحة على الرغم من شيوعه وتكراره. يمكن للجزء أن يوحي بالكل، كما يمكن تأمُّلُ العالَم في حبة رمل، والأمر يعتمد على إنصاتك لما تخبرك به حبةُ الرمل.
إنَّ حارات حي الجمَّالية والقاهرة القديمة انتقلَتْ من طفولة نجيب محفوظ إلى سطورِ كتبه لتستوعب العالَمَ كله بداخلها، كمجاز كبير للوجود الإنساني، واستطاع أن يستكشف في مساحاتها المحدودة كونًا ذا رموز لا نهائية. اغسل عينَيْكَ من نظرة الاعتياد وأعِدِ استكشافَ ما حولك، محيطك المحلي هو مكمن شغفك ومواجعك وأحلامك؛ انطلق به واصنع منه شيئًا آخَر. إن شخصيات وأماكن الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، حتى في أشد تجلياتها سحرًا ومفارَقةً للواقع، يستطيع أن يتعرَّف عليها هؤلاء الذين كبروا معه أو كانوا جيرانه أو أقاربه، على الرغم من هالة الخيال والسحر المحيطة بكتابته.
لا تظن خطأً أننا ننصح بالنقل الحرفي لما يحيط بك، بل بالاعتماد عليه كمواد خام أولية، قد تتحوَّل إلى أحجار كريمة في معملك السري. وربما أفضل طريقة لأن «تعرف» مكانًا ما هي اتخاذ مسافة منه، وتأمُّله من بعيد؛ فغالبًا ما يقضي الاعتيادُ والألفة على الدهشة وحِدَّة الملاحظة. الرحلة بعيدًا، ولو لبعض الوقت، ضروريةٌ وحاسمة بقدر رحلة العودة للموطن ذاتها، وربما لن تغوص حقًّا في أعماق مكانٍ ما قبل محاولة الكتابة عنه، وما إن تبدأ كتابته حتى يتغيَّر ويتبدَّل، ويتخذ سَمْتًا ودلالات قد تُفاجِئك أنت نفسك. إنها تلك اللحظة حين نرى المكتبةَ في نصوص الأرجنتيني الأمهر خورخي لويس بورخيس ليست مثل أي مكتبة في الواقع بالمرة، وحارةَ محفوظ في الحرافيش وأولاد حارتنا والعديد من قصصه القصيرة التي نظن أننا نعرفها جيدًا، لكنها صارت شيئًا آخَر مُحلقًا وكونيًّا؛ إنها تلك اللحظة التي نهضَتْ فيها قريةُ ماكوندو العجيبة — في رواية مائة عام من العزلة لماركيز — من رماد ذكرياته عن أماكن طفولته وصباه. تستطيع أنت أيضًا إعادةَ تشكيل عالَمِكَ عند كتابته حتى يواكب خيالك ومطالب حكاياتك.
وقد لا يكون المكان مهمًّا، حقًّا؟
في أحيانٍ نادرة لا يكون لعنصر المكان أهمية كبيرة؛ نظرًا لطبيعة الفكرة أو موضوع النص؛ يكفي مثلًا أن تدور الحكايةُ في قريةٍ ما أو حديقةٍ عامة أو مصعدٍ. غالبًا ما يكون الهَمُّ الغالب على هذه النصوص فكريًّا بدرجةٍ ما، أو أنها تميل نحو أسلوب الأُمْثولة التي قد تجري في أي زمن وأي مكان، على طريقة حكايات كليلة ودمنة أو نوادر القدماء، وتنبع قوتها من هذا تحديدًا؛ أيْ من طبيعتها العامة والمتجاوزة لنسيج الزمن والأماكن. في حالةٍ كهذه يجوز ألَّا يُعنى الكاتب كثيرًا برسم مكانه وتلمُّسه وتأطيره، وإنْ ظلَّ في هذا قدرٌ من المخاطرة بعدم إنعاش خيال القارئ بصريًّا. وحتى مع تلك النصوص، سوف يميل القارئ تلقائيًّا إلى أن يبتكر المكانَ بنفسه من مخزون صوره الخاص؛ ذلك لأن الفن تفكيرٌ بالصور، كما قالوا قديمًا، ومن غير تلك الصور نضلُّ في عالَمٍ من المعاني والمجردات أقرب إلى كهوف الفلاسفة المعتمة.
جرِّبْ بنفسك
-
(١)
حاوِلْ أن تتوصَّل إلى فكرة قصة — قرأتَها أو كتبْتَها أو فكَّرْتَ في كتابتها ذات يوم — لا يمثِّل فيها المكانُ أيَّ أهمية، ولا دورَ له تقريبًا، تصلح أحداثُها لأن تقع في أي زمن وأي مكان؛ ما ملامح تلك القصة؟ ما وجه خصوصيتها؟ هل ستنتقص قيمتها إذا وضعتَها في سياق زمني ومكاني محدَّد؟ كيف ستتغيَّر؟ هل سيتبدَّد مغزاها وجوهرها أم فقط سيكتسب أبعادًا أخرى جديدة؟
-
(٢)
لعلَّك سمعتَ عن قصة المكان أو رواية المكان؛ ماذا يعني هذا المفهوم لك؟ هل سبق أن كتبتَ نصًّا كان المكان فيه هو البطل؟ ماذا عن قراءاتك السابقة؟ استرجِعْها وحدِّدْ أبرزَ الأمثلة التي تخطر لك. ماذا لو قرَّرْتَ أن تكتب قصة أو رواية مكان؟ أي مكانٍ سيكون؟ ولماذا يستحقُّ هذه البطولةَ؟ اكتب صفحةً على الأقل تزكِّيه فيها، وتعرضُ أوجهَ اختلافه عن كل مكانٍ آخَر.
-
(٣)
تخيَّلْ مكانًا يتحدَّث ويسرد من وجهة نظره ما كان شاهِدًا عليه لفترة محدَّدة؛ فصلًا دراسيًّا، مقعدًا في حافلة عامة، سريرًا في دار بغاء، قاعة اجتماعات في إحدى الوزارات، صخرة عالية على شاطئ بحر. أنصِتْ واندهِشْ واكتُبْ.