فنُّ الإنصات
ساعي بريد الأصوات
تحكي رواية ساعي بريد نيرودا — أو «صبر متأجِّج» بحسب عنوانها الأصلي — التي كتبها التشيلي أنطونيو سكارميتا، عن صيادٍ شاب ساذج يهجر الصيد ليصبح ساعي بريد في منطقة ساحلية نائية في تشيلي؛ حيث الشخص الوحيد الذي يتلقَّى الرسائل ويبعث بها هو الشاعر المنفي هناك، بابلو نيرودا. مع الوقت تنشأ صداقة من نوعٍ خاص بين الشاعر الكبير وساعي البريد الساذج، ويتحدَّثان عن الحب والنساء وأسماء النساء، وبالطبع عن الشعر، وكيف أن كلَّ شيءٍ موجودٍ في العالم ربما يكون مجازًا لشيءٍ آخَر أكبر وأبعد. انتقلَتِ الروايةُ في عام ١٩٩٤ إلى شاشة السينما، بإخراج مايكل ردفورد، لتصير فيلمًا ساحرًا، حاز أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام ١٩٩٥. بعد أن انتهت ظروف النفي وعاد الشاعر إلى حياته المعتادة، نرى ساعي البريد، في سلسلة من لقطات جميلة، يسجِّل أصواتَ الطبيعة ليرسل بها في شريطٍ إلى صديقه الشاعر الكبير، يُمسِك بالميكروفون الصغير ويهمس: رقم واحد: أمواج صغيرة. ثم رقم اثنين: أمواج كبيرة على الشاطئ ذاته في الصباح. ثم ثلاثة: الرياح على الجُرف. أربعة: الريح وسط الشجيرات، وشِباك صيد أبيه «الحزينة» (بتعبيره) وهي تخرج من الماء بالسمك، وقرع جرس كنيسة القرية. وحتى سماء الليل المفروشة بالنجوم يرسل له صوتَها، وأخيرًا دقات قلب ابنه الجنين في بطن أمه.
لقد أراد أن يُرسِل إلى صديقه الشاعر قطعةً حيةً من المكان الذي عاش فيه لفترة؛ لم يختَرْ أن يرسل له صورًا فوتوغرافية، بل أحسَّ أن الأصوات الفاعلة في المكان والمهيمنة عليه أكثر قدرةً على استحضار الصور والذكريات والتفاصيل. لعلَّنا بحاجة إلى الاقتداء بساعي بريد نيرودا في كتابة نصوصنا، وألَّا نبخل على صديقنا القارئ بأصوات الأماكن التي تجري فيها حكايتنا، فزمن السينما الصامتة قد انتهى، ولا بدَّ من اقتران صورك بأصواتها لتكفل لها شروطَ الحياة على السطور؛ فَلْتكن ساعيَ بريد الأصوات الذي يسجِّلها على صفحاته وينقلها بالكلمات إلى القارئ، فيعيرها أذنَيْه وينفخ فيها من روحه.
تحوَّلْ إلى أُذُن كبيرة
كما هو الحال مع تدريب العين على النظر والرؤية والالتقاط والفرز، ينبغي علينا أن نرهف أسماعنا إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ بحيث نتحوَّل تقريبًا إلى أُذُن كبيرة صاغية في انتباهٍ يَقِظ إلى خليط الأصوات من حولنا في كل مكان. يُقال إن هذه طريقةٌ من طرق التأمُّل الروحي وتهدئة النفس، لكن المهم هنا أنها الخطوة الأولى لتستطيع استيعابَ «شريط الصوت المصاحب للحياة»، بحسب عنوان مقال جميل للأديب ياسر عبد اللطيف؛ حيث يُشدِّد على أنَّ لكل مكانٍ بَصْمتَه الصوتية الخاصة به، ويقارن في سياقه بين الإقامة في حي عابدين ثم المعادي، قبل الانتقال إلى كندا، والانقطاع المفاجئ في شريط الصوت الذي حدثَ له عندئذٍ.
في عملية فرز وتصنيف الأصوات المحيطة بنا سنجدها صناعية وطبيعية؛ الأولى مثل أبواق السيارات وهدير محركاتها، والأجراس، وكل ما يصدر عن أجهزة الراديو والكاسيت، إلى آخِر كل مصدر آلي أو صناعي للصوت؛ ثم الثانية، كتلك التي أرسَلَها ساعي البريد إلى نيرودا: الريح والمطر وأصوات جميع أنواع الطيور والحيوانات والحشرات.
من حقل الطبيعة يبرز صوتُ الإنسان بنبرته الخاصة وطبقاته العديدة، حين يتكلَّم ويصرخ ويهمس ويغنِّي. لكلِّ صوت دلالتُه وسياقه وحمولته المعرفية والوجدانية، فما الأصوات التي تسمعها الآن؟ التقِطْ أحدها واستقِرَّ معه لبعض الوقت، ثم انتقِلْ إلى سواه، ثم أنصِتْ إليها كلها مختلطةً معًا دون تمييز. ثم اسأل، عند الكتابة، ما الأصوات المحيطة بشخصياتك؟ ما طبيعتها؟ هل للمؤذِّن في المسجد القريب صوتٌ جميل؟ أم أنه صبي رفيع الصوت؟ هل تسكن بالقرب من بطلك معلمةُ بيانو تنبعث التدريباتُ الموسيقية من شقتها على الدوام؟ أم تمر القطارات قريبًا من مسكنك بانتظام؟ إن مجموعة الأصوات التي تنتقيها لتحيط بشخصياتك وأحداثك تساهِم بقوةٍ في خلْقِ الجو العام والأثر النهائي المرغوب، وربما يكون لها أحيانًا دورٌ درامي في الحبكة: التصنُّت على حديثٍ هامسٍ يكشف أسرارًا، الأصوات التي يسمعها معتقِل أو شخص مخطوف في مكانٍ مُظلِم تمامًا أو بعد أن عصبوا له عينَيْه، وبالطبع كل ما يتناهى إلى سمع شخصٍ كفيف البصر، وهنا قد يلعب الصوتُ دورَ البطولة.
من الصمت إلى الضجيج
جرِّبْ كتابةَ قصة صغيرة تدور في مكانٍ عامٍّ، مكانٍ واسعِ الأبعاد ومحتشِدٍ بالناس؛ مثل محطة قطار، أو سوق في قرية، أو مظاهرة في شارع عام. اكتبها في البداية دون أي إشارة إلى الأصوات المحيطة بما يحدث، صِفِ الحركة أو الصورة إنْ شئتَ، لكن تجنَّبْ واعيًا الأصواتَ من أي نوع. اقرأ ما كتبتَه الآن، إلى أيِّ حدٍّ تفتقد هذه الصورةُ النثرية إلى الحياة؟ هل تبدو مثل فيلم صامت؟ هل تبدو كأنها ملاحظاتُ شخصٍ أصم على ما يراه؟ والآن، أعِدْ كتابتها بإضافة كل صوت في هذا المكان، بعيد أو قريب، طبيعي أو صناعي، كلام أو صراخ أو موسيقى أو صفير. لا تفصل تلك الأصوات عن الصور التي قمتَ برسمها من قبلُ، زاوِجْ بينهما بحيث تنطق الصورةُ بكل ما لديها، اقرأ الآن ولاحِظِ الفرقَ. تستطيع بالطبع أن تنتقي على الدوام، وألَّا تراكم كل الأصوات بعضها فوق بعض دون حاجةٍ حقيقية إليها في سياق السرد.
صلة قرابة
لعلَّ الكتابة في أحد أبعادها تشكيلٌ صوتي، بما أن كل كلمة هي صوتٌ، ما إنْ نقرَأْه حتى نسمعه بآذان خيالنا في رءوسنا؛ لهذا ولأسباب أخرى يمكننا أن نلمس صلةَ قرابة عميقة وقديمة بين الأدب والموسيقى؛ إذ كلاهما يلعب على عامل الزمن، ولو بطرق مختلفة. تستحق هذه القرابة منَّا وقفةً مستقِلَّة وشيكة.
•••
في الفصل التالي وقفة مع العلاقة بين الموسيقى والكتابة.