اتبع صوت الموسيقى
تنبيهٌ مبدئيٌّ
لا نتحدَّث هنا عن الموسيقى كعنصر درامي بداخل السرد، سواء أكانت تلك هي الموسيقى التصويرية التي تُعزَف بينما تجري وقائع حكايتك، فتستمع إليها شخصياتُك، أم تلك التي يتحدَّثون عنها ويُغرَمون بها ومن خلالها؛ فهذه مسألة أخرى، لا تبتعد كثيرًا عن موضوع شريط الصوت الذي أشرنا إليه سابقًا. نتحدَّث هنا عن الإحساسِ الموسيقيِّ في كتابة السرد، عن صلة القرابة القديمة والعميقة بين صوت الموسيقى وصوت راوي الحكايات.
كلمة السر: الإيقاع
لعلَّ كلمة الإيقاع هي أكثر مفردة تتأرجح ما بين عالمَيِ الموسيقى وكتابة السرد، أو الأدب عمومًا، نستبعد هنا بالطبع الحديثَ عن الشعر الموزون لابتعاده عن اهتمامنا من ناحية، ولوضوح علاقته بالموسيقى من ناحية أخرى. الإيقاع في الموسيقى مسألة صوتية بحتة؛ تنظيم الأصوات المختلفة في الزمن، أطوال الجُمَل اللحنية وحِدَّتها وطبيعة العلاقة فيما بينها. في المقابل يتصل الإيقاع في السرد بالمفردات، وهي كائنات مرئية ومسموعة في الحين ذاته، نراها ونتخيَّل أصواتها في عقولنا، ونستشعر عندئذٍ مدى تدفُّق الكلمات على الصفحة، طبيعة العلاقات بين كل مفردة وأخرى، بين كل عبارة أو جملة وما يتلوها، فقرة ثم أخرى، وهكذا بتركيب اللغة يُنتِج الكاتبُ موسيقاه الصامتة على السطور، فيُسرِع الإيقاعُ حينًا أو يتباطأ، يتحوَّل صوتُ الراوي إلى الهمس أو الصراخ أو النشوة الضاحكة غير المبالية أو جفافِ وحيادِ التقارير الحكومية؛ لذلك يقال إن لكل كاتب صوته الخاص، وربما لكل كتاب أيضًا طموحه الصوتي الخاص، وآلاته الموسيقية التي يستعين بها في توزيع «ثيمته» أو لحنه الأساسي.
حتى مع رواياتٍ قرأتها ونسيتَ تفاصيلَ أحداثها إلى حدٍّ كبير، إذا كانت مكتوبة جيدًا؛ أيْ إذا كانت مكتوبةً بإحساسٍ موسيقيٍّ ما، فسوف يتبقى بداخلك ذلك النغم الخفي الذي عشتَه خلال قراءتك؛ أصوات الكلمات وتركيب الجُمَل وبِنْية الفقرات والفصول، وكيف ينتقل بك الكاتبُ من جزئيةٍ إلى أخرى، ومن حالةٍ إلى ما يليها. ينتج كلُّ كاتب هذا الإيقاعَ، سواء أكان على وعيٍ به أم لا، وكلَّما درَّبَ أُذُنَه موسيقيًّا، وكلما أنصَتَ — بينما يعيش ويقرأ كتابات الآخَرين — إلى تلك الإيقاعات الواضحة والخفية، استطاع أن يعزف حكايته منتبهًا لطبيعة اللحن الخاص بها وضروراته، وواعيًا بخصوصية المادة التي يشتغل عليها؛ أيِ اللغة كأصواتٍ قبل أن تكون معانيَ مجرَّدةً.
ادرس موسيقى اللغة
من الصعب أن تجد كاتبًا ليس شغوفًا بالموسيقى، والأمثلة على هذا الشغف سنجدها عند كبار الكتَّاب أينما وَلَّينا وجوهنا، بدايةً من حرص نجيب محفوظ على دراسة الموسيقى العربية وتعلُّم العزف على آلة القانون، وليس انتهاءً بقدرة التشيكي ميلان كونديرا على دراسة تاريخ الرواية في الغرب مرتبطًا بتاريخ وتطوُّر الموسيقى الكلاسيكية، وقد صرَّح الكولومبي الشهير ماركيز في إحدى الروايات بطموحه إلى أن يكتبها وكأنها قطعة من موسيقى «البوليرو».
تظل الموسيقى لغةً عالميةً قادرةً على تجاوُز الحواجز والثقافات أكثر من أي فنٍّ آخَر، وليس معنى شغف الكاتب بها هو ترجمتها إلى السطور؛ فهذه مهمة عبثية ومستحيلة، ولم يكن هذا مقصد ماركيز أو غيره ممَّن استلهموا أعمالًا أدبية عن الموسيقى، بقدر ما هي محاوَلة للوصول إلى درجةٍ من انسجام البنية، وتناغُم الأصوات المختلفة، واستعارة الإيقاع المضبوط لحكاياتهم. وتظل مادة الكاتب هي اللغة، بكل ما تشتمل عليه هذه الكلمة الصغيرة من متاهات وألغاز؛ لذلك لا غنى عن دراسة موسيقاها الخاصة؛ صوت كل كلمة على حدة، ثم علاقتها ببقية الكلمات. استقامةُ الجملة نحوًا وصرفًا شيءٌ أساسي، لكنه مجرد خطوة أولى نحو إنتاج النغم. طولُ الجملة، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، وطريقةُ النسج والتوليف والتصعيد، كلُّها أمورٌ يمكننا أن نتعلَّمَها من الموسيقى بأنواعها المختلفة، ولكن سيكون لها معانٍ أخرى عند تطبيقها مع الكتابة على السطور.
إذا بَدَا كلُّ هذا الكلام غامضًا بعض الشيء، وغيرَ عملي، يمكنك أن تجرِّب القراءةَ لكاتبٍ تعجبك أعمالُه، أعِدْ قراءةَ نصٍّ تحبه له، وأنصِتْ لما نسمِّيه هنا بالإيقاع؛ العلاقات بين المفردات والجمل، وانتقالاته، أنصِتْ لكل جملة جيدًا، ثم اسمَعْ فقرةً كاملةً في داخلك وتتبَّعْ صداها، هل كان يجري بك لاهثًا، أم يتمشى بك بطيئًا متمهِّلًا، أم يرقص في موضعه بلا هدف غير المتعة؟ هل كان يستخدم مفرداتٍ غليظةَ الحروف والأصوات، أم اختار كلماتٍ هامسةً كالفحيح الناعم؟ هل كانت جُمَلُهُ قصيرةً خاطفةً كأنها طعنات سريعة، أم طويلةً وملتفةً حول نفسها مثل طرق ضيقة ووعرة؟ من هنا يمكنك أن تتَّخِذ خطوةً أوليةً بسيطةً في فهم الموسيقى الخاصة باللغة وإيقاع السرد، وربما تكون الخطوة الثانية هي أن تحاول محاكاةَ أكثر من إيقاع مختلف لتشعر به بين يدَيْك وعلى السطور، وتذكَّرْ دائمًا أنه لا يوجد إيقاع مثالي وصالح لكل الكتابات والنصوص والحكايات، وإلَّا لما استمَعَ البشرُ طولَ تاريخهم إلا إلى لحنٍ واحد يتيم.
اسمع واكتب
على سبيل التمرين، ولمزيد من الإحساس بمعنى الإيقاع، يمكنك أن تجرِّب أحيانًا الكتابةَ بالاستلهام المباشِر للموسيقى؛ أَدِرْ أسطوانةَ تلك الأغنية أو القطعة الموسيقية التي تحبها من زمن، ابتعِدْ عن كل ما يشتِّت انتباهك وأنصِتْ بانتباه، وتتبَّعْ ما تولَّدَ بداخلك من أحاسيس ومشاعر، انتبِهْ للإيقاعات والنغمات، وانسَ الكلمات تمامًا؛ ركِّزْ على المزاج العام الذي تحمله لك الموسيقى، وكُنْ حرًّا ومبتكِرًا في تأويلك له، ثم انطلِقْ في كتابةٍ حرةٍ بينما تستمع للموسيقى ذاتها، ولاحِظْ أنك لا تترجمها إلى كلمات، بل تكتب انطلاقًا بما توحي به لك، استمِدَّ سرعةَ أو بطءَ حركةِ يدك على السطور من إيقاعاتها، كأنك واحد ممَّنْ يعزفون هذه الموسيقى، ولكن بآلةٍ موسيقيةٍ مختلفة، هي لوحة المفاتيح أو القلم والورقة، وبصوت مختلف، هو الكلمات والصور والمعاني. كرِّرْ هذا التمرين مع أنواع مختلفة من الموسيقى، ربما يكشف لك أسرارًا عن نصوص سابقة لك قد كتبْتَها على أنغامٍ بعينها، وربما ستعرف فيما بعدُ كيف تختار الموسيقى الملائمة لطبيعة نصِّكَ أو حكايتك، أو ربما تفضِّل فيما بعدُ السكونَ التام عند ممارسة الكتابة حتى تستكشف نوعَ الموسيقى الذي سوف ينبعث من داخلك، ويتخلَّل السطور والصفحات.