اهزِمْ ذلك الحاجز
رُعْب البياض
ينقسم الكتَّاب فريقين حول ذلك النوع الخاص بهم من الرُّهاب؛ فريق منهم يعتبره مجرد خرافة، وأنه لم يعرفه ولم يجرِّبه، فما إنْ يجلس أمام مشاريع الكتابة حتى تتدفَّق الكلماتُ والأفكار ببساطة، ويصرُّون على رأيهم هذا، مشجِّعين الآخرين على إنكار وجود هذا العفريت من الأساس. أما الفريق الآخَر، وهو الغالبية المسكينة، فيُقِرُّ بوجود شبح العجز عن الكتابة ويعمل له ألف حساب، ويحصِّن نفسه ضده بكل طريقة ممكنة، وفيما يلي نستعرض بعض تلك الطرق والوسائل التي تمكِّننا من القفز فوق ذلك الحاجز البغيض.
أي نوعٍ من الانسداد؟
لا بدَّ في البداية أن تحدِّد نوع الانسداد أو «البلوك» الذي تعانيه مع الكتابة، حتى تستطيع أن تعالجه بما يناسبه من حِيَلٍ ووسائل؛ مثلًا: هل هو مؤقت وعابر، يزورك بين الحين والآخر — وهو أمر طبيعي تمامًا ولا يسلم منه فنان مهما بلغ من مستوى الحرفية — أم أنه دائم ومقيم، واستمر لفترة أطول من اللازم؟ وهنا يتوجب عليك التحرك. هل له علاقة بأمور شخصية في حياتك، تستهلك طاقتك الروحية والإبداعية ولا تستطيع الفرار منها، وهكذا يكون عليك معالجة شئون حياتك أولًا، قبل أن تستطيع الجلوس للعمل؛ أم أنه مشكلة مستقلة عن هموم حياتك التي تجري كالمعتاد؟ كل تلك الأسئلة والتحديدات وغيرها سوف تتيح لك أفضل تعرُّف ممكن على الطبيعة الخاصة لحالتك تلك؛ وبالتالي أفضل معالجة لها.
في البداية أم في المنتصف؟
إنْ لم يكن تحت يديك مشروعُ كتابةٍ محدَّد، فهي حالة أخرى. أنت هنا بحاجة للبحث عن أفكار ومُحفِّزات على العمل، ولستَ بحاجة لوسائل تُعِينك على تجاوُز انسداد الكتابة. يمكنك الرجوع إلى المقالات القليلة الأولى في هذا الكتاب؛ حيث جمعنا فيها بعضَ وسائلِ فتحِ آفاق الكتابة واستلهام الأفكار. استكشِفْ أدوات البحث المبدئية، من أجل تفجير الإمكانيات واكتشاف طاقاتٍ وعوالمَ وحكاياتٍ مختبئةٍ بداخلك، عن طريق ألعاب مثل التداعي اللفظي، أو الكتابة الحرة، أو رسم العناقيد حول كلمة أو فكرة مركزية، ثم الكتابة المتشعبة أو الكتابة على كتابة سابقة، إلى آخِر «عدة الشغل» التي تستخدمها عند بحثك عن مشروع جديد للعمل عليه، وتبقى القراءة هي الأداة الأمثل في ذلك المسعى؛ القراءة عمومًا، في كل شيء وكل مجال، مهما بَدَا بعيدًا عن النوع الذي تكتب فيه.
أما الحالة الثانية، وهي ما سنحاول هزيمتها معًا هنا، فهي تلك التي تصيب الكاتب في أثناء عمله على مشروع محدد، وخصوصًا إذا كان طويلًا نسبيًّا؛ حيث يشعر فجأةً أنه قد وصل إلى حائط سد، وأنه لا منفذ يراه أمامه يستطيع المرور منه لاستكمال رحلة النص حتى آخِره. فيما يلي بعض النصائح والإرشادات المُستَلْهَمة من كتَّاب وتجارب مختلفة، يمكن أن نجد من بينها ما يُعِيننا على رُعب الصفحة البيضاء.
خمس مهارات لقفز الحواجز
-
(١)
تكلَّمْ مع شخصياتك، افتح حوارًا معها في ذهنك مُتَخيَّلًا، أو على الورق مكتوبًا؛ فلعلها تُسِرُّ إليك بسبب نَأْيِها وابتعادها عنك، وتوحي لك بمفتاح استمالتها واستدعائها إلى عالَم النص من جديد.
-
(٢)
ارسم في حرية تامة خرائطَ عقليةً على صفحة كبيرة، انطلق بدوائرك وأَسْهُمك من نقطة إلى أخرى، تفرَّعْ والعبْ واستكشِفْ علاقاتٍ جديدةً. اكتب الكلماتِ المفتاحية أو المشاهدَ الأساسية وكلَّ ما تشعر أنه مركزي في عملك، وتبيَّنْ إلى أي الاتجاهات يمكن أن تؤدِّي تلك المرتكزات.
-
(٣)
ابدأ من موضعٍ آخَر، فحينما تشعر بأنك محاصَر في ركنٍ ما، فليس من الحكمة أن تعانِد وتُصِرَّ على الاستمرار في السير باتجاهٍ بعينه مهما بَدَا ميئوسًا منه، انتقِلْ إلى نقطة أخرى، اقفز بالأحداث للأمام قليلًا أو ارجع بها للوراء؛ فأنت الآن لا تكتب النص النهائي الذي سيُعرَض على القرَّاء بقدر ما تقوم بإحْماء موتور الكتابة، وتستكشف المحاور التي يمكنها دَفْعك إلى العمل بحماس. كُنْ حرًّا تمامًا في اختيار أي نقطة من النص تشعر أنك ترغب في كتابتها، بصرف النظر عن الترتيب أو البنية أو أي شيء.
-
(٤)
غيِّرْ أحد عناصر الخلطة السردية؛ فقد يكون سببَ العقبة التي تواجهك عدم التوفيق في اختيار عنصرٍ ما، وعليك أن تراجع نفسك بشأنه حتى تستطيع المواصلة؛ عندئذٍ حاوِلْ تحديدَ أي تلك الجوانب هو سبب الأزمة. ربما تجد أن عليك تغيير الراوي؛ فإن الصوت الذي يحكي الحكاية قد يكون عائقًا لك إنْ لم تنسجم معه بدرجة كبيرة، وهو ما يصدق على جميع العناصر تقريبًا؛ وجهة النظر، وزمن ومكان الأحداث، بل ربما يتعيَّن عليك مراجعة الشخصيات الرئيسية حتى؛ فربما تكون شخصية ثانوية أو غير موجودة بعدُ في حكايتك هي الأقدر على تغذية خيالك وتفجير طاقة الكتابة بداخلك. لا ننصح هنا أبدًا بإعادة كتابة النص من أوله، وخصوصًا إذا كنتَ قد قطعتَ فيه شوطًا بعيدًا، بل ما عليك إلَّا أن تجرِّب لبعض الوقت هذا التغيير الجديد، لسطور معدودة أو فقرات أو صفحات، ثم تأمَّلِ النتيجة واحكم بعدها ما إذا كنتَ سوف تستمر في الاتجاه السابق، أم يحسن بك أن تستجيب إلى التجديد الذي اخترتَه.
-
(٥)
اقتل الناقد الجاثم على كتفَيْك: كثيرًا للغاية ينبع العجزُ عن الاستمرار في الكتابة من عدم رضانا عمَّا كتبناه، ذلك الصوت السخيف المزعج الذي يوسوس لنا باستمرار، مستهينًا أو ساخرًا أو مشكِّكًا، وعندئذٍ لن يُجدِيَك أيُّ شيء إلَّا القضاء على ذلك الصوت تمامًا، ولَيَّ عُنقِه لصالحك، والسخرية منه ودحض براهينه، وما هي إلا مسألة وقت وممارسة حتى تُفاجَأ بخرس ذلك الببغاء البَشِع أمام حركة يدك على لوحة المفاتيح أو صفحاتك البيضاء. قد تبدو هزيمته مستحيلةً لبعض الوقت، لكنه ينكمش ويتضاءل ويختفي أمام إصرارك على العمل دون إصدار أية أحكام في الوقت الحالي، فللمراجعة والتحرير وقتٌ سيأتي فيما بعدُ، ولكن ماذا يمكنك أن تراجع وتصحِّح إنْ لم تضع شيئًا على الورق من الأساس.