إلى ما لا نهاية
شكلٌ من الرقص
لكي تؤدِّي عملك عليك أن تمشي؛ المشي هو ما يُوجِد لك الكلمات، وهو ما يتيح لك سماعَ إيقاعات الكلمات بينما تكتبها في ذهنك […] تجلس إلى مكتبك كي تدوِّن الكلمات، ولكن في ذهنك أنت لا تزال تمشي، دائمًا تمشي، وما تسمعه هو إيقاع قلبك، خفقان قلبك. يقول ماندلستام: «أتساءلُ عن عدد الصنادل التي انتعلها دانتي وبَلِيت بينما كان يكتب الكوميديا الإلهية.» الكتابة شكلٌ من أشكال الرقص …
وسواءٌ فضَّلْتَ تشبيه الكتابة بالرقص أم بالسير، فالاثنان حركة، حركة إيقاعية منتظمة بالخطوات والإحساس الداخلي بالمسافة والهدف، أو حركة جمالية غير هادفة إلا لإنعاش الجسد والحواس منسجمة مع موسيقى خارجية مسموعة؛ المهم في ذلك أن تقطع الطريق حتى نهايته، ألَّا تتوقف في منتصف رحلتك لأي سببٍ، ألَّا تفكِّر في الاستسلام قبل الوصول لهدفك؛ ولهذا فإن مواصلة السير واستمرار الحركة هما الإجابة الأهم على كثيرٍ من أسئلة الكتابة، وخصوصًا سؤال انسداد الكتابة واختفاء الكلمات والأفكار، الذي بدأنا حديثنا عنه في الفصل السابق. نتابع هنا اقتراح المزيد من المهارات التي تساعد الكتَّاب على اجتياز عقباتهم الخانقة، طالَتْ أم قصرَتْ.
عشر أدوات لكسر الجمود
-
(١)
تمرَّنْ: لا تقتصر فوائدُ تمارين الكتابة فقط على مساعدة المبتدئين في صقل مهاراتهم وامتلاك التقنية، بل يمكنها أيضًا أن تكون أداةً ناجعةً في التغلُّب على انحباس صوت الكاتب المحترف. يمكننا الاستعانة بعمل تمارين كتابة في أوقات الانسداد، قد نستعين بتمارين قديمة ومجرَّبة من قبلُ، وقد نبتكر تمارينَنا الخاصة التي تخاطب مكمنَ الداء الذي يهدِّدنا. ينصح البعض هنا بأداء تمارين كتابة بعيدة نسبيًّا عن شكل المشروع الذي نعمل عليه، ثم الاقتراب منه تدريجيًّا بنفس آلية التمارين، ومثال على ذلك كتابة مونولوج من عشرة سطور على لسان شخصية في روايةٍ تحبها، أو حوار بين اثنين تعرفهما، ثم تكرِّر تلك التمارين في المادة التي تعمل عليها. لا يُشترَط بالطبع الاستعانة بنتاج تلك التمارين في نصِّك؛ لأن الهدف هنا هو كسر حاجز الصمت، إلَّا إذا أسفرَتِ التمارينُ عن نتائج مغرية، وهو ما يحدث كثيرًا.
-
(٢)
حدِّدْ هدفًا: لا يطيقُ بعضُ الكتَّاب التفكيرَ في أنفسهم باعتبارهم موظفين لدى الكتابة، وربما يكونون مُحِقِّين في ذلك، غير أن خبرات كثير من كبار الكتَّاب تؤكِّد أن وجود الكاتب أمام عمله في موعد ثابت ومكان محدَّد بصفة يومية، من الأشياء التي تكفل له الاستمرارَ والتقدُّمَ في مشروعه بوتيرة منتظمة، وتُبعِد شبحَ الانسداد إلى أقصى حد ممكن. انسَ الآن صورةَ القيود الوظيفية ومفاهيم الروتين الكئيب، وفكِّرْ في موعد غرامي منتظم، تحدِّدُه بنفسك مع كتابتك، وجرِّبْ أن تضع جدولًا زمنيًّا لعملك وأن تلتزم به، حتى على الرغم من انسداد الكتابة أو بالأحرى من أجل ذلك تحديدًا. بعض الكتَّاب يحدِّدون وقتًا يوميًّا ثابتًا، أو مستهدفًا بعدد الكلمات أو الصفحات، ولو كانت صفحة واحدة يومية. إن تعامُلَك مع الكتابة بوصفها نشاطًا يوميًّا، وليس حالة إبداعية غيبية قد تجيء أو لا تجيء؛ من شأنه أن يدرِّب ذهنك على الاستعداد الدائم، وحل المشكلات، وتجاوُز العقبات. ضَعْ موعدًا نهائيًّا لإنجاز مشروعك؛ موعدًا معقولًا لا يُعجِزك تحقيقه، واطلب من شخصٍ مقرَّب لك أن يتابع وتيرةَ تقدُّمِك في عملك من حينٍ لآخَر، يُفضَّل لو كان كاتبًا لا يعاني انسدادًا في الكتابة هو الآخَر.
-
(٣)
استأنِفِ البحثَ: لعلَّك تسرَّعْتَ في الدخول إلى مرحلة الكتابة دون أن تعطي وقتًا كافيًا لمرحلة البحث والقراءة والاستعداد، خاصةً إذا كان مشروعُك بحاجةٍ حقيقية إلى تلك العمليات التحضيرية؛ عندئذٍ يتوجَّب عليك أن ترجع بضع خطواتٍ إلى الوراء، وتستعيد رحلةَ البحث حول موضوع روايتك، أو زمانها، أو أماكنها، أو أن تطرح الأسئلةَ المناسِبة على الأشخاص المناسبين، أو أن تعيد رسمَ خطةِ العمل ككلٍّ وتفكِّر في بدائل أخرى للحبكة ومسار الأحداث. لا تَعُدْ إلى الكتابة إلَّا وقد عرفتَ ماذا تريد أن تفعل، ولا تتسرَّعْ هذه المرة أيضًا.
-
(٤)
ابتعِدْ: قد لا تتوقَّع هذه النصيحة، ولكنها كثيرًا ما تكون في غاية الفعالية؛ اهجُرِ الكتابةَ لبعض الوقت، ليس لفترة طويلة بالتأكيد. انهمِكْ في نشاطٍ آخَر؛ نشاط عقلي أو بدني. إنها إجازة قصيرة؛ قد تكفي هنا جولةُ سيرٍ على القدمين — كما نصح بول أوستر — أو القراءةُ لكُتَّابِك المفضَّلينَ، أو ممارسةُ رياضةٍ بدنية أو روحية، أو الخروجُ لمشاهدة السينما وتناوُل الطعام بالخارج ولقاء الأصدقاء. كلُّ تلك اقتراحاتٌ؛ لذا اكتشِفْ مفاتيحَكَ الخاصة، فهناك مَن يفضِّل فنجان قهوة مضبوط على رحلة سفاري لأيام.
-
(٥)
جدِّدْ: راجِعْ طقوسَك في الكتابة، وكلَّ ما يحيط بها من عادات وظروف وبيئة واختيار للوقت؛ فقد تكمن المشكلة هناك، قد تكون بحاجة إلى مزيدٍ من الهدوء، أو الصخب، قد تكون كاتبًا نهاريًّا لكنك تصرُّ على الكتابة ليلًا، وقد يكون السبب ببساطة إهمالك لتغذيتك أو صحتك النفسية. تَفَقَّدْ كلَّ تلك العوامل بداخلك ومِن حولك؛ فقد تعثر على مربط الفرس، وعندئذٍ يتوجَّب التغيير والتجديد.
-
(٦)
انتقِلْ: كثيرًا ما نعمل على المشروع غير المناسب لنا، ونظن عندها أنها أزمةُ انسدادِ كتابةٍ عاديةٌ، ولكن الأزمة تكمن في طبيعة النص نفسه وعدم مواءمته لميولنا وطموحاتنا. لا بدَّ أن تسأل نفسك: هل ترغب حقًّا في كتابة هذا النص؟ هل يستحوذ على كيانك، ويشعل نيرانَ خيالك، ويحفِّزك بما يكفي لأن تتغلَّبَ على كل العراقيل؟ إذا تأكَّدْتَ من ذلك فواصِلِ العملَ عليه، وإلَّا فلا تهدِرْ مزيدًا من الوقت، وانتقِلْ إلى الكتاب الحقيقي الذي يَسْكُنكَ وينتظر لحظةَ مولده ليعيش حياته.
-
(٧)
حاصِرْ مخاوِفَكَ: أحيانًا تكون العقبة هي الخوف الداخلي من الكتابة ذاتها، أو من إنهاء المشروع وعدم نجاحه، عندئذٍ نحوِّل تلك المخاوف دون وعيٍ إلى عجزٍ عن الكتابة. قررْ أن تُكمِل نصَّكَ بصرف النظر عن مخاوفك تلك، حاصِرْها واهزِمْها، اكتُبْ عنها أو تحدَّثْ عنها مع شخصٍ مقرَّب، ادحَضْها واسخَرْ منها، وكثيرًا ما يكون مجرد فعل الكتابة كافيًا لهزيمتها.
-
(٨)
اعملْ على أكثر من مشروع: ينصح بعضُ الكتَّاب بالعمل على أكثر من مشروع في الفترة ذاتها، والانتقال بينها عند الشعور بانسداد الكتابة في واحدٍ منها، ويؤكِّدون أنهم عند الرجوع إلى المشروع السابق غالبًا ما تكون الأزمةُ قد انحلت تلقائيًّا. إذا أخذتَ بهذه النصيحة فَلْتكن حَذِرًا؛ لأنها بحاجة إلى درجة عالية من التركيز والاحتراف، فقد ينتهي بك الحال للطيران الخاطف بين عشرات المخطوطات التي لن تكتمل أبدًا. ويُفضَّل غالبًا أن تكون مشاريعُ الكتابة ذات طبيعة مختلفة؛ فبعضها سردي وبعضها بحثي، بعضها مشاريع طويلة وأخرى قصيرة، وهكذا.
-
(٩)
عُدْ للجذور: إذا أعيَتْكَ كلُّ تلك الحِيَل والوسائل، ووجدتَ نفسك ما زلتَ عاجزًا عن التقدُّم في نصِّكَ، فربما تكون بحاجةٍ لطرح الأسئلة الأساسية، ومراجعة أهدافك من الكتابة عمومًا، ومن العمل على هذا المشروع خصوصًا. اسأل نفسَكَ لماذا تكتب؟ لماذا بدأتَ هذا المشروعَ؟ ما هي شرارة الحماسة التي اشتعلت بداخلك في لحظةٍ ودفعَتْكَ للجلوس والكتابة؟ هل ما زلتَ محتفِظًا بحماستك نحو ما تكتبه؟ وإذا فقدتَه فكيف يمكنك استعادته؟ تخيَّلْ كتابَكَ أو نصَّكَ مكتمِلًا، وتخيَّلْ قارئًا مستغرِقًا في عالَمِه. احرِصْ على أن تعود للكتابة في حالةٍ من البهجة والتفاؤل والحماسة؛ والمفاجأةُ أن الكتابة ذاتها كثيرًا ما تكون سبيلَك إلى تلك الحالة.
-
(١٠)
ابتكِر: الوسائلُ السابقة ليسَتْ قوانينَ، إنها اقتراحاتٌ مبنية على تجارب آخَرين، وقد لا يجدي بعضٌ منها معك؛ لذا عليك دائمًا الاعتماد على خبراتك الخاصة، فأنت أعرف الناس بمزاجك وظروفك ومفاتيحك الداخلية، ويمكنك مع الوقت والممارسة أن تضع قائمتَكَ الخاصة بوسائل هزيمة ذلك الشبح المخيف. كما أنك ستكتشف صندوقَ أدواتك وتقنياتك خلال رحلتك مع الكتابة؛ المهم أن تواصِلَ، بلا يأسٍ أو تردُّدٍ، إلى ما لا نهاية.