سر البئر المسحور!
عمَّت الجلبةُ أركانَ المقر … فالبحث عن «أحمد» لم يُسفر عن شيء … أين كان إذن مسئولو الأمن … وأين كانت أجهزة المراقبة الإلكترونية … وأين كان الساهرون على رعايته؟
قطع «بيتر» كلَّ ذلك قائلًا: المهم الآن هو أين «أحمد»؟
إلهام: المكان الوحيد الذي يمكننا التفكير فيه هو القلعة!
عثمان: نعم … أوافق … «إلهام» على ذلك … وسأذهب إلى هناك لأرى ما يمكن عمله.
فهد: وأنا أيضًا!
إلهام: إذن علينا أن نتحرك في سيارات مستقلة … لنستطيع مسحَ المكان هناك بسرعة وسهولة.
قيس: هل خرج «أحمد» بسيارته؟
عثمان: لا أعرف ولكن عامل الجراج سيُخبرنا.
وبسؤال عامل الجراج … عرف الشياطين أن سيارة «أحمد» موجودةٌ بالجراج … أما السيارة غير الموجودة … فهي البراق.
عمَّت الدهشةُ وجوهَ الشياطين … وتساءلوا عن السبب الذي دعاه للخروج بسيارة بها هذه الإمكانيات، واستبعدوا أن تستطيعَ سياراتهم اللحاق بها … وتوقعوا فشلَ مهمتهم … إلا أن قيادة المقر … جهَّزَت لهم ثلاثَ سيارات، لا تقل كثيرًا في قدراتها عن البراق.
وفي تمام السادسة صباحًا، انفتح بابُ المقر السري الصغير بالهرم، لتخرج منه أولى السيارات الثلاث … وبها «إلهام» تربط حزامَ الأمان … وعينٌ من عينَيها على تابلوه السيارة تُراجع أجهزتَها … والأخرى على الطريق … تُفسح لنفسها فراغًا تنطلق فيه. فهذه السيارة تَصِل سرعتُها إلى مائتَي كيلومتر في عشرين ثانية … وقد كانت أول طلعة تخرج من المقر … أعقبها «عثمان» ثم «فهد»، وقد كان شارع «الهرم» خاليًا تقريبًا من السيارات؛ فاليوم كان الجمعة … مما أعطى الفرصةَ لهم ليتركوا السيارة على حريتها … فقطعت شارع «الهرم» في دقائق قليلة للغاية … ومنه إلى كوبري الجيزة … ودقائق قليلة أخرى، وكان ثلاثتُهم يحومون حول القلعة … ولا أثرَ ﻟ «أحمد» أو البراق.
غير أن «عثمان» تركهم فجأةً وانطلق في اتجاه «باب النصر»، وغاب لدقائق ثم عاد ولكن لم يكن وحده … فقد عاد مع «أحمد».
وقد كان في أحسن حالاته … تبدو في عينَيه اليقظة … وفي ملامحه القوة والإصرار والثقة، وقد ابتسم مليًّا حين رأى «إلهام» تنظر له في سعادة نظرة غير المصدقة … فحيَّاها و«فهد» تحية الصباح وسألها قائلًا: أكنت سيئًا بالأمس؟
إلهام: لا … ولكن كنت ضعيفًا بدرجة مخيفة.
أحمد: واليوم أنا قويٌّ بدرجة مخيفة أيضًا.
شعر الثلاثة بسعادة غامرة لمَا سمعوه من «أحمد»؛ فقوتُه تعني قوتَهم … وسألَته «إلهام» عن سبب خروجِه دون علمِ أحدٍ وفي هذه الساعة المبكرة … وبهذه السيارات بالذات؟
فقال لها: إن الشعور بالضعف مخيف، وقد نال مني كثرة التفكير وقلة النوم.
فهد: فأردت اليوم أن تُثبت لنفسك أنك عُدتَ كما كنت قويًّا.
أحمد: لا، بل أكثر قوة … لذلك خرجت بالبراق …
إلهام: إن لدينا اليوم اجتماعًا مع الزعيم رقم «صفر».
أحمد: وأنا جاهز … ولكن ألَا ترَين هذا الجزء من سور الفسطاط؟
إلهام: نعم … ماذا به؟
أحمد: ألا ترَين أنه يغوص في الأرض حتى كاد أن يختفيَ؟
عثمان: إن الأرضَ هي التي ارتفعَت حوله بفعل التراكمات.
أحمد: أو هو الذي غاص … غَرِق في أرض من الطفلة التي تشبعَت بالماء فأصبحَت كالشحم.
فهد: ماذا تقصد؟
أحمد: إن هذه القلعة الشامخة … التي تستظلون الآن بظلِّها … وتبدون كالأقزام بجوارها … سيحدث لها نفسَ الشيء؛ فالطفلة المتصخرة التي تقف عليها ستشبع بالماء … وتتحول إلى ما يُشبه الزبد … الذي سيبتلع القلعة شيئًا فشيئًا، وقتَها سيرى القزمُ نفسَه بجانبها عملاقًا … وقتَها سنصغر كلنا … لأننا لم نستطع أن نحميَها من الانهيار … من الغرق …
فهد: ومَن الذي تنبَّأ بذلك؟
أحمد: إنها ليست نبوءة … إنها حقيقة … إنها خطة قذرة …
إلهام: وكيف سيحدث ذلك؟
أحمد: ليتني أعرف … ما كنتُ قضيتُ أيامي بلا نوم … فأنتم تعرفون أننا لو عرفنا كيف … لعرفنا كيف نُواجه … وكيف نقهر … وكيف تكون الغلبة لنا …
عثمان: إن الموضوع أكبر من أن نناقشه هنا.
أحمد: بل لا يمكن مناقشته إلا هنا … فأنا أشعر أني لو ابتعدتُ عنها لدقائق … فسيحدث ما أخاف منه، وتغوص الأسوار وتنهار القلعة.
إلهام: لا يا «أحمد»، لقد وصلتَ بمخاوفك إلى اللامعقول … فهذه الأمور الخطيرة والمعقدة لا يمكن مناقشتها إلا في مركز المعلومات … لأنهم جنودنا المخلصون.
وبصعوبة بالغة … رضخ لرغبتهم واستقل براقَه … وانطلق قبلهم … في طريقهم إلى المقر. وفي طريق «صلاح سالم» … رأوا ما لم يستطيعوا أن يفسروه … فقد زادَت سرعةُ البراق جدًّا واختفَت في ثوانٍ عن عيونهم … ثم عادَت لتظهر في الاتجاه المقابل …
ومن أجهزة الاتصال الخاصة بهم … صدر لهم أمرٌ من «أحمد» للحاق به … فالسائح الهارب في طريقه إلى القلعة …
ولم يجد الشياطين طريقًا للعودة غير الانحراف إلى منطقة «الدرَّاسة» ثم الالتفاف حولها … والعودة إلى الطريق المقابل … والذي انطلقَت عليه البراق منذ قليل.
وبجوار القلعة كانت البراق تقف وحدَها بدون «أحمد»، فتركوا بجوارها سياراتهم، وقاموا بالاتصال به … فعرفوا أنه بجوار بئر «يوسف» وهو البئر الذي كان يمدُّ القلعة بالماء … وعمقه مائة متر … فأسرعوا الخطَى ليلحقوا به فلم يجدوه … وعرفوا من حارس البئر أنه نزله من دقائق، فسأله «عثمان» قائلًا: أمسموح نزول هذا البئر؟
الحارس: نعم.
فهد: وهل هو مُعدٌّ لذلك.
الحارس: نعم.
عثمان: إذن سِر أمامنا لتدلَّنا على المدخل فقط واترك لنا الباقي.
وبالفعل سار الحارس أمام الشياطين، حتى مدخل البئر، فقابلَتهم مصطبةٌ عالية، فقفزوا منها على أول الطريق لنزول البئر … فرأوا سلالم قد نُحتَت في الصخر … والظلام يملأ المكان … حتى إنهم لا يرون أصابع أيديهم … فعلَّق «عثمان» قائلًا للحارس: ألم تُبلغني أنه مُضاء؟
الحارس: نعم، ولكني لا أعرف ماذا حدث.
فهد: أتقصد أنه عطلٌ مقصود؟
الحارس: الله أعلم.
وكان «عثمان» في مقدمتهم، فأخرج من جيبه كشافًا أضاء به الدرجات، وسارَت «إلهام» و«فهد» من خلفها على هديها.
وكان نزول الدرجات شاقًّا للغاية، إلا أنه لم يمنعهم من المضيِّ في النزول وراء «أحمد» ورغبة منهم في لفت نظر «أحمد» بأنهم موجودون، تحدَّث «عثمان» وكأنه مرشدٌ سياحي يشرح لوفد برفقته ما يرونه … أملًا أن يردَّ «أحمد» بإشارة ما، إلا أن المحاولة وتكرارها لم يُسفر عن شيء … وبعد خمسين مترًا، انتقلوا إلى مصطبة أخرى، أفضَت بهم إلى بقية الدرجات التي تؤدي إلى قاع البئر … وحتى الآن لم يصدر صوتٌ من البئر يُنبئ عن وجودِ أحدٍ به … فأين ذهب «أحمد» إذن؟ وأين ذلك السائح …
وخطر لهم أن معركةً قامَت بينهما، وكانت نتيجتها السقوط في قاع البئر المغمور بالماء.
فقال «عثمان»: إن معركة كهذه كانت ستُصدر صوتًا … يلفت أنظار رجال الأمن … والحارس …
فهد: وهل سيخرج صوتٌ من هذا البئر؟
إلهام: نعم؛ إنه كالبوق … وأقل صوت فيه يتردَّد بين جنباته، ويسمعه الواقف.
عثمان: هذا إذا كان منتبهًا … وغير مشغول بمسامرة زملائه … كما رأيناه.
فهد: عندك حقٌّ … والقلق بدأ ينتابني، فالباقي على قاع البئر قليل … ولم يظهر أحدٌ منهما حتى الآن.
وفي هذه اللحظة سَمِعوا صوتًا يأتي من فوقهما يقول: ولن يأتيَ أحد.
فالتفتَ الثلاثة إلى مصدر الصوت، فلم يرَوا شيئًا؛ فقد كان الظلام دامسًا، فرفع «عثمان» البطارية لأعلى، ليرى مَن يحادثهم … فدوَّى صوتُ رصاصة وتحطَّم الكشاف في يده.
فعرفوا أنهم يتحركون تحت تهديد السلاح … إلا أنهم رأوا بادرةَ أملٍ في هذا الظلام الدامس … سيُعطيهم فرصةً للتعامل مع مهاجمهم … وإخراج أسلحتهم … غير أنَّ ظلام البئر تبدَّد فجأة … فقطع عليهم طريقَ النجاة … وعلَا صراخُ الرجل يقول: أين الفتاة التي كانت معكم؟
فرفع «عثمان» عينَيه ليراه، فوجده الحارس الذي صرخ فيه قائلًا: اخفض رأسك وإلا امتلأْتَ ثقوبًا، وأجبني أين الفتاة؟
فنظر إلى «فهد» في اندهاشٍ وقلق، وقال له: تُرى أين تكون «إلهام»؟
فهد: لا أعرف … وهل سنترك صراخ هذا الرجل يشغلنا عن البحث عنها … أتكون قد سقطَت في الماء؟
عثمان: سأنزل للبحث عنها.
فهد: تعامل أنت مع هذا الرجل، وسأنزل أنا للبحث عنها.
فصاح الحارس فيه قائلًا: أنزلت أنت … وليس لك شأنٌ بي … وأنصحك ألَّا تعودَ بدونها.
فأكمل «فهد» ما تبقَّى من الدرجات … فغاصَت قدماه في الماء … فقد كانت درجات البئر، تغمرها المياه … وشيئًا فشيئًا … وجد نفسَه وقد غمرَته المياه ولم يتبقَّ منه إلا رأسه، غير أن الدرجات لم تنتهِ بعدُ … فأراد أن يعرفَ إلى أين تؤدي هذه الدرجات، فأخذ نفَسًا عميقًا، وأكمل طريقَه في النزول، حتى لم يَعُد يتبقَّى منه شيء ظاهر فوق سطح الماء … ومرَّت الدقائق وهو على هذا الحال، مما أثار أعصاب الحارس … الذي صرخ في «عثمان» قائلًا: أين زميلك؟
فصاح فيه «عثمان» قائلًا في غضب: أتتسبَّب في غرقه ثم تسألني أين ذهب؟!
الحارس: إن لم يخرج حالًا … سأُمطر قاعَ البئر بوابلٍ من الرصاص.
عثمان: لا أظنك ستفعل ذلك؟
الحارس: بل سأفعل … وسأبدأ بك.
وسحب الحارسُ زرَّ الأمان، وشعر أنه أصبح في حالة فزع … ومن الممكن أن يتصرَّف بغباء … فيصبح خطرًا عليهم … فتحسَّس كُرتَه الجهنمية بذراعه … وقد كانت معلَّقة على جانبه الأيمن … وضغط عليها … فسقطَت في يده دون أن يلاحظ الحارس … الذي كان قد وضع إصبعه على الزناد، وقال ﻟ «عثمان»: سأعدُّ من واحد إلى ثلاثة … إن لم يخرج زميلك سأُرسلك إليه تحت الماء.
وبالفعل بدأ العدُّ … وعندما وصل إلى رقم ثلاثة … انطلقَت كرةُ «عثمان» الجهنمية واصطدمَت برأسه … فأحدثَت فرقعة عالية … سقط على أثرها غارقًا في دمائه … واختفى تحت سطح الماء … وهدأ كلُّ شيء وساد السكون المكان … ولم يظهر «فهد» مرة ثانية ولم تظهر «إلهام».
وغلبَت الدهشة على «عثمان» … فلماذا لم يظهر «فهد» حتى الآن … وأين ذهبَت «إلهام»؟ وساوره القلقُ على مصيرَيهما … فليست هناك نتيجة لعدم خروجهما من تحت سطح الماء … غير أنهما اختنقَا، وإلا فأين ذهبَا؟
وكان منظرُ الدماء الطافية على سطح الماء يمنعه من النزول للبحث عن زميلَيه … إلا أنه لم يجد حلًّا غير ذلك.
ورغم أنه مسح قاعَ البئر أكثر من مرة … إلا أنه لم يجد أثرًا لهما، ولم يقابل غير جثة الحارس.
فخرج من الماء وهو غير مصدق … فقد كانت معهما «إلهام»، واختفَت بمجرد إضاءة النور!
و«فهد» لقد نزل أمامه إلى الماء … فأين ذهب … هل هذا البئر مسحور؟ أم أنه مسكون بالجان؟!
معنى ذلك أن «فهد» و«إلهام» الآن في عالم آخر غير الذي نعيش فيه …
وعندما وصل إلى هذه النتيجة … ضحك من نفسه ومن أفكاره … وتنبَّه إلى أن للبئر ميعادًا يُغلق فيه … وأن عليه سرعة الخروج وإلا سيقضي بقيةَ النهار … والليل كله في البئر … ولم يكن يظن أن صعوده من البئر سيكون بهذه الصعوبة … فقد نال التعب والقلق منه، وقد تركه ما حدث في غير اتزان … وانعدام القدرة على التفكير السليم.
وعند الدرجة العليا التي تُفضي إلى المصطبة … جلس يُلملم شتاتَ نفسه … فسمع جلبة في الخارج … فأسرع بالخروج … ومغادرة المكان … قبل أن يكشف أحدهم ما حدث للحارس.
وبجوار سورِ القلعة لم يجد غيرَ سيارته … فلم يكلِّف نفسَه عناءَ التفكير في الأمر … بل ألقى بنفسه فيها … ثم أغلق بابها وراح في سُبات عميق.
استيقظ منه على صوتِ طلقات رصاص تملأ المكان … فتلفَّت حوله، فلم يجد شيئًا غير طبيعي … فأدار السيارة … وانطلق يغادر المكان … وهو على غير عجل من أمره … فليس هناك ما يهمُّ، ثم غمغم يسأل نفسه قائلًا: وهل هناك أهم من أن أفهم.
وشيئًا فشيئًا بدأ يُفيق لنفسه، فاتصل بالمقر يسأل عن «إلهام» و«فهد»، فلم يجدهما، حتى «أحمد» لم يَعُد بعدُ إلى المقر.
فاتصل بهم مباشرة … إلا أن أحدًا منهم لم يُجِب … فعاد يسأل نفسه: تُرَى هل ما رأيته كان حلمًا … لا لا، بل كان كابوسًا.
لقد اختفَت «إلهام» في الظلام … ابتلعها البئر … أما «فهد» فقد رأيتُه بعيني ينزل تحت الماء …
إذن … أين ذهب؟ أين اختفى؟
وإن كان قد خرج … فمن أين … وأين هو الآن؟
ولو كانوا قد غَرِقوا … فأين سياراتهم التي كانت تقف بجوار سيارته؟
هل هذا البئر مسكون أم …
ولم تتركه ساعةُ يده يسترسل في تساؤلاته … فقد وخزَته في رسغه لتُخبرَه أن هناك رسالة وعليه تلقِّيها … ترى ممن تكون هذه الرسالة؟