الانفجارات المدمرة!
ولولا الرغبة العارمة في الحياة، لاستسلمَ «أحمد» للإغماء، وسقط من أعلى إلى عُمق البئر ومات غريقًا، إلا أنه عندما شعر بالخطر، ملأَته القوة … وزادَت قدرته على المقاومة فتسلَّق درجاتِ السلم بمهارة … وعند آخر درجة واتَته فكرةٌ شيطانية … فقد تكون إحدى هذه الدرجات … هي أداة التحكم في فتح هذا التابوت أو غلقه.
فصَعِد ليحصلَ على مزيد من الراحة، قبل أن يشرعَ في اختبار فكرته … إلا أن درجة السلَّم الأخيرة تحرَّكَت تحت قدمَيه … وأصابَته الدهشة، حين رأى غطاء التابوت يرتفع ومن تحته يبدو سكن كامل فسيح … مؤثَّث ليكونَ مقرًّا وما شابه ذلك … وشعر في هذه اللحظة أنه اقترب كثيرًا من «إلهام» و«فهد» … وبأن هناك علاقة بين هذا البئر وبئر «يوسف» وبين هذا المدفن والقلعة … ولكن هل هناك علاقة بين هذا المكان وعصابة «سايبرسبيس»؟!
زاد الوخزُ على رسغ «أحمد»؛ فقد شعر به منذ ثوانٍ أن الموقفَ شغله عن الالتفات له، فضغط زرًّا في الساعة … وتلقَّى اتصالًا من «عثمان» أخبره فيه أنهم وصلوا إلى مخزن لمواد خطرة أسفل أحد الجوامع الصغيرة القديمة المهملة … ويشك أن يكون ﻟ «سايبرسبيس»، وقد اتفق معه في هذا الظن … فاختيار هذا المكان له هدفٌ مزدوج.
- أولًا: صعوبة تصديق وجود المواد الخطرة به.
- ثانيًا: إذا اكتُشف … سيُلصقون التهمة في الإسلام والمسلمين. وأخبره أيضًا أنه أصبح قريبًا جدًّا من «إلهام» و«فهد» … ولم يكن يدري وهو يُخبره بذلك أنهما تسلَّلا من سقف التابوت المفتوح … وهبطَا الدَّرج الحديدي، وقبل أن يَصِلوا إلى سطح الماء، اتصلَا به وأخبراه بمكانهما، فاغتبط لذلك كثيرًا … وأسرع ليلحقَ بهما. وفي عمق البئر عقد الثلاثةُ اجتماعًا سريعًا تقرَّر على أثره أن يبقى «فهد» مسلَّحًا فوق الماء … وأن تبقى «إلهام» على شاطئ النيل بجوار فتحة الممر المائي يعاونها كلٌّ من «عثمان» و«ريما»، أما هو … فسيعود إلى بئر «يوسف» لاصطياد هذين الرجلين المحبوسَين داخله.
وتحت سطح الماء اتخذ «أحمد» طريقَه إلى مدخل الممر الثاني المفضي إلى بئر «يوسف» … واتخذَت «إلهام» طريقَها إلى شاطئ النهر.
وبعد سباحة لأكثر من ساعة وجد «أحمد» نفسَه داخل بئر «يوسف» … فتحرك في حذرٍ شديدٍ حتى يستطيعَ الإيقاعَ بالرجلين دون إحداثِ جلبة … إلا أنه عندما أخرج رأسَه من تحت سطح الماء سَمِع أصواتًا لأكثر من رجلين، وهذا يعني أن البابَ قد فُتح … وأن الأصوات التي يسمعها قد لا تكون لمَن جاء يقبض عليهما … ومعنى وجود الباب مفتوحًا أن لديهم فرصةً للهرب من الناحية الأخرى … وأصبحَت فرصتُه للقبض عليهم ضعيفة.
ولم يَعُد أمامه غير تنفيذ خطة «فكَّي القرش» … وذلك بالاتصال ﺑ «عثمان» ليستعينَ ببعض القنابل المسيلة للدموع … ويقتحم بها البئر من الباب الرئيسي.
ومرَّت بضعُ دقائق قبل أن يسمع صوتَ «عثمان»، وهو يقول للرجال: عندي لكم مفاجأة في أسفل البئر.
فنظر له الحاضرون في ذهول وحيرة … فمَن يكون هذا … وهو أصغر من أن يكون ضابطَ بوليس … وظنوا أخيرًا أنه لصٌّ … فعاملوه باستخفاف … إلا أن رؤية المسدس في يده جعلَتهم يمتثلون لأوامره … ويهبطون درجاتِ سلَّم البئر في تأنٍّ وحذرٍ ونية في التراجع … وفجأة وجد مسدسَ أحدِهم موجَّهًا إليه … وقبل أن تخرج منه رصاصة، كانت رصاصة مسدس «عثمان» قد نالَت منه، فهبط الباقون الدرجَ بسرعة أكبر حتى اقتربوا من سطح الماء … وعقب صفارة مميزة من «أحمد» … رمَى «عثمان» بالقنبلة المسيلة للدموع … ولم تمضِ ثوانٍ إلا وملأَت جنباتِ البئرِ أصواتُ سُعالهم وتأوُّهاتهم … ثم ارتفع صوتُ سقوطِ ثلاثةِ أجسامٍ في الماء … وساد بعدها البئرَ صمتٌ رهيب.
وعاد «عثمان» ليخرجَ من الباب الرئيسي، فوجده قد أُغلق من الخارج … وأصبح الموتُ قريبًا منه، بعد أن امتلأ البئر بالغاز الخانق … ولكي يفرَّ منه تحت سطح الماء كما فعل أفراد العصابة، عليه أن يقطع المائة متر ارتفاع وهو مغمضُ العينين، ولا يتنفس، وفي ذلك بالطبع صعوبة … بل استحالة … ولم يَعُد لديه غير اختيار واحد وهو أن يُلقيَ بنفسه في الماء من هذا الارتفاع … ولكنه تراجع عن هذه الفكرة أيضًا؛ فالماء في قاع البئر ليس عميقًا … مما سيؤدي لاصطدامه بالقاعدة الحجرية للبئر، مما يعني تكسُّرَ عظامه … وشعر «عثمان» بالاختناق، لتوقُّفِه عن أخْذِ نفَسِه … وأصبح الموقف بالنسبة له عصيبًا.
وتحت الماء كان الأعضاء الثلاثة للعصابة يسبحون في الممر المائي حتى خرجوا منه ليدخلوا إلى الممرِّ الآخر المؤدِّي إلى البئر الواقع في أرض المدفن، ولم يكن يتوقَّع أحدُهم وجودَ «فهد» على سطح مائه … إلا أنهم كانوا يتمتعون بحذر شديد؛ فعند سطح الماء، أخرج أولُهم رأسَه في حذر … يستطلع المكان … وعندما لمح «فهد» غاص في الماء مرة ثانية … وعاد من حيث أتى، ومن خلفه صاحباه … ولم يَعُد أمامهم غير الخروج إلى مجرى «نيل الروضة»؛ حيث كانت تقف «إلهام»، وكان «أحمد» من خلفهما ينوي أن يُطبقَ عليهما من الجهة الأخرى.
أما «عثمان» فقد عالج قُفْلَ باب البئر برصاصة من مسدسه … ففتحه وقفز إلى المصطبة الخارجية ومنها إلى خارج البئر.
وفي هذه اللحظة ارتفعَت أصواتٌ من هنا وهناك وهي تنادي قائلة: مَن هناك؟
وغمر المكانَ ضوءٌ مُبهر، أحال ظلامَ القلعة نهارًا … فجرى «عثمان» حتى وصل إلى المتحف الحربي، فعبر البوابة قفزًا … وتحت أول دبابة قابلَته من الدبابات المعروضة في المتحف استلقى على وجهه … ولم يحرِّك ساكنًا.
وعلَت الجلبةُ، وامتلأ المكان بالجنود والضباط، ومنهم مَن يصطحب معه كلابًا بوليسية، وشعر «عثمان» بالخطر؛ فمن المستحيل أن يكتشفَه أحدٌ في مكمنه هذا … إلا الكلاب … فما أسهل عليها أن تَصِل إليه.
وبجوار البئر، عانَى أحدُ الضباط من جذبِ الكلبِ له ونباحه المستمر، فطاوعه وتَبِعه إلى حيث يريد، فأخذه إلى المتحف الحربي … إلا أن الباب كان مغلقًا فطلب الضابط من الحارس فتْحَ الباب … ثم أكمل طريقَه مع الكلب الذي وقف بجوار الدبابة، وانطلق النباح … ثم أخذ يطوف حولها وهو يلهث ويتشمَّم … إلى أن أصاب الضابط الملل، فسحبه وعاد إلى بئر «يوسف».
وفي أثناء ذلك كان قد تسلَّق الدبابة وقبع بداخلها … عندما شعر باقترابِ الكلب منه … وقد انتهز فرصةَ تعطُّلِهما إلى أن فتَح لهما الحارس الباب.
وانتظر «عثمان» حتى هدأ الجو حول البئر، فخرج من مكمنه، واستطلع الأوضاع حوله، وخارج المتحف … ثم عبر الباب قفزًا بمهارة فائقة.
وعندما اطمأنَّ لعدم وجود أحد بالمكان، أطلق لساقَيه الريح، حتى بلغ سورَ القلعة … فشرع في تسلُّقِه … إلا أن التعب قد نال منه، فرأى أن ينام في ركن ما حتى الصباح، وقبل أن يتخذَ في ذلك قرارًا، شعر بوخزٍ في رسغه … فضغط زرًّا في ساعته، وتلقَّى الرسالة، كانت تقول: ««عثمان» توجَّه إلى منطقة الروضة، الوضع حرجٌ … «أحمد» …»
فشعر أن قوتَه قد زادَت إلى عشرة أضعاف … وقام بتسلُّق السور ببراعة وخفَّة، وفي دقائق رغم الجروح التي أصابَت أصابعه من النتوءات التي تملأ أحجار السور، شعر «عثمان» أنه أصبح حرًّا خارج أسوار القلعة … فجرَى على سيارته «اللامبورجيني»، وانطلق بها ليلحقَ «إلهام» و«أحمد» … وهو لا يعرف مدى حرجِ موقفهما.
كان «أحمد» لا يستطيعُ الخروجَ من الماء … لازدحام المكان بشرطة المسطحات المائية؛ حيث كانوا يبحثون عن رُكَّاب قارب سقطوا في عرض النهر، وكانوا قد عثروا على القارب فارغًا، ولولا أن المهمة سرية لطلبوا معاونةَ شرطة المسطحات؛ لذلك كان وجود «عثمان» مُهمًّا … فقد يستطيع شغل رجال الشرطة بعضَ الوقت، حتى يتسنَّى لهم إخراج رجال العصابة.
وعند وصول «عثمان» طلب مراجعةَ المقبوض عليهم من «سايبرسبيس»، فلم يجدهم، مما أزعج «أحمد» بشدة عندما عرَف، وأسرع بالعودة إلى الممر الموجود به «فهد»، فلم يجده … فقد عاد «فهد» مقبوضًا عليه إلى المقر التابوت … وأعدَّت هناك العُدَّة للتخلُّص منه ومعه بقيةُ الشياطين الأربعة … وبنفس الطريقة التي اصطادهم بها «عثمان» من قبل … وذلك بأن فجروا قنبلة مسيلة للدموع في البئر … وانتظر بعضُ رجالهم خروجَ الشياطين من منطقة الروضة … وبذلك ليس أمامهم غيرُ الاختناق تحت سطح الماء … أو القتل برصاص العصابة.
فقال «عثمان» ﻟ «أحمد»: كم عدد رجالهم؟
أحمد: القادة ثلاثة!
عثمان: والمعاونون؟
أحمد: لا أعرف … ولكن لو استطعنا ضربَ القادة … فسيُسلِّم المعاونون أنفسهم.
عثمان: كيف يحدث ذلك ولديهم «فهد»؟
أحمد: سأتصل ﺑ «إلهام» … لتلف عليهم من منطقة المقابر … وسأُعطيها سرَّ المقر التابوت.
عثمان: ألَا نطلب معاونة رقم «صفر»؟
أحمد: أريد فقط أن أطلبَ منه معاونةَ شرطة المسطحات المائية لنا.
وبالفعل قام «أحمد» بالاتصال برقم «صفر» … إلا أنه لم يُجِبه … فاتصل بالمقر وطلب منهم إبلاغَ رقم «صفر» بالموقف كاملًا وعليه الاتصال بهم بمجرد علمه.
وما كاد يُنهي المكالمةَ حتى كان رقم «صفر» معه على الخط … ورفض تدخُّلَ أيِّ جهة أخرى غير المنظمة فهي أوامر … وعرض عليهم أن يُرسل لهم عونًا من الشياطين … إلا أنهم رفضوا.
وعقب اتصاله ﺑ «إلهام» تركَت موقعها وتحرَّكَت بسيارتها إلى حيث منطقة المقابر، وما إن اقتربَت من المبنى التي كانت محبوسةً فيه … حتى وقعَت ثلاثةُ انفجارات استهدفَت التخلص منها.
ورغم ذلك … لم تتراجع، بل أكملَت طريقَها … حتى اقتربَت من الباب الخلفي الذي لم يكن يعرفه غير العاملين بهذا المكان … فانهالَت عليها طلقاتُ الرصاص سيلًا.
ولم تتراجع أيضًا … وعندما توقَّفَت سيارتُها … ازدحم المكان بأسراب الكلاب المتوحشة الجائعة … وصوتُ نُباحها ولهاثها تقشعرُّ له الأبدان … فلم تستطع مغادرةَ السيارة، فعادَت بها إلى الخلف عدة أمتار … وتوقَّفت أثناء ذلك أكثر من مرة … فقد كادت أن تصطدمَ بأحد الكلاب … وعندما أصبحت على بُعدٍ كافٍ من الباب أطلقَت العنان للسيارة … التي علا عواءُ فراملها وهدير محركها … فكادَت تطير في الهواء من شدة سرعتها … واصطدمَت بالباب فقذفَت به لعدة أمتار … ثم أكملَت طريقَها تلفُّ وتدور حول التوابيت … وتصطدم هنا بشجرة تقتلعها … وبحائط فتهدمه … وازدادَت طلقاتُ الرصاص … حولها … فلم تخدش سيارتها … ولم يَصِل منها شيءٌ إليها، ثم أدارَت سارينةَ السيارة … للفتِ انتباهِ «فهد» لوجودِهم بجواره … وعن بُعد … رأت مأسورة مدفع … تحمل صاروخَ أرض … أرض … وقد وُجِّهَت إليها وأصبح حاملُها على وشَكِ إطلاق الصاروخ.
ولم تجد أمامها غير إطلاق العنان لسيارتها … لتطير في اتجاهه … وقبل أن ينطلق الصاروخ ليُطيحَ بها وبسيارتها … كانت قد أطاحَت به وبمدفعه.
وعن بُعد لمحَت «فهد» يتوارَى بين أفرع أشجار يُمسك بها كنوعٍ من التمويه … فتقدمَت بالسيارة لتقتربَ منه … مما لفت أنظارَ أعوان «سايبرسبيس» له … فأمطروه بوابل من الرصاص، ولكن لم يُصبْه منه شيء؛ لأن «إلهام» كانت قد وقفَت بسيارتها حائلًا بينه وبينهم.
وفتح «فهد» بابَ السيارة بجوار «إلهام» … ورَكِب سريعًا … وانطلقَت «إلهام» تدور حول الأبنية القصيرة … التي يمتلئ بها المكان دوراتٍ سريعةً … حتى حدَّدَت هدفَها بدقة … ثم ولَّتْه ظهْرَها، وضغطَت زرًّا … فانطلق من ماسورة بجوار ماسورة الشكمان صاروخٌ صغير اصطدمَ بالمبنى … وانفجر انفجارًا مروعًا … اهتزَّت له أركانُ المكان … وارتفعَت معه أشلاءُ القتلى، وهم جميعًا أعضاء العصابة.
وقد سَمِع دويَّ هذا الانفجار باقي الشياطين الأربعة.
وفي اتصالٍ سريع عرَفوا أن المهمة قد انتهَت … فقاموا بالاتصال برقم «صفر» الذي أكَّد على ثقته بهم وبقدراتهم … وتمنَّى لهم التوفيق دائمًا في أداء مهامهم.
ثم سأل «أحمد» سؤالًا مُهمًّا، فقال: هل هناك شيءٌ يُسعدك الآن؟
أحمد: نعم … فلن تنهار القلعة!