ليلة الأحد!
كعادة المدن الأوروبية … تُغلِق المحلات أبوابها منذ منتصف نهار السبت … وتبدو الشوارع خاليةً إلا من الذاهبين إلى الرحلات الخلوية … أو دور السينما … أو المقاهي ومحلات السهر …
استَعَدَّ «أحمد» لعملية الليل استعدادًا خاصًّا … فقد كان يعمل وحده ولا أحد من زملائه يساعده … أو يغطِّيه … ووضع في تقديره أن يكون مراقبًا أو متبوعًا … وهكذا ذهب إلى مقهى «الليدو» حيث يُوجد بجواره مكتبُ سمسارٍ لتأجير الشقق المفروشة … وعرض عليه السمسار عددًا من الشقق، فاختار شقة في الدور الثاني تُطِل على مَنورٍ يمكن القفز إليه إذا هاجمه أحد في الشَّقة … وكان في الشَّقة المجاورة له طالب يَدرُس الموسيقى … فيقضي أغلب الوقت يتمرَّن على البيانو … مما كان يتيح «لأحمد» فرصةً طيبة لاستخدام جهاز اللاسلكي، والدق عليه دون أن يلفتَ الأنظار …
وقرَّر «أحمد» أن ينقل جهاز اللاسلكي إلى هذه الشَّقة إذا استطاع الاستيلاء عليه … فوَضْعُ جهازٍ لاسلكي في الفندق سيلفتُ إليه الأنظار …
هَبَطَ مساءٌ عاصف على المدينة الضيقة «روما»، وركب «أحمد» سيارته المستأجرة ماركة «ألفا روميو»، وقد ارتدى قبَّعةً من الصوف الثقيل، ولَفَّ رقبته بكوفية تُخفي بعض ملامحه … وانطلق في منتصف الساعة العاشرة، وقد اختفى المارة من الشوارع؛ لذا استطاع أن يقود سيارته مسرعًا حتى وصل إلى العمارة التي يقع فيها مكتب «كارديلِّي» …
كان يسودها الهدوء التام، ويَلُفُّها الظلام … فهي عمارةُ مكاتبَ وليس فيها سكَّان …
دار «أحمد» حول المبنى ثلاث مرات … ثم اختار شارعًا جانبيًّا وضع فيه سيارتَه، ونزل ومشى بجوار الجدران، فبدا في ملابسه السوداء كأنه قطعةٌ متحركة من الظلام.
دفع باب العمارة الحديدي فأصدر صوتًا عاليًا، ولكن ضجَّة الريح لم تجعله واضحًا … وأغلَق الباب خلفه بهدوء … ثم اتجه إلى السلالم، وأخذ يَصعَد مسرعًا على ضَوء بطاريته الصغيرة، حتى توقَّف في الطابق الرابع حيث يقع المكتب … وظل واقفًا لحظاتٍ يستَردُّ أنفاسه المتسارعة … ويَتَسمَّع إلى أي صوتٍ غريب … ولكن لم يكن هناك سوى صوت الرياح والأمطار … فتقدَّم من الباب … وأخرج محفظة أوراقٍ صغيرة ثم قام بعدة محاولات … وانفتح الباب فدخل وأغلَقه خلفه … ومرةً أخرى توقَّف وأخذ يَسمَع …
وعلى ضوء البطارية فتح باب مكتب «كارديلِّي» ودخل، وأخذ يُطلِق شعاع البطارية على ثلاثةِ دواليبَ كبيرة، واختار أقربها إلى شرفة المكتب حيث شاهد «إيريال» اللاسلكي.
كان فتح الدولاب سهلًا … فقد كان مع «أحمد» الرقم الكودي للفتح … ووجد الخزانة داخل الدولاب كما توقَّع، ولم تكن هناك مشكلة في فتحها … فقد كانت معه الأرقام التي زوَّده بها رقم «صفر» … وفتح الخزانة … وأطلَق شعاع بطاريته داخلها، وأحس بقلبه يخفق مسرورًا؛ لأن جهاز اللاسلكي النادر كان بداخلها … وأَخرجَه «أحمد» ثم أخذ يبحث عن المستندات الخاصة بالأرقام الشفرية … والرسائل والوثائق المتعلِّقة بعمل «كارديلِّي» مع منظمة الشياطين اﻟ «١٣».
ووجد «أحمد» في الدولاب حقيبةً وضع فيها كل شيء … ثم فكَّر في أن الإيريال الخاص باللاسلكي لا بد أن يأخذه أيضًا؛ فهو من نوعٍ خاص … وهكذا فتح باب الشُّرفة، وتحت لسع الرياح الباردة وقسوة المطر أخذ يعمل بسرعةٍ في فك الإيريال … وما كاد يجتاز باب الشُّرفة حتى أَحَس بشعورٍ قوي بالتوتُّر … وبأنَّ خطرًا مجهولًا ينتظره في المكتب … توقَّف لحظات … ثم أزاح الستار جانبًا بهدوءٍ ونظر … وفي الظلام شاهَد شبحًا يدخُل من الباب ويُطلِق شعاعًا من الضوء من بطاريةٍ يدوية …
الْتَصَق «أحمد» بالستائر محاولًا ألا يبدو باب الشُّرفة مفتوحًا … وأخذ يراقب القادم الذي كان يتحدث إلى شخصٍ آخر معه …
وكان «أحمد» الذي تدرَّب على مثل هذه المهامِّ والمآزقِ طويلًا، قد أعاد إغلاق باب الغرفة والخزانة والدولاب … ولكن الحقيبة التي كان بها جهاز اللاسلكي، والمستندات كانت موضوعة بجوار الدولاب … وخَشِي أن تلفت نظَر الرجلَين!
كان أحد الرجلَين يقول للآخر: إن اليوم هو أفضل موعدٍ لدخول المكتب …
قال الآخر: المهم أن نعثُر على جهاز اللاسلكي، والمستندات، والوثائق الخاصة ﺑ «كارديلِّي»، وبهذه المنظمة السرية التي كان يعمل بها!
الأول: علينا أن نفتح الدواليب الثلاثة حتى نعثُر على الخزانة … وقد لا نجدها فقد تكون مخفيةً في أحد الجدران!
الثاني: دعنا نعمل بسرعةٍ … فما تزال أمامنا مهمةٌ شاقة!
كان الرجلان يبدُوان كشَبحَين في الظلام … ولم يكن في استطاعة «أحمد» أن يتبيَّن ملامحهما، ولكن نبرات الصوت هي التي حَفظَها … وذلك شيءٌ مهم بالنسبة لعمله!
قال أحد الرجلَين: هناك تيارٌ من الهواء يأتي من الشُّرفة … إن السكرتيرة مُهمِلة فقد نَسِيَت إغلاق الشُّرفة!
وأَحسَّ «أحمد» بتوتُّره يزداد … وشاهَد أحد الشبحَين يقترب من باب الشُّرفة ليُغلِقه … ولو فعل هذا لقُضِيَ على «أحمد» بالبقاء في الشُّرفة، مع احتمال ضياع الحقيبة … ولهذا أخرج مسدَّسه، وما كاد الرجل يظهر، حتى ضربه ضربةً ساحقة … وترنَّح الرجل على الفور وسقط …
وصاح الآخر: ما هذا؟
ثم اتجه ناحية زميله … وقفز «أحمد» إلى وسط الغرفة، ثم ارتمى على الأرض عندما سمع فرقعة سلاح وانطلاق رصاصةٍ صامتة ارتطمَت بأحد الدواليب وأحدثَت دويًّا عاليًا.
وفي الظلام مدَّ «أحمد» يده فأمسك بالحقيبة، ثم انطلَق ناحية الباب، ولكن الرجل اعترض طريقه رافعًا المسدَّس صائحًا: قف مكانك!
ولكن «أحمد» طوَّح بالحقيبة في وجه الرجل، فأصابَتْه فسقط على الأرض، وانطلقَت من مسدَّسه رصاصةٌ أخرى أحدثَت دويًّا آخر …
توقَّف «أحمد» لحظاتٍ يلتقط أنفاسه المتسارعة … ثم وضع الحقيبة، وأطلَق شعاع بطاريته على الرجلَين، كان الأول الذي بجوار الباب عملاقًا بَدينًا يُشبه المصارعين، وانحنى «أحمد» عليه، وفتَّشَه سريعًا … واستولى على ما وجدَه معه من أوراق … وانتزع منه مسدَّسه … ثم قام بنفس العملية بالنسبة للآخر …
فكَّر «أحمد» لحظات … هل يقوم بفك الإيريال ويأخذه معه … إن الوقت لا يسمح بذلك … وفكَّر أن غدًا هو الأحد … وليست هناك محلاتٌ مفتوحة لشراء إيريال آخر … وقد لا يجد النوع الذي يريده … وهكذا عاد إلى الشُّرفة وأخرج مِفكًّا من جيبه، ثم أخذ يعمل بسرعةٍ في فك الهوائي «الإيريال»، وأخذ يجمع أجزاءه، ثم نظر من الشُّرفة … وشاهد سيارةً ضخمة تقف أمام باب العمارة … لم يشُكَّ لحظةً أنها سيارة العصابة …