الصعلوك والحورية

كان مستلقيًا على ظهره. ونومه ثقيلٌ لدرجة أن لم يوقظه دبيب الخيول وصياح السائقين من الجسر الذي يمر فوق الجدول الصغير. تعبر الجسرَ عربةٌ تلو الأخرى محمَّلةً بالعنب، متجهةً صوب الوادي في طريقها إلى مصنع النبيذ، وكان قدوم كل عربة يُحدِث دويًّا عاليًا وضجيجًا، في ذلك الجو الهادئ الباعث على الكسل لفترة ما بعد الظهيرة.

لكن الرجل لم ينزعج من نومه. كان رأسه قد انزلق من فوق الجريدة المطوية، وشعره الأشعث غير المرتب قد تشابك مع عشب ذيل الثعلب والحشائش الجافة التي كان يستلقي عليها. لم يكن منظره يحمل أي طابع جماليٍّ. كان فمه مفتوحًا كاشفًا عن فراغٍ في صف أسنانه العلوي الذي قد انكسرت منه عدة أسنان في وقت ما. كان يتنفس بصعوبة مُصدِرًا صوت شخير، وفي بعض الأحيان يئنُّ ويتأوَّه من الألم الذي يأتيه من النوم. كما أنه كان قلِقًا للغاية؛ فكان يُطوِّح ذراعيه في كل مكان، ويتحرَّك حركات مفاجئة ومتشنجة إلى حد ما، وفي بعض الأحيان يُقلِّب رأسه من جانب إلى آخر في تلك الحشائش. بدا أن جزءًا من هذا القلق يرجع سببه إلى شعوره بألم في داخله، والجزء الآخر كان ناتجًا عن الشمس التي تدفقت أشعتها على وجهه، والذباب الذي يطنُّ ويهبط على أنفه ووجنتَيه وجفنَيه، ويتنقل ببطء عليها. لم يكن هناك مكان آخر ليتنقل عليه؛ إذ إن ما تبقَّى من وجهه كانت تغطيه لحية مُلبَّدة، يتخللها قليل من الشعر الأشيب، وكثير من الوسخ والتراب، وقد تغيَّر لونها من أثر العوامل الجوية.

ظهرت على عظام وجنتَيه بقع دمٍ محتقن من الإسراف في الشُّرب، الذي كان يتعافى من أثره بالنوم. وهذا أيضًا يُفسِّر إصرار الذباب على التجمع حول فمه؛ لانجذابه إلى الأنفاس المحمَّلة برائحة الكحول. كان رجلًا قوي البنية، غليظ الرقبة، عريض المنكبين، له رسغان قويان، ويدان مشوهتان من أثر عملٍ مُضنٍ. ومع ذلك، لم يكن هذا التشوه ناتجًا عن عملٍ مُضنٍ قام به في وقت قريب، ولا كان هذا الجلد الغليظ الذي بدا تحت الأوساخ في كفه المقلوب جديدًا. من وقتٍ لآخر، تنقبض هذه اليد بشدة وتتشنج فتصبح قبضة ضخمة، ناتئة العظم، ذات طابع شرير.

كان الرجل يستلقي فوق العشب الجاف، الذي يغطي مساحة خالية تمتد حتى ضفة الجدول الذي تصطفُّ على جانبيه الأشجار. ويحيط بهذه المساحة من الجانبين سياج من النوع القديم ذي الأعمدة الطولية والحواجز العرضية، ومع ذلك لم يُرَ منه سوى أجزاء بسيطة؛ إذ غطَّته بكثافةٍ شجيراتُ التوت البري، والبلوط، والفراولة الصغيرة. وفي الخلف، وسط سياجٍ خشبي قصير، تظهر بوابةٌ تُفضي إلى بيتٍ صغير أنيق من طابق واحد مبنيٍّ على طراز إسباني كاليفورني، ويبدو كما لو أنه بُني مباشرة من عناصر الطبيعة التي بدا البيت جزءًا لا يتجزأ منها. كان البيت نظيفًا منسَّقًا جميلًا بدرجة متواضعة، يبعث فيك شعورًا بالراحة والهدوء، ويخبرك بيقينٍ ضِمنيٍّ عن شخصٍ عَرَف ما يريده، فبحث عنه ووجده.

خرَجَت من البوابة إلى المساحة الخالية فتاةٌ صغيرة رقيقة بدت كما لو أنها خرجت للتو من صورةٍ رُسِمت خصوصًا لتُظهِر الحال الذي قد تبدو عليه الفتيات الصغيرات الرقيقات. ربما كانت في الثامنة من عمرها، وربما أكبر أو أصغر من ذلك قليلًا. أظهَر خصرها النحيل وساقاها النحيفتان المغطَّيتان بجوارب سوداء مدى ضعفها، لكنه كان ضعفًا لا يتعدى المظهر الخارجي. لم يبدُ أثرٌ لفقر الدم على بشرتها الصحية الصافية، ولا على خطوتها السريعة الخفيفة. كانت فتاة صغيرة شقراء مبهجة، شعرها مغزولٌ من خيوط ذهب رقيقة، ولها عينان زرقاوان واسعتان تخفيهما قليلًا رموشها الطويلة. أما تعبير وجهها، فكان يعكس حلاوةً وسعادةً، وهو التعبير الذي لا بد أن يرتسم على أي وجه يسكن هذا البيت.

كانت تحمل مظلة طفل، وحرصت على ألا تمزقها الأغصان الصغيرة وشجيرات التوت البري أثناء بحثها عن أزهار الخشخاش البري على امتداد حافة السياج. كانت المجموعة الأخيرة من أزهار الخشخاش، ذلك الجيل الثالث الذي لم يقوَ على مقاومة دعوة الشمس الدافئة في أكتوبر.

بعد أن انتهت من جمع الأزهار على أحد الأَسوِجة، الْتفتَت لتَعبر إلى السياج المقابل. وفي منتصف المساحة الخالية، عثرت مصادفةً على الصعلوك. كانت دهشتها عادية. ولم يَشُبها أي خوف. وقفَت ونظرت طويلًا بفضول إلى منظره القبيح، وكانت على وشك أن تستدير للعودة عندما تحرك الرجل النائم مضطربًا، وقلَّب يده بين الحشائش الجافة. لاحظَت الشمس التي تلفح وجهه، والذباب الذي يطنُّ فوقه، فبدا على وجهها القلق، وللحظة فكرت بينها وبين نفسها. ثم سارت على أطراف أصابعها إلى أن وصلت إلى جواره، ووضعت المظلة بينه وبين الشمس، وذبَّت الذباب عن وجهه. وبعد فترة، جلست بجانبه لتيسِّر على نفسها مهمتها.

مرت ساعة، كانت خلالها تنقل المظلة من وقت لآخر بين يديها المتعبتين. في البداية، كان الرجل النائم مضطربًا، لكن بعد أن حالت بينه وبين الذباب والشمس، أصبح تنفُّسه أكثر هدوءًا، وسكَنَت حركته. ومع ذلك، أَخافَها عدة مرات. كانت المرة الأولى هي الأسوأ؛ إذ فاجأها على حين غِرة. غمغم الرجل من داخل حلمه قائلًا: «يا إلهي! كم هو عميق! كم هو عميق!» اهتزت المظلة في يدها، لكن الفتاة الصغيرة حافظت على رباطة جأشها، وواصلت تقديم المساعدة التي حملتها على عاتقها.

وفي مرة أخرى، بدا صرير أسنانه كأنه من ألم لا يُطاق. كانت الأسنان يطحن بعضها بعضًا حتى بدت كأنها حتمًا ستتكسر إلى فُتات. وبعد قليل، تخشَّب جسده من دون مقدمات. تسمَّرت يداه، وتجمَّد وجهه على تعبيرٍ يوحي باتخاذه قرارًا عنيفًا في الحلم. ارتعش جفناه من صدمة في الحلم، وكانا على وشك أن يُفتحا، لكنهما لم يُفتحا. وبدلًا من ذلك، تمتمت شفتاه قائلتين:

«لا، لا! وألف لا. لن أخون.» توقفت شفتاه، ثم واصلتا قائلتين: «يمكنك أن تقيدني أيها السجَّان، وتقطعني إرْبًا إرْبًا. ولكنك لن تنال مني سوى الدم. هذا كل ما نلتموه مني في هذا السجن.»

بعد هذا الاهتياج، نام الرجل بهدوء، في حين أن الفتاة الصغيرة كانت لا تزال تحمل المظلة عاليةً، وتنظر بِحَيرة كبيرة إلى هذا المخلوق الأشعث الرَّث الثياب، في محاولةٍ منها لأن تفسر ما تراه بمعرفتها الضئيلة بالحياة. بلغت أذنيها صيحاتُ الرجال، ودبيب الخيول على الجسر، وصرير العربات ذات الأحمال الثقيلة وضجيجها. كان يومًا صيفيًّا خانقًا من أيام كاليفورنيا. انسابت السحب البيضاء الخفيفة في السماء الصافية، ولكن كان ثمة كتل من السحب الثقيلة ناحية الغرب تُنذِر بهطول المطر. وطنَّت بجوارهما نحلة ببطء. ومن الأجمات على مسافةٍ أبعد، تسللت أصوات السمان، ومن الحقول زقزقة طيور قُبَّرَة المروج. لكن روس شانكلين لم يكن واعيًا لكل ذلك، بل غطَّ في نوم عميق؛ روس شانكلين، ذلك الصعلوك المنبوذ المدان سابقًا، الذي يحمل رقم ٤٣٧٩، ذلك الإنسان القوي الذي لا ينكسر، الذي تحدى جميع السجانين، ونجا من جميع أعمالهم الوحشية.

وُلد في تكساس، لعائلة من المستوطنين الأوائل الذين اتصفوا بالقوة والعناد، لكن حظه كان سيئًا. ففي سن السابعة عشرة، قُبض عليه بتهمة سرقة الخيول. وأُدينَ بسرقة سبعة أحصنة لم يكن قد سرقها، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربعة عشر عامًا. كان هذا حكمًا قاسيًا تحت أي ظرف من الظروف، ولكن بالنسبة له كان هذا الحكم غاية في القسوة؛ إذ لم يكن قد أُدينَ من قبل بأي تهم. كان رأي من اعتقدوا أنه مذنب أن العقاب الكافي لهذا الشاب عامان، ولكن محامي المقاطعة، الذي يتقاضى أجره وفقًا لعدد الأحكام التي يصدرها، قد وجَّه إليه سبعة اتهامات، وحصل على سبعة أجور. وذلك يدل على أن محامي المقاطعة ثَمَّن اثني عشر عامًا من حياة روس شانكلين بأقل من بضعة دولارات.

عانى الشاب روس شانكلين معاناة شديدة في السجن، كان قد هرب أكثر من مرة، وقُبض عليه وأُعيدَ ليلاقي معاناةً في سجون أخرى مختلفة. كان يُعلَّق موثَقًا بالحبال لأعلى، ويُجلَد حتى يُغشَى عليه، ويفيق ثم يُجلَد مرة أخرى. مكث في الزنزانة تسعين يومًا متواصلة. وكان قد تعرض لعذاب السُّترة المُقيِّدة. وكان يعرف ما يعنيه التعذيب بالكهرباء. أجَّرَته الولاية بصفته عبدًا لمقاولين. وطاردته كلابٌ بوليسية ضخمة عبر المستنقعات. وأُطلقَ عليه النار مرتين. لستِّ سنوات كاملة، كان يقطع كُورْدًا ونصفًا من الخشب كل يوم في أحد معسكرات قَطْع الأخشاب بواسطة المُدانين. وسواءٌ أكان بصحةٍ جيدة أم مريضًا، كان يقطع ذلك الكورد والنصف، وإلا فسيدفع الثمن تحت ضربات سوط معقود قاسٍ.

لكن روس شانكلين لم يخضع ولم يَلِن تحت تلك المعاملة. بل إنه كان يبدي استهزاءً وغضبًا وتحديًا. رأى سجناء، بعد أن تلقَّوا معاملة وحشية من السجانين، باتوا عاجزين جسديًّا مدى الحياة، أو فقدوا عقولهم إلى آخر العمر. كان قد رأى سجناء، حتى زملاؤه في الزنزانة نفسها، قد دفعهم حراسهم إلى ارتكاب جرائم قتل، فذهبوا إلى المشانق وهم يلعنون ويسبُّون. وشارك بنفسه في محاولة هروب قُتِل فيها أحد عشر سجينًا من زملائه رميًا بالرصاص. كما شَهِد حالة تمرد، فأُوقِفوا في باحة السجن، وعوقِب ثلاثمائة سجينٍ بضربهم بالهراوات من قِبَل سجَّانين مفتولي العضلات، بينما تُصوَّب نحوهم بنادق جاتلينج.

كان قد ذاق جميع صنوف التعذيب التي ابتكرها الإنسان بقسوته ووحشيته، ومع ذلك لم تُكسَر شوكته أبدًا. لقد قاوم وحارب حتى النهاية، إلى أن جاء اليوم الذي أُطلقَ فيه سراحه، بعد أن صارت حياته مريرة، وسلوكه وحشيًّا. أُعطيَ خمسة دولارات كمقابل لسنوات عمله وزهرة شبابه. ولم يعمل كثيرًا في السنوات اللاحقة. كان قد كره العمل وأبغضه. وصار يتسكع ويتسول ويسرق، ويكذب أو يهدد حسب ما يقتضيه الموقف، ويشرب حتى الثمالة كلما سنحت له الفرصة.

كانت الفتاة الصغيرة تنظر إليه عندما أفاق من نومه. ومثله مثل حيوان بري، تيقظ كل شيء فيه في اللحظة التي فتح فيها عينيه. أول ما وقعت عيناه عليه كانت المظلة المُقحَمة على نحوٍ غريب بينه وبين السماء. لم يجفل أو يتحرك، رغم أن جسده بأكمله بدا مشدودًا قليلًا. تتبعت عيناه عصا المظلة حتى وصلتا إلى الأصابع الصغيرة القابضة بإحكامٍ عليها، ثم إلى الذراع الممتدة حتى وصلتا إلى وجه الطفلة. نظر في عينيها مباشرة دون أن ترمش عيناه، فشعرت، وهي تنظر إليه، برجفةٍ وخوفٍ من عينيه اللامعتين، الفاترتين القاسيتين، المُحمرَّتين، اللتين مُحي منهما أي أثرٍ للود الإنساني الذي اعتادت أن تراه وتشعر به في عيون البشر. كانتا العينين المعهودتين لشخص مكث طويلًا في السجن، عينَي رجلٍ تعلَّم أن يتكلم قليلًا، فنَسِي تقريبًا كيف يتكلم.

قال أخيرًا، دون أن يحاول حتى تغيير وضع جسمه: «مرحبًا. أيَّ لعبة تلعبين هنا؟»

كان صوته خشنًا أجشَّ، وفي البداية كان قاسيًا، لكنه رقَّ على نحوٍ غريب في محاولة واهنة لاستعادة اللطف الذي نسيه.

قالت: «تشرَّفت برؤيتك. أنا لا ألعب. كانت الشمس تلفح وجهك، وتقول أمي إنه علينا ألا ننام في الشمس.»

كان النقاء الآسر لصوتها الطفولي مبهجًا له، فتعجَّب من أنه لم يلاحظه مطلقًا في أصوات الأطفال. اعتدل ببطء وحدَّق فيها. وشعر أنه ينبغي له أن يجيب بشيء، لكن الكلام بالنسبة له أمر يكرهه.

قالت بجديةٍ: «آمل أنك نمت جيدًا.»

من دون أن يرفع عينيه عنها، ومذهولًا من جمالها ورقتها، أجاب قائلًا: «بالطبع نمت جيدًا. منذ متى وأنتِ تُمسكين بهذا الشيء فوقي؟»

فكَّرَت قليلًا ثم قالت: «أوه، منذ وقت طويل جدًّا. ظننتكَ لن تستيقظ أبدًا.»

«وظننتكِ حوريَّة عندما رأيتكِ لأول مرة.»

شعر بسعادة غامرة لمشاركته في الحديث.

فابتسمت قائلةً: «لا، لستُ حوريَّة.»

غمرته دهشة غريبة هادئة عند رؤية البياض النقي لأسنانها الصغيرة المتساوية.

ثم أضافت: «لست إلا سامرية صالحة.»

«أعتقد أنني لم أسمع قط عن تلك الطائفة.»

كان يعصر ذهنه لكي يواصل الحوار معها. لم يسبق له أن تعامل مع طفلٍ عن قرب منذ أن صار رجلًا راشدًا؛ لذلك وجد مشقَّةً في ذلك.

«يا لك من رجل غريب لا يعرف شيئًا عن السامري الصالح. ألا تتذكر؟ ذلك الرجل الذي جاء إلى أريحا …»

فقاطعها قائلًا: «أعتقد أنني كنت هناك.»

صاحت وهي تصفق بيديها: «كنت أعرف أنك رحَّال! ربما رأيتَ المكان بالضبط.»

«أي مكان؟»

«عجبًا، حيث وقع بين اللصوص، وتُرِك بين الحياة والموت. ثم جاء إليه السامري الصالح، وضمَّد جراحه، وصبَّ عليها الزيت والخمر، أتظن أن ذلك الزيت كان زيت الزيتون؟»

هز رأسه ببطء.

«أعتقد أنكِ حيَّرتِني. فزيت الزيتون هو زيت يطبخ به الإسبان. لكني لم أسمع عن استخدامه لمداواة الرءوس المصابة.»

فكرَت في كلامه للحظة.

ثم قالت: «حسنًا، نحن نستخدم زيت الزيتون في الطهي؛ لذا لا بد أننا إسبان. لم أعرف أبدًا مِن قبل مَن هم. ظننت أنها كلمة عامية.»

غمغم الصعلوك متذكرًا: «والسامري صبَّ الزيت على رأسه. على ما يبدو لي أني أتذكر قسيسًا قال شيئًا عن ذلك العجوز النبيل. هل تعرفين أني كنت أبحث عنه طَوال حياتي، ولكني لم أعثر له على أثر. لم يعد هناك سامريون.»

سألَت سريعًا: «أوَلستُ واحدة منهم؟»

نظر إليها بثبات، وبفضول ودهشة كبيرين. إثر حركةٍ قامت بها، صارت أذنها مكشوفة إلى الشمس، فبدت شفافة. بدا أنه كاد يرى عبرها. أبهرته رقة لون بشرتها، وزُرقة عينيها، وسحر شعرها الذهبي اللامع في وهج الشمس. أدهشته هشاشتها. خطر بباله أنها يمكن أن تنكسر بسهولة. انتقل بصره بسرعة من يده الضخمة المشوهة إلى يدها الصغيرة التي تصور أنه يمكن أن يرى الدم يتدفق فيها. كان يدرك القوة في عضلاته، ويدرك الحيل والسبل التي يستخدم بها الرجال أجسادهم ليسيئوا إلى رجالٍ آخرين. في الحقيقة، إنه لم يكن يدرك إلا هذا، ومن ثَم سلك عقله لفترةٍ من الوقت مساره المعتاد. كانت له طريقته لقياس غرابة جمالها. قدَّر أن بقبضةٍ، وليست قوية، قد تُفرَم أصابعها الصغيرة إلى كتلةٍ رخوة. فكر في اللَّكَمات التي كان قد سددها لرءوس الرجال، وتلك التي تلقَّاها على رأسه، فشعر أن أقلها قد تُهشِّم رأسها مثل قشرة بيض. دقق النظر في كتفيها الصغيرتين وخصرها النحيل، فعرف بكل ثقةٍ أنه قد يمزقها إرْبًا إرْبًا بيديه.

أصرَّت مرة أخرى قائلةً: «أوَلستُ واحدة منهم؟»

عاد إلى وعيه فجأة، أو على الأحرى انصرف عن حواره الداخلي. لم يرغب في أن تتوقف المحادثة.

أجاب قائلًا: «ماذا؟ أوه، بلى، بالتأكيد كنتِ واحدة منهم، حتى ولو لم يكن لديك زيت زيتون.» تذكر الأمر الذي انشغل به باله، فسألها: «لكن ألستِ خائفة؟»

ثم أضاف ببطء: «مِن … مني؟»

ضحكت بمرحٍ.

«تخبرني أمي أن علينا ألا نخاف من أي شيء. وتقول إنه إذا كنت صالحًا، وتُحسِن التفكير في الآخرين، فسوف يكونون صالحين أيضًا.»

فتعجَّب قائلًا: «وكنتِ تُحسنين التفكير بي عندما حَميتِني من الشمس.»

أقرَّت قائلةً: «لكن من الصعب أن أُحسِن التفكير بالنحل والكائنات المخيفة القبيحة.»

فجادلها قائلًا: «لكن ثمة رجالًا يُعَدون كائنات مخيفة قبيحة.»

«تقول أمي غير ذلك. تقول إن كل فردٍ يحمل الخير في داخله.»

صرَّح بنبرة انتصار: «مع ذلك أراهنكِ أنها تقفل البيت بإحكام في الليل.»

«لكنها لا تفعل ذلك. لا تخاف أمي أيَّ شيء. ولهذا، فهي تسمح لي باللعب وحدي في الخارج هنا وقتما أريد. لن تصدق، كان لدينا لص ذات مرة. وعثرت عليه أمي. وماذا اتضح في ظنك! لم يكن إلا رجلًا فقيرًا جائعًا. فأحضرت له من خزانة المؤن كمية كبيرة من الطعام، وبعد ذلك وجدَت له عملًا يشتغل به.»

كان روس شانكلين مذهولًا. فالصورة التي كُشفَت له عن الطبيعة البشرية كانت غير واردة. كان نصيبه أن يعيش في عالم غاصٍّ بالشك والكراهية، وبمعتقدات مؤذية وأفعال مؤذية. من واقع تجربته أنه كان يتجول في شوارع القرية عند الغسق، فيرى الأطفال الصغار يصرخون خائفين ويهربون منه إلى أمهاتهم. بل إنه كان يرى النساء الراشدات أنفسهن يتجنَّبنه ويبتعدن عنه أثناء مروره على الرصيف.

حركت الفتاة مشاعره وهي تصفق بيديها وتصرخ قائلةً:

«أعرف مَن أنت! أنت مشرَّد تعيش في الهواء الطلق بلا مأوًى. ولهذا السبب كنت نائمًا هنا فوق العشب.»

شعر برغبة شديدة في الضحك، لكنه كبتها.

واصلَت كلامها قائلةً: «وهكذا هم الصعاليك؛ مُشرَّدون يعيشون في العراء في الهواء الطلق. كنت أتساءل عن ذلك دائمًا. تؤمن أمي بفائدة الهواء الطلق. أنا أنامُ في الشرفة ليلًا. وكذلك أمي. وهذه أرضنا. لا بد أنك قد تسلَّقت السياج. تسمح لي أمي بذلك عندما أرتدي ملابس التسلق، وهي — كما تعلم — سروال فضفاض قصير. لكن لا بد أن تعرف شيئًا. لا يدرك الإنسان عندما يشخِّر أنه يفعل ذلك؛ لأنه نائم. لكنك تفعل ما هو أسوأ من ذلك. إنك تكِزُّ أسنانَك. وهذا سيئ. في أي وقت تنوي فيه النوم، لا بد أن تُذكِّر نفسك: «لن أكِزَّ أسناني، لن أكِزَّ أسناني» مرارًا وتكرارًا، بالضبط هكذا، وبعد فترة ستتخلص من تلك العادة.

كل السلوكيات السيئة تتحول إلى عادات. وكذلك كل السلوكيات الجيدة. ويتوقَّف علينا نوع العادات التي سنمارسها. كنت معتادة على عَقد حاجبيَّ، فأجعِّدهما، لكن أمي قالت إني لا بد حتمًا أن أتغلب على تلك العادة. قالت إنه عندما أجعِّد حاجبيَّ، فهذا إنذارٌ بأن دماغي في الداخل مجعَّد، وأنه ليس جيدًا أن توجَد تجاعيد في الدماغ. ثم سوَّت حاجبيَّ بيدها وقالت إنني يجب أن أفكر بهدوء من الداخل، وأن تسترخي ملامحي من الخارج، ومن ثَم لا يتجعد حاجباي. ولعلمك، كان الأمر سهلًا. لم أجعد حاجبيَّ لفترة طويلة منذ ذلك الحين. سمعت عن حشو الأسنان بالتفكير. لكنني لا أصدق ذلك. ولا أمي أيضًا.»

توقفَت قليلًا عن الحديث لانقطاع أنفاسها. أما هو فلم يتحدث أيضًا. كان تدفق حديثها فيَّاضًا بالنسبة له. علاوةً على أن النوم ثمِلًا بفم مفتوح قد أَشعَره بظمأ شديد. لكنه، بدلًا من أن يضيِّع لحظة حلوة معها، تحمَّل عذاب حلقه وفمه المحترقين. فلعق شفتيه الجافتين، وحاول جاهدًا أن يتكلم.

نجح في ذلك أخيرًا، فقال: «ما اسمك؟»

«جوان.»

نظرت إليه نظرةً تحمل سؤالها إليه، فلم يكن ضروريًّا أن تتفوَّه به.

فتطوع قائلًا: «اسمي روس شانكلين»، ولأول مرة بعد سنوات طويلة طواها النسيان يدلي باسمه الحقيقي.

«أعتقد أنك سافرت كثيرًا.»

«بالتأكيد، لكن ليس بالقدر الذي كنت أرغب فيه.»

«كان والدي يرغب دائمًا في السفر، لكنه كان كثير الانشغال بالعمل في المكتب. لم يُتَح له الكثير من الوقت. ذهب إلى أوروبا مرة واحدة مع أمي. كان ذلك قبل مولدي. فالسفر يحتاج إلى المال.»

لم يعرف روس شانكلين إن كان يتفق معها في هذا الكلام أم لا.

الْتقطَت ما يدور في خَلَده قائلةً: «لكنه لا يكلف الصعاليك نفقات كثيرة. هل لهذا السبب أصبحت صعلوكًا؟»

أومأ برأسه ولعق شفتَيه.

«تقول أمي إنه من المَشين أن يتسكع الرجال بحثًا عن عمل. لكن في هذه الآونة يتوفَّر عملٌ كثير في الريف. يحاول جميع المزارعين في الوادي أن يستأجروا رجالًا. هل كنت تعمل؟»

هز رأسه ساخطًا على نفسه؛ لأنه يجب أن يخجل من الاعتراف عندما أخبره تفكيره بأنه محقٌّ في كرهه للعمل. لكن هذه الفكرة تَبِعتها فكرة أخرى. إن هذا الكائن الصغير الجميل هي ابنةٌ لرجلٍ ما. وهي ثمرة من ثمرات عمله.

اندفع مُثارًا بإدراكه المفاجئ لشغفه نحو الأبوة فقال: «أتمنى لو كان لي ابنة صغيرة مثلك. كنت سأعمل بلا كلل. كنت … كنت سأفعل أي شيء.»

فكرَت في حالته بجدية تليق بها.

«إذن، فأنت غير متزوج؟»

«لن ترغب واحدة في الزواج بي.»

«بلى، سيرغبن فيكَ إذا …»

لم تُدِر وجهها عنه، ولكنها نظرت إلى قذارته وملابسه الرَّثة بنظرة استنكار لا يمكنه أن يخطئ في تفسيرها.

علا صوته بدرجةٍ ما وهو يقول: «أكملي. قولي بصراحة من دون تجميل. إذا كنت نظيفًا … إذا كنت أرتدي ملابس مهندمة … إذا كنت محترمًا … إذا كان لديَّ وظيفة وأعمل بانتظام … إذا لم أكن على ما أنا عليه.»

أومأت برأسها على كل كلمة قالها.

فاستطرد مندفعًا: «حسنًا، لست من هذا النوع. لست رجلًا صالحًا. أنا صعلوك. ولا أرغب في العمل، هذا أنا. وأنا أحب القذارة.»

كان وجهها يعبر عن اللوم عندما قالت: «إذن، كنت تتظاهر فحسب عندما تمنيت لو أن لك فتاة صغيرة مثلي؟»

انعقد لسانه مما قيل؛ إذ إنه عرف، في صميم شغفه الذي اكتشفه، أن ذلك كان تحديدًا ما أراده.

بكياستها الحاضرة، لاحظَت انزعاجه، فحاولَت تغيير الموضوع.

سألَت: «ما رأيك في الله؟ لم أقابله أبدًا. فما رأيك فيه؟»

بدا الغضب جليًّا في رده، فعبَّرت هي صراحةً عن استنكارها.

قالت: «أنتَ غريبٌ جدًّا. أنت سريع الغضب. لم أرَ أحدًا من قبل يغضب من الله أو العمل أو النظافة.»

فتمتم باستياء: «لم يفعل أبدًا أي شيء لي.» ورجع بذاكرته في استعراض سريع للسنوات الطويلة التي قضاها في المعاناة في معسكرات المعتقلين وفي المناجم. «وكذلك العمل لم ينفعني بأي شيء هو الآخر.»

حلَّ صمتٌ مُربِك.

نظر إليها خدِرًا، متعطِّشًا لمشاعر الحب الأبوي، آسفًا على مزاجه السيئ، محاولًا أن يجد شيئًا يقوله. كانت تنظر بعيدًا إلى الغيوم، أما هو فالْتهمها بعينيه. مدَّ يده المتسخة خلسةً ووضعها على طرف فستانها الصغير. بدا له أنها أجمل شيء على وجه الأرض. ظل السمان يزقزق، وبدَت أصوات المزارعين أثناء الحصاد فجأة عالية جدًّا. وأثقله شعور مُضنٍ بالوحدة.

قال بصوتٍ أجشَّ يشوبه الندم: «أنا … لست إنسانًا صالحًا.»

لكنها، فيما عدا نظرة خاطفة من عينيها الزرقاوين، لم تكن تُرعيه انتباهًا. وصار الصمت أكثر إحراجًا من أي وقتٍ مضى. وشعر أنه قد يفعل أي شيء فقط ليلمس بشفتيه حاشية فستانها حيث كانت تستقر يده. لكنه خَشِي أن يخيفها. بذل جهدًا حتى يجد شيئًا يقوله، وهو يلعق شفتيه الجافتين، ويحاول عبثًا أن ينطق شيئًا، أي شيء.

صرح أخيرًا: «هذا ليس وادي سونوما، إنها أرض الحوريَّات، وأنت إحداهن. ربما أنا نائم وأحلم. لا أعرف. كلانا لا يعرف كيف نتحدث معًا؛ لأنك حوريَّة، كما تعلمين، ولا تعرفين إلا الطيِّب من الأشياء، أما أنا فرجل من العالم السيئ الشرير.»

بعد أن حقق هذا القدر من النجاح في الحديث، بقي توَّاقًا إلى أفكارٍ جديدة، مثله مثل سمكة انجرفت إلى الشاطئ تتوق إلى أن تلتقط أنفاسها.

صاحت وهي تصفق بيديها: «وأنت ستخبرني عن العالم السيئ الشرير. لا أُطيق صبرًا حتى أعرف.»

نظر إليها مندهشًا، وهو يتذكر النساء المحطمات اللائي صادفهن في أغوار الحياة. لم تكن من الحوريَّات. إنها فتاة من لحم ودم، وكانت احتمالياتُ تحطُّمها واردة، مثلما كانت واردة في حالته، حتى عندما كان في حضن أمه. وكان احتمال تحطُّمها يكمن في تَوقها للمعرفة.

قال برفقٍ: «لا، إن هذا الرجل القادم من العالم السيئ الشرير لن يخبركِ بشيء من هذا القبيل. لكنه سيخبركِ عن الأشياء الجميلة في ذلك العالم. سيخبركِ عن مدى حبه للخيول عندما كان فتًى صغيرًا، وعن أول حصان امتطاه، وأول حصان امتلكه. الخيول ليست مثل الرجال. إنها أفضل منهم. فهي نظيفة، نظيفة من الداخل والخارج. وأريد أن أخبرك، أيتها الحوريَّة الصغيرة، بشيء واحد، بالتأكيد ليس هناك شيء في العالم يضاهي الوقت الذي تجلسين فيه على حصانٍ متعَب في نهاية يوم طويل، وتتحدثين إليه فحسب، فينهض هذا الحصان المتعب امتثالًا لإرادتك ويتحرك مسرعًا. الخيول! إنها العالم الذي أَبرُع فيه. لا شك أني مولَع بالخيول. حقًّا. كنت راعي بقر في يومٍ من الأيام.»

صفقت بيديها بطريقة لمست قلبه بإحساسٍ مبهج، وتراقصت الفرحة في عينيها، وهي تقول:

«راعي بقر من تكساس! كنت أرغب دائمًا في أن أرى واحدًا! سمعتُ أبي يقول ذات مرة إن رعاة البقر لديهم أرجُل مقوَّسة. فهل لديك أرجل مقوسة؟»

أجاب قائلًا: «بالتأكيد كنت راعي بقر من تكساس. لكن ذلك مضى عليه وقت طويل. ولا شك في أن لديَّ رِجلين مقوستين. كما تفهمين، لا يمكنكِ ركوب الخيل كثيرًا وأنتِ صغيرة ضعيفة دون أن تتعرض رِجلاكِ لتقوسٍ بدرجة ما. حقًّا، لم يكن عمري إلا ثلاث سنوات عندما بدأت. وكان عمره ثلاث سنوات أيضًا، وقد تلقَّى تدريبه حديثًا. كنت أقوده إلى جانب السياج في صمت نحو القضيب العلوي، ثم أنزل من فوقه. كان حصانًا مرقَّطًا، وكان بارعًا حقًّا في القفز، لكني كنت أستطيع أن أفعل أي شيء معه. أعتقد أنه كان يعرف أني لم أكن إلا صبيًّا صغيرًا. بعض الخيول تعرف أمورًا كثيرة أكثر مما تعتقدين.»

لمدة نصف ساعة، أفاض روس شانكلين في ذكرياته عن الخيول، مدركًا تمامًا تلك اللحظة التي غمرته فيها الفرحة عندما لمست يده حاشية فستانها. هبطت الشمس رويدًا رويدًا حتى اختفت وراء كتل السحاب، وزقزق السمان من دون توقف، وانطلقت عائدةً عربةٌ فارغة تلو الأخرى فوق الجسر. ثم جاء صوت امرأة.

نادت قائلةً: «جوان! جوان! أين أنت يا عزيزتي؟»

ردت الفتاة الصغيرة على النداء، ورأى روس شانكلين امرأةً ترتدي فستانًا ناعمًا ملتصقًا بجسدها، قادمةً من المنزل عبر البوابة. كانت امرأة رشيقة أنيقة، وفي عينيه المفتونتين، بدت كأنها تطفو، لا تمشي مثل سائر البشر.

سألَت السيدة وهي مُقبِلة: «ماذا كنتِ تفعلين طَوال فترة ما بعد الظهيرة؟»

أجابت الفتاة الصغيرة: «كنت أتحدث يا أمي. لقد قضيت وقتًا ممتعًا.»

نهض روس شانكلين سريعًا ووقف في حذرٍ وحرج. أخذت الفتاة الصغيرة يد الأم، وهي بدورها، نظرت إليه مباشرةً وبلطف، مُقِرةً بإنسانيته التي كانت أمرًا جديدًا عليه. جالت فكرةٌ بخاطره؛ المرأة التي لا تخاف. لم يَبدُ عليها أي أثر للخوف الذي كان معتادًا على رؤيته في عيون النساء. وكان مدركًا تمامًا، وأكثر من أي وقت مضى، لمظهره المنفِّر وعينيه المتعبتين.

حيَّته بلطفٍ، ومن دون تصنُّع، قائلةً: «تشرفت برؤيتك.»

أجاب مدركًا، بانزعاجٍ، خشونة صوته وقساوته: «تشرفت برؤيتك يا سيدتي.»

فابتسمت قائلةً: «وهل قضيت أنت أيضًا وقتًا ممتعًا؟»

«أجل يا سيدتي. بالتأكيد فعلت. كنت أحكي لابنتك الصغيرة عن الخيول.»

صاحت الطفلة قائلةً: «كان راعي أبقار في يومٍ من الأيام.»

ابتسمت الأم لتقدير الفتاة الصغيرة له، ونظرت إليها بحنان. كانت الفكرة التي خطرت ببال روس شانكلين هي هول الجريمة إذا ألحق شخص ما أذًى بأيٍّ من هاتين الاثنتين الرائعتين. تَبعَتها أمنيةٌ في أن يهددهما خطرٌ مروع، حتى يتسنى له القتال من أجلهما بكل قوته ويفديهما بحياته؛ إذ إن هذا هو ما كان يعرفه حق المعرفة.

قالت الأم: «عليكِ الرجوع إلى البيت، يا عزيزتي. أمسى الوقت متأخرًا.» ونظرت إلى روس شانكلين بتردد. ثم قالت: «هل ترغب في تناول أي شيء؟»

«لا يا سيدتي، على أي حال، شكرًا لك على لطفك. أنا … أنا لست جائعًا.»

فأشارت عليها: «إذن، يا جوان، فلتقولي له وداعًا.»

قالت الفتاة: «وداعًا.» وبسطت يدها، ولمعت عيناها ببراءة. ثم استدركَت: «وداعًا، أيها السيد من العالم السيئ الشرير.»

بالنسبة إليه، كانت لمسة يدها وهو يضغط عليها في يده هي الإنجاز الأكبر في المغامرة بأكملها.

تمتم قائلًا: «وداعًا، أيتها الحوريَّة الصغيرة. أعتقد أن عليَّ أن أواصل طريقي.»

لكنه لم يواصل طريقه. إنما وقف يحدق في رؤياه حتى توارت عن النظر عبر البوابة. بدا اليوم فجأة فارغًا. نظر حوله في حيرة، ثم تسلق السياج، وعبر الجسر، ومشى في طريقه متراخيًا. كان في حلم. لم ينتبه إلى قدميه ولا إلى الطريق الذي حمَلَتاه إليه. في بعض الأحيان، كان يتعثر في الحُفر المليئة بالغبار.

بعد أن قطع ميلًا آخر، انتبه عند تقاطع الطرق. كانت أمامه حانة. فتوقف وحدق فيها، وهو يلعق شفتيه. أدخل يده في جيب سرواله فوجد عملة واحدة قيمتها عشرة سنتات. تمتم قائلًا: «يا إلهي! يا إلهي!» ثم، بخطوات بطيئة مترددة، واصل السير على الطريق.

وصل إلى مزرعة كبيرة. أدرك أنها لا بد أن تكون كبيرة، لِكبر حجم المنزل وحجم الحظائر والمباني الملحقة وعددها. وفي المدخل المسقوف، وجد مُزارعًا في منتصف العمر، له عينان ثاقبتان، يرتدي قميصًا ويدخن سيجارًا.

سأل روس شانكلين: «ما فرصة الحصول على عمل؟»

نظر صاحب العينين الثاقبتين إليه دون اكتراث.

وكان جوابه: «مقابل دولار في اليوم والطعام.»

ابتلع روس شانكلين ريقه، وعدَّل من هيئته.

«أستطيع أن أجمع العنب، أو أي شيء. ولكن ما فرصة الحصول على عملٍ ثابت؟ لديك مزرعة كبيرة هنا. أعرف الخيول. وُلدتُ على أحدها. يمكنني قيادة العربات التي تجرها الخيول، وكذلك ركوبها، والحراثة بها، وتدريبها، وأقوم بأي شيء يمكن لأي إنسان أن يقوم به مع الخيول.»

نظر الرجل الآخر إليه نظرة تقييمية متشكِّكة.

وكان رأيه: «لكن لا يبدو عليك ذلك.»

«أعرف أنني لا يبدو عليَّ ذلك. أعطني فرصة. هذا كل ما أحتاجه. وسأثبت لك.»

فكَّر المزارع، ملقيًا نظرة قلقة نحو السحب التي اختفت الشمس وراءها.

«أنا بحاجة إلى سائقٍ لعربة تجرها الخيول، وسأمنحك الفرصة لتثبت نفسك. اذهب وتناول العشاء مع العمال.»

كان صوت روس شانكلين أجشَّ للغاية، وتحدث بجهدٍ كبير.

«حسنًا. سأثبت نفسي. أين يمكنني الحصول على شَربة ماء، والاغتسال؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤