مقدمة

حالة ألبير قصيري غريبة؛ فهو طوال أكثر من خمسين عامًا يُقيم بنفس الغرفة، في نفس الفندق، في باريس لا يغادره، ولا يفكر في أن يبحث لنفسه عن سكن يؤجره، حتى أمه التي جاء بها من مصر لتعيش معه سنوات في نفس الغرفة — وهي امرأة مصرية ولا تتكلم الفرنسية — لم تغادر الفندق مثله.

إنها حالة من الكسل الملحوظ الذي يجب الوقوف عنده أو هو سلوك غير مبرَّر بالمرة؛ فالكاتب حين تسأله عن هذا التصرف لا يردُّ عليك بإجابة شافية وكأنه يتكاسل أن يُجيب على هذا السؤال أو أي سؤال آخر، رغم ما يتمتع به قصيري من حيوية مطلقة، رغم عمره الذي تجاوز الثمانين بعدة أعوام.

الكسل هنا حالة جوانية يمكن معرفة أسبابها عند قراءة روايات الكاتب القليلة، والتوغل في سلوك الكثير من أبطال هذه الروايات.

الكسل إذن هو السمة الرئيسية في روايات قصيري، والغريب أنه كسلٌ رجولي، أي إنه يتعلق فقط بالذكورة؛ ففي رواياته العديدة تجد أن النساء تعمل، أيًّا كان هذا النوع من العمل، بينما الرجال كسالى إلى أقصى حدٍّ ممكن. ففي رواية «شحاذون ومتكابرون» فإنَّ النساء هن اللاتي يعملنَ في بيوت الليل، يجلبنَ المال، ويحرِّكنَ العالم. وفي رواية «منزل الموت الأكيد» فإن كلَّ الرجال يبقون في المنزل الآيل للسقوط، لا يغادرونه، بينما تتجمَّع الزوجات ويخرجنَ من البيت، يصحبهنَّ الأطفال، ويذهبنَ إلى صاحب البيت من أجل مواجهة ساخنة، ويطالبنَه بتصليح البيت. أما الرجال، فإنهم يقبعون في الدار، يفكِّرون فيما يمكن أن يحلَّ عليهم، كلُّ ما يفعلونه هو كتابة عريضة يُرسلونها إلى السلطات المسئولة، ويُقرر أحدُهم تشجيعَ جيرانه على عدم دفع الأجرة؛ وذلك لأن «صاحب البيت بلا أجرة، وبلا بيت لا يكون صاحبَ بيت».

ولعل الرواية الأكثر اهتمامًا بهذه الظاهرة، هي «كسالى في الوادي الخصيب»، ويبدو من تناقض عنوانها موقف الرَّجل تجاه الحياة، وسوف نرى أن الرجال بالفعل هم الأشد كسلًا، لدرجة أن إحدى الشخصيات يمكنها أن تنام لعدة أسابيع، أما النساء فهن مليئات بالنشاط والحيوية، ويمارسنَ أعمالًا تجلب لهن الأموال، مثل الطفلة الخادمة هدى، أو العاهرة إمتثال، أو الخاطبة البدينة الحاجَّة زهرة، فهنَّ عناصر الحركة الوحيدة في هذا المجتمع.

والرجال الذين يعيشون في بيتٍ ريفيٍّ صغير، يكادون أن يموتوا كسلًا، بدايةً من الأب «العجوز حافظ»، ومرورًا بأخيه مصطفى، ثم أبنائه الثلاثة: رفيق وجلال، ثم سراج أصغرهم جميعًا.

والكسل هنا حالةُ عدوى لدى الجميع، هو نوع من المتعة والفلسفية، ولا يتمثل فقط في أنَّ الجميع يغطُّون في النوم طيلةَ أوقاتهم، ولا يجتمعون إلا مرات قليلة كلَّ أسبوع أثناء لحظات تناوُل الطعام، بل إنهم جميعًا بلا وظائف، ويرتعب أحدُهم بشدة من فكرة العمل، والخروج في ساعات مبكرة مع الآخرين ليعمل، وعلى طريقة تخويف الأطفال بتذكيرهم بشيء ما يُرعبهم كالعسكري، وبائع الجاز، فإن ما يرعب رفيق، كما سنرى، هو أنَّ عشيقته العاهرة، تطلب منه أن يترك منزلَ أبيه ويعمل مثلَ بقية البشر.

وكما سبقت الإشارة، فإذا كان هذا هو عالم الرجال الكسالى، فإنه في المقابل، يتسم عالم النساء بالنشاط والحيوية والعطاء، يبدو ذلك واضحًا في دور «إمتثال» كعاهرة — في الرواية التي بين أيدينا — في إقناع الطلبة الذين يتردَّدون على بيتها، وفي دور الحاجَّة زهرة في تنشيط الرجل كي تدفعَه للزواج وإخراجه من حالة الوهن التي تعتريه، فتعطيه الإحساس بأنه قادر ويمكنه أن يستمر.

أما هدى فهي الشخصية النسائية الرئيسية، وهي لا تكاد تبلغ الثالثة عشرة رغم عدم الإشارة إلى سنِّها في الرواية؛ ففي الفصل الثاني من الرواية نراها هي التي تطبخ، وتنظِّف البيت، وهي العنصر الحيوي الوحيد في الدار، ورغم تعرُّضِها لمضايقات جنسية من رفيق، ورغم إهانات العجوز حافظ لها — لأنها لم تؤدِّ واجبها حين نادى عليها — فإنها هي الترس الوحيد الذي يعمل ويتحرك في وسطِ تروسٍ كسولةٍ يعلوها الصدأ، ولعلها تفعل ذلك من أجلِ حبِّها لسراج.

كما أنها صلة وصل بين رفيق وعشيقته إمتثال، يُرسلها إليها أكثر من مرة، وفي الفصل الثامن تقوم بزيارتها ذات مساء.

وتبدو المرأة هنا تمارس أعمالًا وضيعةً مثلما في أكثر أعمال ألبير قصيري؛ فهي إما عاهرة أو هي مخلوق متمثل دومًا، ولكنها مهما كانت لا تتمتع بكسل الرجال الذي يدفعهم إلى النوم لساعات طويلة، ويعتبرون أن لحظات اليقظة، إما للطعام أو للذهاب إلى الحمام، هي لحظاتٌ ضائعة، ويطرح هذا الأمر السؤال: هل هناك علاقة بين إقامة الكاتب في نفس الغرفة بنفس الفندق طوال نصف قرن وبين كسل شخصياته وعدم إقباله على الشهرة، وأيضًا على أن تُترجَم أعماله إلى لغات أخرى منها اللغة العربية، لغة وطنه؟ من الواضح أن هناك علاقة، كأنَّ قصيري قد سكب كلَّ كسله وفلسفته في ممارستها في أغلب أبطال روايته المنشورة حتى الآن.

محمود قاسم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤