١

أمسك الطفل نبلتَه وهو يكتم أنفاسه، حملق أمامه، ثم رجع برأسه للخلف، فغر فاه، اكتسى وجهه بهياج غريب، طار الحجرُ مُطلِقًا صفيرًا، ثم اختفى بين فروع شجرة الجميز فطارت الطيورُ دفعةً واحدة وهي تُطلِق زقزقاتِها، لقد خابت الضربة.

وقف سراج ساكنًا فوق منحدرٍ في طرَف حقل الذرة، إنه يراقب الطفل منذ فترة، الطفل في الثانية عشرة من عمره، يتورَّد الدم في وجهه، وعيناه الواسعتان أشبه بزهرة في رأسه، يبدو كطفلٍ ناضج، يرتدي ملابس رثَّة، وكأنه قادم من مكان بعيد، وعلى أكثر من مكان في جسده تبدو آثار المغامرة، بدا سراج مفتونًا بمظهره، وبالوحشية التي تبدو عليه، اكتسَته الدهشة وهو يتابع هذه اللعبة الآلية، من وقتٍ لآخر ينحني ليلتقطَ حجرًا ثم ينتصب كي يُطلقه بنبلتِه، إنه يُطلقه الآن دون أن يصوِّب الضربة تلو الأخرى، لاحظَ سراج أنفاسه القصيرة المتقطعة لا يمكنه أن يمنع نفسه من النظر إليه، يبتسم ببلاهة أمام هذا العنف الذي يبدو، وسط الحقول، أقرب إلى كابوس.

كم من الوقت مرَّ؟ تذكَّر سراج أنه رأى الطفل، ثم تغيَّر كلُّ شيء فجأةً، لا يعرف كيف حدث التغيير، إنه في كل مكان في الجو، كأنه حالة من المعاناة المستنشَقة.

كانت شجرة الجميز تنتصب على مسافة عشر خطوات منه بجوار الممرِّ حيث تُسقط فروعُها الكثيفة ظلالًا ثقيلة، يخترق الممرُّ حقولَ الذرة، حتى الطريق الرئيسي الذي لا يظهر سوى جزء منه، والذي تقع على حافته فيلَّا مطليةٌ باللون الأصفر المدغم بالأخضر معطيًا لونًا أشبهَ بزرقة السماء المكفهرة. أحيانًا يمرُّ أتوبيس بسرعةٍ مثيرًا خلفه ثلةً من الغبار، وأحيانًا تمرُّ عربة يجرُّها حمار ببطء شديد وتستغرق وقتًا حتى تختفي عن الأنظار، لكن في تلك اللحظة بدَا الطريقُ خاويًا.

كان الطفل يصطاد دائمًا بعنادٍ، يُناضل وقد تصلَّب رأسُه، وكأنه يهدِّد كلَّ العالمين بنبلتِه، وكأن القرية تُثير غضبَه عن بكرة أبيها، يثور فيقذف السباب الذي يتناثر من بين أسنانه التي لا يفتحها، من وقت لآخر يتوقَّف ويرقب الطيور النادرة المختبئة بين فروع شجرة الجميز، ثم يستكمل صيده وقد استبدَّت به طاقة قوية، يبدو كأنه لا يرى شيئًا حوله فينهمك تمامًا في مهمته الشاقة.

أحسَّ سراج بالخوف من البقاء وحدَه في الحقل مع هذا الطفل المتوحش الذي يتسلَّح بنبلتِه، بدأ يحسُّ بقلقٍ حادٍّ كاد أن يُصيبَه بالجنون، ودَّ لو يهرب وأن يُفلتَ من هذا المنظر الذي يُهدِّده بالخطر، ولكنه لم يجرؤ على الحركة، شعر أن جسده يرتجف، وأن حلقَه يختنق بالألم، اعتراه خوفٌ غريب أمسكه من كتفه، شيء لا نهاية له، في كل حركة، وبكل لمحة من الطفل، أحسَّ بألمٍ عنيف يَسْرِي في عنقه منذ وقت لا يعرف مداه، أخفض رأسه وبدأ يعضُّ لسانه وهو يدلِّك كلَّ عضلاته حتى لا يسقطَ مغشيًّا عليه، كأنما الدموع ستفرُّ من عينَيه من البكاء برقةٍ دون أن يمتلك مراجعةَ نفسه.

أدار رأسَه بصعوبة وألقى نظرةً حولَه مليئة باليأس، الحقلُ خاوٍ تمامًا في هذا الريف المصري، وحقول الذرة وقصب السكر، تنبسط الأرض الواسعة التي تبدو وكأنها خالية تمامًا من الحياة. عن بُعد، وعبْر ضباب خفيف، يرى جذوعَ النخيل كأنها رسوماتٌ تتوازن أشبه بمراوحَ ضخمة، وسواقيَ تصبُّ المياه تُشبه الفضة. فجأةً برزَت في الأفق طيور «أبو قردان»، وراحَت تقف قليلًا في السماء، ثم نظر سراج إلى جانبَي الطريق، في أول الأمر لم يرَ شيئًا، ثم شاهد امرأةً متشحةً بالسواد تَسيرُ على مهلٍ، وقد مالَت الجرةُ فوق رأسها، لم يستطِع أن يُميزَها جيدًا، لكنها على الأقل شيءٌ حيٌّ يتحرك في هذا المكان.

كان من الصعب رؤية الشمس التي تختفي خلف السُّحب الكثيفة، إنها شمس الشتاء الخافتة، تلمع لكنها بلا حرارة.

من وقتٍ لآخر، تهبُّ نسمةٌ عبْر الحقول فتهزُّ أفرع نباتات الذرة، فتبدو كأنَّ موجةً عاتية قد ثارَت … ثم تتلاشى شيئًا فشيئًا، وتعود الأشياء كما كانت مرةً أخرى. نظر سراج إلى الطفل أحسَّ كأنَّ شيئًا يصدمه في صدره وأنَّ ساقَيه تخوران من تحته وكأنهما قطعتان، استكمل الطفل صيدَه وكأنَّ صرعًا يمتلكه، كأنما شيطان يمسُّه في هذا الفراغ، ظلَّ سراج ينظر إليه دون أن يُصدِّق نفسَه، أحسَّ بنعاس يغلبه، لكن كيف ينام أمام هذا المنظر المثير للقلق؟ في الواقع كان ما يُثير خوفه هو ذلك الغموض الذي يكتشفه، الغموض في عالم متوحِّش، مليء ببشرٍ أثقلهم العمل وأخار قواهم، لم يخدع سراج نفسَه؛ فقد أحس في تصرُّفات الطفل بكل سِمات الإنسانية الضائعة المطاردة، وأنَّ كلَّ عبودية البشر لم يُصِبها مثل هذا المشهد … هل يؤمن بالقدَر؟ سمِع سراج دقاتِ قلبِه كأنه على أعتاب الجحيم.

لقد سَمِع سراج أنَّ الناس يعملون، حتى لو ظلَّت هذه مجردَ حكايات؛ فهو لا يؤمن أبدًا أنَّ على الإنسان أن يعمل بعيدًا عن هذه المهن الخصبة والعقيمة التي ليست لها أيُّ جاذبية أو قيمة تستبد به رغبة منذ وقت طويل أن يرى أحد هؤلاء البشر الذين يعملون بمشقة بكلتا يدَيهم وهم يُمسكون محاريثَهم، لكن يبدو أنَّ هذا أمرٌ صعب للغاية، إنه لا يعرف أيَّ وسيلة للوصول إليهم، منذ أن بدأ يبحث عن عمل، هو لا يستطيع الوصولَ إليهم، في المنزل تعتبره أسرتُه مجنونًا أو ممسوسًا، عندما يحدِّثهم عن العمل، لم يُصدِّقه أحدهم، ليس لأنهم بُغِتوا بقراره، ولكن لأنه لا يُجيد أيَّ مهنة، لم يعرف سراج إلى مَن يتوجَّه، فكلُّ مَن يعرفهم كذابون وليس لديهم فكرةٌ عن العمل الحقيقي، حتى هؤلاء الذين يمارسون أعمالًا شاقة لم يَظهروا أمامه قط … يبدو كأنهم اختفَوا في أعمالهم، كأنما رَكِبهم خجلٌ أو خزي، إنه يرغب أن يقترب من الناس في عملهم، ليعرف كيف يبدو العمل.

لكن، هل هذا الطفل المصاب بالصرع عاقل؟ بالتأكيد إنه لا يعرف الطريقَ ولا الوسيلة لو كان العمال يتصرفون مثله، فسوف تصبح الحياة مستحيلة، ألا يوجد أمامه سوى صيد الطيور، ماذا سيغدو أمره لو عمل في مصنع؟ لأن سراج لا يفهم العمل الجاد إلا في الآلات التي تعمل، ولديه فكرة رومانسية عن العمل في مصنع، وهو مشدوهٌ بالأسلوب الرائع الذي يتم فيه إنجازُ عملٍ ما بواسطة آلاف البشر، ومن هذا المنطق لا يبدو له العمل شيئًا مهينًا، إذن فما يفعله هذا الطفل لا يمثِّل أيَّ نوع من المهن … حاول سراج أن يضع الغلام في إحدى درجات العمالة، لكنه لا يمكن أن يضعَه تحت أي تقسيم، إنه يبذل جهده سدًى، إنه نوع من الناس فاشلٌ وبائس ولم يرَ سراج مثل هذا الطراز من قبل.

تملَّكه خوفٌ مميت، وهو يتساءل كيف ستنتهي الأمور، ألَا يوجد أحد يمكنه أن يوقف هذا الطفل؟ لا يمكنه أن يظلَّ واقفًا هكذا مدةً طويلة، يحسُّ أنَّ أعضاءَه يتملَّكها بردٌ ثقيل، وكأنه سوف يتبول كمضخة، يعاني كأنه سيتقيَّأ، زمَّ أسنانه كي يمنعَ نفسَه من الصراخ، مال برأسه ناحيةَ الأرض، أغلق عينَيه متجهمًا بصعوبة، تثاءب، وتمطَّع بكلتا يدَيه، ثم جلس على المنحدر، أخرج كسرةَ خبز من جيب بنطاله وبدا في قضمها، وتذكَّر أنه لم يأكل شيئًا منذ أن استيقظ.

مرَّ أتوبيس أخضر-أبيض فوق الطريق الرئيسي مخلفًا وراءه جلبةً شديدة. تناثر الضجيج في المكان كلِّه، ثم اختفى شيئًا فشيئًا، رأى سراج الطفلَ يُطلق طويتَه الأخيرة وقد انتابه الإحساس بالخلاص، ماذا سيفعل الآن؟

تردَّد الطفل طويلًا، وقف يلهث وهو يجفِّف العَرق الذي ينسال أسفل عينَيه، رفع طرفَ ملابسه وكأنه يكشف عن ذكورته، ثم بدأ يتسلَّق جذعَ شجرة الجميز كأنما تملَّكه شيطان. فجأةً رأى سراج شيئًا ما يلمع في عينَيه، عَرَقٌ قذرٌ ينسال على وجهه، لقد أفرغ كلَّ غضبه، لم يبقَ أمامه سوى فضولٍ هائجٍ ونَهَمٍ شديد مضطرب. ركَّز كلَّ انتباهِه الآن على قطعة الخبز التي يقضمها سراج الذي أغلق نصفَ عينَيه، كأنه اكتشف عالمًا رائعًا. تقدَّم بضع خطوات قد تسلَّطَت نظراتُه على قطعة الخبز، ووقف وسط الممر وقد باعد بين ساقَيه وفغر فاه.

تحرَّكَت سحابة ضخمة، فظهرَت الشمس بقرصها الأحمر، وغَرِق المكان في ضوءٍ خائرٍ وخافتٍ، كاشفًا عن مساحاتٍ شاسعة، وكأنما كشفت الأرض فجأةً عن آفاقها. ارتعد سراج ورمَشَ بعينَيه؛ فضوء النهار يُضايقه ويُثير أعصابه. نظر إلى الطفل الذي تجاهله واستمر في الْتهامِ طعامه، وأحسَّ كأنه لم يَدُم طويلًا؛ فقد استيقظ مرةً أخرى، وأحسَّ بوجود الطفل وبنظراته المتوحشة. فكَّر فجأةً أن يقوم ويرحل، لكنَّ هذا الموقف لم ينجح إلا في تثبيطه أكثر، وكالعادة فإنه لم يأتِ إلى هذا المكان إلا لرؤية المصنع الذي لا يزال تحت التشييد حتى الآن، هذا المصنع الذي يقع على مسافة مئات الأمتار معزولٌ وسط الحقول، لم يودَّ سراج أن يذهب الآن؛ فهو بالغ التَّعب، لكنه يجد نفسَه أكثرَ شجاعةً من أيِّ وقتٍ مضى. تردَّد، وفكَّر في أن يعود إلى المنزل. عندما تحرَّك الطفل مؤكدًا تواجدَه بمهمة باكية، لم يستطِع أن يتفاداه، فناداه: اسمعْ يا صغير.

وكأنه بهذا النداء ينتقل إلى الواقع، أطلق الطفل العنانَ لساقَيه، وعبَرَ الممرَّ بخُطًى سريعة وهو يجرُّ ملابسه الرثَّة خلفه كأنها أجنحةُ طائر، رآه سراج فجأةً أمامه شخصًا بائسًا يُثير الرثاء وهو يُمسك بنبلتِه بيدٍ ويمدُّ له اليدَ الأخرى: هل تريد قطعة؟

مدَّ الغلام يدَه دون أن يردَّ، ظل محتفظًا بتحدِّيه، وهو يرمق سراج بعينَيه الجاحظتَين.

لقد فقدَ كلَّ ثقته في هذه الحيلة. قسَّم سراج قطعةَ الخبز وأعطاه القطعةَ الكبرى.

– هل نصطاد منذ وقت طويل؟

حشر الغلام اللقمةَ في فمه، وقال وهو يَهُمُّ بالذهاب: أجل، منذ وقت طويل، هل تقدر لي على شيء؟

يراه سراج الآن عن قرب وقد اكتسى وجهٌ بلون غريب، وأهداب ثقيلة وجاذبية خفية، أذناه تلتصقان بوجهه، ورأسه تغطيه جروحٌ متناثرة، هناك شقٌّ في ركن من شفته العليا، يَعَض فمه في سخرية مثيرة للرعب، يظهر جسدٌ مرِن تحت أسمالِه وأعضائه المتناسقة، إنه بالفعل نموذج مرعب جاء من عالم اليأس والنضال، فَهِم سراج الآن سببَ الغم الذي يتناثر من حوله.

ليس نتيجةً لمنظرِه البائس ولا لوجهه الإجرامي، لا، فهذا الغمُّ هو رسالة عالم يتألَّم ويعاني وأضاعَ سنين حياته ولم يجنِ منها سوى الشحوب وعدم اللاوعي، أشبه بحيوان مسكين مطارَد يبحث له عن مصير وقد كتَّفته الأخطار، لكن أي أخطار؟

هذا هو ما أراد سراج أن يعرفه على وجه التحديد، هذا الغموض الذي يغلِّف قسوةَ حياة البشر.

الْتهمَ الغلام لقمتَه بسرعة غريبة، وقد اعتبر أنَّ هذه وجبته المناسبة، فسأله سراج: إذن، فأنت تصطاد الطيور؟

كفَّ الغلام عن الأكل، وقد اكتسى بشعور عدواني، وقال: أنا لا أتسلَّى، بل أصطادُهم لأبيعَهم، هل تعتقد أنَّ أمامي وقتًا كي أُضيعَه؟

بدَا كأنه شخصية هامة، وهو ينظر إلى سراج بعينَين مليئتَين بالرثاء: آسف، لم أكن أعرف أنك تعمل، من الرائع أن يعمل المرء هنا.

ردَّ الطفل: إنه عملٌ ملعون؛ فلم أستطِع اصطياد طير واحد منذ الصباح، وكأن شيطانًا تسلَّط عليهم.

يبيع الطيور، بالتأكيد أنَّ تجارته أشرف من غيرها، لم يأخذها سراج في حسبانه، لكنها بدَت له شيئًا رائعًا، وأكثرَ أهميةً، هل يسخر الطفل منه؟ لعله يتحداه، فكَّر في محاولاته اللامُجدية وفي قسوة الطفل، فلم يستطِع أن يمنع نفسه من الإعجاب به، ربما أنه نوع العمل الذي ينشده، أراد أن يسأله بضعةَ أسئلة، وأن يعرف تفاصيلَ هذه الصناعة الهامة المليئة بروح المغامرة والمخاطرة، ربما يمكنه أن يمتهن هذه المهنة يومًا لو كانت مربحة، سأله: هل تكسب منها نقودًا كثيرة؟

لم يردَّ الطفل، انتهى من لقمته، وبدا كأنه يعيد مضْغَها ثانيةً، فجأةً بدأ يقفز فوق ساق واحدة، ويدور حول نفسه كأنَّ شيطانًا مسَّه، وكأنَّ هذا التمرين يُغرقه في حالةٍ من الثَّمالة النادرة. لمع وجهه في سعادة واضحة، لم يُعِر سراج انتباهًا، وبدَا كأنَّه نسيه تمامًا.

ظلَّ سراج ينظر إلى الطفل من فوق المنحدر ثم دعك عينَيه حتى يتأكَّد أنَّ غيبوبةً لم تمتلكه، لقد باغتَه تصرُّفُ الطفل ولم يفهم شيئًا من هذا التحوُّل، فانغمس بخياله في واقعٍ مثير لم يدخله الطفل بغتةً، ينتقل دائمًا من حُلمٍ عبثيٍّ إلى واقعٍ مرعب، لم يستطِع سراج أن يتوصَّل في منظره هذا أنه قادمٌ من عالم مليء بالمتاعب.

بدأ بعض رذاذ المطر يتساقط فيجعل المكانَ أكثرَ حزنًا، تنبَّه سراج من أفكاره عندما سقطَت عليه حبات المطر، هبَّ في جلسته، لكنه ظلَّ قابعًا فوق المنحدر وقد عقد ذراعَيه حول وجنتَيه. توقَّف المطر فجأةً واندلع ضوء البرق، غطَّت السُّحب الشمس، ثم من جديدٍ ظهرَت بين كُتَل سُحُبية ثقيلة أشبهَ بالأطباق، ظلَّ الطفل يدور حول نفسه، وهو يلهث وقد اكتسى بمتعة غريبة، لاحظ سراج أنَّ ساقَه التي في الهواء مربوطة بشاش قذر، خاصة الكعب.

– هل جُرحتَ في قدمك؟ هل أنت أحسن الآن؟

– أجل، أفضل، ولا يهمك، أخبرني … هل معك خبز آخر؟

– قال سراج: لا، لم يكن معي سوى اللقمة التي اقتسمناها، آسف، ألا تزال جوعانَ؟

قال الطفل: أنا جوعان دائمًا، وماذا ستفعل بعد ذلك؟

– بعد ماذا؟ ماذا تقصد؟

– أقصد، عندما ستجوع.

ردَّ سراج: سأعود إلى المنزل لأتناول غدائي.

– آه، إذن فأنت من الذين لديهم منازل.

ردَّ سراج بسذاجة: أجل فلدينا منزلٌ قريب من هنا، قريب من الطريق الرئيسي.

أحس فجأة بالخجل وكأن الطفل يرمقه باحتقار شديد، ردَّ: أنت تعرف أنه ليس منزلي، إنه منزل أبي، وأنا أسكنه فقط، وأنت، أليس لديك منزل؟

قال الطفل: كان لدينا، لكنه سرقَه مني.

– سرقه منك؟ كيف؟ ومَن سرقه؟

– ولدٌ أجَّرتُ له نصفه، كنَّا نسكنه معًا، وذات ليلة عندما عُدتُ لأنام لم أجد البيت ولا الكوخ.

قال سراج هلِعًا: كوخ؟ أي كوخ؟

قال الطفل: البيت هو كوخ من الخشب، أتعتقد أنني صاحب عمارة؟!

قال سراج معتذرًا: لم أفهم جيدًا.

قال الطفل في أسفٍ: كان كوخًا جميلًا، كان قريبًا من الأسواق، يحميني من البرد، خاصة في المكان المخصَّص لي، كان أفضلَ من شقة، هل تصدِّق … كم قضينا أوقاتًا طيبةً أنا وهذا الولد، ندخن أعقابَ السجائر، وأحيانًا ندعو أصدقاءنا عندنا.

– وكنتم تجلسون جميعًا فيه، إذن هو كوخٌ كبير.

– لا، كان الآخرون يجلسون بالخارج، أما أنا والغلام فنجلس بالداخل، فهو كوخنا.

– ألم تكن تدعوهم للبقاء معكم؟

– من وقتٍ لآخر، كان أحدهم يجلس في مكانٍ للحظات، لكنه لا يجلس طويلًا، وإلَّا أخرجتُه بالقوة إذا لم يفعل.

– وهل سرق هذا الولد كوخك؟

– أجلْ، إنه لصٌّ وابن كلب، أبحث عنه دائمًا، ألم ترَه هنا؟

– لا، لم أرَه، ثم كيف أعرفه؟

– إنه معروف تمامًا، فأمُّه أكبر عاهرة في الدنيا.

هذه الحكاية جعلَت سراج يفكر قليلًا، وراح يتخيَّل، بفرحةٍ غير بادية، وجودَ هذا الطفل المغامر، فما أشبهه به! إنها ليست فقط المغامَرة التي تُغريه، لكنَّ حالة اليقين التي وراء هذا الوجود الجامح والهائم، كانت هناك حقيقةً واضحة وملموسة يرغب في أن يبلغها، ومنذ أمدٍ طويل فهو يناضل كي ينزعَ نفْسَه من شيءٍ أشبهَ بجُرح مفتوح ينسال الدم منه، أراد أن يحسَّ بمشاعرَ تخريبية، وأن يُواجه أخطارًا مرعِبة، وأن يواصل النضال بكل جسارة الأحياء، لكنَّه كان في نفس الوقت خائفًا بشدَّة من هذا العالَم المجهول الشديد الأذى، والمليء بالمعاناة الدائمة، والنُّذُر المظلِمة التي تدفعه أن يدخل في مغامرةٍ عابرة كهذه؛ فإحساسه بخَوَره يحطِّمه، ويُلقي به دائمًا في عالَم الكسل العريق، حيث نما شخصًا خاملًا في منزل الأسرة، يحوطه أمانٌ أكثرُ عدميةً من الموت؛ فهو لم يبلغ قط هذه الدرجةَ من الحرية، وهذا الاحترام غير المحتمَل من أن يعيش حياته كطفلٍ، أحسَّ أنَّ بينه وبين العالَم الذي يعيش فيه خَواءً لا نهائيًّا يمتلئ بالنوبات السوداء.

عادت الطيور إلى أفرُع شجرة الجميز، تبدو الآن أكثرَ هدوءًا وقد ملأَت الهواء بأصواتها الصداحة الجميلة، ومن وقتٍ لآخر، راح الطفل يتحدَّث من ناحيته، لم يغفر لهم مرارته كصيادٍ خائب، وفكَّر في أن يستأنف تجربته الفاشلة في وقتٍ آخر، إنه يوم ضائع بالنسبة له، وأيضًا هو واحد من أيامه الطويلة التي بحث فيها بلا جدوى عن كيانه، لكنه لم يُبلغه بأي ثَمن، ارتعش تحت ملابسه التي بدَت خفيفة، وكأنَّ كلَّ البؤس لم يتمكَّن بعدُ من طلعته العنيدة، عقَد ذراعَيه بقوة على صدره، ثم راح يقفز بكل فرحة.

أما سراج فقد انسحب في تكاسُل، وحاول أن يقوم، لكنه سقط لتوِّه فوق المنحدر، حاول ثانيةً، فنجح هذه المرة في أن يقف، دعَكَ عينَيه، وقال موجِّهًا كلامَه للطفل: ألَا نتمشَّى قليلًا يا صغيري! يجب أن أذهب إلى المصنع، هل تصحبني؟

– هل هناك مصنع؟

– نعم، إنه مصنعٌ تحت التأسيس، لا أعرف ماذا حدث؛ فقد توقَّف العمل فيه منذ شهور.

قال الطفل: ربما أنَّ صاحبَه قد مات.

قال سراج: لا أعتقد (ثم أضاف بلهجةٍ مريرة)، وإلَّا كانت مصيبةً كبيرة!

– لماذا، هل هو قريبك؟

– لا، ليس قريبي، ولكنني أهتمُّ بالمصنع، إذا جئتَ معي إلى هناك فسوف أشرح لك. أحسَّ وسطَ آلامه أنه في حاجة إلى وجود شخصٍ ما؛ ففي أعماقه، كان يعرف أنه لن يصل وحدَه إلى المصنع، وأنه سوف ينام بكل تأكيد وهو في الطريق، مثلما حدث له مرارًا من قبل. قال الطفل: لا أستطيع مصاحبتك، يجب أن أستكمل صيدي (وتردَّد قليلًا)، ولكن إذا أعطيتني تعريفةً فسآتي معك؛ فأنا ليس لي منزلٌ آكل فيه، وأنت تفهم!

فتَّش سراج في جيوبه، وجمع بعضَ الفكَّة، وجد من بينها قطعةً بمليمَين، إنها عملة مزيَّفة يحتفظ بها منذ أمد طويل، وتذكَّرها الآن فجأة. قال للطفل وهو يمدُّ يدَه له بالعملة: ليس معي الكثير من النقود الآن، ولكن معي مليمان، هل تكفيك؟

قال الطفل: لن نتساوم، ماشي، هيَّا بنا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤