١٠

وقف سراج أسفلَ التل يرقب كلَّ ما حوله، إنه موجود في نفس الضاحية التي سبق أن رأى فيها الطفل يصطاد بالنبلة، فتأكد أنَّه سيراه يظهر خلف عيدان الذرة العالية. ارتفعت أشجار الجميز أمامه عند طرَف الممرِّ، وسمِع صداح العصافير وهي تقفز فوق فروعها، طال الممرُّ عبْر حقول الذرة وبدت حافة الطريق ضائعةً في ضِياعٍ بعيدة، راح سراج يُحدِث مِن حوله أقلَّ ضجة، وألقى حوله نظراتٍ زائغة، إنه حزين لأن الطفل لم يظهر، وعندما خرج هذا الصباح لمشاهدة المصنع الذي تحت التأسيس، فكَّر فيه وتأكَّد أنه يتصعلك في نفس المكان.

اغتمَّ لأنه لم يرَه؛ فقد توهَّم أنَّ الطفل يجب أن يكون هناك في انتظاره، وأنَّه لا يستحق منه هذه الخيانة.

نظرَ حوله مرةً أخرى، ولكنه لم يرَ أيَّ أثر للطفل، لا يعرف ماذا يفعل الآن، فغياب الطفل نذيرُ نحسٍ بأنَّ القدَر يعانده، وهدفه هو أن يجد الطفل وأن يتَّفق معه كي يصحبه إلى المدينة. إنه يودُّ لو ربط نفسه بذاته، ويتذوق معه المغامرات المثيرة، ولكن الطفل خذله، وجال في كلِّ الطرق وحدَه وهو لا يخشى شيئًا، انتابه حنينٌ كالعلقم وهو يتذكَّر لقاءهما الأول.

أصابه الملل وهو ينتظر ظهورَ الطفل بلا جدوى، فعليه أن يذهب إلى المصنع باعتباره هدفه الأسمى، نزل المنحدر وغاص عبْر الحقول.

الجو صيفٌ الآن، والنهار حارٌّ، وسراج يعاني من الصديرية الثقيلة، فكَّر أنه يجب أن يغيِّر ملابسه إذا استمرَّ في تكملةِ مسيرته، وربما عليه أن يعتمد على النظارة الداكنة كي يحميَ عينيه من الشمس، فلا شكَّ أنَّ هذه الحرارة أفضلُ من فصل الشتاء المتقلِّب، فهنا لا يتعرَّض المرء لأخطار المطر والريح، فهو لا يرى السُّحُب الثقيلة الحزينة التي تسبِّب الأسى والحزن، أحسَّ سراج بقوة المغامر تنتابه أكثرَ من أي وقتٍ مضى، بدا له أنَّ دماءً جديدة تسري في عروقه.

فالحياة في أُسْرته لم تَعُد غيرَ محتملة، ومنذ أن قرَّر أبوه الزواج، بدا كأنَّ شيطانًا استقر في الدار، رفيق في حالة تأهُّب، وجلال لم يَعُد ينام، ومن المثير للرثاء أن يرى جلال قلقًا هكذا، إنه كِيان آدمي؛ لذا فسراج يعاني من أجْلِه.

رمى بأفكاره الحزينة وعجَّل خطاه، هذا النور الذي يحوطه من كل الأركان فتح له آفاقًا لم يسبق له التفكير فيها، تخيَّل نفسَه متوجهًا بالفعل إلى عمله، إنه وهمٌ جميل، دفع سراج، للابتسام في سعادة.

وصل لاهثًا إلى قمَّة التل، الآن، يمكنه رؤيةُ المصنع، يبدو مثلما تركه وراءه في زيارته الأخيرة، لم تحدُث أيُّ تغيُّرات في الجدران التي لم ينتهِ بناؤها، إنه نفس الخراب المفجِع، وبنفس المنظر الاستفزازي، رأى سراج أمامه رجلًا ملتحيًا قريبًا من كانونٍ يطهو عليه وجبتَه.

أحسَّ سراج ببصيص من الأمل، وسرعان ما وضع في حسبانه أنَّ الرجل يمكن أن يكون حارسًا وليس عاملًا، تساءل لحظة: هل يسأله عن موضوع المصنع، سيعرف أخيرًا لماذا لم ينتهِ، وعمَّ إذا كان سينتهي، فالرجل يجب أن يعرف هذا، تردَّد سراج وهو يدلِف في الطريق، طريقٍ يفصله عن الرجل، شهِد فيه حادثًا، وتملؤه المطبَّات، إنه في قلب الخطر، أراد سراج أن يعرف مدى إمكانية العمل في المصنع، إنها فرصته الأخيرة للمعرفة، لملم شجاعته، ونزل من التل، وراح يدقُّ فوق الأرض المتربة التي يقع المصنع وسطها، وقد ارتفعت جدرانه التي لم تنتهِ.

تقدَّم بصعوبةٍ بين كومات الحجارة الضخمة التي تعلو الأرض فاصطدمت قدماه بالأخاديد، أدرك أنَّ الأمر أكثرُ خطرًا ممَّا يعتقد، فكاد أن يسقط أكثرَ من مرة، بدا كأنه يسير في طريقٍ بلا نهاية، ثم توقَّف أخيرًا، إنها أول مرَّة يرى المصنع قريبًا إلى هذا الحد، خاف من منظر الجدران التي تشبه محراثًا يدفعه رجل، رآها تتضخَّم أمامه، وكأنه يدفع وجودَه الآثم.

قفز سراج فوق حديد التسليح ووجد نفسَه واقفًا أمام الرجل، تأمَّله للحظة في صمت.

– السلام عليكم.

رفع الرجل وأجاب بصوتٍ أجشَّ: عليكم السلام.

كان مشغولًا يطهو الفول على الكانون، إنه رجلٌ عجوز، ملابسه مرتَّقة مثل زي شحَّاذ، وقد وضع عصًا طويلة قريبًا منه فوق الأرض، سأل سراج: هل أنت الحارس؟

قال الرجل: نعم، وأنت، ماذا تريد؟

قال سراج: اعذرني، أريد أن أعرف لماذا لم يتمَّ الانتهاء من هذ المصنع؟

قال الرجل: الله وحدَه يعلم، لقد طلب مني أن أبقى هنا، ولا أعرف أكثرَ من ذلك.

وظلَّا لحظةً بلا كلام. انشغل الرجل بفوله، قلَّبه بقطعة من الحديد الأبيض على شكل ملعقة، انطلقت رائحة الطعام وأغلق الرجل عينيه من الرضاء، نظر إليه سراج فرحًا وقلقًا، فهو لم يعرف شيئًا من هذا الرجل.

– إذن، أنت لا تعرف شيئًا؟

سأل الرجل: فيمَ يهمُّك هذا، دع هذا المصنع في حاله.

قال سراج: حسنًا، أعتقد أنني يمكن أن أعمل به.

قال الرجل: هل تبحث عن عمل؟

نظر إلى سراج في قلق، وتفصحَّه من أعلى لأسفل، هزَّ رأسه وأكمل: لا تبدو عليك هيئةُ العمال؛ فالأفندية أمثالك لا يعملون في المصانع.

قال سراج: ليس هذا سببًا كافيًا، أستطيع أن أعمل جيدًا، لقد جئت مراتٍ عديدة هنا، ولديَّ شوقٌ كبير.

ورغم أنه شديد الإرهاق فقد جاهد أن يبدوَ متماسكًا وصلبًا، إنه يريد أن يكسِب احترام الحارس، تخيَّل أنَّ الرجل يمكن أن يوصي عليه مديرَ المصنع.

– لا يا بني، إنه عملٌ لا يليق بك.

وتم تسخينُ الفول، رفعه الرجل من فوق النار، وقبل أن يبدأ في الأكل، قال بكل أدب: تفضَّل.

قال سراج: أشكرك، لست جوعانَ.

وجلس على حجرٍ كبير، أمام الرجل، كانت الشمس تضيء الريف كلَّه، فالوقت ظهرًا، وسراج يشعر بالحر والعطش.

– هل أنت هنا منذ فترة طويلة؟

قال الرجل: منذ بضعة أشهر، ولكنني لن أبقى هنا طويلًا، إنَّه عملٌ شاقٌّ، يجب أن تحرس دومًا هذه الحجارة، وتلك الأكوام من الحديد؛ فهناك لصوصٌ يأتون لسرقةِ كلِّ شيء، وأنا مسئول ولعلك تفهم.

قال سراج: إنه عملٌ شديد الأهمية.

قال الرجل: إنَّه بالغُ الأهمية، وأنا أهتم به وحدي، يلزمه على الأقل أربعون شخصًا لمراقبة هذا كله.

وانتابت سراج فكرةٌ مفاجئة؛ فهو يمكنه أن يساعد العجوز في عمله، سيكون هذا عملًا عليه القيام به أثناء انتظاره وانتهاء المصنع.

– هل أنت في حاجةٍ إلى مساعدة؟

قال الرجل: طبعًا، على الأقل أربعون شخصًا.

قال سراج: أحبُّ أن أعمل معك، ما رأيك؟

– هل تريد أن تكون حارسًا؟

– نعم أستطيع أن أساعدك في حراسة هذه الحجارة.

– بشرفي أنت صبيٌّ غريب، وما رأي أمِّك؟

– أمي ماتت، وما كانت لتقول شيئًا.

– ومع ذلك لا أستطيع؛ فهو عملٌ لا يناسبك.

– أرجوك وافِق، فلديَّ الرغبة في العمل.

– لماذا؟ هل يضربونك في البيت؟

قال سراج: لا أحدَ يضربني، بل أنا الذي أريد الذهاب، لقد قرَّرتُ أن أعمل.

قال الرجل: سوف تجعل أهلكَ يبكون، ستكون هذه مصيبةً سوداء عليهم.

توقَّف الرجل عن الأكل وبدا كأنه يفكِّر، فهذا الصبي يبدو له غريبًا، وبدأ يشكُّ في كونه لصًّا يريد أن يستعلم كي يأتيَ في الليل مع رفاقه للسرقة.

أمَّا سراج فقد امتلأ بالأمل وانتظر قرارَ الرجل.

– إذن فأنت لا تريد؟

قال الرجل بصوتٍ مليء بالتهديد، لا، لا أريد وأنصحك أن تمشيَ بسرعة.

ارتبك سراج، ولم يفهم شيئًا.

– لماذا غضِبت؟ سامحني إذا كنتُ قد أزعجتك.

– أجل، أنت تزعجني، اذهب ولا تَعُد هنا، وإلا طلبت لك البوليس.

قال سراج مبغوتًا: البوليس؟

كرَّر الرجل: سأطلب البوليس.

وأمسك عصاه واستعدَّ لاستخدامها، وبدا شريرًا، وسال لُعابه، ثم سقطت حبات الفول على لحيته، تردَّد سراج لحظةً، ثم رحل مغمومًا دون أن ينظر خلفه.

لقد انتهى كلُّ شيء الآن، ولن يعمل أبدًا في المصنع، حتى هذه الفرصة الأخيرة قد لفظته، والحادث الذي جرى مع الحارس العجوز وضع حدًّا لأوهامه، لا يستطيع أن يتأمَّل انهيار حُلمه، سوف تكون للحياة وتيرةٌ واحدة وماسخة، وأمام هذه الفكرة التي تنتابه في اللحظات الحاسمة، وجد سراج نفسَه وقد فقدَ توازنه؛ فهذا المصنع قد لعِب دورًا هامًّا في حياته، فهو لا يكفُّ عن التفكير فيه كلَّ يوم، والآن وجد كلَّ شيء يضيع فجأةً، وليست لديه أيُّ حجَّة كي يقضيَ على كسله، لا يستطيع أن يغشَّ نفسَه أكثرَ من هذا، وصل إلى الطريق، وسار منخفضَ الرأس، يردِّد النداءات الحادة للبائع المتجوِّل الذي يقاطعه، وقد هرولت الخادمات نحوه للشراء وهن يثرثرن بأصواتٍ حادة مبهجة، مرَّ دون أن يتوقف أمام محل أبو زيد؛ فهو ليس مؤهلًا كي يواجه مصيبته، ثم إنَّ أبو زيد كان نائمًا مكوَّمًا على عتبة محلِّه، ولم يُثِر أيَّ انتباه له، إنها مصادفة سعيدة.

فسراج لا يحتمل مقابلةَ بائع الحرنكش، وليست لديه أيُّ فكرة جديدة يقترحها عليه، أحسَّ أنه مخطئ، وعلى بضع خطوات رأى هدى بين مجموعة الخادمات واقفةً قريبة من عربة بائع اللبن، لمحته الفتاة، فجرَت نحوه، وهي تحمل حقيبةً ثقيلة ممتلئة، قال سراج: أتتسوَّقين في مثل هذه اللحظة؟ ستتأخَّرين على الغداء؟

قالت هدى: ليست غلطتي؛ فسيدي نائم، وليس معي نقود، لا يجب أن أنتظرَ حتى يصحوَ.

قال سراج: أنا جوعان جدًّا، هيا، عودي إلى المنزل.

قالت هدى: سأعود معك.

لم تكن أمامه وسيلةٌ للتخلُّص منها، رآها سراج بالغةَ السعادة لدرجةِ أنه لم يجرؤ أن ينظر إليها، أمسكت يدَ سراج، وسارا متعانقَي اليدين كعاشقَين. أحسَّ سراج بالخجل من الناس الذين يرونه، ولكنه لم يسحب يدَه، وجد أنه من الرائع أن يفعل ذلك أمام أشخاصٍ يعرفونه، نظرت إليه هدى وهي تبتسم.

– أريد أن أقول لك شيئًا.

– ماذا؟

– كنت فخورةً هذا الصباح.

– آه، ممَّ إذن أيتها الغبية الصغيرة؟

ابتلعت هدى إهانتها وقالت بكل جِدية: قبل أن أذهبَ إلى السوق، تنزَّهت على الطريق مع طفلِ إمتثال، هل تعرف ماذا اعتقد الناس؟

– لا.

اعتقدوا أنه ابني، ابتسموا للطفل ونظروا لي بإعجاب، وكنت شديدةَ الفخر.

– كم أنتِ غبية، يا لها من فكرة، هل تقضين وقتكِ في التفكير في هذا بدلًا من الاهتمام بشئون البيت؟

– أنا لستُ غبية، أنا فتاة صغيرة كبيرة، أنت لا تفهم شيئًا.

انسحبت من يدِ سراج، وسارت وحدَها وهي تحسُّ بالغيظ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤