١١
قالت هدى: سترحل وتتركني وحدي.
– نعم، يحب أن أرحل إلى المدينة، لا أستطيع البقاءَ في هذا المنزل.
لقد قرَّر سراج هذا الصباح أن يرحل إلى المدينة، منذ أن فقدَ الأمل في المصنع، حدث فراغ ضخم في حياته، وعليه أن يملأ هذا الفراغ؛ فقد أعطته زيارتُه إلى المصنع الذي تحت التأسيس والإحساس بأنَّه استُكمل، الشعورَ بالشجاعة التي يستمدُّ منها بعضَ قوَّته المعنوية.
ولكن هذا الهمَّ قد تبدَّد تمامًا، ووجد نفسَه منجذبًا من جديد إلى عالَم النوم، فلم يَعُد يستطيع مقاومته، وبشكلٍ قدَري، ترك الجراثيم تغزوه من كسلٍ لا يرحم، هذا الجو من اللامبالاة السائدة الذي تعيش فيه أسرته يسمعه كلَّ يوم أكثر، وهكذا قرَّر أن يرحل بأقصى سرعة، وإلا افتقد روحَ المغامرة خلال بضعة أيام، قالت هدى: إذا فعلتَ هذا فستجعلني يائسة.
– اسكتي يا غبية، وانشغلي بعملك.
– أين ستذهب؟ يا الله! سوف تضيِّع نفسَك.
– هذا لا يعنيك.
كان واقفًا أمام النافذة، يحاول أن يبدوَ شريرًا ويحسُّ أنه يكاد أن يضعُف بسبب هذه الفتاة المتعلِّقة بالحبِ الأكثر طلاوةً من النوم، من الصعب ألا يسمعها، وعليه أن يقول لها شيئًا، وإلا فسوف تهيِّج كلَّ المنزل.
سمِعها تنتحب وهي تستدير.
– لن تجلبي النائحات.
مسحت دموعها، واقتربت منه، ومدَّت يدَها إليه في توسُّل: ابقَ، ولا تذهب.
– اسكتي يا بنت الكلبة، سيسمعْنكِ ويأتين صارخاتٍ بدورهن، كم أنا آسف أن أخبرتك أنني سأرحل.
– إذن خذني معك.
– أنت مجنونة ستكون فتاة مثلك عبئًا ثقيلًا عليَّ، يجب أن أبحث عن عمل.
– لا يمكنك أن تعمل، أنا أعرفك، سأعمل من أجلك.
– لا تقولي مثل هذه الغباءات، أنا مستعد لكل شيء من أجل ترك هذا المنزل.
أدركت أنه قرَّر، وأحسَّت بخوف متوحِّش، فماذا تفعل لتمنعه من الرحيل؟ إنها لا تجيد أمورَ الإغراء الجنسي، انتابتها رغبةٌ من الأمل فارتسمت عليها ابتسامةٌ ماكرة، فقالت: إذا رحلتَ فلن يمكنك مداعبتي.
– لا أريد مداعبتك، مَن أخبركِ أنني أريد مداعبتك؟ لديَّ شيء آخر يجب أن أفعله، ألا تفهمين؟
– ليس هذا صحيحًا.
التصقت به، وحاولت أن تثيرَ فيه الرغبة، لكنه بدا تائهًا، ودفعها بقسوة بعيدًا عنه.
– ابعدي، دعيني.
وسقطت هدى على السرير، وقد أذهلتها الصدمة، ولكنها لم تكن قد صدَّقت بعدُ، لقد فعلت كلَّ شيء من أجل الاحتفاظ به، وبحركةٍ من يدها، رفعت طرَف ثوبها، وكشفت عن وركَيها، وباعدت بين ساقيها، انتظرت لحظةً دام فيها صمتٌ موتور، ورأت نظراته المركَّزة عليها، نظرةً تائهة مليئة بالإرهاق، ارتعدت من الخوف والوجدان.
– ألا تريد؟
بدا عليه الجنون، لم يفهم شيئًا فيما يريده منها، همس بصوتٍ بائس: لا، لا أريد، أودُّ الرحيل.
أعادت ثوبَها، وقامت غاضبةً، واستعدَّت للبكاء من جديد، وقالت: سأخبر سيدي، سأمنعك من الرحيل.
– لن يمنعني أحدٌ من الرحيل؟
رآها سراج تخرج من الغرفة مضطربةً، سوف تخبرهم الآن، سيأتون جميعًا ليوبِّخوه. أسرع في ارتداء ملابسه، وتملَّكته الرغبة في أن يقاوم النصائحَ وكل الإغراءات بالتراجع.
كان رفيق أولَ مَن جاء؟
– ما هذا، هل سترحل؟
– أجل، قرَّرت أن أبحث عن عملٍ في المدينة.
بدا رفيق مندهشًا؛ فقد استيقظ لتوِّه ولم يفهم شيئًا بعدُ، لذا لم يستطِع أن يدرك مدى جسامة الموضوع، إنه أمرٌ صعب، أخيرًا قال: هل معكَ نقود؟
– ولماذا أفعل؟
– أستذهب إلى المدينة بلا مال؟
– أخبرتك أنني سأعمل، وسأكسب.
– صبيٌّ مسكين، تعتقد أنهم ينتظرونك ليقدموا لك وظيفةَ وزير!
– لا أريد أن أكون وزيرًا، ما الذي جعلك تتصوَّر هذا؟
– إذن، ماذا تريد أن تكون؟
– لا أعرف، أعِدُك أن أكون هادئًا، وأفكِّر أنني يجب أن آخذك معي.
كان رفيق نائمًا على السرير، يفكِّر في جسامة الموقف، تخوَّف على أخيه من مضاعفة المأساة؛ ففكرة الذهاب إلى المدينة للبحث عن عملٍ هي مصيدةُ شيطان، إنها تحمل في داخلها جراثيمَ عنقودية معقَّدة تُقلِق راحتهم في كل خلواتهم، لن تنتهيَ بالسهر والانتظار، الآن فإنَّ التهديد بزواج أبيه قد انهار بظهور الأليطة، راح رفيق يعزِّي نفسَه بهذه المحاولة الجديدة لإفساد نومه، إنها دائرةٌ جهنمية، لن يخرجوا أبدًا منها، قال: اسمع، لقد اكتشفتُ سرًّا.
سأل سراج: أي سرٍّ؟
قال رفيق: أعتقد أن زواج أبيك لن يحدث، ونحن محظوظون.
قال سراج: هذه الحكاية لا تهمني، ماذا تريد مني أن أفعل إذا كان أبي سيتزوج أم لا؟
قال رفيق: أيها الخائن، لا يهمك، أريد بكل بساطة أن أخبرك أننا لن نخاطرَ بلا سبب، سيمكننا أن ننام في هدوء؛ فالحياة ستكون جميلة.
صاح سراج: لكنني لا أريد أن أنام … مَن قال لك إنني أنشدُ النوم؟
قال رفيق: لا أحدَ، ولكنَّ كلَّ الناس يحبُّون النوم … أنت متوحِّش، ولا أريد أن أضيعَ وقتي معك.
قال سراج: أنت تتعب نفسَك بلا طائل … يحب أن أذهب، ولن يستطيعَ أحدٌ إمساكي.
وسكت رفيق وغالبه النوم، بقي صامتًا لحظةً، ثم فتح عينيه قائلًا: ألستَ خائفًا؟
– ممَّ أخاف؟
قال رفيق: من الترام، إنه مرعب، إنه يدهس كلَّ يوم آلاف الناس.
قال سراج: ليس هذا صحيحًا، علينا أن ننتبِه، ولا نمشي على القضبان.
قال رفيق: ولكن هل يمكنك أن تأخذَ حِذْرك؟
– ولمَ لا، لستُ أعمى.
قال رفيق: أنت أكثرُ من الأعمى. يا الله! ستتوه في الطريق، ولن يمكنك العودةُ إلى البيت.
قال سراج: لا أهتمُّ بالعودة، من الأفضل أن تذهب لتنام، وفِّر قوَّتك لانتظار الحاجَّة زهرة، لماذا تنشغل بأمري؟
أنا لا أنشغل بأمرك يا غبي، بل أسهر ببساطة على راحتنا؛ فرحيلك سوف يولِّد حكاياتٍ لا تنتهي، وأنا لا أريد حكايات، يكفيني زواجُ أبيك، ولم نتمكَّن بعدُ من منعِ هذه الفضيحة، وأنت تريد أن تفجِّر أخرى، بشرفي سوف تقتلني.
– آه هكذا تفكِّر، كنتُ أعتقد أنَّ ذلك بسبب مشاعرك نحوي.
- أنت حمار.
كان سراج قد انتهى من ارتداء ملابسه، وراح يُعِدُّ لِفافته التي تضمُّ بعضَ الأسمال، إنَّها متاعه، وهو فخور بها؛ فهو الآن مستعدٌّ للرحيل.
في هذه اللحظة، سمِعت زمجرةً في الممر، ظهر العجوز حافظ عند الباب، يتبعه العمُّ مصطفى، وقد بدا الأمر مثيرًا بالغَ الأهمية.
- ماذا أسمع؟ تريد الرحيل؟
– نعم يا أبي.
– أين يا ابن الجاحد؟
– إلى المدينة.
هتف العجوز حافظ: المدينة، سمِعته يقول إنه يريد الرحيلَ إلى المدينة، ماذا عمِلتُ يا ربي كي يكون لي ابنٌ كهذا؟
كان العمُّ مصطفى قد وضع طربوشه على رأسه، وبصوتٍ جهوري قال لرفيق: ابعد قليلًا، اترك أباك يجلس.
تراجع رفيق نحو الحائط، جلس العجوز حافظ على طرَف السرير، تحسَّس الأليطة الملتهبة بين ساقيه، وتنفَّس بصعوبةٍ قائلًا: الآن، اشرح لي، ما هذا الجنون؟
قال سراج: ليس جنونًا، افهمني يا أبي، أريد أن أعمل.
– ليساعدنا الله! تريد أن تعمل! لماذا؟ ما الذي لا يعجبك في البيت؟
– لا يمكن أن أقول لك يا أبي؟ أنا في حاجةٍ للذهاب.
– يا جاحد، لقد أطعمتك وألبستك لسنواتٍ، وهذا هو شكرك!
– أيُّ جحودٍ في هذا؟ أريد أن أعمل يا أبي. يا له من أمرٍ غامض!
– تريد أن تلطِّخنا بالعار.
فكَّر العجوز حافظ في العار الذي سيسبِّبه رحيل سراج للعائلة، وارتعد من زواجه، فمثل هذه الفضيحة سوف تثير بالتأكيد حفيظةَ كل المحترمين، ولديه ما يكفي من المعاناة بسبب هذا المرض، على الأقل لن يظهر في ليلة عُرسه، فرحيل الشاب وإصراره على العمل سوف يجلِب لهم العار.
– يا أبي، دعني أرحل، أعِدُك أن أعود في المساء … ولا تقلق.
– ومَن أخبرك أنك يمكنك أن تعود؟ هل تعتقد أنك سترجع حين تشاء؟ وإذا قبض عليك البوليس؟
سأل سراج مندهشًا: ولماذا يقبض عليَّ البوليس؟
قال العجوز حافظ: بلا سبب … هناك أيضًا التزام، والأتوبيسات والسيارات وعربات الحنطور التي يركبها كلُّ الناس، ثم هناك الحكومة، ألا تخاف من الحكومة؟
– ماذا ستفعل الحكومة لي؟
قال العجوز حافظ: الحكومة ضد المتمردين، سوف يقبضون عليك.
قال سراج: ولكنني لست ضد الحكومة.
– لن تطلب الحكومة منك تفسيراتٍ، قلتُ لك إنها سوف تحبُّك.
– لأنني أريد أن أعمل؟
– نعم، إنها أفكار مدمِّرة، كيف لا تفهم ذلك؟ أتساءل مَن رسَّخ هذه الفكرة في ذهنك! لقد وُلدت في أسرةٍ شريفة، فأرجوك لا تُفسِد سُمعتنا.
قال رفيق: خاصةً أننا نحتاجك هذه اللحظة.
بدا العجوز حافظ كأنه يجهل وجودَ رفيق، النائمِ خلفه على السرير، أحسَّ بالسخرية الكامنة وراء كلماته، لكنه تماسك وأطلق بعضَ الحمحمة المليئة بالتهديدات البعيدة، إنه لا يريد أن يفقد سيطرته على الموقف، يجب أولًا أن يفكِّر في منعِ سراج من الرحيل، أمَّا هذا الآخر فسوف يصفِّي حسابه معه فيما بعدُ.
– لماذا أنت مستيقظ؟ فالوقت لا يزال فجرًا.
إنه جلال الذي أيقظته الجلبة، جاء ليعرفَ ما يحدُث وهو يخشى من أي مأساة، قال رفيق: قرَّر أخوك أن يذهب إلى المدينة ليعمل.
قال جلال: صبيٌّ مسكين، ليكن الله في عونه.
قال رفيق: الله مع الكسالى، ليس لديه أي شيء يعمله مع خفافيش العمل.
قال جلال: أنت على حق، هل يمكنني الجلوس؟
نظر حوله، رأى السريرَ مشغولًا، فقرفص إلى جوار الحائط ووضع رأسه على ورِكَيه واستكمل نومه، قال العجوز حافظ: بشرفي، لقد نام، يا جلال، اصحَ، كلِّم أخاك، أنت الكبير، وربما يسمع كلامك، فهو لا يسمعني، أنا أبوه.
رفع جلال رأسه بتثاقُل، وقد بدا عليه التعب: تريدني أن أتكلَّم إلى مجنون، كفاني من المضايقات مع الفئران.
قال العجوز حافظ: تعالَ اسمع، سيرحل، ليس لي سلطان على هذا الصبي.
قال رفيق: دعْه يرحل، سيتعلَّم الحياة، وسيأخذ درسًا.
قام برقةٍ، واستند على طولةٍ، ونظر إلى أبيه من بين ساقيه، أراد أن يتأكد من الأليطة كانت هناك، بارزةً تحت قميص النوم، إنها أكبرُ مما تصوَّر، ابتسم بخبثٍ وتمدَّد، وقال العجوز حافظ: سأفصِّل لك بدلةً جديدة، هل أنت سعيد؟ من اليوم يمكنك الذهابُ إلى الخياط، ماذا تريد أكثر؟ أنت ترى أنني أبذل ما بوسعي كي أكون أفضل.
تأوَّه سراج: لا أريد بدلةً جديدة، أنت لا تفهمني أبدًا يا أبي.
قال العجوز حافظ: كيف تريدني أن أفهمك يا جاحد؟ هل أخرج أنا؟ هل أذهب إلى المدينة؟ ماذا لديك أكثر منَّا؟ يا الله! أنا آسف أنني أرسلتك إلى المدرسة، أخبِرني ماذا علَّموك في المدرسة؟
لم ينبِس العمُّ مصطفى بكلمة، لم يجرؤ أن يتكلَّم وإلا خانه الخوف، في الحقيقة، إنَّه الشخص الوحيد الذي يبارك هذا الرجل، ويحسُّ بفرحةٍ غامرة في هذه المغامرة الموعودة، فهو أيضًا يريد الهروبَ من هذا البيت، ويتغلَّب على النوم الذي أصبح كابوسًا، نظر إلى سراج بعينين مغرورقتين بالدموع، فلعله بعد قليل يمكنه الرحيلُ معه. قال: يا عزيزي سراج، إذا ذهبتَ إلى المدينة في أي وقت، لا تنسَ أن تمرَّ في شارع عماد الدين؛ فقد كانت شقَّتي هناك.
قال العجوز حافظ: شقَّتك! ما الذي جاء بسيرة شقتك؟
قال العمُّ مصطفى: فقط أردتُه أن يراها.
قال العجوز حافظ: هذه الأفكار في غيرِ وقتها، فأنت بمثل هذه الأفكار تدفع الطفلَ للرحيل، هل هكذا تساعدني في واجبي؟
قال رفيق: إنه يريد أن يعرِّفنا أنَّه كان يسكن في شقةٍ جميلة، يا عم مصطفى نحن نصدِّق كلامك.
قال العمُّ مصطفى: أؤكد لكم أنَّ هذه ليست أفكاري.
قال العجوز حافظ: لنترك هذه الحكاية، فأنتَ لستَ رحيمًا بأبيك العجوز.
قال العمُّ مصطفى: أنت تجعلنا بائسين.
قال سراج: لستُ مسئولًا عن أن أجعلَكم بائسين، أريد أن أعمل.
قال العجوز حافظ: كيف لا يمكننا أن نكونَ بائسين، ونحن نعرف أنك تعمل، لسنا أنانيين مثلك، فكن عاقلًا، أنت تدفعني للبكاء.
وبدأ العجوز حافظ فعلًا في البكاء، لقد قرَّر أن يجرِّب هذا كآخرِ وسيلةٍ كي يطيعَه ابنه، وسرعان ما انضم العمُّ مصطفى ولم تكن لديه أية صعوبة في أن يجعل دموعَه تنسال، لقد وصل إلى الطرَف الآخر من المأساة، ولا أحدَ يمكنه أن يفعل أكثرَ من هذا، قال سراج: حسنًا، لن أرحل، لكن أرجوك، كفَّ عن البكاء.
قال العجوز حافظ: أخيرًا! أنت الآن ولدٌ عاقل وتجعل أباك سعيدًا، فتعالَ وقبِّلني.
قال العمُّ مصطفى: الحمد لله.
اقترب سراج من أبيه وقبَّله على جبينه، وأحسَّ بالخجل والحياء.
نادى العجوز حافظ، هدى بصوتٍ حادٍّ أيقظ جلال.
– ماذا هناك؟ أين نحن؟
قال رفيق: لن يرحل.
قال جلال: أفضل، إذن فقد انتهت هذه القصة، يمكنني العودةُ إلى فراشي.
كانت هدى تنتظر في المطبخ حتى تُعلَن نتائج هذه المفاوضات العائلية، وسرعان ما راحت تلبِّي نداءَ سيِّدها، قال العجوز حافظ: تعالَي هنا، ستُعدِّين لنا اليومَ دجاجةً للغداء، هل سمِعتِني؟
استدار نحو سراج، وأكمل: سراج يا بني، لا تقلق، سوف نذهب يومًا إلى المدينة لنتنزَّه.
قال جلال: لا تضعني معك في الحسبان.