١٢
في ظلام الليل، تتلألأ المصابيح، تاركةً على طول الطريق مساحاتٍ واسعةً من الظلال الميتة، في كل مرة يصل إلى هذه الناحية ليلًا، يبطئ رفيق الخطى ويتحيَّن لحظةَ ثقة، أسرع بحثًا عن وجه إمتثال. لقد قرَّر أن يراها، لم يتردَّد كما حدث في المرة الأولى؛ فالرغبة التي تنتابه لم تترك فيه أيَّ أثرٍ من الندم والمرارة، لقد ألقاها كأمرٍ قدري، إنه يعرف الآن أن رعشة الجسد التي نسيَها منذ زمن طويل تقوده تلقائيًّا إلى خنق سعادته؛ فهو لا يودُّ سوى أن يذوق طَعم سعادة أبدية من النوم.
أحسَّ أنه أكثرُ خفةً، تدفعه قوًى هادئة رقيقة، تبدو وكأنها تحوَّلت إلى وسواس قدري، إنه متمسك بهذه الحقيقة الأساسية المختبئة في أعماق حياته، أن يبذل أقلَّ مجهود ممكن، تملؤه بالكبرياء والامتنان، أحسَّ بالاندفاع داخل إنسانيةٍ عفنة لم تكشف حقيقة طبيعته بعدُ، فغباء البشر لا حدودَ له، فأي حاجة لهم في الإثارة، إنهم دائمًا غاضبون، وغير سعداء، عندما تقف الحكمة الوحيدة أمام موقفٍ لا أهميةَ له وسلبي، فإنَّ الأمر يبدو سهلًا، وأقلُّ شخص يمكنه أن يفهم ذلك.
عندما فكَّر في المصير الذي سيلقاه لو رحل مع إمتثال، تنتاب رفيق رعشةُ رعبٍ، فلعله قد صار عبدًا من بين العبيد، وبسببِ امرأة؛ لأنها ستجبره على العمل، وستدفعه للعمل مع غبائها الأنثوي العتيد غير الواعي.
إنها المرأة التي سيراها الآن، كي يشرح لها موقفَه والمعنى الحقيقي لهجرانه، إنه لا يريد أن يترك فيما بينهما سوءَ التفاهم القائم على حبِّ مسكين بائس، يجب أن تعرف الحقيقة، وضعَ رفيق في اعتباره أن يمشيَ فوق طريقٍ يقوده إلى إمتثال، هذا التفسير النهائي سوف يخفِّف عنه عبئًا يثقل عليه نومه، عليه أن يتخلَّص من هذا الحب الخيالي، وأن يعطيَها صورةً طيبة عنه.
كان في أقصى حالات الإحساس بنفسه، خطا بضع خطوات متردِّدة ثم وقف؛ فهناك شخصٌ ما يجري وراءه، استدار متحديًا، سمِع ميمي يقول: ناديتكَ مرارًا، ألم تسمع؟
قال رفيق: لا، يا لغرابة أساليبك، هل تتبع خطواتي؟
قال ميمي: أبدًا، صدِّقني، ببساطة كنت أنظر من نافذة المنزل ورأيتك تمرُّ، فنزلت وراءك.
تنهَّد ميمي، بدا كأنَّ مسًّا أصابه، كان بلا سترة ويرتدي قميصًا مفتوحًا حتى الصدر، وكل شيء في هيبته يخون وقاره، فرحته الهذيانية الغامرة، قال رفيق بلهجةٍ حادة: ولماذا تمشي ورائي؟ ماذا تريد مني؟
قال ميمي وهو يبدو كأنه يكنُّ شعورًا يغيظ رفيق: أريد أن أكلمك.
– تكلَّم، فأنا أسمعك.
قال ميمي: هل يمكنني مصاحبتك، مجرَّد لحظة؟
تردَّد رفيق، ولكنَّ إحساس ميمي بالمتعة المتناهية كان أشدَّ قوةً، إنَّه يعرف المشاعر التي يكنُّها له ذلك الشابُّ المراهق، قرَّر فجأةً أن يعامله معاملةً غير طيبة، فقال وفي نبرته بعضُ المكر: أنا سعيدٌ لرؤيتك، فصاحِبني حيثما شئتَ.
قال ميمي: كم أنا محظوظ لأنني كنت أفكِّر فيك وأنت تمرُّ.
راح ميمي يعبِّر عن غبطته لهذا اللقاء الميمون الذي تمنَّاه منذ وقتٍ طويل، إنه يتصرَّف كعاشق بائس، يقوم بحركاتٍ عبثية، ويبتسم ابتسامةً عجيبة، لم يتخلَّص من مكره البارد تجاه ما تضمَّنته كلماتُ رفيق الأخيرة، اعتقد أنه نجح في الدخول إليه، أحسَّ أنَّ عليه التصرُّف بكثير من الحدَّة؛ لأن رفيق يعرفه متأهبًا دائمًا، ولا يجب مباغتته، إنه يمشي بجانبه في ظلام الطريق، لم يكفَّ عن مراقبته، يريد أن يُقنِع نفسَه بموافقته تمامًا.
مشى رفيق، بشكلٍ مختلف، إنه يعرف كلَّ شيء حول مشاعرَ تشكِّل المهانةَ لرفيقه وتُسعِد أعماقه لدرجة القلق. انتظر أن يوجِّه له ضربةً قوية، لكنَّ ميمي بدا كأنه لا يودُّ الكلام، وكأنَّ السعادة ألزمته الصمتَ.
وصلا إلى المنطقة التي تضيئها المصابيح، أحسَّ رفيق فجأةً بأنه لم يَعُد قادرًا على السيطرة على نفسه، استدار نحو ميمي وسأله: إذن، ماذا تود أن تقول؟
تردَّد ميمي؛ فقبحُ هذا السؤالِ قد باغته، بدا كأنه قد نسي كلَّ شيء، ولم يفكر سوى في فرحته، إنه بصحبة رفيق، اختفت، ابتسامته، وتمتم: ودِدتُ أن أسألك أن تأتيَ معي لترى لوحاتي، أريد أن أعرف رأيك.
قال رفيق: حسنٌ، لقد ضيَّعت وقتَك، لن آتيَ لرؤية لوحاتك؛ لأنني لا أفهم في الرسم، لن يكون لرأيي أيُّ فائدة.
قال ميمي: ليس صحيحًا، أعرِف أنك رائع؛ فأنت الشاب الوحيد الذكي في الحي كلِّه، وكلُّ الآخرين حمير.
قال رفيق: ماذا فعلتُ لتقولَ هذا؟
قال ميمي: أعرف فلسفتك في الحياة، إنها شيءٌ رائع.
تمتم رفيق: يدهشني أنك تعرف شيئًا عن فلسفتي في الحياة، وأنا لم أولِكَ أيَّ ثقة.
قال ميمي: أعرف، لكنني الوحيد الذي يفهمها، يتردَّد في الحي كلِّه الكثير من الشائعات عنك وعن أسرتك، وأنا مضطرٌّ دومًا للدفاع عنك؟
قال رفيق: إنه أمرٌ مسلٍّ، هل لي أن أعرف ماذا يقال؟
قال ميمي: يقال إنكم جميعًا كسالى، وإنكم تقبعون في كسلٍ أبدي ويحكون قصصًا غريبة تتجاوز حدودَ الخيال، ولا أجرؤ من ناحيتي أن أصدِّقها قد تتصوَّرني أبله.
سال رفيق: أيُّ قصص؟
قال ميمي: حسنٌ، لن تغفر لي، يحكون أنَّ أخاك جلال ينام أشهرًا بأكملها، وأنه يحتاج إلى إزميلٍ كي يفتح عينيه.
قال رفيق: كلُّ هذا صحيحٌ تمامًا؛ فأخي جلال نائمٌ منذ سبع سنوات، ولا يستيقظ إلا ليأكل.
توقَّف ميمي ونظر إلى رفيق، تصوَّر أنها نكتة، ولكنَّ شكلَ رفيق الجاد خدعه، فشيء كهذا ممكن، بدا مندهشًا، غيرَ قادرٍ أن ينطِق بكلمة.
نظر إليه رفيق بحدَّة، وانتظر، إنه يتسلَّى ويثير لدى ميمي حالةً من الدهشة المجنونة، بقي ساكنًا للحظة، جامدَ الوجه، ثم استكمل السيرَ في الليل، فتبِعه ميمي صامتًا.
– آه، يعجبني هذا الطراز.
– أيُّ طراز؟
– أخوك جلال، ينام لسبع سنوات، يا له من فنان!
- هل تجده في هذا فنانًا؟
– بالتأكيد، هذا ما أحاول أن أفسِّره لأغبياء الحي، إنهم يعتبرونكم كسالى.
– إنها الحقيقة، لماذا تسبُّهم؟
– قلتُ لك إنهم حمير، إنهم لا يفهمون سرَّ الجمال في هذا الكسل، أنتم أسرةٌ غريبة، وأنت يا رفيق، الرجلُ الوحيد الذكي في العالم.
– هل تعتقد؟
– لم أخطئ قط في حساباتي، ولم أفهم قط لماذا تكرهني.
ألا تحسُّ أننا الاثنين يمكننا أن نولِّد الثورةَ في هذا الحي؟
طالما أنك تعرف فلسفتي في الحياة، يجب أن تعرف أنني لا أحبُّ الصخب، وأنني معتادٌ دائمًا على الهدوء.
إنها ثورة روحية التي أتكلم عنها، سنعلِّم هؤلاء الجهلة، والمتزوجين الحكمةَ الحقيقية، أنا أعبِّر برسمي عن العدَم، خسارةٌ أنك لا تكتب، ولكنك نموذج حيٌّ وهذا يكفي.
بدا ميمي متحمسًا في كلامه، اقترب أكثرَ من رفيق، وهو يهمس له في أذنه، إنه لم يتأكَّد من الفخ الذي يضعه أمامه، فهو بالغُ السعادة لأنه يثير لديه النوايا الخبيثةَ فيما يتعلَّق ببشاشة رفيق، فمشاعره تكاد تعميه، ترك نفسَه لمعسول كلماته، يرغب في أن يطولَ الطريق، وأن يكشف له عن نفسه في هذا الليل، وبعد لحظاتٍ، أحسَّ بتهديد خفي ينمو بينه وبين صاحبه، إنها مشاعرُ غير سوية، يجاهد رفيق أن يهرب منها، بينما حاول ميمي أن يوعز لرفيق أن يبرهنَ له عن وجوده.
ابتعد رفيق عن ميمي وقد أصابه الرعب من طريقته، فاستدار نحوه ولديه رغبةٌ مفاجئة أن ينقضَّ على رقبته، ولكنه استمر، ولم يودَّ أن يكشف لعبته، انتظر أن يضلِّل ميمي أكثرَ كي يكوِّمه بضربة واحدة، لقد حان الوقت كي يضربَه، بعد أن تداخلت الأشياء معًا؛ فهو لم يودَّ أن يصرِّح لميمي أن فلسفته الخاصة في الحياة أيقظت لديه حالةً من الفضول، لقد نسي هدفَ هذا الخروج المشئوم، ولم يفكِّر سوى في إمتثال، سأله: وكيف أفسِّر لك العدَم؟
قال ميمي: أنا أرسم النجومَ بلون واحد، يوجد منها الأسود، والبعض أحمر، والآخر أخضر، حسب حالتي النفسية، المهم هو أن هذا لا يمثل شيئًا.
قال رفيق: على كلٍّ، إنه عدمٌ ملوَّن.
قال ميمي: فعلًا لقد فهمتني تمامًا، كنت أعرف بالطبع أنك ستفهمني، لقد خُلقنا كي نتفاهمَ.
أغرق هذا الفهم الذي أبداه رفيق عن رسومه ميمي في دهشة، اعتقد أنه يعيش في حُلم إلا أنَّ رفيق لم يبدِ أيَّ تعاطُف أو تسامُح نحوه، لقد نسي كلَّ جروح الماضي، سار بعينين مفتوحتين نحو السماء، وابتسم للنجوم، تعثَّر وكاد أن يسقط، استند على ذراع رفيق الذي ألقى عليه نظرةً خائفة.
– لا تلمسني؛ فأنا لا أحبُّ هذه الأساليب.
- لا تغضب، لن أفعل ذلك عن عمد، فأنت تعرف أنَّ أحدًا لم يرَ نجومي، ستكون أولَ مَن يراها.
– ستكون أولَ مَن أشكره على هذا الشرف.
– آه، لا تشكرني، إنها فرحةٌ كبيرة لي، وأنا متعجِّل لأعرفَ رأيك.
توقَّف رفيق وعقد ذراعيه، ثم نظر إلى ميمي بحدة: لا فائدة، لن آتيَ لرؤية نجومك.
هزَّ ميمي رأسه دليلَ دهشته: لماذا؟ ماذا فعلتُ لك؟ كنتَ لطيفًا، لو سمحت.
ضحِك رفيق ساخرًا: هل تعتقد أنني كنتُ لطيفًا، حسنٌ، يا عزيزي ميمي، كن أنت غبيًّا إذا اعتقدتَ هذا، لم أكن لطيفًا قط معك؟
ميمي: أعرف أنك تكرهني، لماذا تكرهنا؟
قال رفيق: أنت تعرف جيدًا أنني لا أحبُّ أساليبك، أنت كبوة منفِّرة.
قال ميمي وقد صُدم في أعماقه: أنا لستُ منفِّرًا، أنت لا تعرف ماذا أستطيع أن أفعل.
قال رفيق: لا أريد أن أعرف.
لقد أصاب ميمي في كبريائه بعمق، وأحسَّ بمتعةٍ داخلية، الآن انتهى أمره ولم يبقَ أمامه سوى أن يتخلَّص منه، استأنف سيرَه وهو يعجِّل، الخطى.
بدا ميمي منهارًا، وكأن تلك الكلمات من رفيقٍ قد أصابته بضربةٍ مميتة، بقي ساكنًا للحظة وهو يقف على حافة الطريق، لم يتوقَّع مثلَ هذه الإهانة الشديدة؛ فأي سبَّة لا يمكنها أن تجرحه بمثل هذه القسوة، لقد أصابت كلَّ غروره كفنان لا يفهمه أحد، لقد وضعه في حالةٍ معاكسة، حيث تجاهله رفيق، وهو لا يستطيع أن يحتمل هذا، أدرك فجأةً أنه وحيد، تملَّكه خوفٌ مرعب، راح يجري خلف رفيق وهو يطلق صراخاتٍ عالية، ولكنه لم ينجح في اللَّحاق به.