١٣
إنها ملوَّنة الآن، فبعد الظهيرة جاءت مجموعةٌ من الطلاب وكوَّنت حلقةً للشرب في غرفتها، يحدُث هذا لها دائمًا على الأقل مرتين أسبوعيًّا، فبينما يعتقد أولياءُ أمورهم أنهم في المدرسة يأتون لقضاء الوقت عندها ويتركون أنفسهم لنوعٍ من العربدة الصغيرة، ويُحضِرون معهم زجاجةَ كحول وسجائرَ ويصنعون الكثيرَ من الجلبة، ويتصرَّفون كمجانين، ثم يعاودون الرحيل مترنِّحين، العيون تائهة، سعداء وهم يتصوَّرون أنفسهم رجالًا، وإمتثال تحبُّ هذه الاجتماعات الودودة، وتلك المشاعر الرقيقة لهؤلاء الشباب الذين تصيبهم الهشاشة العدوانية.
يمارسون الحبَّ معها، كلٌّ بدوره، ويتبارون كأنهم في سباقٍ رياضي، ثم يتفاخر كلُّ واحد منهم أمام زملائه بقدراته الخاصة، وفي كل الأحياء يتحدَّثون عن انتصاراتهم، ولكنَّ المجد لا يدوم طويلًا، فسرعان ما تخبو الأشياء بواسطة رجولةٍ أخرى أكثرَ انفجارًا.
هذه المنافسة بين العشَّاق تسعِد إمتثال بجنون، وتخلُق حولَها أشياءَ أقرب إلى أسطورة المرأة الغارقة؛ فكل مراهقي الحي يريدون أن يبرهنوا على مواهبهم الجنسية؛ ولذا فإنَّ غرفتها لا تخلو أبدًا من العشَّاق، ومع هذا، ففي نهاية النهار تحسُّ إمتثال بالملل ولا تعرف أين تذهب لتتمدَّد، وتغيِّر القليل من الهواء، فقبل أن يُولَد الطفل، كانت تذهب دائمًا إلى السينما، ولكن الحساسية الفجَّة للأقاويل التي تتردَّد من حولها تجعلها مبتهِجة وتنسيها حقيقةَ ظروفها الحزينة، هذه الرغبة تمنعها الآن، فهي لا تستطيع أن تتركَ الطفل وحدَه، إنها مخنوقة في هذه الغرفة تبدو حياتها غيرَ محتملة، فتنسلُّ في التوتُّر والوحدة.
اقتربت من فِراش الطفل ورأت الطفلَ النائم، إنه غارقٌ في النوم بطريقةٍ غريبة طيلة الوقت، ويبدو كأنَّ حضورَ وذهاب الزبائن لا يزعجه في نومه، أحيانًا تتصوَّره إمتثال ميتًا.
وتُضطر أن تنحنيَ نحوه لتسمع أنفاسَه الرقيقة الهشة، ولمدة طويلة، تظلُّ واقفةً قريبة من فراشه وهي تتأمَّل الطفل، ثم تذهب تتمدَّد على السرير وتشرُد في التفكير.
يحدُث لها دائمًا مثلُ الآن، أن تفكِّر في رفيق، فتشعر بالرضا حين تعرف أنه في حالة عذاب وقلق؛ فزواج العجوز حافظ يبدو لها انتقامًا قدريًّا، تخيَّلت كم أنَّ هذا الحدث الكبير سوف يقلب حياةَ عشيقها القديم، لم تغفر له قط أنه هجرها، وامتثل بكل سهولة لرفض الأسرة، ولمدة طويلة تمنَّت العقاب الجسيم، وها هو أملها يتحقَّق بطريقةٍ غير متوقَّعة، ثم إنَّ رفيق محبوسٌ في دائرة المتاعب توقِعه في دوامة؛ فقد عرفت إمتثال من هدى أنَّ الشاب لم يَعُد ينام، وأنه بحاجة بكل وسيلة أن يمنع زواج أبيه.
وهي تتعجَّل لمعرفة التفاصيل الجديدة حول هذا الزواج العسِر، انتظرت زيارةَ هدى القادمة التي وعدَتها أن تقوم بها؛ فقد أصبح ألمُ رفيق هو الأملَ الوحيد الذي يعطي لحياتها معنًى.
طرق الباب، قامت من السرير، وذهبت لتفتحه، وفي ظلام السُّلم لم تستطِع أن تحدِّد وجهَ زائرها، اعتقدت أنه أحدُ زبائنها، فقالت بلا مبالاة: ادخل.
قال رفيق: إنه أنا.
كان قد دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه.
أطلقت إمتثال صرخةً، ومدَّت يدَها للأمام كأنها تدفع ظهورَ الشبح، تراجعت نحو السرير، وأخفضت يديها، وبقيت لحظةً طويلةً مصدومةً من أثرِ الدهشة، لم تتحقَّق جيدًا من وجودِ رفيق في غرفتها، ولكنها ما لبِثت أن تماسكت، وراحت تطلق شتائمها: يا ملعون، يا ابن الكلب، ما الذي جاء بك هنا؟ لا أريد أن أراكَ.
قال رفيق: أرجوكِ كفِّي عن الصُّراخ، لم آتِ لأتشاجرَ معك، يجب أن أتكلم إليك.
صرخت إمتثال: ماذا لديك لتقوله لي، اذهب من هنا، يا مجرم، لا أريد أن أراك.
ظلَّ رفيق واقفًا وسط الغرفة وهو لا يزال لاهثًا من الجري هربًا من ميمي، والطريقة التي تركه بها بعد أن جرح كبرياء الفنان المزعج، قد أسعدته إلى حدِّ أنه وصل إلى شقةِ إمتثال دون أن يتنبَّه إلى ذلك، وعلى طول الطريق لم يفكِّر سوى في الحالة البائسة المدهشة التي ترك عليها ميمي وهو يلمع بنورٍ متدفِّق من المصابيح البعيدة، والآن هو في غرفة إمتثال. راح يفكِّر في هذا الأمر بفرحةٍ شيطانية، مرَّت لحظة طويلة، انتابته الدهشة لغضب الفتاه المجنون، ثم تثاءب، وتذكَّر أنه جاء كي يشرحَ لها بعض الأشياء، استند على ظهر مقعد، وقال بضَعف: اسمعيني، أنا لا أستحقُّ منكِ هذه الإهانات، لماذا تعاملينني هكذا كعدوٍّ؟ لقد جئتُ كي أشرح لك …
صاحت إمتثال في قمة غضبها: وكيف تريدني أن أعاملك، أنت الذي عذَّبتني كثيرًا؟ لعلَّك تريد أن أكونَ حاملةً للجميل! اشهدوا يا ناس على هذه البجاحة.
قال رفيق: لقد تعذَّبت أكثرَ بسببك، ولكن يجب أن أفعل، حاولي أن تفهمي، لقد جئتُ لأشرح لك.
– ماذا تشرح لي؟ أنا أعرفك أنت وأسرتك، وكلُّ الحي يعرفكم أنتم متكابرون وكسالى، ثم تجرؤ أن تأتيَ هنا كي تسخرَ مني.
– لم آتِ لأسخرَ منك أبدًا، اسمعيني، وكفِّي عن الصُّراخ، فسوف تزعجين الناس.
– أنت خائفٌ من الناس الآن؟ لا تخشَ شيئًا؛ فهذه ليست مقبرةً مثل منزلكم، هنا الناس أحياء، والصُّراخ لن يزعجهم، أريدهم أن يأتوا ويروكم، سيكون عرضًا جميلًا.
– أرجوكِ يا إمتثال، لا تثيري فضيحة.
وضحِكت في سخرية: فضيحة، الفضيحة لك ولأسرتك، لن تفلت منكم، إنهم يعرفونكم، قلتُ لك إنَّ أحدًا لن يعرف الجديد من أموركم.
وجلست على طرَف السرير، وقد كشفَت فستانها عن ساقيها العاريتين في وضعِ إغراءٍ متعارض مع الكراهية التي تنعكس من عينيها، بدت أهدأ الآن، وحلَّت الفرحة التي أنقذتها تمامًا من الانتقام مكانَ غضبها، اعتقدت أنها فهمت لماذا جاء رفيق ليراها، لقد دفعته حاجته إليها، بحثًا عن بعض البهجة، أن يتخلَّص بين ذراعيها من المعاناة التي تخنقه … رأته مهزومًا أشدَّ مما كانت تتصوَّر، وغزا وجودَه إحساسٌ بالشفقة ولكن لم يستمرَّ طويلًا، وبسرعةٍ تملَّكها حقدٌ فتماسكت، وقالت: أعرف ما الذي جاء بك هنا، أنت مهمومٌ، هل جئتَ تحكي لي عن آلامك؟ أحذِّرك لا تنتظر مني شفقةً، فسوف أكون قاسية.
قال: لا أريد شفقتك.
– ماذا تريد إذن يا ابن الكلب؟
قال: أولًا، أريد الجلوس، فأنا متعبٌ جدًّا.
ترك نفسَه يجلس فوق المقعد، وظل ساكنًا، الظَّهر منحنٍ، والنظرة غائبة … أطلقت إمتثال صرخةً لتمنعه من الجلوس، ولكن صوتَها انحشر وكأنها ضُربت بنوع من الفتور الذي ينبعث من الشاب فعلًا؛ فالنوم يغلب على وجوده، وهدى على حق، وأمام المظهر التائه والقريب إلى الاحتقار لرفيق، استبد بها وهنٌ شديد، واعتقدت أنها فريسة لدوامة حمقاء، لم تستطِع مقاومةَ كل مشاعر الفتور التي انتابتها، أغلقت عينيها وكأن تعبًا مفاجئًا حلَّ بهما، ثم فتحتهما خشيةً، ونظرت إلى الشاب المنهار فوق مقعده، أحسَّت أنها خائرة حيث وجدت نفسَها أمام جثة، فكيف تتعارك مع ميت؟
لم يتحرَّك رفيق، أحسَّ أنه في أمانٍ في غرفتها، ولم يفكِّر سوى في النوم، بدا له الصمتُ الذي تبِع سباب إمتثال ملائمًا كي ينام، فجأةً اعتراه شيءٌ ما، بدا له دفء هذه الغرفة المريح أشبهَ بفخٍّ أكثرَ مكرًا من كل فخاخ العالم، فظهور جسد هذه المرأة النصف مغطًّى قد سبَّب له الغضب والدهشة، بذل ما لديه من جهد حتى لا ينظر إليها، ورغمًا عنه، فقد حطَّمته بجاذبيتها وأصبحت أكثرَ حيويةً وشبقًا، بدا كأنه لم ينم قط ونظر إليها في رعب، فما رآه يؤكِّد أنه في خطر، تقلَّبت على السرير، باعدت إمتثال ساقيها، وكشف رداؤها المفتوح كلَّ شيء كأنها تتحدَّاه بجسدها العاري، إنها تتحدَّاه بكل تأكيد … ولكنه شيء غريب، فهو لم يحسَّ بأي رغبة في هذا الجسد المعروض عليه، كلُّ هذا يمثِّل جزءًا من عالمٍ هجره منذ زمن طويل إنه الرؤية الشاحبة لماضٍ بعيدٍ ومؤلم، أطلق تنهيدةً وتثاءب وتماسك تمامًا، ثم سقط من جديد في السكون والصمت، قالت: تكلَّم، أخبِرني ماذا تريد.
نظر إليها مرتبكًا قليلًا، لقد نسي تمامًا لماذا جاء، وحاول أن يتذكَّر: آه، لقد جئت كي أشرحَ لك لماذا هجرتُك منذ عامين، في هذه الآونة الأخيرة لم تتركي لي الفرصةَ لأفسِّر لك موقفي، لقد طردتِني ككلب، دون أن تودِّي حتى سماعي.
فاعتقادك أنني امتثلت لأبي قد ضايقني، هناك شيءٌ أريد أن أفهمك إياه جعلني أتصرَّف هكذا بنوع …
صاحت: أبوك، أعرف جيدًا أنك ستنتهي بالكلام عنه، وبسببه أتيت هذا المساء، صدِّقني، أنا أعرف ما يدبِّره لكم، وأنا سعيدة تمامًا بهذا.
وانفجرت في ضحكٍ حادٍّ شقَّ نورَ الصباح، بينما أطلق الطفل في مهدِه أنَّة، خافتة، أكملت: إذن فهو يريد أن يتزوَّج.
قال رفيق مندهشًا من سؤال المرأة: إذن أنتِ تعرفين؟
قالت إمتثال: أجل، أعرف، وقد شكرت السماء عندما عرفت هذا الخبر، أخيرًا أستطيع أن أتمتَّع وأنا أراك مهمومًا.
قال رفيق: لا تبتسمي بمثل هذه السرعة؛ فهذا الزواج لن يتم.
- لعلك أنتَ الذي ستمنعه، يا طفل؟
قال: ربما لن يحدثَ هذا حتى، على كل حال … هذا الزواج لن يتم، صدِّقيني، هناك شيءٌ لا تعرفينه.
– أيُّ شيء يا ملعون؟
لم يردَّ رفيق، فهِم أنها مغامرة بعيدة، الآن يلزمه أن يقول لهذه القحباء، يريدها أن تعرف كلَّ شيء.
– أيُّ شيء، أخبرني.
ابتسم بمكرٍ بادٍ، وأغلق عينيه وقال بعد لحظة صمت: إنه سرٌّ.
– ليأخذك الشيطان، ما هذا السرُّ؟
– لا أستطيع أن أخبرك به.
– يا الله، من الأفضل أن تقول كلَّ شيء، وإلا صرختُ بأعلى صوتي، وسيأتي كل الجيران هنا ويطردونك كالكلب، هيا، قُل لي أخبرني.
ورغم فتور رفيق، أحسَّ ببزوغ الأمل، وبحث عن ملجأ ممكن أمام هذا الهجوم، ولكنَّ الوقت تأخَّر كي ينصرفَ؛ فوقاحة هذه المرأة ليست لها حدود، إنه يعرفها جيدًا، فهي تستطيع إيقاظَ الحي كله، لأبسط سبب، تثير فضيحة، قال: حسنًا، طالما أنك مصرَّة، فلتعرفي أنَّ أبي المبجَّل لديه أليطة.
هتفت: أليطة؟
قال رفيق: أليطة ضخمة، كارثة حقيقية.
انحنت إمتثال للأمام ونظرت إلى رفيق بشكلٍ هذياني: لا أفهم، ما هذه الأليطة؟ أنت تسخر مني يا وسخ.
قال رفيق: هذا أمرٌ سهل الفهم، تعرفين بلا شك ما هي الأليطة، حسنًا، أبي المبجَّل لديه أليطة ضخمة كالبطيخة، ولا يمكن أن يتزوَّج بها، هل فهمتِ الآن؟
ظلَّت إمتثال ساكنةً لحظةً لِما سمِعته، ثم وجدت نفسها فريسةً لهيستريا مفاجئة وراحت تضحك بطريقة جنونية، فألقت برأسها للخلف، واهتزَّ جسدها اللدن، قال رفيق بتوسُّل: أستحلفك أن تسكتي.
بدت كأنها لم تسمعه، ظلَّت تضحك وقد استبدَّ بها هذا الإيقاع لفرحةٍ غامرة، نظر إليها رفيق، وقد اكتسى الوجه بالخوف، فمثلُ هذا المجنون سيؤدي به إلى عالَم يغوص في كافة دروب الجهل الضائعة والتائهة. أراد أن يهرُب، ولكن الخمول ألصقه بمقعده، وأحسَّ أنَّ الضحك سوف يطارده للأبد في نومه.
هدأت أخيرًا، وقالت: يا لها من أسرة، أريد أن أقتلكم جميعًا، ومع هذا فإنَّ حكاياتكم تُميتني من الضحك.
قال رفيق: ليست هذه حكايةً للضَّحك، لا تعرفين كم تعذَّبت قبل أن أعرف عن هذه الأليطة، لم أستطِع النوم، لقد أنقذتِنا من بأس بشع.
قالت إمتثال: ولا يهمك، إنها قصة جميلة، صدقني، سوف أذيعها في الحي كله.
فجأةً لم تستطِع السيطرةَ على نفسها؛ ففكرة زواج العجوز حافظ يمكن أن تفسد فعلًا بسبب هذه الأليطة اللعينة التي أسعدتها لدرجة أن الدموع اغرورقت في عينيها، وهكذا أفلتت منها فرصةُ الانتقام، واستبدَّ بها الغضب، نظرت إلى الشاب بكراهيةٍ وصاحت: ليس هذا صحيحًا.
– ما هو الذي ليس صحيحًا؟
– أنَّ لأبيك أليطة، إنها قصةٌ اخترعْتَها كي تخدعني، قُل الحقيقة يا ابن العاهرة.
قال رفيق: كلُّ ما قلته لكِ حقيقي، بشرفي، ليست هذه كذبة فلأبي أليطة، هل تريدين رؤيتها.
– اسكت يا وسخ، هل تجرؤ على مراوغتي؟
قال رفيق: معذرة، أفهمك، إنك لا يمكنك رؤيتها، ومع هذا فهي موجودة، صدِّقيني.
وجم وهو يراها في هذا الموقف الغبي، ولأول مرة منذ أن وجد نفسَه أمامها، لاحظ التغيرات التي كست ملامحها، لقد شاخ وجهها، وبدت عليه آثار دعارة مزمنة، أحسَّ رفيق نحوها بشفقةٍ عميقة، وفكَّر أنها عما قريب ستصبح عاهرةً عجوز ذات جسد منهَك، ولكن ماذا يربطه بمصير هذه المرأة؟ هناك في العالم الآلاف أمثالها، ولا يمكنها أن تضرَّه.
– اسمعيني يا إمتثال، لم أجِئ هنا لأكلمك عن الأليطة، وأستحلفك أن تكفِّي عن معاملتي كخَصم، يجب أن تعرفي لماذا هجرتك منذ عامين … وأن تسامحيني، لقد اعتقدت أنني أطعتُ أبي، وليس هذا صحيحًا، والحقيقة أنني كنت خائفًا.
سألت إمتثال: كنت خائفًا من ماذا؟
– كنت خائفًا من كلِّ ما هو ليس مجودًا في منزلنا، من كل شيء يتحرك ويسير بلا فائدة في الحياة، فعندما أغادر سريري، أشعر أنَّ كمًّا من الأشياء المشئومة يمكن أن تحدث لي، لا أحسُّ بالسكينة إلا وأنا نائم، وهذا أمر سهل، فلا أحبُّ أن أبذل جهدًا.
صاحت إمتثال: أنا لا أبذل جهدًا، هل جئتَ لتحكي لي هذه الغباءات يا ابن الكلب؟
– أجل، أريد منذ زمن طويل أن أجعلك تفهمين الحقيقةَ التي أبعدتنا … كنتُ أعرف أنك تريدين أن أهجرك، ولكن الآن، أنتِ على حق، أتمنى أن تسامحيني.
قالت إمتثال: أسامحك، هل تعتقد أنني تعذَّبت طوال السنتين وتأتي لتحكي لي قصصًا؟ كيف يمكنني أن أصدِّق توبتك؟
قال رفيق: لكنني لم أتُب لنفسي؛ فأفكاري منذ سنتين هي نفس أفكاري اليوم، كلُّ ما أرغب فيه أن تفهمي أنَّ أبي لم يتدخَّل في قراري، وأنَّ همي هو رغبتي في أن أفلت بنفسي وأن أهجرك.
قالت إمتثال: أعرف أنك كسول، وأفهم هذا جيدًا، وأنك لستَ في حاجة لأن تقول ذلك، ولكنني تمنيت بحبك لي أن تفعل أيَّ شيء كي تهزم هذا الكسل، يمكنك أن تعمل وتكسب حياتك دن الاعتماد على أبيك، سنعيش سعيدَين معًا.
هتف رفيق: عمل! أكسب حياتي! هذا ما تفكرين فيه، وتزعمين أنك تحبيني! إذن ماذا كنتِ ستفعلين لو لم تكوني تحبينني؟! بمثل هذا الأفكار يمكنكِ أن تقتلي أنسانًا، لا يا إمتثال، أنا لم أُخلَق كي أعمل.
– ماذا تودُّ أن تفعل إذن؟
– أنا أنام وأعيش في ركنٍ بعيدًا عن الناس، اسمعي يا إمتثال، أنا أخاف من الناس، إنهم مجرمون مثلك يريدون دائمًا أن يجعلوا الآخرين يعملون.
– بل أنت المجنون، ثم إنَّ أسرتك كلَّها من العاطلين، ملعون اليوم الذي عرفتك فيه وأحببتك.
كانت لا تزال جالسةً على السرير، نظرت إليه في صمتٍ وعناد، هذا الرجل الذي أحبَّته يبدو أمامها شخصًا غريبًا مصابًا بمرضٍ معدٍ، لم تشكَّ قط في أنَّ هذا الكسل قد يصل إلى حدِّ الجنون، سكتت، وقد سيطر عليها الخوف، وتساءلت بأي حيلة يمكنها أن تتخلَّص منه.
أحسَّ رفيق بهدوء عميق يغزوه، بدأ في تجربةٍ شديدة الملل حيث انتابه شعورٌ هائل بالرغبة في النوم، عمَّ يبحث عنه في هذه المرأة؟ تفسير؟ كان عليه أن يتأكَّد من أنها لن تفهم شيئًا.
إنها مثل الآخرين غارقةٌ في حياة بائسة، قشرية، ومستعدة أن تقلب الأرض من أجل حكاية حب، لا تستطيع أن تظل في سكينة، عليها أن تتحرك طيلةَ الوقت، وتثير الآخرين، نظر إليها بحدة، واندهش من هذا المرأة العارية التي أحبَّها يومَا، اقترب أكثرَ منها دون أن تنتابَه أيُّ رغبة لمداعبتها، لقد وصل لدرجةٍ كرِه فيها مداعباتها، أصبحت نحيفة كأنها أمرٌ يسبِّب التعب، أدار ناظريه، وفتح فمَه كي يتثاءب، لكنه سرعان ما توقَّف، وارتبك حين وقع بصره على فراش الطفل.
انتابه شعور غريب، تردَّد لحظة، واقترب وراح يهزُّ الفِراش وينظر إلى الطفل النائم، وإمتثال تراقبه بعينين جامدتين قلقتين، قائلًا: إنه نائم.
قالت إمتثال: نعم إنه كسول مثلك، لكنه ليس ابنك.
- أعرف، على كلٍّ، فأنا أحب هذا الطفل، لأنه ينام جيدًا، لا تكلِّميه أبدًا عن العمل.
ثم استدار ونظر إلى إمتثال، وعيناه نصفا مفتوحتين، كأنه ضائعٌ في حُلم لذيذ، قال متوسلًا: دعيني أنام لحظةً في سريرك، أستحلفك، ليس أكثر من لحظة، وسأذهب بعد ذلك فورًا.
بدت إمتثال مخنوقةً، خائرةَ القوى، كأنها انهزمت أمام هذا الفتور المتناهي الذي لا يمكن لقوةٍ أن تضربه، انفجرت باكية، وراحت تشدُّ شعرها وهي تطلق صرخاتها النارية، بينما اقترب رفيق منها ببطء وقد أزعجه صراخها، فانهار فجأةً فوق السرير ووضع كافة متاعبه الثقيلة في النوم.