١٤

منذ قليل، والعجوز حافظ يجلس فوق سريره يتأمَّل أليطته بنظرةٍ تملؤها الدهشة والخوف، وفي كل يقظة يغمره منظرُ عاهته بالأفكار الكثيفة، ويلملم القميص حتى بطنه ويربِّت بيدٍ مرتجفة على الجُرح المتضخِّم الذي لا يتوقَّف عن النمو وعن احتقاره له؛ فالطريقة التي تكبر بها يومًا وراء يوم أشبهُ بالمعجزة، تبدو الأليطة كأنها معجبة بإزعاجه، بشكلها هذا الأكثر غرابةً، لم يصدِّق العجوز حافظ نفسَه؛ فالأمر لا يتجاوز حدودَ الواقع، والدمامة، بلا شك، فإنَّ الشيء يلطمه بهذه الطريقة، بنيةِ إهانته، ليست هذه خطةً مدبَّرة من أبنائه كي يتراجع عن زواجه؟

فهؤلاء الصغار قادرون على تحدياتٍ أقوى، ومع ذلك، فإنَّ العجوز حافظ لم يتمكَّن من فهْم السخرية الآلية، والمعقَّدة التي وراء هذه الحكاية؛ فروحه عاجزة عن متابعةِ ما وراء هذه المؤامرة المرعبة، يا له من عبثٍ يكشف حقيقةً لم يسبق أن أزعجته قط؛ فهو شخصٌ عنيد لا يريد أن يكتئب يأسًا، ولا أن يستسلم لفشله، لقد نوى أن ينزل لتوِّه إلى الدور الأرضي كي يُبلِغ أبناءه أنه اكتشف مؤامراتهم وليجبرهم على احترامه، لكن منعة غرورهم وألاعيبهم نحوه.

أحسَّ بالضيق وهو يتأمَّل عاهته، أعاد قميصه، وراح يغطيها، وهو يتأوَّه على طريقته، كيف يمكن أن يتسم هذا الزواج الذي يودُّ أن يتمتَّع به في سنوات شيخوخته؟ فكل شيء يتآمر عليه، ويتركه، فالحاجَّة زهرة لم تفِ بوعدها منذ أن وعدته في زيارتها الأخيرة بأشياءَ مثيرة.

لقد نسيت بلا شك، ولم يَعُد لديه ما يؤنس وحدته سوى منظر أليطته المثير للرثاء، إنه وجده أمام هذه الأليطة المؤلمة، التي يحسُّ بها تتضخم بين ساقيه بلا حدود، وتملأ السرير بضخامةٍ غير مألوفة.

وكي يهرب من وساوسه، أمسك الصحيفةَ التي وضعها على المنضدة، وفتحها، إنها صحيفةٌ قديمة، مصفرة الأوراق، طُمست فيها أحرفُ الطباعة مع الزمن مما يعطي القارئَ وقائعَ مشاكلِ حياته مع العالم، فما إن قرأ بعضَ السطور حتى أحسَّ بحلول التعب ونام.

وبعد لحظة استيقظ على صوتِ شخصٍ ينادي اسمه بصوتٍ وقور مخنوق: حافظ بيه.

فتح عينيه فجأة، بدا له أنَّ النداءات آتيةٌ من بعيد، من خارج المنزل تقريبًا، اعتقد أنه يحلُم وأراد أن يستأنف النوم، وعندما رأى هيكلًا أسودَ واقفًا في إطار الباب: آه، أنتِ، ادخلي ماذا جرى لك يا امرأة؟

قالت الحاجَّة زهرة: لقد انشغلت عليك.

كانت تلهث: وأثار لهاثها ضجةً أشبه بماكينة بخار، راحت تشكو لتوها: يا لها من سلالم بائسة؟ لم أعُد في سنٍّ أقدِر على الصعود إلا من أجلك.

وتقدَّمت في الغرفة، ضخمة ولدنة، وقد التفَّت ملاءتها السوداء حول جسدها، وفي كل حركة من حركاتها يهتز صدرها الضخم بطريقةٍ مرعبة، وسرعان ما امتلأت الغرفة بوجودها.

اعتدل العجوز حافظ في مقعده كي يتأمَّلها، فظهور الحاجَّة زهرة المفاجئ أمرٌ يدعو إلى التفاؤل ولا شكَّ أنَّ فيه حلًا لمشكلته، قال: هيا، اجلسي، واحكي لي الأخبار.

قالت الحاجَّة زهرة: اتركني لأخذ نفسي.

وقرفصَت أرضًا، ولفَّت ملاءتها حولها، وعدَّلت بكل حذرٍ من جسدها الضخم في إطارها الضخم، ثم ظلَّت ساكنة، راسخة مثل القدَر؛ فقد شعرت وهي تصل إلى هدفها بحيويةٍ ورضاء، فلا شكَّ أنَّ الجحيم بعينه هو أن تجرَّ جسدها اللدن المنتفخ، الثقيل من أثرِ الشحم، عبْر بيوت الأثرياء تدفعها مهنتها كخاطبة؛ فقد يحدُث أن تعلَق في إحدى المرات، أصبح من الصعب عليها أن تتحرَّك بعد أن كفَّت عن اللهاث، ولكنها لم تقل شيئًا، فروحها الجشعة المعبَّقة بالطمع تعرف الثَّمن الذي وراء الصمت الذي يسبق البوح، سألها العجوز حافظ: ماذا فعلتِ لتصلي إلى هنا، ألم يرَكِ الأولاد؟

– لم أقابل أحدًا.

– أحسن، لعلهم نائمون، إنها ساعة القيلولة، على كل حال، إذا منعوك من الصعود فاصرخي، وسأنزل كي أعيدهم إلى صوابهم.

تأوَّهت الحاجَّة زهرة: لماذا يمنعونني من الصعود؟ ماذا فعلت لهم؟ يا الله! أنا امرأة مسكينة.

لم تكن الحاجَّة زهرة تجهل شيئًا عن متاعب العجوز حافظ التي يعانيها مع أبنائه منذ أن أعلن عن رغبته في الزواج، ولكنها تجب أن تلعب دورَ الكتومة، وتمثِّل دور الشهيد، فإنَّ حسَّها المهني يدفعها إلى هذا السلوك، قال العجوز حافظ: إنهم يعرفون أنك مهتمةٌ بزواجي.

وانتحبت الحاجَّة زهرة: وماذا بعد؟ إنهم لم يروني، ومع ذلك يشكُّون، أنا لم أقدِّم لكَ فتاةً عوراء أو حدباء، كما أعرف، فعندما يرونها لن يصدِّقوا أعينهم.

– الأمر لا يتعلَّق بهذا؛ فالأولاد لا يريدونني أن أتزوَّج، لكن لا تهتمي، سيتم هذا الزواج رغمًا عنهم، وسيعرفون جيدًا أنني ربُّ البيت.

– يا الله، ماذا، إنهم قطَّاع طرق، سوف أنهشهم، والآن دعي هؤلاء الأطفال للشيطان واحكي ماذا فعلتِ.

تنهَّدت الحاجَّة زهرة وبدت كأنها في مناحة، وعليها أن تعبُر أحزانها أمام مصائب العالم التي تحوطها.

– أتمنى أن تكون ابنةَ أسرة طيبة.

– أسرة طيبة، ماذا تعتقد يا حافظ بيه؟ هل تعتقد أنني سأقدم لك فتاةً غلبانة، يا الله إنَّ لها أسرة، وأي أسرة، وكي تنال رضاهم، عليك أن تعيش عندهم أسبوعًا.

أراد العجوز حافظ أن يتجاوز هذه المبالغة الزائدة، ولكن القلق الذي ساد في هذه اللحظة قد تجاوزه ناحيةً أخرى فراح يتكلم: ولماذا؟ أتمنى أن تخبريهم مَن أنا؟

– طبعًا، ولكن الفتاة لم تتعدَّ السادسة عشرة، وتتمنى لو تزوجت أميرًا.

ردَّد الحاج حافظ: إنها حمقاء.

أجابت الحاجَّة زهرة: وهذا ما حاولت أن أجعلها تفهمه طوال أسبوع، فهم لم يصدقوا كلَّ ما قلته عن ثروتك واسمك، تردَّدوا، وفي النهاية أخبرهم أنه السُّكر.

سأل العجوز حافظ دون أن ينتبه إلى هذا المرض الذي يسمع عنه: ماذا.

– في البداية لمعت وجوههم، ثم ابتسموا وقالوا لي: «إذا كان هذا صحيحًا فلا بد أن يكون رجلًا مرتاحًا»، فأجابت: «هل رأيتم قط يا ناس، شحاذين بالسُّكر؟ بشرفي؟ ماذا ينقصكم؟ وعند هذه النقطة وافقوا.»

قال العجوز حافظ: حسنًا، أنتِ امرأة واسعةُ الحيلة، ولن أنسى مكافأتك.

قالت الحاجَّة زهرة، وقد بدت عليها العزة والكرامة، أنا لا أفعل هذا من أجل المكافأة.

أحبُّ أن أؤديَ الخدمات للناس، وأنت تعرف الاحترام الذي أكنه لأسرتك، أنا أفعل ذلك من أجلك؟ فأنتم نوارة الحي.

ولأن العجوز حافظ يحب الوقار، فقد أعادت له هذه الكلمات وضعَه الاجتماعي؛ فهو لم يتلقَّ مثل هذا التوقير، منذ أن قطع علاقاته بالعالم؛ فالوقار الذي تكنُّه الحاجَّة زهرة يقوده إلى الرضاء الروحي الذي يفتقده منذ أمدٍ، رغم علمِه أنَّ الأمر كله عمليةٌ تجارية، تململ على سريره، ومرَّر يدَه على وجهه، ثم بدا كأنه يتذكَّر فجأة أمرًا هامًّا: ولكن يا حاجَّة زهرة، ما رأيك؟ فأنا لست مصابًا بالسُّكر؟

تراجعت الحاجَّة زهرة وحاولت أن تعرض جسدَها الضخم فوق أرضيةٍ تماسكت، وقالت وهي تلهث بقوة: وماذا بعدُ؟ ماذا يعني هذا؟ إنه أمرٌ يدعو للرثاء.

قال العجوز حافظ: ومع هذا فهو مَرض.

– إنه مَرض الأثرياء، وعليك أن تعطي نفْسَك حقَّها، صدقني. أعرف ماذا أفعل.

تردَّد العجوز حافظ بضع ثوانٍ، وفكَّر في الأليطة وتساءل: هل هذا المرض، الذي تضخم لتوه يمكن أن يُعتبر عاهة، ويمكن أن تكون عائقًا، هذه الفكرة أسعدته، وسأل بدون وعيٍّ: هل أنتِ واثقة مما قلتِ يا امرأة؟

– بالتأكيد، اقطع ذراعي إذا كذبت.

ودام صمتٌ، طرد العجوز حافظ الأفكارَ السيئة عن نفسِه، وتمدَّد على سريره ثم رمى نفسَه في أحلام الشيخوخة حول زواجه المقبل، كانت أضواءُ ما بعد الظهيرة تُغرِق … الغرفة وتمنعه من الرؤى الرائعة التي بدأت في نهشه، أغلق عينيه، وبقي تائهًا لفترة طويلة في سعادة غامرة، ثم خاف من الصمت الذي يغزوه، وبدا أنَّ هذا الصمت يخفي أشياءَ قذرةً عفِنة تحاول أن تتغلغل فيه، وكي يبدِّد طمأنينته، أحسَّ بالعَرق يغطي كافة أعضائه، فتح عينيه، وأطلق تنهيدةً عميقة، ثم استدار نحو الحاجَّة زهرة، وألقى عليها نظرةً باردة.

اعتمدت الحاجَّة زهرة على اختيار أفضل الوسائل التي تستخدمها كي تحصلَ على أفضل مكسب من الموقف، فعندما تنهَّد العجوز حافظ قاطعًا أفكاره المسكينة، اعتقدت أنه تم كشفها فتأوَّهت بكل جسدها اللدن، أعادت أطراف ملاءتها بشكلٍ غريزي حول خاصريها ثم أسندت كوعَها على ركبتها، ونظرت للأمام وسألت بصوتٍ أجشَّ: لماذا هذه التنهيدة؟ ممَّ تخشى؟

فتح العجوز حافظ فمَه، بوجهه الأشبه بمومياء مرعبة وراح يئن ببعض أنين الشكوى.

كرَّرت الحاجَّة زهرة: ممَّ تخشى؟ أنت عريس جديد، ماذا يزعجك؟

وبذل العجوز حافظ جهدًا، وقرَّر أن يتكلم: يجب أن أخبرك بشيء.

قالت الحاجَّة زهرة: أسمعك، ماذا هناك؟

– هل تعرفين أنَّ الأليطة تتضخَّم يومًا بعد يوم، وهذا أمرٌ لا يجب إنكاره.

– كيف هذا؟ في آخرِ مرة قلت لي إنها بدأت في الانكماش، ماذا استجد الآن؟

صرخ العجوز حافظ: يا الله لا أعرف؟

قالت الحاجَّة زهرة: مستحيل!

قال العجوز حافظ: أشكُّ أنَّ الأولاد قد يلعبون بي لعبةً شريرة.

- الأولاد! ماذا يفعل الأولاد هنا؟ أنا لا أفهم.

– إنه أمرٌ بسيط، إنهم الذين يسيطرون، ويريدون منعي من الزواج، هؤلاء الأبالسة.

سألت زهرة وقد تسلَّحت تقريبًا بروح شريرة: ولكن كيف يأخذون الأمر؟

– لا أعرف، ومع هذا فأنا أشكُّ فيهم بشدة.

هزَّت الحاجَّة زهرة رأسَها، وأدركت أنَّ العجوز قد أصبح أكثرَ تساهلًا، ولكن هذا لا يعني بالنسبة لها سوى الإحساس بالاستياء، ثم إنَّ هذا ليس ضربًا من المستحيل؛ فالأبالسة قادرون على كل شيء، فالأليطة يجب أن تكون بالنسبة لهم لعبةً ساخرة.

فجأةً دفعتها مصلحتها أن تهدِّئ من خشية العجوز: ولكن يا حافظ بيه، الأولاد لا يمكنهم أن يفعلوا شيئًا كهذا، أنت أبوهم قبل أي شيء.

– إنَّهم قطَّاع طرق، صدِّقيني، لكن الأمر لا يتوقف فقط عند هذا، فأنا قلقٌ لشيء آخر، أخبريني، ألا تعتقدين أنَّ هذا قد يفسِد زواجي؟ فعلًا أنت تؤلمني يا حافظ.

– إذن، ما هو الشيء الذي لا يثير قلقًا؟

قالت الحاجَّة زهرة: رجلٌ مثلك، قوي وجميل كالأسد، تقلق من أجل أليطة صغيرة، مسكين.

– ألا تريدين رؤيتها؟

قالت الحاجَّة زهرة: أريد، ماذا يمكن أن أفعل من أجلك؟

– إذن، قومي وتعالي، أريد أن أعرف رأيك؟

– لقد قلتُه لك توًّا، يا الله، تخاف من دملٍ بسيط.

وضعت الحاجَّة زهرة ملاءتها حول جسدها، وتنهَّدت طويلًا كي تُعِدَّ نفسَها للمجهود الذي ستبذله، ثم بحركةٍ بطيئة مأخوذة في الحسبان، تمكَّنت من الوقوف.

عندما اقتربت من السرير، رفع العجوز حافظ الغطاءَ، وكشف أسفلَ بطنه، بدت الأليطة بين ساقيه، تصعد حتى عضوه الضامر، أشبه بكرة قدم منفوخة عن آخرها، عند هذا المنظر، ورغم شجاعتها، وشهرتها كامرأة قوية الشكيمة، لم تستطِع سوى أن تطلق تنهيدةَ رعب، سأل العجوز حافظ: ما رأيك؟

أجابته الحاجَّة زهرة: لا شيء، كما توقَّعت من قبلُ، أنت خائف بلا سبب.

– إنها ضخمة، أليس كذلك؟

– ماذا تقول، كيف ترى أنها ضخمة، بشرفي يا حافظ بيه، أنت تحلم.

– ربما، في الحقيقة، لعله حلم.

قالت الحاجَّة زهرة: أبدًا، سوف أدلكها لك، سترى، سوف تختفي خلال دقائق، فقط دعني أفعل.

وانحنَت عليه، وبيدٍ خبيرة، مرَّرت أصابعها حول الأليطة، في البداية ارتعشت عندما لمست هذا الجلد الجامد كالحجر، ولكنَّ خطورته قد دامت مدةً أطول، بسرعةٍ نسيت ما الذي جاء بها إلى هذا المنزل ومهمَّتها كخاطبة، فلا يوجد بالنسبة لها سوى هذا الشيء الغريب الذي تمسكه أصابعها برقة، ويسحرها بفحشه القاسي.

استيقظ رفيق فجأةً، كان نائمًا على أريكةِ غرفة الطعام، بينما كان يترقَّب قدومَ الحاجَّة زهرة، دعكَ عينيه، وتساءل منذ متى هو نائم، وثقلت عليه فكرة أنه فشل في مهمته، وعم إذا كانت الحاجَّة زهرة قد جاءت أثناء نومه؟ اعتقد أنه سمِع همسًا في الطابق العلوي، ملأ أذنه، ولكنَّ شيئًا لم يؤكِّد إحساسه، تمطَّى وقد انتابه ألم، وأحسَّ بالإنهاك وأنَّ أعضاءه ثقيلة من التعب الشديد، لقد حلَم أنه يعمل حمَّالًا في محطة قطار، وأنَّ مسافرًا غريبَ الأطوار يرتدي طربوشًا أصفرَ كلَّفه بحملِ صندوق كبير، إنه صندوق ضخم، لم يعرف رفيق كيف يمكنه أن يرفعه فوق ظهره، مشى خلف المسافر وخرجَا من المحطة، مشى المسافر بخطًى بطيئة وعبَر الشوارع الطويلة التي لا تنتهي، وراح يمرُّ فوق الأرصفة دومًا وبدا أنه غير مبالٍ بالوصول إلى أي مكان، أحيانًا يتصرَّف بسعادة ماكرة وهو يتجوَّل في الحواري الضيقة ورفيق يحمل الصندوق فوق ظهره، ولا يستطيع المشيَ إلا بمعجزة، استغرقت الجولة وقتًا لا نهايةَ له، راح رفيق يلهث وهو يتتبَّع هذا المسافر الغريب، حطَّم ثقل الصندوق أعضاءه، إنه في كل لحظة مستعد أن ينوء تحت حمله، وفجأةً أبطأ المسافر الخطوة، وبدا كأنه يبحث عن شيء حوله، ثم بحركةٍ محسوبة استدار وانفجر ضاحكًا في وجهه، بوغت رفيق، وترك الصندوقَ يسقط، وهرول وهو يصرخ في رعب، ثم استيقظ.

إنه لا يزال يحتفظ في أذنه بضحكات المسافر الساخرة، إنها ليست المرة الأولى التي يسمعها، إنها نفس الضحكة التي سمِعها عند إمتثال، تذكَّر زيارته للعاهرة وأحسَّ بالسعادة لأنه تخلَّص للأبد من هذا الحب المدمِّر، لقد انتهى كلُّ شيء معها الآن، ولن تمنعه ذكرياته أن يغرق بلا أيِّ مرارة في بهجة النوم الدائم، لا يثقل عليه الآن، فقد شرح لها كلَّ شيء، ولكن هل فهمت؟ لا يهم، لقد قاطع الماضي تمامًا، ولن يكون بعد ذلك فريسةً للندم الذي يؤرِّقه منذ عامين.

ستكون الحياة رائعة، لو تمكَّن من منع أبيه من الزواج، هذه الكارثة المحتملة توجِب عليه اليقظةَ الدائمة، حقًّا أنَّ هناك أليطة، ولكن الأليطة لن توقِف الحاجَّة زهرة عن رغبتها في المكسب، فهي قادرة أن تجد في أليطة العجوز حافظ وسيلةً لإثراءٍ مضمون، وأن تُظهِره كأنه نوعٌ من المجد، ورفيق لم يشكَّ أنَّ عليه أن يفتح عينيه، قأقلُّ تغافُل من طرفه قد يخاطر أن يفسد كلَّ شيء، توصَّل أنَّ عليه منْعَ الحاجَّة زهرة من دخول البيت، وعند الضرورة سوف يضربها رغم بدانتها.

قام من فوق الأريكة، ولفَّ حول المائدة ونظر من النافذة، كانت أشعة الشمس تملأ المنزل، إنه مغلق النوافذ دائمًا، فكَّر في النساء اللاتي يحتفظ بهن الرجال الغيورون سجيناتٍ، وهنَّأ نفسَه أنه في مأمن، يحميه منهن الجدران لأنهن يحاولن بلا شك أن يغرينه، بابتسامتهن الغبية وعيونهن التي تشبه عيونَ عاهراتٍ شريفات، إنه لا يستطيع أن يسرق مكرَ هؤلاء الإناث اللاتي يتعاملن مع الحياء بدون حواديت، ولا قصص فاضحة.

ومن جديد سمِع همساتٍ، ولكنها هذه المرة أكثرُ جِدية، فهِم بشكٍّ غريزي أنَّ هناك صوتًا في غرفة العجوز حافظ، جرى نحو الممر وتوقَّف أسفلَ السُّلم، ورفع رأسه وتنصَّت، أنه بالتأكيد ما ينتظره، فالحاجَّة زهرة موجودةٌ بأعلى عند أبيه، لقد صعِدت وهو نائم كالأبله.

صعِد السُّلم ببطء، حرص ألا يصدر أي صوت على درجات السُّلم، أراد مفاجأة الحاجَّة زهرة وأن يخفيها.

كان باب الغرفة مفتوحًا، وباغته المنظر الذي فرض نفسَه أمامه، لم يجرؤ أن يصدِّق عينيه؛ فالحاجَّة زهرة واقفةٌ بالقرب من السرير منحنية نحو أبيه، وتبدو كأنها تمسك بيديها شيئًا خفيًّا يحتفظ به العجوز بين ساقيه، إنها الأليطة، قفز رفيق ووجد نفسَه وسط الغرفة.

هتف العجوز حافظ دون أن يفكِّر في إخفاء عورته العارية: أنت يا حرامي.

قال رفيق: نعم … أنا … سوف أقتلها، هذه الفاحشة العاهرة.

رفعت الحاجَّة زهرة يدَها في الهواء مبغوتة ومرتعدة، أرادت أن تتكلم، لكن حنجرتها خنقتها بالمعاناة، ولم يصدر عنها سوى تأوُّهات خافتة، انهار جسدُها الضخم تحت التهديد، اقترب رفيق منها، وجذبها من ذراعيها نحو الباب، ثم ركلها في مؤخرتها فدحرجها على السُّلم، وهربت مثل زوبعة عبْر المنزل النائم.

أما العجوز حافظ، فراح يصرخ بصوتٍ مخنوق: العسكري، هاتوا العسكري، امسك حرا…

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤