١٥

وقف العم مصطفى في الممر، يبرم شاربَه بعصبية، لقد وجد نفسَه أمام تجربةٍ قاسية؛ فأخوه العجوز حافظ كلَّفه بمهمةٍ حساسة وأمرٍ بالغ الصعوبة، عليه أن يوقظ جلال، أن يجعله يصعد لرؤية أبيه، أراد العجوز حافظ أن يتكلَّم ابنه الكبير عن الأحداث الأخيرة التي دارت في المنزل؛ فالعم مصطفى لم يستطِع رفْضَ المهمة، وهو الآن فريسة لمتناقضات غريبة، فإيقاظ جلال ليس عملًا سهلًا، ولكن قيامه بالصعود هو بلا شكٍّ عينُ الجنون.

فجأةً، وبعد الكثير من التردُّد قرَّر العم مصطفى مواجهةَ الخطر، ودخل غرفة جلال وكأنه كان ينتظره، وجد الشابَّ غارقًا في نوم عميق، الوجه هزيل وشاحب وكأنه جثة، يتنفس جلال بصعوبة، ويبدو كأنه يزفر الحياة التي تركها منذ زمن طويل، بقي العم مصطفى متردِّدًا للحظة، أحسَّ بالخوف من الأمر الذي أوجده أمام هذا المشهد، ثم مدَّ يده ولمس جلال في كتفه، ولكن هذه اللمسة الخفيفة لم تترك أثرًا على نوم جلال، تجرَّأ العم مصطفى أكثرَ وهزَّه بشدة، بدا الشاب كأنه يتعارك في حُلم، تأوَّه مزمجرًا، ثم فتح عينيه أخيرًا، وكأنه خارجٌ من المقبرة.

– حسنًا، ماذا بك يا رجل؟

قال العم مصطفى: أبوك؟

– أبي، هل مات؟

– معاذ الله! بل يرغب في أن يكلمك.

استدار جلال بقوة نحو الحائط، وكأنه يلمح أنَّ هذا الأمر لا يهمه: بشرفي، إنه مجنون.

قال العم مصطفى: الأمر خطيرٌ جدًّا، يا عزيزي جلال، أستحلفك أن تقوم.

قال جلال: أبدًا، ستكون نهاية العالم، أخبِره أنه ليس لديَّ وقت، ما حاجته في أن يراني؟

– قلت لك إنه يريد أن يكلمك.

– يكلمني! يا لها من فكرة! ولماذا يريد أن يكلمني؟

– لا أعرف، ولكنني أؤكد لك أنَّ الأمر مهم.

– يا رجل، ليس هناك شيءٌ مهم يجعلني أترك سريري.

إنه رفضٌ غير نهائي، لكن العم مصطفى اعتاد كثيرًا على هذه النظريات التشاؤمية والهمجية المتعلِّقة بالنوم والتي صدمته دومًا؛ فصبره ليس مستعدًّا أن يطول، وهكذا لم يصبه اليأس للوصول إلى هدفه، انتظر لحظةً، ثم قال بلهجة مهيبة: سوف يغضب أبوك.

– فليغضب، أحسن، فلعله يدعني أنام.

– اسمع يا بني يا جلال، أقسم لك أنَّ الأمر لن يستغرق سوى لحظة واحدة، فافعل ذلك من أجل خاطري.

– تريدني أن أموت من أجلك يا رجل، يا لها من وسيلة توقظني في الفجر كي أصابَ ببرد، أليس لديك رحمة؟

قال العم مصطفى: الساعة الآن عشرة، ولن تصاب ببرد، فالجو لطيف، هيا، يا جلال يا بني، فالأمر لن يستغرق دقائق، ثم إنَّ تغيير الهواء سيفتح شهيتك … فقد اقترب الغداء.

تأوَّه جلال: والسُّلم، ماذا تقول عن السُّلم يا رجل؟

– السُّلم؟

– نعم، السُّلم للصعود لأعلى؟

– ماذا؟

– هل تتصورني عاملَ بناء، أنا لا أستطيع صعودَ السُّلم أبدًا، قال العم مصطفى: لا تفعل، سوف أساعدك، ولن تبذل مجهودًا.

قال جلال: لن اصعد إلا إذا حملتني.

وعدَه العم مصطفى: سأبذل كلَّ ما بوسعي.

بدا العم مصطفى سعيدًا بهذا النجاح؛ فهو لم يتوقَّع أن يكون الأمر بهذه السهولة. غرس طربوشَه في رأسه سريره، لكنَّ الشاب بدا كأنه لا يودُّ أن يتحرك، وتمثَّلت أمامه مهمةٌ صعبة؛ فأمامه وقتٌ طويل قبل أن يستردَّ وعيه؛ ففي كل مرة يقوم بفتح عينيه سرعان ما يغلقهما، لم ينجح في أن يحتفظ بهما مفتوحتين، وفي النهاية أصابه اليأس، ولم يبذل أيَّ مجهود لفتحهما، وصار نحو عمِّه كأنه شخص ضرير، هذا الذي وضع ذراعه حول كتفه، وأخذ يساعده في الخروج من الممر.

جلس العجوز حافظ ينتظرهما في سريره، منتفخًا كامرأة حامل وقد ظهرت الأليطة عبْر الملاءة، اتخذ كامل هيئته وهو يستقبل ابنه، وجاهد في الاحتفاظ بكرامته وسيادته قائلًا: يا بني يا جلال استيقظ، فعندي أمرٌ هام يجب أن أكلمك فيه.

وما إن دخل جلال الغرفةَ حتى نظر حوله ورأى أباه يشعل السرير، فتخلص من ذراع عمِّه مصطفى وهو يترنَّح أرضًا، استند على الحائط وأخفض رأسه، واستكمل نومه المتقطع، دون أن يباليَ بالكلمات التي وجهها له أبوه، قال العجوز حافظ متنهدًا: يا له من غلام!

قال العم مصطفى: فعلتُ ما بوسعي، ها هو، كلِّمه إذا أردتَ.

وأمام الحالة التي وصل إليها ابنه، فكَّر العجوز حافظ لحظةً، وتساءل كيف يوقظ هذا المخلوق النائم وكأنه تحت تأثير مخدِّر، فقراره بالزواج يبدو أكثرَ من أي وقتٍ مضى، أقوى من سلطته، لقد قرَّر أن يتخذ قرارًا لا تقف أمامه رغبةُ هذا العجوز الهرِم، فتصرُّف رفيق المشينُ أثار حميَّته للسيطرة، فهو لا يريد أن يعترف بهزيمته أمام وقاحة هذا الغلام الفاسد القليل التربية، تخيَّل كيف يمكنه استمالة جلال. في الواقع فإنَّ العجوز حافظ يشكُّ في حدة رفيق واشمأزَّ من فكرة أن يكلِّمه وجهًا لوجه؛ فذكرى الحدَث الذي دار بالأمس لا يمكن نسيانُها؛ فقد اعتلَّت صحته بهذا التصرُّف، أما الأليطة فإنها لا تزال تنمو.

نظر إلى جلال يائسًا، وأطلق تنهيدةً قائلًا: يا جلال يا بني استيقظ، فأنت الكبير، وأنا أعتمد عليك كي تديرَ أمرَ هذا البيت.

وأمام هذا الانتظار، رفع جلال رأسَه كي يستيقظ؛ فقد قرصه برغوث.

– ماذا؟ ماذا تقول؟

كرَّر العجوز حافظ: أقول إنك الكبير، وعليك واجب عقوبة إخوتك.

– ماذا فعل إخوتي؟

– يا الله، ألا تعرف ماذا حدث بالأمس.

– لا، كيف تريدني أن أعرف؟

– حسنًا؟ تصرَّف أخوك رفيق كقطَّاع الطرق، وكاد أن يقتل الحاجَّة زهرة.

قال جلال: يا له من ولدٍ شجاع!

صاح العجوز حافظ: كيف؟ إذن فأنت متَّفق معه!

قال العم مصطفى: إنها جريمة.

كان العم مصطفى قد جلس فوق مقعد فوتيه، هزَّ رأسه بمهابة في أسًى، ومن وقت لآخر راح يتنهَّد بطريقته المتشنِّجة اليائسة، ثم قال: إنه أحمق.

لم يردَّ جلال؛ فهو من ناحيته لا يريد أن يتدخَّل، ولا أن يدخل في مناقشاتٍ لا طائل منها، فكَّر في أن يعودَ إلى سريره، أكمل العجوز حافظ: يا جلال يا بني، أستحلفك أن تستيقظ لحظةً وتسمعني.

ردَّ جلال: هه، ماذا تريد؟

– أريدك أن تكلِّم أخاك رفيق، قُل له على لساني إن لم يكفَّ عن أساليبه الإجرامية، وإذا لم يَتُب فسوف أعلِّمه أنني السيد هنا.

ظلَّ جلال ساكنًا للحظة أمام هذه الكلمات التي تحمل نبرةَ تهديد، يبدو أنَّ هذا تراجعٌ أمام السلطة التي يمارسها أبوه الغاضب، إنه أمرٌ بالغ العبثية، ولذا أعتقد أنَّ عليه أن يبدوَ مسالمًا، فتلك أحسن وسيلة ينهي بها هذه الحكاية.

– نعم يا أبي … اهدأ، سوف أكلِّمه ذات يوم.

– كيف ذات يوم، أريدك أن تكلِّمه اليوم.

قال جلال متوسلًا: ألا يمكن أن تنتظر على الأقل حتى الغد؟

أطلق العجوز حافظ تنهيدةً يائسة بعد أن أدرك عدمَ جدوى هذا الحديث قائلًا: إذن كلِّمه غدًا.

في تلك الأيام كان سراج يبحث عن شيء في السندرة، لقد فكَّر مليًا طَوال الأيام الماضية، بعد أن فشِلت محاولته في الهرب من المنزل، ممَّا وضعه في مواجهة أسرته، لدرجةِ أنَّ العم مصطفى قد كلَّمه ببعض الرثاء وكأنه يتحدَّث إلى شخص مريض؛ ولذا فهو أشبه بطفل صغير ممنوع من الخروج، لا يتعامل أحدٌ بجِدية مع رغبته في العمل، هذا الموقف أهان طبيعتَه كفنان، وهو بالنسبة له مصدرٌ للمتاعب الدائمة، عليه أن يبيِّن لهم أنه يستطيع أن يذهب حتى آخرِ أفكاره.

وعليه أن يحصُل على استقلاله في تحطيم المأساة والجوع.

فهِم سراج أنه لا يستطيع مغادرةَ المنزل مع بعض النجاح إلا إذا حصل على بعض المال، وكي يفعل ذلك فقد فكَّر في بيع كتبه المدرسية القديمة، وأيضًا كتب أخوته إلى أبو زيد بائع الحرنكش، فبيعُ الكتب سوف يوفِّر له بعضَ المال، بالتأكيد لن تحقِّق مبلغًا كبيرًا، ولكن القليل الذي يحصُل عليه منها يمكنه أن يجعله يعيش أولَ مرحلة من الاستقلال إلى أن يجد عملًا سوف يشتري من أبو زيد الكتب بالتأكيد، ويمكنه بهذه الطريقة أن ينميَ تجارته البائرة، وهي فرصةٌ لأن يصبح حانوتُه مكتبةً والتي ستصبح شيئًا جديدًا في الحي، لم يصدِّق سراج أنَّ لديه مثلَ هذه الفكرة الرائعة، فأبو زيد سيؤسِّس أولَ مكتبة في الحي، وهذا سوف يجعله محطَّ احترام من كل النبلاء.

كانت السندرة معبَّقة بالتراب، مضاءة بالنور، تتكدَّس فيها بلا ترتيب كلُّ أدوات المطبخ التي لم تَعُد صالحة، وأثاث قديم، وأشياء لم يَعُد أحدٌ يستعملها، كان سراج يعرف أن الكتب التي يبحث عنها موضوعة في حقيبة، وجدها مختبئة في ركنٍ تحت كومة من الزجاجات الفارغة والأواني المتكسِّرة نجح في أن يخرجها وأن يرفع عنها التراب الذي يغطيها وفتحها.

تحسَّر قلبه عندما تذكَّر أيام التلمذة، وذلك الزمن البعيد الذي كان يذهب فيه إلى المدرسة، هذه الكتب تمثِّل بالنسبة له ماضيًا رائعًا. في تلك المرحلة بدا المستقبل مشرقًا مليئًا بالوعود، لم يكن المنزل قد أصبح كما هو عليه الآن، حالة لا يمكن اختراقها من النوم، أمسك كتابًا وراح يتصفَّحه.

– ماذا تفعل هنا؟

سقط الكتاب من سراج، فاستدار.

– إنه أمرٌ لا يخصكِ يا فتاة؟

قالت هدى: أبحث عنك منذ ربع ساعة، الغداء جاهز.

اقتربت منه ببطء وهي سعيدةٌ بعثورها عليه، تراجع إلى الخلف؛ فهو يخشى هذه الفتاة الصغيرة أكثرَ من العالم كلِّه، فَرِقَّتُها الشديدة تمثِّل بالنسبة له كمينًا يكبُر في كل مرة بيأس شديد. هذه الفتاة بحبِّها العميق وسذاجتها المتناهية، تُضعِف دائمًا رغبته في التمرُّد، فعندما تكون معه تتحوَّل مسخًا، وتخرج من طفولتها وتصبح امرأة متخلفة مجنونة، وقالت: لماذا تبحث عن هذه الكتب، ماذا تدبِّر من جديد؟ متى ستصبح عاقلًا؟

– دعيني في حالي، أنا كبيرٌ أفعل ما يعجبني.

– لست سوى طفل.

قال سراج: حسنًا، سوف أبيِّن لكِ أنني لم أعُد طفلًا، فسوف أبيع هذه الكتب التي ترينها.

– تبيعها! لماذا؟

– كي أمتلك نقودًا يا فتاة.

ماذا ستفعل بالنقود؟

قال سراج: يمكنني أن أهرُب من هذا المنزل بالنقود، هل فهمتِ الآن؟

قالت: آه … أيها الصبي الملعون، إذن ستعاود جنونك؟

قال سراج: قرَّرت أن أذهب، ولكن هذه المرة الأمر جادٌّ؛ فمن النقود التي ستجلبها لي هذا الكتب، سأصرف لأتمكن من الحصول على عمل.

– ثم ترحل.

اغرورقت عيناها بالدموع، اعتقدَت أنه قد تخلَّى عن المغامرات الخطرة نهائيًّا، وها هو من جديد، لا يفكر سوى في الهروب والتسكُّع في الطريق، لكن ماذا يمكنها أن تفعل؟ ولعل فرصتَها الوحيدة في أن تظل قريبة منه هي أن ترحل معه، قالت له: خذني معك.

قال سراج كم أخبرتك أنَّ هذا مستحيل!

وانسكبت دموع هدى، وبدت كأنها تستميله، ابتسمت للشاب، وراحت تقدِّم له شفتيها، ولكن سراج أدار رأسه، فدفعت هدى غطاءَ الحقيبة، ثم جلست فوقها، وأمسكت يدَ سراج وجلبته نحوها.

- اجلس قريبًا مني.

تركها سراج ترتمي فوق الحقيبة خائرةً بلا قوة، وكأنه منوَّمٌ مغناطيسيًّا لا يستطيع أبدًا أن يقاوم السِّحر الفوَّاح الذي ينطلق من هذا الجسد الشاب.

– إذن فأنت لا تريد صحبتي؟

قال سراج: لا، ماذا أفعل بكِ؟

قالت هدى بدلال: سأهتمُّ بشئونك.

– أفضِّل أن أرحل وحدي، لستُ في حاجة إلى امرأة.

– ستكون وحيدًا، وسوف أحميك.

– لماذا تخافين؟ فالعمل لا يخيفني.

قالت هدى: ماذا تعرف عنه، أنت لم تعمل قط، ومن القسوة أن تسافر وحدَك، ألا تصدِّقني؟

قال سراج: لا أعرف، على كل حالٍ من الأفضل أن تبقي في هذا المنزل.

مالت نحوه، وهمست في أذنه وهي تتوسَّل إليه: اصحبني، لا تتركني، وإلا قتلتك.

بدأ سراج يتحدَّث عن خوفه من الرحيل إلى المدينة وحدَه، فالفكرة في أن يصحب هدى معه لم تبدُ له عبثًا، في الحقيقة فإنَّ صحبته للفتاة ستكون مفيدةً له، وسيجعل وجودُها إلى جانبه الأمورَ أقلَّ صعوبةً في ظروفه الجديدة، ولذا تردَّد.

نظرت إليه وهو يفكِّر، خفق قلبها في صدرها، داعبته، ثم قبَّلته في فمه: أتصحبني؟

قال سراج: لا أعرف، ربما سأرحل معكِ، سنرى يجب أن أبيع هذه الكتب أولًا.

قالت هدى: آه، كم أحبُّك، داعبني بسرعة، فسيدي ينتظر غداءه.

وبعد الظهيرة حمل سراج الكتبَ إلى أبو زيد بائع الحرنكش الذي قرفص على عتبة الحانوت بشكله المألوف، إنه يتشمَّس، ويبدو كأنه استسلم إلى شيءٍ من الفوضى؛ فالوجه أعثُّ وناحلٌ، يصبغه فتور بيِّن، والسِّلال الموضوعة إلى جواره خاويةٌ تقريبًا.

– سلام عليكم يا أبو زيد.

ردَّ أبو زيد: سلام أيها الشاب ذو الحسب، ماذا تحمل؟

قال سراج: «إنها كتب» جئت لتوي لأعرضَ عليك مشروعًا غير مسبوق من أجل تجارتك.

نظر أبو زيد إلى الشاب في تفاؤلٍ وانتابه نهمٌ خاصٌّ، شكَّ في أعماقه في كل التغيُّرات، والمجهود الشاق الذي تحتاجه بعضُ المهن التي لا تناسب روحه السكينة، وبكل تواضعٍ سأل: أيُّ مشروع يا بني، أتمنَّى أن تكون فكرةً مناسبة.

ردَّ سراج: فكرة رائعة، أولًا اسمح لي أن أضعَ هذه الكتب، فأنا أحملها منذ خروجي من الدار.

حطَّ الكتب أرضًا، ثم وضع يديه في جيوبه، ونظر إلى أبو زيد وابتسم، ألقى أبو زيد نظرةً سريعة على الكتب، ولكنه لم يجرؤ أن يلمسها؛ فهو لم يتأكَّد بعدُ من دور هذه الكتب في المشروع الذي يريد الشاب أن يطرحه، قال: اشرح لي، فأنا أنتظر كلامك.

قال سراج: حسنًا، سوف تشتري مني هذه الكتب وتصبح مكتبيًّا.

قال أبو زيد: مكتبيًّا! أنا رجل كهل يا بني، ولا أعتقد أن هذه مهنة تناسبني.

قال سراج: إنها مهنةٌ رائعة، ستكون أول مكتبة في الحي، وستنال شرفَ المهنة.

– آه … أتعتقد هذا؟

أصابت الدهشة أبو زيد من الاقتراح، لقد تجاوز، منذ أمدٍ طويل كلَّ هذه الآمال البسيطة، ولم يبدُ أنَّ لديه مثل هذا الطموح، فكلُّ ما يتمنَّاه هو أن يفلت من سخرية حماته السليطة اللسان، هذه المرأة الشرسة التي لا تكفُّ عن توبيخه فيما يتعلَّق بتجارته البائسة، ماذا ستقول وهي تراه واقفًا في مكتبة؟ هذا السؤال أثَّر فيه بشدة، سأل: هل أنت واثقٌ أنها لائقة؟

– ردَّ سراج: بالطبع، مَن قال غير هذا؟

– لا أعرف يا بني، ماذا تحكي هذه الكتب.

– إنها كتبٌ دراسية، كتبٌ جادة جدًّا، هل تتصوَّر يا أبو زيد أنني سأبيع لك كتبًا رديئة؟

– لا أعني هذا، معذرةً يا بني.

وسكت، ثم راح يفكِّر من جديد، ظل سراج واقفًا، غارقًا في أفكاره المجتهدة، التي ظلَّت دوافعها الحقيقية غائبةً، فهو لن يفهم سرَّ خشيةِ التاجر، وبدأ يحسُّ بالتعب، وفجأةً رأى ميمي يظهر وسط الشمس، أشعَّة الشمس، أشعة الشمس، بدا كأنه لم ينَم طيلةَ الليل، ابتسم له سراج، ولكن تساءل سراج لماذا حيَّاه ميمي ببرود شديد، وماذا حدث للكلب سمسم؟ ثم نسي الشاب المراهق وركَّز انتباهه في أبو زيد الذي بدا كأنَّ تساؤلاته الداخلية قد وصلت إلى نهاية.

في هذه اللحظة وقفت فتاةٌ صغيرة ذات جدائل طويلة وعينين مكحلتين أمام المحل، سألها أبو زيد في لا مبالاة: ماذا تريدين يا فتاة؟

– أنا من طرَف أم إحسان.

– ماذا تريد؟

قالت الفتاة: تريد خشب شيش بمليمين، وستدفع لك غدًا.

– خذي يا فتاه، واتركيني في حالي؟

وراحت الفتاه تأخذ ثم ذهبت وهي تهزُّ فخذيها النحيفتين، استدارت بعد عدة أمتار وابتسمت لسراج، تنهَّد أبو زيد: يا لها من مهنة!

سأل سراج: إذن، هل قرَّرت؟

قال أبو زيد: اتفقنا، كم تريد ثمنًا لهذه الكتب؟

قال سراج: ستعطيني ما تريد.

غمس أبو زيد يدَه في سيالة ملابسه وأخرج حافظةَ نقود قذرة، وراح يَعُد القروش، بينما غاص سراج في دوامة المغامرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤