١٦

كان الوقت منتصفَ النهار تقريبًا عندما ترك الطفل وغاص في الحارة، ورأى أولَ بيت على اليسار، خادمة تنظر من النافذة تنفض سجادة.

استعلم منها عن شيءٍ، فأشارت الخادمة بأصبعها إلى الناحية التي عليه أن يقصدها، فشكرها الطفل، ثم هرول قافزًا، إنها، على الأقل، عاشر شخص يسأله عن عنوان سراج.

وقف أمام منزل الشاب وراح ينادي وهو ينظر أعلى السور الحديدي: سراج.

لم يردَّ عليه أحد، فتراجع قليلًا ووضع يدَه في شكل قرطاس حول فمه، ونادى من جديد بكل صوته.

وبعد قليل فتح سراج نافذةَ صالة الطعام، ونظر إلى الحارة، وعلى التو عرف الصغير عنتر، الطفل الذي قابله منذ شهرين في الحقول وهو يصطاد العصافير بنبلة، يرتدي ملابسَ صيفية، بمعنى أنه شبه عارٍ، نوع من التنوُّرة مصنوع من قماش قذر يغطي حمامته، كان رأسه حليقًا تزينه قطعةُ قماش خفيف، لم يتغيَّر كثيرًا؛ فقد بدا في نظرة عينيه نفورٌ كأنهما تشهدان على معاناة شديدة، قال سراج: انتظري، أنا قادم.

وخرج بسرعة من المنزل ورأى الطفل الذي كان يتسلى بإلقاء الحجارة على نوافذ الحيوان.

– كدتَ أن تسبِّب مأساة.

قال الطفل: أنا أتسلى لا أكثر.

أحاط سراج كتفَ الطفل بذراعيه، وسارا في اتجاه الطريق، كانت الشمس تسقط أشعَّتها اللافحة في كل مكان، محدِثةً حرارةً شديدة فوق أنحاء الريف بأكمله، آوى سراج والطفل إلى ظل إحدى الأشجار، قال سراج: أنا سعيد برؤيتك، كيف حالك؟

قال الطفل: سيئ.

– ألا تصطاد العصافير؟

– لا، لقد بِعت النبلة.

– إذن، ماذا تفعل الآن؟

قال الطفل: أنا عاطل.

حمحم، جفَّف أصبعه من المخاط الذي التصق بأنفه، ثم أدار رأسه وظل صامتًا.

أصاب سراج الحزنُ لرؤية صديقه الشاب وقد بلغ أقصى حدٍّ من المتاعب، لم يعرف كيف يعبِّر له عن تعاطفه، وخلال لحظة سأل: والكوخ، هل وجدتَ الكوخ؟

قال الطفل: لا، لم أجده.

– ألم ترَ الطفل الذي سرقه؟

قال الطفل بلهجةٍ عبوسة: لقد مات.

– كيف عرفت؟

– هكذا، قلتُ لك مات.

– كيف عرفت؟

لقد جاء الشاب عنتر لرؤية سراج تدفعه حاجةٌ شديدة، فممارسته المختلفة في مجال الصعلكة لم تكن أكثرَ من بريقٍ بلا جوهر؛ فقد نزف شريانه واضطُر إلى الشحاذة، وفي سقوطه فكَّر في سراج حين أخبره أنه يريد زيارة المصنع الذي تحت التأسيس معه، لم يشكَّ في أن يحصد بضعة مليمات ثمنًا لهذا.

وخاطر بكل وضوح: ألا تريد رؤية المصنع؟

قال سراج: لا، أنا لا أفكِّر في المصنع، فهو لا يزال على نفس المنوال، لا أحدَ يفكِّر في الانتهاء منه، إنه مجرَّد أطلال.

– إذن، أليست لك رغبة في العمل؟

قال سراج: كثيرًا، قرَّرت أن أذهب للعمل في المدينة، لقد فعلتَ خيرًا بحضورك اليوم، فأنا في حاجة إليك.

كان سراج قد حدَّد هذا المساء للرحيل عن المنزل بعد العشاء؛ فمعه عشرة قروش أعطاها أبو زيد ثمنًا للكتب، وهو لا يشكُّ في نجاح مهمته، كان مجيء الطفل بمثابة فرصة غير متوقَّعة، عليه ألا يضيعها مثل المرة السابقة؛ ففي هذه الهاوية المجهولة المسمَّاة بالمدينة الكبرى فإنَّ الطفل سيكون دليلًا بالنسبة له، إنه بلا شكٍّ يملك بعض المصادر المفيدة، وسيساعده في مسيرته إلى أن يجد عملًا، سأله: هل تعرف المدينة جيدًا؟

ردَّ الطفل: لا يوجد شخص يعرف المدينةَ أفضل مني، أعرف كلَّ حاراتها وشحَّاذيها.

قال سراج: حسنًا، أنا واثق أنك يمكنك مساعدتي في إيجاد عمل.

– أيُّ نوع من العمل؟

– لا يهم.

قال الطفل: أنصحك ألا تبحث؟

سأل سراج: لماذا؟

– لأنك ستخاطر بالعثور عليه.

– ثم ماذا؟

– سيكون الأمر مرعبًا بالنسبة لك.

قال سراج: لا، لقد قرَّرت، اسمع، لديَّ الآن بعض النقود، وقرَّرت الرحيلَ هذا المساء إلى المدينة، هل يمكنك مقابلتي هناك؟

- أين هناك؟ تعرف أنها مدينةٌ كبيرة.

– حسبما تشاء، اختر المكانَ الذي يعجبك.

دعك الطفل جمجتَه وفكَّر بضعَ ثوانٍ، وقال: سأنتظرك تحت تمثال النهضة، هل تعرف أين يوجد؟

قال سراج: نعم، أتذكَّره، إنه في ميدان محطة القطار.

قال الطفل: بالضبط، سأنتظرك هناك هذا المساء في حوالي التاسعة.

قال سراج: اتفقنا، سلام عليكم.

قال الطفل: أنت لم تعطني شيئًا من أتعابي.

قال سراج: معذرة، لقد نسيت.

وأخرج قرشًا من جيبه، ثم مدَّه إلى الطفل: أتمنى أن يكفيَك هذا حتى المساء.

قال الطفل: سأرتِّب أمري إذا لم يكن أمامي ديون.

عاد سراج إلى المنزل، والقلب مليء بالفرحة والزهو؛ فهو واثقٌ أنه سوف يصبح إنسانًا جديدًا، طرازًا من رجال الغد. ابتسم وهو يفكِّر في الانتصار الذي سيحقِّقه في عالم المدحورين في المساء، وأثناء العشاء انتابه التعب، وهو يحسُّ بنفاد صبره؛ فالوجبة قد تناولها ببطء شديد، وكأن هدى تعمَّدت أن تؤخِّر لحظة الرحيل، فهي تأكل ببطء وتؤجِّل لحظةَ وضْع الأطباق وفرش المائدة، بدَت شاردة، تتحرَّك كأنها الآلة، وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة باهتة، ومع ذلك فعليها الرحيل معه، لقد أقنعها سراج أخيرًا، سوف تصحبه هدى في مغامراته العجيبة، لكنها لا تبدو مرتبكةً لاقتراب الرحيل الذي يعني بالنسبة لسراج بدايةَ حياة جديدة تملؤها المخاطر غير المأمونة، وتضاعف لا مبالاتها الغيبية من هياج الشاب، ومن وقتٍ لآخر، يرمقها بنظرة استقرار، مليئة بالتوسُّل، كي يجعلها تسرع، لكن هدى بدت كأنها لم تفهم شيئًا.

رفيق هو الوحيد الذي لاحظ عصبيةَ أخيه الشاب: ماذا بك؟

ردَّ سراج: لا شيء.

– من الآن فصاعدًا، أتمنَّى أن تلتزم الهدوءَ ولا تزعجنا بحكاياتك الغبية عن الهروب والعمل، يمكننا أن نعيش سعداء الآن، وتنام حتى آخرِ أيامنا، لقد تخلَّصنا من هذا الزواج الملعون، وأنتم مدينون لي.

قال سراج: لا يهمني هذا الزواج.

– أنت ولدٌ جاحد مثلما قال أخي جلال، جحود هذا الولد يدمي قلبي، يجب أن تقتله فيمثل هذه الروح في البيت، لا يمكننا أن نعيش في هدوء.

بدا جلال كأن أحدًا قد ضربه بشدة، أمسك رأسه بين يديه واستند على المائدة، وراح يدقِّق في طبق الطعام الموضوع أمامه بعينين مفتوحتين جيدًا، فليست لديه القوة ليتحرَّك، أما رفيق فقد آلف هذا الجو من الكسل الشديد الذي يرزح فوق أخيه الأكبر، بينما يدقُّ موقفه المنتقد جرسَ الإنذار، حيث ولد لديه مشاعر منحوسة.

– ماذا بك حتى لا تأكل؟ يبدو عليك كأنك هُزمت كالعادة، هل ما زال الفأر يحرمك من النوم؟

قال جلال: ليس الفأر، بل أبوك يا عزيزي رفيق، فأنا خارج من كارثة حقيقية.

قال رفيق: ماذا فعل لك أبي؟

ردَّ جلال: لقد أيقظني طيلةَ النهار، بشرفي، إنه عملٌ إجرامي.

– متى حدث هذا؟ اليوم؟

قال جلال: لا أعرف، ربما اليوم، ربما منذ أيام، لا يهم فأنا منهك تمامًا.

قال رفيق: ماذا يريد؟ لقد نزل ليراك في غرفتك، وهذا يدهشني فيه.

قال جلال: لا، إنه ينزل ليراني في غرفتي، فهذا أقل أهميةً، ولكنه أرسل لي هذا الرجل الذي بلا قلب … وأشار برأسه إلى العم مصطفى، الذي أجبرني أن أتبعه إلى أعلى.

ووعدني أن يحملني فوق كتفيه، لكنه بالكاد أسندني، بعد إلحاح طويل.

– يا لها من قصة! ولكنك لم تخبرني ماذا كان أبي يريد؟

- اعتقدت أنَّ الأمر يتعلَّق بجريمة قتل، سألني أن أوبِّخك، وأن أخبرك ألا تنسى أنه السيد، يبدو أنك تريد قتْلَ الحاجَّة زهرة.

– آه، أليس أكثر من هذا؟

قال جلال: نسيت أن أهنئك.

قال رفيق: لا عليك، من الآن فلن تجرؤ هذه العاهرة الضخمة على الحضور هنا، ولتذهب بزيجاتها الدساسة إلى الجحيم.

قال جلال: نحن مدانون لك بجميلٍ أبدي، يا عزيزي رفيق، أنت بطل.

قاطع العم مصطفى الذي كان طيلةَ هذا الوقت يأكل بهدوء، وكأنَّ عليه أن يظل محتفظًا بكرامته: ليستَ سوى صبيٍّ قليلِ الأدب، لقد ارتكبت خطأ كبيرًا يتعلَّق بسُمعتنا؛ فالحاجَّة زهرة ستذهب إلى كل مكان لتحكيَ ما فعلته بها، ماذا سيقول الناس؟

قال رفيق: أتبوَّل على الناس.

قال العم مصطفى: يا للعار على أسرتنا!

خشي سراج أن يطول الحوار، ولكنَّ رفيق ترك عمَّه دون ردٍّ شافٍ، بل انفجرت عنه ابتسامة ساخرة، لقد نجح دون أي شكٍّ في إبعاد هذا البؤس الذي يتمثَّل في زواج العجوز حافظ المعَد سلفًا بالكثير من الدماثة، بدا أنه يكتسي بالهدوء ويأكل بشهية كبيرة، ولكن بعد لحظة نظر إلى عمِّه، ولم يقاوم نفسَه في أن يلقيَ له بآخر نكتة، قائلًا: يا عم مصطفى، وعدتُك أن أمنح أبي لفظَ البكوية وهو يستحقها جيدًا بمثل هذه الأليطة، يمكنه بكل سهولة أن يقبل منصب «وزير».

قال العم مصطفى: كيف تجرؤ أن تتكلَّم هكذا عن أبيك؟ ثم ما حكاية هذا الأليطة، ألا تستحي؟

قال رفيق: يا عم مصطفى، لم تخبرني أنك لا تعرف أن لأبي أليطة.

– بشرفي، لم أكن أعرف، أنت ترتجل الآن قصصًا ساخرة حول أبيك.

قال جلال: بل هو الذي أخبرني.

أشار العم مصطفى: أنا لم أخبرك بشيء قط، أنتما الاثنان قليلَا التربية، وأبوكما تعِب من دناءتكما، وأبلغني أنه سوف يترككما هنا وسيعود إلى أرضه.

قال رفيق: الحمد لله، هل سيفعل هذا حقًّا؟

قال جلال: أخيرًا، سيكون النوم نصيبنا!

لقد كذِب العم مصطفى عن قصد، كي يعطيَ لنفسه مهابةً وكي يكتسب حميميةَ العجوز حافظ، لم يأخذ في حسبانه أنَّ مثل هذا الأمر لن يعجب أبناءَ أخيه، وأنه سيجذب انتباههم، ولكن الوقت متأخر على الانسحاب، حاول أن ينقذ الموقف بأن يلتزم صمتًا غامضًا.

قال رفيق: هيا، أخبرنا بالحقيقة يا عم مصطفى.

قال العم مصطفى: لا شيء آخر يقال، أخبرتكما بكلِّ ما أعرفه، وعليكما أن تصدِّقاني.

قال رفيق: كيف يمكننا ألا نصدقك، يا عم مصطفى، وأنت عبقريُّ هذا البيت؟

قال جلال: لقد سامحتك عمَّ فعلته بي في ذلك اليوم، لكن لا تفعل ذلك ثانيةً، رآهم هنا، كانت هدى قد انتهت من المائدة، الآن سيقوم الجميع ليلحقوا بأسرتهم الموقَّرة، ما إن رآهم سراج يذهبون حتى قام بدوره وراح يغلق على نفسه حجرتَه.

وبعد ساعة تسلَّل خارج المنزل وأسرع إلى الطريق، وكانت هدى تنتظره تحت الفانوس وقد تزيَّنت تمامًا وكأنها ذاهبة إلى نزهة، وفي الضوء الخافت الذي يغلقها بدَت بكامل زيها شاحبةَ الوجه وكأنها أقرب إلى عروس المولد، كانت هادئةً ومنصاعة، أسرعت لملاقاة سراج عندما رأته، قال سراج: ماذا جرى لك، يا الله، اعتقدتُ أنَّ هذا العَشاء لن ينتهي.

قالت هدى: بذمتي، بذلتُ كلَّ ما بوسعي.

قال سراج: هيا بنا.

قالت هدى: قبِّلني أولًا.

قبَّلها سراج ثم أمسك يدَها وسارا في الطريق، في البداية تقدَّما بخطًى مسرعة، ثم شيئًا فشيئًا أبطئا الخطى وتوقَّفا لحظةً وتبادلا النظر والابتسام، كان الليل مضاءً والسماء ناصعةً مرصعَّة بالنجوم الحقيقية القريبة منهما أحسَّا أنهما يمكنهما قطفها كالثمار الناضجة، هبَّت نسمةٌ رقيقة من الريح، حاملةٌ معها رائحةَ الحشائش ومن بعيد، هبَّت روائح المدينة الكبرى العبِقة العنيفة، تنسَّم سراج بلذةٍ ريحَ الحرية التي تغذيه، أحسَّ بها على وجهه، وشعر بها على يديه.

بدَت كأنها تعود للحياة بعد خروجها من القبر، غمرته فرحةٌ كبرى، واستدار نحو الفتاة وسألها: هل أنت سعيدة؟

قالت هدى: نعم، سعيدة لأنني معك.

قال: أخيرًا يمكنني أن أعمل.

واستغرق في التفكير في المجهود الذي سيبذله، سيساهم في إثراء البشرية، وسيشارك في القوى التي تحرِّك العالم، ولن تكون حياته عقيمة، سيكون وجودُه مفيدًا مليئًا بالمفاجآت؛ لذا فهو يتعجَّل الوصول إلى المدينة، قالت هدى: حاول أن تجد عملًا أقلَّ إرهاقًا.

– لماذا يا تافهة؟ على العكس سأبحث عن أشقِّ الأعمال.

– قد تسقط مريضًا.

– لن أسقط مريضًا، مَن تتصوَّرينني؟ أنا قادر على ممارسة أي عمل.

فكَّرت هدى، ثم قالت: هل يمكنك أن تعمل حوذيًا؟

قال سراج: لا، ليس عملًا جادًّا.

قالت هدى: إنه بالغ الجدية، وهو في نفس الوقت مسلٍّ جدًّا، فلن تفعل شيئًا طيلةَ النهار سوى أن تغنيَ في عربتك، ويمكنك أن تأخذني في نزهة.

قال سراج: اسكتي، لا أريد، إنه ليس عملًا جادًّا، هل تسمِّين هذا عملًا، أن أجلس طيلةَ النهار أقود عربة حنطور؟ أريد عملًا حقيقيًّا، هل تفهمين؟

قالت هدى: يا خسارة، كان يمكنك أن تأخذني في نزهة، أحبُّ كثيرًا أن أركب عربة.

– فيمَ تفكِّرين يا فتاة؟ هيَّا كوني جادة، لسنا هنا بدافع التسلية.

قالت هدى: خسارة، افعل ما تريد.

وبلغا آخرَ العَمار، فوجدا نفسيهما على الطريق يحوطهما الريف الواسع والضوضاء الصاخبة القادمة من بعيد، نظر سراج إلى الطريق أمامه، أحسَّ نفسه ضائعًا مع أضواء الفوانيس الخافتة، أبطأ الخطى مترددًا أمام ما يبذله من مجهود شديد، تلاشى حماسه فجأةً بدأ يحسُّ بالندم داخل أعماق قلبه، فلا شكَّ أنَّ وجوده مرتبط بدفء البيت الذي تركه لتوه كي يجرِّب المغامرة، ولا يمكنه أن ينساه بسهولة، إنه عروةٌ وثقى بالنسبة له، يصنع الخمول والنوم الذي يعجز عنه الوصفُ فهو متعلِّق بمصيرٍ يودُّ خيانته، كم هو مجنون حين يعتقد أنه مختلف عن أقرانه، وأن يكرِّس نفسَه لمجهود عضلي خارق، فكل هذا ليس سوى عين الخطر، راح يفكِّر في خوف من المكائد الشريرة التي تنتظره في المدينة الكبرى.

في البداية فكَّر في المصانع؛ حيث عليه أن يعمل من الرابعة صباحًا، ارتعد سراج من هذا الاكتشاف، ثم هناك أيضًا الترام الذي يمشي في طريقٍ مجنون دون مراعاةٍ للناس الذين يدهسهم، كما أنَّ هناك الحكومة، هذه الحكومة سوف تقبض عليه وترمي به في السجن، مما أثار قلقه أكثرَ، الحكومة كما قال أبوه تقبض على المتمردين، ولكن مَن هو المتمرِّد؟ هل رغبتُه في البحث عن عملٍ وأن يختلط بالبشر المجتهدين تُعَد من أعمال التمرُّد؟ لم يفهم سراج لماذا تعتبر الحكومة أنَّ حبَّه للحياة العملية حالةٌ من التمرُّد ضد كل القوانين الموضوعة، بدا له هذا الأمر غريبًا.

وأصابته فكرةُ العساكر ببعض الغثيان، وأحسَّ فجأةً بخيبة أمل، ودار رأسه فتوقَّف وتأمَّل الفتاة للحظة، ثم قال: إنه لا يزال بعيدًا، ألا تتوقَّف لحظة؟

قالت هدى: حسنًا، هل تعِبت؟

ردَّ سراج: قليلًا، لنجلس لحظة، لحظة واحدة فقط.

وجلسا على طرَف الطريق وأغلق سراج عينيه، فلا توجد أيُّ سيارة تمرُّ على الطريق، والصمت يسود المكان، لا يُسمع سوى خرير السواقي الذي لا يتوقَّف، تسكب مياهها الموحلة عبْر الحقول الممتدة في الليل، سأل سراج: هل تعتقدين أننا ابتعدنا كثيرًا عن البيت؟

قالت هدى: لا، هل تريد العودة؟

قال سراج: لا أعرف، أريد أولًا أن أنام قليلًا.

قالت هدى: كما تريد؟

وتثاءب سراج طويلًا، نظرت إليه هدى وراحت تتثاءب مثله، ثم ضمَّ كلٌّ منهما الآخرَ إليه، وناما متناسَين العناءَ الذي يبذله الناس تحت تلك النجوم البطيئة الكسولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤