٢

واخترقَا الدرب الذي يغوص عبْر حقول الذرة، راح الطفل يمشي في المقدِّمة وهو يعرج قليلًا، لم يعرف إذا كان هذا سببَ قدمِه الجريحة أم أنه يتصرف كبطل شهيد؛ فمنذ أن أمسك بهذين المليمَين راح يتصرَّف كأنه ثريٌّ مستجَد، وكأنه مصاب بوقارٍ غير محتمل، نزع كوعَ ذرة ثم فصَّص أوراقَ النباتات الجافة، وألقاها فوق الأرض مشمئزًّا، لم يُعِره سراج أيَّ انتباه رغم أنه أحسَّ بوجوده، وأن تصرُّفَه الغريب يمنعه من النوم، يمشي كأنه نائم، بينما الضباب الخانق يخترق وجهه.

منذ قليلٍ اشتدَّ البرد قليلًا، فراح سراج يرتعد مع كل هبَّة ريح، ولم تحتمل «تلفيعته» الصوفية الحمراء الملتفَّة حول الرقبة إلا قليلًا؛ فبدأ يعاني من بعض الألم. ما يؤلمه فعلًا هو حذاؤه؛ فدائمًا عندما يذهب لمراقبة المصنع الذي تحت التأسيس، فإنه يرتدي حذاءَ كرة القدم القديم، آخذًا في حسبانه سنواتِ الدراسة، الذي يُثقل خطواته ويؤلم قدمَيه؛ فليست هناك أيُّ قصة خيالية، يمكنها أن تُصور أهميةَ هذه الأشياء التي تُولِّد داخل مخِّه إحساسًا عميقًا. أراد سراج أن يتأكَّد بنفسه، فهو يتصرف كأنَّ هذا نوعٌ من الحج، وأنَّه ذاهب لحملة خطيرة؛ ففكرة ممارسة شيء لم يُستعمل تُملأ بنوع من الحظوة، وبدون هذه الحظوة، فلن تنتابَه أيُّ شجاعة أن يجرِّب شيئًا، إنه يرتدي هذا الحذاء من الكاوتشوك، كحالة أساسية للتخفيف عن النفس.

فجأةً اتَّسع الدرب، ووجدَا نفسَيهما في أرضٍ مزروعة بالبرسيم حيث يوجد كوخُ فلاح من الطوب اللَّبِن، منكَّسٌ قليلًا، يطلُّ على حدود ترعة قديمة، تعلوها الأعشاب، وعلى مقربة منها توجد بقايا ساقية مهملة ومغطَّاة بالتراب. توقَّف سراج؛ فهو لا يمكنه أن يتقدَّم أكثر، جلس مسترخيًا عند قمة خط المحراث وغَرِق في دموعه، كما خطَا الطفل أيضًا بضعَ خطوات، ثم استدار، وعاد نحو سراج، وقال له: هيَّا، فليس لديَّ وقت أُضيعه، لقد دفعتَ لي كي أصحبَك فلنُسرع.

قال سراج متوسِّلًا: أنا متعَب، فارحمني.

تساءل الطفل: هل تبكي؟ لماذا؟ هل أنت مريض؟

– لا عليك، فلستُ مريضًا، بل أنا بكل بساطة متعَب، قِف معي دقيقة.

قال الطفل: لا يمكنني الانتظار، كُفَّ عن البكاء، يا نهار أسود! في الواقع هذا المصنع غير موجود.

قال سراج: بشرفي إنه موجود، ستراه قريبًا، لسنا بعيدين عنه الآن.

– ولماذا تريد رؤيةَ هذا المصنع؟

– الآن سأشرح لك، وسترى كم هو مهمٌّ.

فكَّر الطالب مليًّا، تُرَى أيُّ سبب يدفع هذا الشاب النائم للذهاب لرؤية مصنع؟ وبدَا كأنه وجد السبب لتوِّه.

– أخبِرْني: هل تبحث عن كنز؟

قال سراج: لا، ليس عن كنز … إنه فقط مصنعٌ تحت التأسيس، صدِّقني لا يوجد كنز.

قال الطفل: ولا يهمك، لعلك تراه كالكنز … والآن قُم! فقد انتظرت بما يكفي، إنه يوم ضائع بالنسبة لي.

قام سراج بصعوبة، ومرَّر أصابعه في شعره، ثم دقَّق في الأفق كأنه يبحث عن مَخرج، تحترق بعض العساليج أعلى سيقان الذرة بعيدًا، وتهرب طيور أبو قردان تحت السُّحُب المنخفضة، تعرَّف سراج على المكان، فوضع يدَه على كتف الطفل واستعدَّ لاستئناف السير.

لم يمشيَا طويلًا، وصلَا عند أطراف قطعة أرض، واستدارَا يسارًا، وعبرَا قناة يابسة، ثم عبرَا تلَّةً صغيرة. قال سراج: ها هو المصنع!

وفي أرضٍ واسعةٍ بور، تبدو كأنها بقعةٌ جرداء، بدَا المصنع الضخم وسط كومةٍ من الرُّكام والمداخن المنهارة، إنها منطقة غريبة وخطرة ومدهشة يحوطها الحطام، يبدو المصنع أقربَ إلى ورشةٍ مدمَّرة، لا يُرى فيها سوى ألواح من الجدران مشيدة حتى منتصفها، بهندسة معمارية تكاد تكون بارزة، ينتشر فيها نبات العليق وحولها بقايا حديد ودبش مغموس في التراب، في ركنٍ من نهاية الحقل، وشاهد أعمدة حديد التسلح وقد غطَّتها طبقةٌ من الزنجرة السميكة.

لا يبدو أيُّ إنسان في الورشة، وتبدو الأعمال كأنها قد توقَّفَت منذ فترة طويلة؛ فمنذ ستة أشهر لم يرَ سراج شخصًا يعمل، ولم يفهم دوافعَ هذا التوقُّف؛ فهو يأتي مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًّا.

آملًا أن يرى البنَّائين يستكملون العمل، ولكنه يُصاب دائمًا بنفس الخيبة؛ فقد ظل المصنع متوقفًا في سكونه، يعطي الإحساس بأنه تمثال أو ديكور.

فقدَ الطفل إفراطَه الجنوني، وانتابه الذعر وأصبح فريسةً لخوف شديد بدا كأنه قد نسيَ الكنز، سأل: هل هذا هو المصنع؟

أجاب سراج: نعم، أتساءل لماذا لم ينتهِ العمل به، أريد أن أعمل هناك.

– أيُّ مصنع هو؟

– أعتقد أنه مصنع نسيج، أتمنَّى أن يوظفوني.

– وإذا لم ينتهوا منه؟

قال سراج بيأسٍ: إذن فلن أستطيع العمل، بمعنى أنني لم أعمل قط، لكنني أريد أن أبدأ.

قال الطفل: أنت مجنون، هل تريد أن تعمل في مصنع؟ إنه يومٌ أسود على أمِّك!

– اسمع يا صغير! أريد أن أعمل، أعتقد أنني أستطيع أن أفعل الكثير.

— ماذا تودُّ أن تفعل؟

– لا أعرف بعدُ، يجب على الرجل أن يعمل، ألَا تؤمن بذلك؟

هتف الطفل: أنت لك بيتٌ تأكل فيه، وتريد أن تعمل، يا لَها من فكرة سوداء!

وظلَّا لبعض الوقت لا يتكلمان، ثم سأل الطفل: لماذا لا تبحث عن عملٍ في المدينة، إذا كان لديك ما تعلمه؟ لأنه حسب رأيي، فهذا المصنع شيء مناسب للاستخدام كمراحيض.

قال سراج: لا أستطيع الذهابَ إلى المدينة، فهي بعيدة، أما هذا المصنع، كما ترى، فهو قريب جدًّا من بيتنا، ولن أتعب في الذهاب إليه.

– أنت سريع التعب، هل أنت مريض؟

لم يردَّ سراج، كان موضوع المصنع بمثابة حجَّة، يعلِّق عليها يأسه، لكن في أعماقه يعرف أنَّ بناءَ المصنع لن ينتهيَ أبدًا، وعليه فلن يخاطرَ بممارسةِ أيِّ عمل فيه، وعندما يضع في حسابه هذا الخداع، فإنَّ سراج يودُّه بشكل مرعب، فهو بائس تنتابه تبكيتاتٌ لا تنتهي، وكي يتبرأ منها، فإنه يتساءل إذا لم تكن هذه هي البداية، وعمَّا سيفعل لو شعر بأنه اكتفى؛ فالجرأة تتمثل أنه بهذه الزيارة لرؤية المكان الذي عليه أن يعمل فيه، إنه مجهود يستحق الاحترامَ والثقة في الذات، ألقى نظرةً أخيرة على المصنع الذي لم ينتهِ بعدُ، وفكَّر بعمقٍ أنه في طريق التقدُّم الاجتماعي، وهنَّأ نفسه من الداخل.

استكملت السماء تحريك سُحُبها الكثيفة بشكلٍ سيِّئ، وتسلَّلَت الكآبة العصبية الخفية في حنايا المنظر، غازيةً الريفَ الذي يدنو منه المساء، وعلى مقرُبة من المصنع الغير متكامل، راح كلبٌ أليف يتجوَّل بين الرُّكام، إنه يتجول في كل مكان بكامل حريته، كأنه فقدَ كلَّ آماله ثم اختفى وراء جدار. انتظر سراج أن يراه يعاود الظهور، ثم استدار نحو الطفل، الذي ثار من جديد، وراح يشدُّ نبلتَه في الهواء دون أن يحدِّد الهدف، ببساطة من أجل متعة الحركة، بدا كأنه غير منشغل بسراج وأنه عاد إلى الصعلكة، وفجأةً، توقَّف، وقد بدَا عليه القلق.

– هل تعرف كم الساعة؟

سعَل سراج، ونظر إليه دون أن يفهم، وقال: الساعة، يا الله! لا أعرف، لا أعرف في الساعة، هل أنت على عُجالة؟

قال الطفل في وقارٍ مصطنَع: كلُّ الأغنياء يملكون ساعات، وهناك الكثير من الأغنياء في المدينة لديهم ساعات ذهبية، لقد رأيتُهم.

قال سراج: آملُ يومًا، وأنت أيضًا، أن تكون معي ساعة ذهبية.

هتف الطفل: أنا، مستحيل! إلا إذا سرقتُها.

حسنًا! سوف تسرقها.

وفي طريق العودة، انغلق الطفل في صمت كئيب، لم يَعُد يعرُج، وقد بدَت عليه العزة والتيقظ والتنبُّه، بدا كأنه قد وعَى أن ليس لديه شيء يقوله لصاحبه، فهو مستعدٌّ أن يتركه لتوِّه، فهناك مغامراتٌ أخرى تُعلن عن نفسها.

توقَّفا عندما وصلَا إلى الطريق الرئيسي، أخرج سراج يدَيه من جيوب بنطاله، وأبقى ذراعَيه متأرجحَتين وهو لا يعرف كيف ينفصل عن الطفل، تذكَّر أنه لا يعرف اسمه، سأله: ما اسمك؟

ردَّ الطفل: اسمي عنتر.

أطلق هذا الاسم كأنه نوعٌ من التحدي.

أحسَّ سراج بخيبةِ أمل؛ فهذا الاسم (عنتر) يبدو له غيرَ ملائم وغريبًا جدًّا بالنسبة للذكرى التي يريد أن يحفظها للطفل. سأل أيضًا: أخبِرني، هل لك اسم آخر؟

صاح الطفل مندهشًا: اسمٌ آخر لماذا! ألَا يعجبك؟

احتار سراج، ولم يعرف كيف يردُّ.

– أريد أن أعرف إن كان لك اسمٌ آخر، بمعنى اسم أكثر رقة، مثلًا، الاسم الذي تناديك به أمُّك وهي تُدلِّلك.

صاح الطفل: يا إلهي! أنت مجنون! هل لديَّ خيشوم كي أُدلل! أرى أنك لا تفهم شيئًا، لقد ضيَّعت وقتي، السلام عليكم.

– لا تغضب، لم أشأ أن أسبِّب لك ألمًا، صدِّقني، إذا مررتَ ثانيةً من هنا فلا تنسَ أن تأتيَ لتراني، فمنزلنا قريب من الطريق، على يسارك، اسمي سراج.

وبينما يتكلم، انطلق الطفل بعيدًا، وما إن رحل الطفل، حتى أحسَّ سراج بالوحدة، ظلَّ للحظات عند حافة الطريق مشوَّش الفكر، ثم استكمل طريقه نحو المنزل.

إنه طريق واسع، مسفلت، تحفُّه الأشجار القديمة، مشى سراج فوق الممر، وقد تقوَّس ظهره، وثبَّت عينَيه نحو الأرض، فكَّر في التفاصيل المثيرة للقائه بالطفل الذي رحل لتوِّه، أسلوبه الغريب، وحماسه الحي؛ فمنذ رحيله، وسراج يحسُّ بالفراغ، لم يعرفه قط من قبل، مرَّت سيارة على مسافةِ سنتيمترات منه، وقد انفتحت ماسورة العادم فانطلقت منها رائحة بنزين يحترق في الهواء، دخل خياشيمه، وخنقه فسعَل، امتلأت العينان بالدموع، فتوقَّف جانبًا، وانتظر لحظةً حتى توقَّف السُّعال ثم عاود المسيرَ وهفت عليه ذكرى الطفل، وفكَّر أن يترك كلَّ شيء كي يلحق به فتوقَّف، نظر خلفه آملًا أن يراه، ولكن كان الطريق خاليًا في الأفق.

وبعد لحظاتٍ ظهرَت فيلَّا محاطة بسور حديدي، مغلقة النوافذ تبدو على جانب الطريق؛ فهو كإنسان ميسور يعيش هنا دائمًا، تساءل سراج وهو يشعر بالفخر لانسحابِه إذا كان يمكنه أن يندسَّ من بين هذه الجدران، وأن يهرُب من حياته البائسة مثل الفئران في أعماق جحورها، أي حقارة ساخرة! إنه هكذا في كل مكان حوله، ألن يخرج أبدًا من هذا الخداع الضخم، من هذا الوحل الراكد؟ يجب أن يكون هناك شيء في عالمٍ يسكنه الأحياء، وليس مجرد جثة عفنة، ولكن أين هذا العالم؟

على يمينه، هناك الآن ثلةٌ كبيرة من المنازل، والعمارات ذات الثلاثة أو الأربعة طوابق تبدو بسيطة، بعضها قديم للغاية، وقد أُزيلَت قشرتها، يسكنها برجوازيون صِغار، وموظفون على المعاش هربوا من صخب المدينة للبقاء عند هذا الطريق في ضاحيةٍ بشعة، وعلى مسافة بعيدة تملأ المنازل الحقول من كل جانب بالطريق، تبدو كأنها مدينة تكوَّنت عبْر المحاريث، والحارات الضيقة، حارات من الطوب اللَّبِن، والأرض مستوية مليئة بالقاذورات تحفُّها خطوطٌ متعددة الألوان، تتجفَّف في بعض النوافذ، تبدو البُقَع الواضحة التي تبرز قليلًا هذه الأكوام الباهتة، ويظهر أحيانًا قليلٌ من الأشخاص كأنهم هاربون أو كأنهم يُعطون للموت.

مال سراج نحو الجانب الأيمن من الطريق، فوق ارتفاع عشرة أمتار توجد مجموعة من المباني المنخفضة، بلا طوابق، إنها حوانيتُ تجارية، توقَّف سراج أمام الحانوت الأول: السلام عليك يا أبو زيد.

رفع الرجل الجالس أمام حانوته رأسَه، هزَّه دون أن يُحرِّكه، إنه يُجيب داخليًّا على سلام الشاب بلا مبالاة بادية، إنه شخص شديد الكسل ذو عينَين مدمعتَين، وفمٍ أَهْتم يسيل منه اللعاب، ذو لحية كثَّة، ومصبوغة، يبدو نائم الوجه، يضع على رأسه طاقيةً من الصوف المجدول، وشاله الأسمر يغطي كلَّ جسده تقريبًا، وبكل هدوء أسند ظهرَه على جدران الحانوت، إنه يتدفأ على ضوء أشعة شمس متردِّدة خافتة، وأمامه سِلال مليئة بالحرنكش، وبأخشاب الشيش، ولبٌّ يُطبخ فوق قِمَطر منخفض، وفي الداخل يبدو الحانوت خاويًا. سأل سراج: هل التجارة على ما يُرام؟

أجاب أبو زيد: الله يلعن التجارة ومَن اخترعها، إنها بؤس على العواجيز مثلي، لا أستطيع أن أدفع أجرةَ هذا المحل الملعون.

– إنه محلٌّ أكبر من أن تبيع فيه الحرنكش يا عم أبو زيد! لقد أخبرتك أن بيع الحرنكش ليس مهنةً لرجل.

ردَّ أبو زيد: ماذا يمكن للرجل أن يفعل، يا بني؟ ألم تفكِّر لي في فكرة، أنا بين يدَيك.

قال سراج: ما زلتُ أبحث.

واقترب من إحدى السلال، أمسك حَفنةً من خشب الشيش، ودفعها بنهمٍ في فمه، وراح يمضغها طويلًا، وقد أربكَته فكرة أن يُصيبَه مرضٌ غريب، في الحقيقة لم يكن يعرف الشكل المناسب الذي يمكن أن يكون عليه هذا الحانوت، إنه ليس من نوع العمل الذي يرغب في الاقتراب منه، إنه بمثابة أحد المظاهر اللئيمة لكسلٍ أبدي، ألقى أبو زيد نظرةً واهنة نحوه مليئة بالغباء المطلق، وبصيرته العجيبة؛ فمنذ فترة طويلة تحدَّث إلى الشاب عن اقتراحٍ بتجارة هي بالنسبة لمحله كبيرةٌ جدًّا على بيع الحرنكش، وبرهن له عن مشاعرِ مودةٍ تختلط فيها غريزةُ الفضول بعاطفة النوم، أما بالنسبة لسراج فهو يجيء دائمًا كي يُثرثر مع التاجر، وهو يجب أن يسمعه يحكي القصص عن شتى المشاكل الزوجية؛ فأبو زيد يعرف شهرةَ أسرة الشاب، ويكنُّ احترامًا كبيرًا للسلوكيات الغريبة التي تتسم بها، ويراها أمورًا متلائمة تمامًا، فهو نفسه يميل بقوة إلى أنماط الفتور العام، وأيضًا لديه فكرة عن تجارةٍ تُناسب تفكير فرد من أسرة كسولة، ولا تستطيع على أي حال أن تحتمل المخاطرة ولا المزيد من التعب، انتظرَ أبو زيد، والسلام يسكن روحه، أن يمنحَه الشاب نصائحه الكريمة.

دامت لحظةُ صمت، وبين اللحظة والأخرى، يمدُّ أبو زيد يدَه أسفل ملابسه ويُمسك ببرغوث، ثم يفعصه بين أظافره، وهو يُغلق عينَيه راضيًا، بدا كأنه يمارس شعائرَ خاصة، وهو يتحرك ببطء محسوب، وبعد أن تخلَّص من بعض هذه الأمور غير المرغوبة سأل فجأةً، وقد استعاد منظره السعيد: أخبِرْني يا بُني، هل استودعك أخوك جلال قبل أن ينام؟

– ولماذا يستودعني؟ أنت تمزح يا رجل.

أكمل أبو زيد: يبدو أنه ينام شهرًا دون أن يستيقظ، أليس كذلك يا صغيري؟

وزيَّنَت فمَه الأهتم ابتسامةُ إعجاب، كأنها ندبة. قال سراج: إنها حكايات مرعبة، كيف تقول ذلك يا رجل، هل تصدِّق مثل هذه الغباءات، صحيح أنَّ أخي جلال ينام كثيرًا، قد ينام أحيانًا يومًا بأكمله، أما بالنسبة للنوم لشهر كامل فلا أحدَ في الدنيا يمكنه أن يفعل ذلك، صدِّقني إنها حكايات غير صحيحة.

قال أبو زيد، وقد انتابه بعض الخيبة: الأشرار كثيرون، إنهم يردِّدون الكثيرَ من هذه الأشياء.

أحسَّ سراج بكثيرٍ من الخزي؛ فهو لا يذكر أنه سمِع قط مثل هذه الحكاية عن أخيه، صحيح أنَّ جلال قد ضرب كلَّ الأرقام القياسية في النوم، وأنَّه قادر على أكثرَ من هذا، فهو لا يستيقظ إلا كي يأكل أو ليذهب إلى دورة المياه، ولكن اتهامه بالنوم شهرًا كاملًا فيه بالتأكيد مبالغة، لم يتساءل سراج إذا كان كلام الناس قد أدخله أيضًا في هذه الشائعة المَرضية، إنه يعاني من تكبُّده لخمولٍ ثقيلٍ يربطه بكل أفراد أسرته، لكنَّ شبابه كثيرًا ما يُنقذه، ولكن إلى متى يدوم هذا؟ لا يوجد عملٌ يمكن أن يُخرجه من هذا الوسط، إنه مستبعدٌ جدًّا ولا يجرؤ أن يفكِّر فيه.

وإلى جواره، في محل مبيض نحاس، يتلوَّى مبيض فوق حَلَّة صدئة، بينما يساعده صبيٌّ صغير نافخًا بأنفاسه اللاهثة في النيران ويحلِّق بعض ذباب الشتاء في صمت، إنها قليلة ولكنها منزعجة، هشَّها أبو زيد بيده بحركةٍ محدودة غير مؤثرة، هناك خادمة تتسوق وهي تتبادل بعض العبارات المحتدِمة مع بائع خضراوات مسموح له أن يكيل له بعضَ عبارات المديح، يرنُّ صوته وسط الطريق كأنه هيستريا لا حدود لها، وكأنه يريد أن يغتصبَها أو أن ينزع عنها عينَيها، هزَّ أبو زيد رأسه أمام هذا العرض من الحشائش الإنسانية واستغرق في أفكاره التافهة.

لقد عثر على فكرةٍ يعتقدها عبقرية بالنسبة لتجارته: بالنسبة للمحل يا بُني، ما رأيك لو بِعت فجلًا؟ فالفجل جميل.

ردَّ سراج: لا مانع، ولكن ليس هذا ما يناسبك، أنت لا تفكر أن تملأ هذا الحانوت بالفجل، سيكون أمرًا غريبًا.

قال أبو زيد: الغريب أن أراه خاليًا مثلما هو الآن، صدِّقني إنه يُخيفني.

– اصبر بضعة أيام، أعدك أن أهتمَّ بالأمر، أتعرف يا أبو زيد، إنني الآن أُمارس بعض الأمور التافهة، وسوف تتحسَّن الأمور، سوف أجد فكرةً مدهشة لتجارتك.

– ليحفظك الله يا بُني، عليك فقط أن تُسرع، لا تحاول أن تجد لي أفكارًا غريبة أو متعبة؛ فأنا رجل عجوز، ولا أستطيع أن أسمح لنفسي بأعمال خارقة، فمثلما ترى، فإنَّ قواي تخور يومًا وراء يوم، فأنا أثق بك، وليُعِنْك الله.

تابعت متاعب أبو زيد من مأساة عائلية لم يتكلم قط عنها إلى الشاب، دفعَته شهامته أن يتكتَّمها في صمت؛ فأبو زيد ضحية لحماةٍ شرسة يملؤها الطموح، تُعامله طيلةَ النهار كعجوز خائب، وأنه تاجر فاشل وعاجز؛ ولذا تجعل حياته صعبة، وتحثُّ ابنتها على التمرُّد، لدرجةِ أنَّ أبو زيد وصل إلى درجةِ أن راح يتسول مداعبات زوجته، وأيضًا أن يهرب من تبكيت هذه الحماة الغاضبة. وبعد بضعة أشهر، قبع في ركن من الشارع حيث يعرض بضاعته كي يؤجر هذا المحل الذي يجعله تاجرًا بلا تجارة، وها هو يجد نفسَه الآن واقعًا في مطبٍّ، إنه يحاول أن يخفِّف، قدْر الإمكان، من الشر الذي يهدِّده.

مرَّ أتوبيس، ثم توقَّف في المحطة القريبة، نزل بعض الرجال، الذين هرولوا بكل سرعة نحو مساكنهم، إنهم عائدون بلا شك من أعمالهم، ولكن أي نوع من العمل؟ تطلَّع إليهم سراج بنوعٍ من الازدراء، لا يبدو عليهم أنهم سعداء، بل حزانَى، هم أيضًا يجب أن يناموا في مكاتبهم المرتَّبة في بعض الوزارات؛ ولأن هذا يُزعجهم بشكلٍ خاص، فعليهم أن يناموا في بيوتهم، يجب أن يحلَّ أحدٌ مكانَهم كي يناموا في أي مكان، وأن يعطوا هذا الإحساس أنهم أنجزوا أمورًا كبرى؛ فسراج يُكنُّ لهم احترامًا كبيرًا، وهم يختفون جميعًا في كل الأبواب الكبرى، استأنف الأتوبيس مسارَه منفثًا وراءه كمًّا من الدخان الأزرق.

راح أبو زيد يُجفِّف لحيته بطرَف شاله، ثم وضع قليلًا من الحرنكش في السِّلال، وسأل بكثير من الاهتمام: لماذا تنزعج يا بُني؟ هل أنت مريض والعياذ بالله؟

ردَّ سراج: لست مريضًا، أنا على ما يرام، السلام عليكم.

تُرى كيف سيردُّ عليه لو كان مريضًا؟ لقد سأله الطفل نفس السؤال، هل يبدو عليه هذا؟ سار للحظة، ثم استدار يمينًا، ودخل حارةً ضيقة من الطوب اللَّبِن، وعلى بُعْد أمتار، توقَّف أمام السور الحديدي لمنزله، إنها فيلَّا صغيرة، تبدو بسيطة، مكوَّنة من دورٍ أرضي، وطابق علوي، وحديقة صغيرة تفصلها عن الحارة حيث تتكاثر الأوساخ، توقَّف سراج وقد أولَى ظهرَه للفيلَّا، إنه لا يجرؤ أن يرجع إلى بيته فهو يتحيَّن اللحظة التي لا يعود فيها إلى أسرته؛ فقد عادت الشمس للظهور من بين السُّحُب، إنها تبعث دفئَها منذ وقت طويل، أحسَّ سراج بالدفء، ونسيَ متاعبه وغَرِق في حُلم طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤