٣

وقفت هدى أمام حوض المطبخ وراحَت تغسل الأطباق وهي تقضم لسانها بين أسنانها، أسندَت كوعها فوق طرَف الحوض، وبحركاتٍ محدَّدة تمكَّنَت من الانتهاء من أعمال المنزل بمهارة، تدخل الآن أشعةُ الشمس العريضة من النافذة وتفرش الأرضيةَ ببقعة مضيئة، فالمطبخ هو المكان الوحيد النظيف في المنزل، إنه عالمها، ولا يستطيع أحدٌ أن يدخله، فيمكن لهدى أن تنظِّفه في أوقات فراغها دون أن تحدث الإزعاجات المألوفة، أما في الغرف الأخرى فإنَّ أعمال البيت تتم عن طريق المصادفة حيث تتطلب الكثير من الصبر والسلوان، فهم دائمًا نيام ولا يحبون أن يرَوها تحوم حولهم؛ لذا فهدى تستخدم كافة أنواع الحِيَل كي يسود هذا النوع من الهدوء في كل أنحاء البيت.

ورغم الضجَّة الصاخبة لوابور الجاز، فإنها سمِعَت صوتَ رفيق الحاد، قادمًا من صالة الطعام القريبة معلنًا عن نفاد صبره في صحبة العم مصطفى، توقَّفت هدى لحظة، وراحَت تُنصت؛ فهي تخشى أن يكون ذلك بسببها، إنها نفس الحكاية دائمًا؛ فهي تتأخر دومًا في إعداد الغداء، في الحقيقة فهي ليست غلطتها، حيث إنَّ عادات المنزل تمنعها أن تأتيَ مبكرًا إلى الدار، وخاصةً أنَّ جلال يمنعها من ذلك؛ فمجرَّد وجود شخص واحد مستيقظ في المنزل يمنعه من النوم؛ لذا فهو لا يريد أن يراها أبدًا، إنه ينتبه عند أقل تغيير في الجو إذا مرَّ أحدٌ قريبًا منه.

فحساسيته شديدة، ويبدو أشبه بالهوائي الذي يُنذره أقل نفس بين هذه الأسرة الغريبة، ولكنه يظهر عنيدًا فيما يتعلَّق بموضوع النوم، فإنَّ ردود أفعاله تظل دومًا بلا حدود، لاهثة في الفراغ، حتى الدعايات التي يسمح لها بإطلاقها فهي تتسم بأنها غير عدوانية، جبانة، وذات وتيرة واحدة مرعبة، في هذا الشأن، فإنها لا تزعجه كثيرًا، فهي تتمكن دائمًا من الهرب من قُبلاته المقتضبة دون أقل قدْر من الخسارة.

سارت على أطراف قدمَيها، أغلقَت الحنفية ثم فتحَتها، ثم دفعَت تيارَ الماء نحو الأطباق المغطَّاة برغاوي الصابون، وما لبثَت أن بدَت نظيفةً وناعمة، نظرَت إليها هدى بإعجاب، انتابَتها مشاعرُ طفولية وهي ترى يدَيها تُخرج أشياءَ رائعة، إنها إحدى المرات النادرة التي تحسُّ بها في هذه الحياة البائسة، ولكن فجأةً اكفهرَّ وجهها؛ فقد تذكَّرت أنها لم ترَ سراج هذا الصباح، فقد بحثت عنه دون جدوى في حجرته، وتساءلت أين يمكنه أن يكون، لقد خرج بالتأكيد في ساعةٍ مبكرة، ولكن عمَّ يبحث في الخارج؟ إنه الوحيد الذي يتصرَّف على هذا المنوال من بين أحياءِ هذا المنزل الذي يسيطر عليهم النوم؛ فهدى ترى أنه ليس مثل الآخرين؛ ولذا فهي تخاف عليه من كافة أنواع المخاطر. إنها لا تعرف أبدًا ما يمكن أن يحدث لغلامٍ مثله يعرِّض نفسه لكل أخطار الشارع، بين الناس والأشياء المشئومة، تخيَّلته مدهوسًا تحت سيارة، أو نائمًا في أعماق حقل، دون أن يدافع عن نفسِه من وخزات العقارب، ظلَّت قلقةً للحظة تفكِّر وهي تضع لسانها بين أسنانها وتغسل آخرَ طبق بين يدَيها المنسابتَين.

وانتبهَت إلى نفسِها وفكَّرَت بقلقٍ في الغداء المتأخر، وكي تستكمل متاعبها من هذا العدس الذي لم ينضَج بعدُ، تركَت هدى الحوض، ورفعَت غطاءَ الإناء الذي بأعلى الموقد، وتذوَّقَت بطرَف لسانها وبكل ريبة، العدسَ الذي يُطلق بخاره، لقد استوى ولكن ينقصه الملح، أمسكت بوعاء وخفقت فيه حَفنة من الملح، ثم رمَتها في الإناء الذي غطَّته.

الآن عليها أن تجد سراج كي تُخبرَه أنَّ الغداء جاهز، ثم راحت لتوقِظَ جلال النائم كعادته، ويدسُّ رأسه تحت اللحاف؛ فالعجوز حافظ يأكل وحدَه في الغرفة التي تقع بالطابق العلوي، وهو شخصٌ لا ينزعج أبدًا ويعيش على المعاش في عالمه المجرَّد، خطر لهدى أن تصعد له في غرفته باعتبارها مسئولة عن كل شيء، ومشغولة بهم، وكأنهم أطفال مرضى.

جفَّفت الأطباق ورتَّبتها فوق بعضها وأمسكَتها كي تتوجَّه إلى صالة الطعام، في هذه اللحظة، أدارَت رأسها نحو النافذة، ورأَت سراج واقفًا في الحارة، موليًا ظهرَه نحو المنزل، خفق قلبُها في صدرها، ودَّت لو نادَته، لكنها ظلَّت غيرَ قادرةٍ على النطقِ بكلمةٍ مذهولةً بسلوك الغلام المبهَم. وقف سراج يمينًا، وقد وضع يدَيه في جيوبه ودفع رأسه إلى الخلف، ورفع وجهه نحو أشعة الشمس، بدا كأنه يتأمَّل شيئًا ذا أهمية قصوى في السماء لم تستطِع هدى أن ترى وجهه وقد اختفى أكثرَ، ماذا يمكنه أن يتأمَّل وهو ساكن هكذا كالتمثال؟ وضعَت هدى صفَّ الأطباق فوق المائدة، واقتربَت بهدوء من النافذة.

لا يزال سراج يشعر بمتعةٍ، أحسَّ بنفسه ضائعًا تمامًا داخل تأمُّله، رفعَت هدى رأسها، ونظرَت إلى المنزل المقابل، ثم نحو السماء، حيث تتحرك سُحُب خفيفة تنسلُّ في مهربها، لا يوجد شيء غريب يمكن أن يشدَّ انتباهَه، بلا شك فإنَّ سراج لا ينظر إلى أمرٍ محدَّد، ربما أنَّ عينَيه مغلقتان، يا لَه من غلام غريب! يمكن أن يبقى هكذا للأبد. انتظرت هدى طويلًا آملةً أن تراه يتحرك، ثم قرَّرت أن تفتح النافذة.

سراج … هيَّا إلى الغداء.

مرَّت بضعُ ثوانٍ قبل أن يُدير الغلام رأسه، كشف عن تكشيرة غضبٍ عندما رأى هدى، ثم ابتسم في حزن. فتحَت له هدى باب الحديقة الحديدي، وجرَت لتُمسك صفَّ الأطباق، وتوجَّهت نحو صالة الطعام، سأل رفيق: يا بنت الكلب! هل الغداء جاهز؟

ردَّت هدى: إنه جاهز، يمكنك أن تجلس أمام النافذة.

– بسرعة، يا بنت المومس.

تقع صالة الطعام في الدور الأرضي، إنها غرفة كبيرة مبلَّطة ببلاط أبيض وأسود مفروشة بأثاث قديم مسوَّس، وما عدا المائدة، والمقاعد من حولها، لا يوجد سوى بوفيهٍ عتيق وأريكة مغطَّاة بأكياس الملاءات البيضاء الضاربة في الاصفرار، في قذارة منفرة هناك حصيرة قديمة محدَّدة الأبعاد، تغطي جزءًا من البلاط أسفل المائدة، أما الجدران فعارية ومندَّاة، مثل كل غرف المنزل تفوح من صالة الطعام رائحةٌ كريهة، لأنها مقفولة، تبدو كأنها قبو أو نفقٌ، وعلى أحدِ الجدران تتصدر، في إطارٍ ذهبي، صورةٌ ضخمة للعجوز حافظ، تعلوها الألوان والأتربة وقد غطَّت مخلفاتُ الذباب زجاجَ الإطار تمامًا، ويبدو العجوز حافظ بداخلها أشبهَ بجثةٍ مرعبة في صورته المرسومة، العجوز حافظ الذي لا يغادر أبدًا غرفتَه، يجد أنَّ أنسب وسيلة هي حضور الواجبات مع أبنائه، ولكنَّ أحدًا لم ينتبه إليه؛ فهو مصابٌ بالأنيميا في إطاره الذهبي البالغ القِدَم والذي يكشف كافة التناقضات.

كان رفيق ممدًّا فوق الأريكة، يرتدي بيجامة مخطَّطة، وقدماه في قبقاب، لقد أدار لتوِّه مع العم مصطفى حديثًا بالغَ الإثارة، كان أثناءه مدارًا للسخرية، إنه مسترخٍ الآن، يتكتم رغبةً لئيمة أن يرى الحسرةَ تلاحق عمَّه، هذا الذي يجلس أمام المائدة يشغَل مكانه في صمتٍ ويقرقش قطعة من الخبز منتظرًا الغداء، ويلتزم هدوءًا رصينًا، رغم أنه يهتز بعنف من الداخل، لقد جرحَته سخريةُ رفيق طويلًا في كرامته، وحاول أن يكون صافيًا حتى لا يجرحَه أحد.

وضعَت هدى الأطباق فوق المائدة، واستعدَّت للعودة إلى المطبخ، للحظةٍ راح رفيق يرمقها بنظرة عدوانية، وما إن اقتربَت منه حتى داس على طرَف فستانها، وسألها بصوتٍ خفيض: أخبريني، هل رأيتِها؟

ردَّت هدى: نعم، رأيتُها.

لمع بريقُ أملٍ في عينَي رفيق، وأصبح صوته عميقًا جياشًا: وماذا قالت؟

– قالت إنها لا تريد أن تراك.

– بنت الكلب، هذا ليس صحيحًا.

حاولت هدى أن تتخلَّص منه، ولكن رفيق داس أكثرَ على فستانها، إنها تخشاه أكثرَ من الآخرين، بسبب هذا البريق الشهواني الذي يلمع دائمًا في عينَيه، بدا كأنَّ صَرْعًا أصابه، دافعَت عن نفسها: إنها ليست غلطتي؛ فلا أستطيع أن أفعل لها شيئًا، لقد أخبرتني أنها لا تريد أن تراك.

قال رفيق: مستحيل، مستحيل أن تنساني.

قالت هدى: لن تنساك، فقط لا تريد أن تراك.

– مومس، وأنتِ أيضًا مومس.

توسَّلت هدى: دعني.

ترك رفيق الفستان، واستعاد مكانه على الأريكة، وعادت هدى إلى المطبخ.

وأثناء هذا اللقاء الهامس، راح العمُّ مصطفى يتثاءب، وقد ركَّز بصره عند نقطةٍ غير مرئية من الغرفة، لقد قادَته مرارةُ أفكاره رغمًا عنه إلى عالمٍ غيبي وهو مرتدٍ ملابسَ نومه وسُتْرةً من القماش الكستنائي، وقد علَّق طربوشه على رأسه خشيةَ البرد. هذا المظهر يعطي للعم مصطفى إحساسًا بأنَّ هناك زائرًا في دارٍ، فهو لا يتوقَّف عن استعراض كرامته مما يتعبه كثيرًا، إنه يحفظ كرامته بين الأطفال النيام العديمي التربية، لكن كل هذا تهاوى تمامًا، لقد فعل العم مصطفى الكثيرَ من أجل إنقاذ — في الوضع الحالي — ما تبقَّى من هذا الاحترام المقدَّس الذي كان ركنًا أساسيًّا من وجوده القديم، ومن وقتٍ لآخر يُطلق تنهيدةَ دهشة، تبدو كأنها صرخاتُ عذاب تخرج من الأعماق.

قال رفيق فجأةً: ها هو عاملنا الكبير.

وما لبث سراج أن دلف من صالة الطعام، كان قد خلع حذاءه في غرفته، وراح يمشي الآن في خفة، بخطًى مرتبكة، وقد بدا عليه التعب، كأنه لم ينَم منذ أيام عديدة، راح يأخذ مكانه أمام المائدة متباطئًا، فهذه النزهة النهارية قد أنهكَت قواه، وهو الآن سعيد أن يجد نفسه بين أسرته؛ ففي كل مرة يعدو من تَجواله عبْر الحقل، يحسُّ أنه أفلت من مصيرٍ محتوم، ثم يستعيد رغبتَه في الصعلكة، ويبدأ في مقت هذا الجو الغامض والنوم الذي يخنقه، في هذه اللحظة ابتسم في سعادة، وقال: صباح الخير يا عمي.

– صباح الخير يا بُني.

قال رفيق: حسنًا، أيُّ أخبار طيبة جلبتها لنا من الخارج؟

ردَّ سراج: لم أرَ شيئًا مهمًّا فقط تنزَّهت في القرية.

– بشرفي، أنت تبدو مراهقًا، وأين تصرمحت أيضًا؟

قال سراج: هذا لا يخصُّك، أنا حرٌّ أن أذهب إلى حيث أشاء.

ضحِك رفيق ساخرًا: تتنزَّه، ها أنت تتنزَّه الآن، أعتقد أنك كنت تبحث عن عمل؟

– معذرة، فأنا أراك خائبًا هذه المرة أيضًا.

قال سراج: أخذلك ربنا.

قال العم مصطفى: دعِ الغلام في حاله.

ردَّ رفيق: يا عم مصطفى، أنت الذي عشتَ طويلًا في المدينة، قُل لنا من فضلك، كيف يتصرَّف الذين يعملون؟

قال العمُّ: لا أعرف عمَّ تتكلم، ماذا تعني بكلماتك هذه؟

ألحَّ رفيق: إنه سؤال يتعلق فقط بسراج، يجب أن يُوفَّق هذا الغلام، فأنا أنتظر بصبرٍ نافدٍ اليومَ الذي سيأتي فيه للبيت بالنقود، لأنني يا عزيزي سراج، أتمنَّى أن أرى قدراتِك وأنت تكسب الكثيرَ من المال.

اعتاد سراج على هذه السخرية المقززة؛ ولذا لم يردَّ؛ فالعم مصطفى يترك نفسَه دومًا فريسةً لمزاج ابن أخيه المنحرف، أما هو فلا ينغمس في ذلك تمامًا، رغم أنه يعيش منذ ثلاثة أعوام في صحبتهم وقد وصلَت حالته الآن إلى ما فيه الكفاية من السخرية؛ فرفيق يجده هدفًا نموذجيًّا للإغاظة وكأن هذا بالنسبة له نتيجةُ شرٍّ فطري، إنه ببساطة في حاجة إلى محلول كي يُهدِّئ أعصابه الشديدة الهياج؛ فسخريات رفيق تُخفي مرارة شديدة، وفي أعماقه الشخص الوحيد الصافي في أسرته، لقد اختار عالمه الهادئ، الذي يكشف ضَعف الجميع، بعقله أكثر مما هو طبيعته التي اكتسبها، إنه غير قادر على مواجهةِ كلِّ ما يقترفه، مثل هذا المصير الذي يتعاظم دومًا، حيث يؤرِّقه أنَّ الآخرين لا يأخذون سعادتَهم في الحسبان، ومن هنا يأتي احتقاره وسخريته.

ومنذ حديثه مع رفيق كشف وجهه عن عوائقَ حيوية تبدو مسيطرةً عليه؛ فقد تفجر وجهُه بكل كلماته، فقام من فوق الأريكة وجلس مكانه أمام العم مصطفى.

عادت هدى من المطبخ حاملةً إناءَ العدس ووضعَته فوق المائدة وقالت: اغرفوا لأنفسكم، سأذهب لأوقظ جلال.

قال العم مصطفى: هل غرفتِ للبيه؟

هتف رفيق: البيه! يا لَلسخرية! منذ متى يا عم مصطفى، وأبي بيه؟

فكَّر العم مصطفى قبل أن يردَّ، أراد أن يجد صيغةً جوهرية تسمح له أن يُنقذ كرامته، فقال: أبوك بيه، وأنا أيضًا بيه، ومن قلة الأدب ألَّا تناديَني هكذا خاصةً أنت يا رفيق، أنت تنسى أنني كنت رجلًا غنيًّا.

قال رفيق: لم أنسَ شيئًا، يا عم مصطفى، فأنت رجلٌ مهمٌّ يجب أن تكون وزيرًا. أحسَّ العم مصطفى بالخوار فكظم غيظه … وبدأ في غَرف العدس، ثم قال بطريقته: لستُ سوى غلام قليل الأدب؛ لذا لن أكلمك بعد الآن.

– يا لَلأسى! لن تكلمني، كيف أستطيع أن أُطيق؟ أجبني يا عم مصطفى، حدِّثني فعلًا أنك لستَ غاضبًا مني!

وكسا رفيق نفسَه بمظهر الحزين، وهو ينظر في توسُّل إلى عمِّه، ولكن العم مصطفى لم يترك له فرصةً للتفكير، فاحتفظ بصمته، وراح يأكل بكل هدوء وهو شاردٌ بينما غَرف سراج طعامه ثم أكل بكل شهية؛ فزياراته إلى المصنع الذي تحت التأسيس قد حفزت مَعِدتَه، وتلاشَت متاعبه التي أحسَّ بها خارج الدار، لقد جرَّب هذا الأمن السهل الذي يخلو من كوارث، وقد خلقت مناقشات رفيق مع العم مصطفى من حوله جوًّا من المجاملة وحرارة عالية، ساد الصمت الغرفة، ولم يتكلم أحد؛ ففي وسط المائدة انطلق البخار من آنية العدس صاعدًا نحو السقف مكوِّنًا سُحُبًا بيضاء، بينما اختفى العجوز حافظ في صورته المكتئبة شيئًا فشيئًا وراء القذارة التي تعلو زجاج الصورة، ولم يَعُد أحد يراه.

– لماذا استيقظتم؟

كان جلال الذي أطلق هذا السؤال قد وقف عند سدة الباب، وقد بدا كأنه خائف أن يوقظه أحد، فلا تزال عيناه نصفَ منغلقتَين، تثاءب وهو يَعضُّ فكَّه، بينما سقط شعره الأشعث فوق جبينه، على وجهٍ شاحب كأنه لجثةٍ آدمية ترتدي جلبابًا واسعًا متسخًا ومليئة ببقع العَرق.

يلتصق بجسده، إنه شخص لم يتغيَّر شكله منذ عدة أشهر، استند على الحائط، وبقيَ أن يتحرَّك، دعَك عينَيه المرهقتَين من النوم، وكأنه يريد أن يعودَ إلى حالته الدائمة، قال رفيق: يا عزيزي جلال، بشرفي نحن نستيقظ كي نأكل، فلا تتصور شيئًا آخر.

قال جلال متنهدًا: أعتقد أنَّ حريقًا قد اندلع.

وتقدَّم مترنحًا، واتخذ معقدًا خاليًا حول المائدة وانتظر لحظةً كي يستعيد وعيه، وتحقَّق بصعوبة من حالته، بدا بالغَ الأسى وهو يتحرَّك وكأنه مضطرٌّ للتحرك. كانت أساليبه الخائفة وحركاته الآلية تبدو بشعةً في كل يوم جديد، راح يغرف مُسنِدًا طبقه قبل أن يضعه أمامه، وتماسك من جديد، أحسَّ أنه لا يزال نائمًا في عالمٍ خاصٍّ، وأنه يجب أن يبقى هكذا أطول مدة ممكنة، لكنه ما لبث أن بدأ يأكل. سأل: أخبرني، هل العدس لذيذ؟

ردَّ رفيق: إنه بشعٌ، ماذا تنتظر من طبيخ الفتاة؟

قال جلال: هذه ليست عيشة، فهناك ما يُزعجنا من هذه الغباءات طيلة النهار.

قال رفيق: لديك الكثير مما يُزعجك، يمكنك بسهولة أن تأكل، حاول، سترى أنَّ الأمر ليس مرعبًا.

قال جلال: سأحاول، عندما ستموتون.

صاح العم مصطفى: يا لَلعار، هل تُهين أباك هكذا؟

ردَّ جلال قلقًا: مَن يهين أبي؟

لقد قلتَ لتوِّك … عندما ستموتون، أنت يا جلال أكبر إخوتك تصير قدوة سيئة لإخوتك.

راح جلال يأكل غيرَ عابئ بتعليقاتِ عمِّه، وكأن ما يحدث من حوله نوعٌ من الوهم، مؤامرة مدبَّرة ضد سلطان النوم الكبير، فهو يعيش وسط أسرته منغلقًا تمامًا في محبسه، إنه مبتدئ لا يعرف شيئًا عن ملذات هذا العدم الذي له طعم المخدِّرات؛ فجلال يكبرهم بسنوات، أما الشخص الأكثر انفراجًا فهو العم مصطفى، إنه لم يسكن المنزل إلا منذ ثلاث سنوات فقط.

ماذا يمكنه أن يفهم؛ فعندما كان يعيش وحدَه في المدينة كان يحب قضاء وقته في رؤية الناس، يخرج كل مساء، ويتسلَّى بصحبة النساء العابرات، أشياء تحدُث بشكلٍ منتظم، في البداية كان يُثرثر مع جلال، لكن مَن يتصوَّره؟ فقد كان جلال ينام ولا يرد عليه، وسرعان ما فهم العم مصطفى؛ لذا فإنه الآن لا يُزعِج جلال بأيِّ أمرٍ جسيم.

عادَت هدى من المطبخ، وجلسَت على المائدة قريبةً من سراج؛ فهي تأكل مع الأسرة، إنها ابنة واحدة من أقاربَ بعيدين للعجوز حافظ، أرملة مسكينة ليس لها أحدٌ سوى نفسها.

في الدنيا، جاء بها العجوز حافظ لخدمته في فتراتٍ محدودة، تأتي كلَّ يوم للعمل في الدار فتهتم بالمطبخ، ثم تعود في المساء إلى أمها التي تسكن في الضواحي واعتُبرت كفرد من الأسرة وليست كخادمة.

سأل العم مصطفى: هل صَعِدت بالغداء إلى البيه؟

قالت هدى: نعم، انتهيت من ذلك لتوِّي.

قال رفيق: يا عم مصطفى، إذا ظللتَ تُعامل أبي كبيه، فسوف أغضب وأسبِّب كارثة.

– لماذا إذن يا بُني؟

– لأنني لا أحب الامتيازات.

قال العم مصطفى: يا للإهانة، ثم أنا لا أكلمك.

ردَّ رفيق: ثم من ناحية، فإنَّ البيه محلَّ النقاش يستعد للزواج مرةً ثانية، بشرفي سيكون عُرسًا جميلًا.

قال العم: اسكت، هذا الأمر لا يهمُّك، يا الله، هل رأى أحدٌ مثل هذا الطبخ الوقح؟

– ولهذا السبب، فإنك منذ وقت طويل تسمِّيه بيه، تريد أن تُعليَ مكانته، يجب أن يعرف والد الفتاة أنه بيه … ويمكنك أن تسمِّيَه باشا، وماذا يمنعك؟

سأل جلال في قلقٍ شديد: لماذا تُثير الكثيرَ من الجلبة؟

قال رفيق: عزيزي، في اليوم الذي سيتزوج فيه أبوك لن يكون أمامك دقيقة واحدة للنوم، وأُحب أن أُخبرك بذلك.

صاح: سوف يتزوج أبي، يا خبر أسود، كيف هذا؟ إنه هناك في غرفته لا يخرج منها أبدًا.

– إنه ليس في حاجة للخروج؛ فالحاجَّة زهرة ابنته العاهرة هي التي دبَّرت كلَّ هذا؛ فمنذ وقتٍ طويلٍ لا تكفُّ عن زيارته.

قال جلال وهو في قمَّة المفاجأة: لا تتركها تصعد، اقتلها هنا، يا أخي رفيق ليس لديَّ وقت لأنشغل بهذا العمل، ولكنني واثق فيك، أستحلفك أن تُبعد عنَّا هذه المأساة، امرأة في المنزل، يا خبر أسود!

قال رفيق: لا تفعل، أنا هنا.

ثم وجَّه كلامَه إلى هدى: وأنت، يا بنت الكلب، إذا تركتِها تدخل هنا، فسوف أخنقك.

قال العم: أنتَ تتجاوز حدودك يا رفيق، وأنا أكرِّر عليك، هذا الأمر لا يعنيك.

أكمل رفيق: هل تعرف أنَّ هذه الست الطيبة، الحاجَّة زهرة، تنتمي إلى أسرةٍ نبيلة.

إنها تُردِّد في كل مكان أنَّ أبانا مريض بالسُّكر.

قال سراج: بالسُّكر! لماذا؟

سأل جلال محذرًا لهذا الخبر البائس: نعم لماذا؟

قال رفيق: سوف أشرح لك، أنت بالغ السذاجة كي تفهمَ، فحسب فهْم هذا الجاهل يبدو أن رجلًا مريضًا بالسُّكر، هو رجل أكل الكثيرَ من الحلوى في حياته، ورجل أكل الكثيرَ من الحلوى في حياته ليس لديه ما يهمُّه، مما يعني أنه رجل من طبقةٍ اجتماعية راقية، هل فهمتم الآن؟

انفجر جلال في ضحكٍ رتيب، ثم توقَّف فجأة، لم يتصوَّر أنَّ هذه قصةٌ مضحكة، ولكنها قصة قدرية، قال سراج: ولكن هذه المرأة مجنونة.

قال رفيق: هي ليست مجنونة، إنها تجيد بكل مهارة مهمتنا كخاطبة، أخبِرني مَن هو الأب الذي لن يكون فخورًا أن يزوج ابنته لرجل مريض بمثل هذا المرض؟ هذا يؤكِّد على الأقل أنه لا يأكل الخبز والجبن القريش.

قال جلال: مرة ثانية يا عزيزي رفيق، أبعِد عنَّا هذه المأساة أعتمد عليك، وأُعيِّنك حارسًا لنومنا، اكتشف لنا قدراتك فأنت دارس، وكدتَ تصير مهندسًا.

– لست في حاجة أن أكون مهندسًا كي أمزِّق الحاجَّة زهرة ألفَ قطعة، اعتمد عليَّ.

قال جلال مؤكدًا: أنت شجاع.

قال العم مصطفى: يا أولادي، لا تتدخلوا في هذا الموضوع، فأبوكم هو ربُّ المنزل وإذا قرَّر شيئًا فالأمر يخصُّه.

قال جلال: يا عم مصطفى مستحيل، أنت تريد أن تقتلنا، امرأة في البيت، وكأن هذه الفتاة لا تكفي.

وأثناء هذا النقاش، احتفظت هدى بصمتٍ حذِر؛ فمشروع زواج العجوز حافظ سوف يُولِّد جدلًا لا ينتهي لا ينقصها أن تحتمل ظروفه، إنها تتخوَّف من الأيام القادمة، قامت في صمتٍ وجمعَت الأطباق القذرة وحملَتها إلى المطبخ.

سكتَ العم مصطفى لكنه لم يستغرق في التفكير؛ فهو لا يمكنه أن يضفيَ احترامًا بوسائله الخاصة، فقد أخذ مبادرةَ الدفاع عن قرارات أخيه؛ فغياب العجوز حافظ الدائم يخوِّل له السلطة، وللأسف فإنه يستخدمها بشكلٍ سيئ، مما جعله مصدرَ سخرية دائمة لأبناء أخيه.

فالعم مصطفى يعاني من قناعةٍ في لبس دوره كنائبٍ لأخيه، وفي الحقيقة فإنه يحب هذا المنزل الهادئ، والذي تعوَّد عليه دومًا، فهو ينام الآن أطولَ من الآخرين، وأحيانًا يتذكَّر حياته القديمة كعازبٍ ثريٍّ وينتابه الندم، وتسيطر عليه المرارة، أطلق بعضَ التنهيدات بعمق شديد، ونظر حوله في كآبة، تعطي تنهيدةُ العم مصطفى دائمًا الإحساسَ بقدرةٍ غاشمة ومروعة، تكفهر الوجوه فيما وراء حدود السأم. قال رفيق: يا عم مصطفى، يجب أن تعمل في الراديو، فتنهيداتك ستكون مشهورة، أحب تنهيدتك، مثلما يُثير العالم السَّأم فيك.

– لا أفهم سلوكك، ماذا تقصد؟

قال رفيق: ببساطة أعتقد أنه خسارة أن تضيع مثل هذه التنهدات الجميلة على أمرٍ غريب أنا متأكد أن الراديو سوف يدفع لك جيدًا.

ردَّ العم مصطفى على هذه الدعابة بأن أطلق أيضًا واحدةً من تنهداته المميزة ثم سكت.

قال جلال: عندك حق أن تتنهَّد يا عم مصطفى؛ فالأمر مرعب أن تنتظر هكذا، أين ذهبت هذه الفتاة إذن؟

سأل رفيق: ماذا تنتظر أيضًا؟

– أنتظر التحلية، وليس لديَّ وقت.

– أنت متعجِّل جدًّا.

وبعد دقيقة عادَت هدى حاملةً طبقًا مليئًا بالبرتقال ووضعَته فوق المائدة، قال جلال: سآخذ برتقالتي وسآكلها في سريري، فلآخذ اثنتين، برتقالة العشاء أيضًا، لا أعتقد أنني قادر على حضور العشاء معكم هذ المساء؛ فليس لديَّ من الوقت لأضيعَه في صالة الطعام هذه.

قام وتوجَّه نحو الباب، استدار فجأةً: لستُ في حاجة لأن أقول، لكن ألَا تُثيرون جلبة، اخلدوا إلى النوم، ما الذي يُبقيكم متيقظين؟ بشرفي، أنتم جميعًا مخطئون، سلام عليكم.

قال رفيق: وداعًا، ولا تنسَ أن تكتب لنا، فنحن في أشد القلق لسماع أخبارك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤