٤
عندما تحين ساعة القيلولة المقدَّسة، يسود البيتَ سكونٌ يبدو كأنه يغوص في أعماق الصمت، تسمع أحيانًا أصواتًا مكتومةً لأطباقٍ غير مرئية، تغشى في جو السكون، تبدو كصيحةٍ ضائعة عبر النوم الثقيل. تمدَّد رفيق فوق سريره، فهو لم ينَم، العينان مفتوحتان في الظلام، إنه متيقِّظ بحساسيةٍ مفرِطة، أنهك نفسَه في نضالٍ شديد ضد الخمول، في انتظار الحاجَّة زهرة، الخاطبة التي تخاطر بدسائسها في أن تقلب حالَ المنزل، قرَّر ألَّا يتمَّ زواج أبيه؛ لذا، فعليه ألَّا ينام لبضعة أيام، إنه أمرٌ بشِع مجنون، يمكن لرفيق أن يسبِّب التعب لأبيه.
ولعله لن يبلغ نهايةَ مهمَّته، يلمع العَرق على جبينه، يناضل المللَ المؤذي الذي يُصيب أعضاءه بالوسوسة التي تسري فيه بطء الكسل. هنا بدأت المعاناة تنغِّص عليه، فاستند على مرفقَيه، وتنهَّد بعمق، وسمِع أنفاسه العميقة، وراح يحذِّر نفسَه: لقد فشل في إيقاظ جلال الذي يرقد فوق السرير المجاور، أدار وجهه نحو الحائط؟ اندفن تمامًا تحت اللحاف، فلا تكدِّره مشقةُ تلك الأنفاس اللاهثة لنومه الأشبه بالموت، فرفيق يُعجب بهذا الغناء الصدَّاح الذي لا يسبِّب له أي قلق، إنها حالة من السُّبات الدائم والنوم المستمر، ليس لدى جلال الخيار، فنومه ليس رغبةً في الهروب من عالمٍ لا يعجبه، بل أن يتجاهل كلَّ ما هو موجود بعيدًا عن إنسانيةٍ مليئةٍ بالمعاناة يُهدِّدها الجشع؛ لذا يستسلم للنوم بشكل طبيعي بلا أي مبالاة كأنَّ الشخير أمرٌ عاديٌّ مبهج.
أما رفيق فعلى العكس فهو صاحب رؤية عالم متواضع مسكين، لقد اختار النوم كمأوًى، وهو لا يحس بالراحة إلا خلف هذه الجدران المحاطة بالمتاريس ضد الكائنات والأشياء المنحوتة التي تُحوِّط المنزل، حيث تعلو كومة من رُكام الوجوه الإنسانية، تبدو له بالغةَ البشاعة.
تذكَّر بشكلٍ مشوَّش الزمنَ الذي كان يخرج فيه، واتصالاته القائمة على المصادفة مع البشر، إنهم جميعًا قَتَلة، وقد احتفظ لنفسه بكراهيةٍ لا حدَّ لها؛ فعندما كان أصغرَ سنًّا، فَهِم قيمةَ الوجود الذي يسير على وتيرةٍ واحدة إلى الأبد، التي يقدِّمها له منزل الأهل، هذا الأمن الذي يتخلَّص من كلِّ موجود، يرجع الفضل فيه إلى العجوز حافظ، الذي يصنع حوله جوًّا من الفراغ الأبدي؛ ولذا فرفيق يحترم أباه من أجل هذا النظام الرائع، الذي يوفِّر له الكسل والخمول، وهو مُدان للفكرة الوحيدة التي طلع بها من الدنيا، وعندما يُضطر في أي وقتٍ أن يضحيَ بحبِّه من أجل امرأة، وأن يخضع لرغبةِ أبيه، فإنَّ رفيق لا يتردَّد، رغم المعاناة التي تُكلِّفه مثل هذه التضحية؛ فالعجوز حافظ على حق، ورفيق يأخذ ذلك في الحسبان ويبادر في تنفيذه في الوقت المناسب، لكن الآن فالعجوز حافظ يحاول أن يحصل على هذا الأمن، وتلك الخبرة البالغة الصعوبة عبْر الأجيال، لقد تمرَّد عليه رفيق، ويُحس أنه قد أُهين وتعرَّض للخيانة.
هذه المرأة التي أحبَّها رفيق، في الوقت الذي كان يخرج فيه كانت عاهرة شابة تسكن في البيت القديم المتصدِّع الذي يقع على الطريق الرئيسي، يسمُّونها في الحي «إمتثال، صديقة الطلبة» لأنها لا تستقبل زبائنها إلا من بين الشباب الجامعيِّين، وكل زبائنها، البالغين لتوِّهم، يُهرعون إلى بابها، كان رفيق يزورها أحيانًا في صحبة تلاميذَ آخرين، في البداية لم تنتبه إمتثال إليه، فهو مجرَّد زبون مثل الآخرين، ثم جاءت اللحظة التي بدأت تُعامله بطريقةٍ خاصة، رفضت النقودَ التي يعطيها لها، وأحسَّ رفيق بتميُّز خاص وهو يتصوَّر نفسه مخلوقًا غريبًا.
بدَت إمتثال كأنها ذاقت منه متعةً غريبة وهي تمارس الحبَّ معه، وجاء الوقت الذي اكتشف فيه رفيق لهيبَ الجسد، فلم يستطِع أن ينساها، وبدأت إمتثال تحبُّه لدرجةِ الجنون، ولم تَعُد تستقبل المزيدَ من الزبائن، وراحت تقضي أوقاتها في انتظاره، وأصبحت رمزًا للوفاء، وخلال بضعة أشهر من هذه العاطفة القوية، فكَّر رفيق أن يقترن بإمتثال وأن يأتيَ بها لتعيش معه في البيت.
وعندما حدَّث أباه بالأمر، بدا العجوز حافظ عنيدًا، وعارض ذلك بشدة، ووضع ابنه في خيار إما أن يترك البيت، أو أن يتخلى عن مشروعه الطائش. وكان أول رد فعلٍ لرفيق أن ترك البيت، وعاشر إمتثال، لكن النقود بدأت تنقصهم من أجل المعيشة، فماذا يفعل، عليه أن يعمل، بدَت هذه الجملة صعبةً لدرجة أن رفيق لم يستطِع أن ينطق بها، فكَّر مليًّا، أن يوازن بين عاطفته الحقيقية وتقلُّبات الحياة؛ فالنوم والسكينة سوف يلغيان، وفي النهاية تخلَّى عن حبِّه ولم تَعُد أي قوة جسدية تُقارن براحته، وأعلن لإمتثال رفْضَ أبيه، حدَّثها بقراره في الانفصال عنها، وهكذا كانت المأساة التي لم تنتهِ.
حدثت هذه المغامرة منذ عامين تقريبًا، لكنَّ رفيق لم ينسَ قط قوةَ اللحظات الشهوانية التي تشعله ذكرياتُها كثيرًا فلا تخمد، راحَت صورة إمتثال تُؤرقه حتى في نومه، ومنذ انفصالهما، لم تودَّ قط أن تراه، عادت إلى حياتها القديمة كعاهرة، وجاء الطلاب الشباب يطرقون بابَها، وراح رفيق يكظم غيظه عن كلِّ ما تفعله، حتى إنها ولدَت طفلًا سفاحًا لا تعرف له أبًا، فقامت بتربيته في الغرفة الوحيدة التي تمارِس فيها الحب.
ما يؤرِّق رفيق حقًّا، ليس انفصاله عن إمتثال، ولكنه سوء التفاهم الذي حدث بينهما، فإمتثال لم تفهم سوى شيء واحد، أن رفيق لم يَعُد يحبُّها، وأن ليس لديه الوقت ليجعلها تفهم الدوافع الأساسية لفراقهما، تصوَّرته قوادًا؛ لأنه أخبرها أنه لا يودُّ أن يعمل، ودون أن تحاول أن تسمع، راحَت تصرخ في جنونٍ ثم طردَته من منزلها يُلاحق بلعناتها.
لا يزال رفيق يرغب أن يراها مرةً أخرى، حاول أن يشرح لها بالتفصيل عن جمال هذه الحياة الخاوية التي يفضِّلها عن حبِّه، وقبل بضعة أيام، كلَّف هدى أن تذهب إليها في منزلها كي تستحلفَها بأن يتفقا على موعد، ولكن هدى أخبرته قبل الغداء، بفشل المحاولة، لقد رفضت إمتثال أن تستقبله. ومنذ هذه اللحظة راح رفيق يفكِّر في وسيلة واحدة للاقتراب من إمتثال، أن يذهب إليها بغتةً وأن يجبرها أن تسمعه، قرَّر أن يخرج هذا المساء، ولكن هل ستستقبله؟ لقد عرف معاناةَ التفكير في هذا اللقاء؛ وذلك لأنها أقوى منه، إنه في حاجة أن يجرِّب المحاولة الأخيرة مع إمتثال، لعله يجعلها تفهم أنه لن يكفَّ أبدًا عن حبها، وأنَّ هذا لا يعني ممارسة الحب فهو ببساطة غير قادر أن يترك منزل أبويه، هذا المأوى الذي يحفظه ضد كل بشاعة العالم، وأن يُخبرها أنَّ كلَّ البشر قَتَلة، إنه يخاف منهم. ستعامله بكل تأكيد كمجنون، لا يهم؛ فبعد هذا القرار الجريء، سيكون أكثرَ هدوءًا، لأنه منذ مأساة الحب الذي انزلق بينه وبين النوم، لم يَعُد يستطيع استعادةَ سكينته بسهولة، فقد أرَّقه شبحُ إمتثال وأصابه بمرارة، فهي مائلة أمامه كأنها عائق.
قام رفيق من فوق السرير، وخرج من الغرفة، عبر الممر، وفي المطبخ تكوَّمت هدى الصغيرة كفأر ضئيل، انزلق رفيق دون أن يُثير أي ضجة، ودخل غرفة الطعام، وقد نوى أن يعترض الحاجَّة زهرة كي يمنعها أن ترى أباه، وألَّا يتركها تمرُّ من أمامه، في هذا الشأن فإن غرفة الطعام مكانٌ جيد للمراقبة، ومن الباب الكبير المفتوح على الدهاليز يستطيع رفيق أن يرقب السُّلَّم الخشبي الذي يؤدي إلى الدور العلوي وإذا ما جاءت الحاجَّة زهرة فإنه يستطيع أن يراها، ثم هناك الأريكة للحظة، فالوقت لا يزال مبكرًا، غامر بالنوم للحظة، يجب أن يُثبت ذاته، بدون كل هذا ستصير مهارته عميقة، تنهَّد رفيق وتأهَّب لاستخدام كل الطاقة الكامنة فيه، ثم ذهب إلى النافذة ونظر عبْر الزجاج نحو الحارة النائمة، في هذه الساعة ينام الجميع في المنزل المقابل، إنها عمارة من ثلاثة أدوار، تم إنشاؤها حديثًا، لم تُطْلَ جدرانها بالمحارة. وتبدو أشبه بسجنٍ كريه، لم يرَ رفيق فيه سوى الرجال، أما النساء فعليهن الاختباء، أو أن يقبعن خلف الشبابيك المغلقة، هذه الأسرة البرجوازية، ذات السلوك والعادات الوحشية، تمنع بناتها أن يكشفن أنفسهن أمام الأغراب، فكَّر رفيق في أنه يتمنَّى أن ينام مع إحداهن، إنها مغامرة، لعلهن دميمات، تخلَّى عن فكرته بلا ندم، وبعد لحظةٍ ظهر طفلٌ قادم من ناحية الطريق، يلعب بالطوق، إنه طوقٌ حديدي بالغ الثِّقل، حرَّكه الطفل بصعوبةٍ فوق الأرض ثم اختفى حين دار في الحارة وهو يُطلق صراخاتٍ ملعلعة.
بدأ رفيق في الإحساس المدمِّر بهذه الإهانة القديمة، ارتعدَت أهدابه وارتخَت ساقاه، فكرة أنه مضطر أن يتنازل عن قيلولته بسبب هذه الملعونة الحاجَّة زهرة التي تُشكل بالنسبة له أمرًا لا يمكن احتماله، لا يمكن أن يستمر هذا الأمر، تمدَّد فوق الأريكة، ووضع يدَه فوق الزجاج، وأدار رأسه، وقاوم النوم بكلِّ ما لديه من قوة، وأحسَّ أنه يسبح ضد التيار وسط نهر مليء بالدوامات الخادعة، ومن وقت لآخر راح يقاوم، ورفع رأسه، وتنفَّس بعمق، فوجد نفسَه غارقًا في هزةٍ عميقة، فجأةً ارتد إلى أُذُنه صوتٌ قادم من بعيد، تصوَّر أنه يحلُم، فاهتز، ثم راح ينصت باهتمام، اقتربت الهمهمات وتضخَّمت وأصبحت جلبةً صامتة لجمعٍ غفير يمشي، أحسَّ به رفيق يقترب منه، وبعد قليل أمكنه أن يرى موكبًا غريبًا يتحرك أمام النافذة.
عرف الرجل الذي يحمل السلاسل الحديدية، تتبَعه مجموعةُ أطفال يُحدِثون جلبة، يمشي أمامه راكضًا، كي يتأمله أفضل، أما الرجل الذي يحمل السلاسل فقد بدا عملاقًا، طويلَ الشَّعر المجدل، الذي يتدلَّى حتى كتفَيه، وقد أطلق لحيته التي أحاطت وجهه الأسود الغارق في العَرق، نصفه الأعلى عارٍ وقد تحزَّم بمئزرة من السلاسل التفَّت أيضًا حول عرقوبه، وراحت تثقل حركتَه مما يُثير التعاطفَ معه، بدا كأنه يودُّ أن يُفلت من المئزرة الوهمية البعيدة.
وبقطعةٍ ضخمة من الزلط التي أمسكها بيده اليمنى راح يطرق على صدره ناحية القلب، كانت الضربات قوية، وفي كل مرة يرفع ذراعيه، فإن جموع الأطفال تصمت في قلقٍ خاصةً حين تحطَّمت الزلطة، بدا الجسم وكأنه قطعةُ أرضٍ طينية مليئة بالشقوق، ومع كل ضربة كان يُطلق زمجرةً مكتومة بكلمات غامضة تُشبه الابتهال، يلعب دوره كأنه مذنب نائب، يمرُّ بمأساة بديعة، أحيانًا، يُلقي شخصٌ ما من إحدى النوافذ قطعةَ نقود معدنية، راح الرجل يحملها ويضعها في جيبه الجلدي المعلَّق على صدره.
لقد رآه رفيق عدةَ مرات، خاصةً عندما كان طفلًا، تتبَّع عروضه عبْر الحارات … لكن هل هو نفس الشخص؟ إنهم عديدون هؤلاء الذين يقومون بهذا النوع من الاستجداء الاستعراضي، إنهم يقدِّمون سحرًا متنافرًا ويمارسون حِيَلًا يعاقبون بها أنفسَهم كي يستدرُّوا شفقةَ الناس، أُعجب رفيق بهذه الأمور الشيطانية التي يقدِّمها الناس من أجل أن يعيشوا، تبدو له كأنها آخرُ حدود كابوس كوني. نظر الرجل المقيَّد بالسلاسل نحو النافذة، ورفع ذراعه ببطء وضرب بزلطة ثقيلة فوق صدره، وخلال لحظة قصيرة، تركَّزَت نظرتُه على رفيق الواقف خلف الزجاج، أغلق رفيق عينَيه، وظل ساكنًا، بدَت نظرة الرجل الحادة كأنها تُوَجَّه نحوه كسكين، انتظر طويلًا أن تخفَّ جلبة الجماهير، ثم استدار.
ومرةً أخرى، ساد الصمت، والهدوء، وأحس رفيق أنه مريض، أصابه الملل، ارتبك من الخجل والقرف وبشكلٍ غريزي توجَّه نحو الأريكة، وتمدَّد عليها، كان مشهد البشر يثير لديه البؤس والنفور وكأنه يمتزج بسقوطهم، بذلَ ما بوسعه كي يحتميَ ضد كلِّ الأمور المماثلة؛ فالجدران تفصل بينه وبين هذه الإنسانة المعدومة، فهو لا يودُّ أن يكون مشاركًا في مثل هذه الدناءات؟ أحسَّ بالمهانة، وشعر بفورانٍ دفعَه أن يكون شاهدًا على همجيةٍ غير محسوسة، إنها مجزرة حقيقية، ففي كل مكان توجد نفسُ الأشياء المخبولة يتصرفون مثل قطيع بنفس الكذبات الأبدية.
تنهَّد رفيق بعمق، واسترخى، محاولًا أن ينسى النظرةَ المرعبة للرجل الذي كان يحمل السلاسل، إنه شيء لا يمكن نسيانه، كم من الوقت يلزمه كي ينسى رؤيةَ قَتَلةٍ يمتثلون أمامه؟ إنه يودُّ أن يتخفى، تتصاعد روائحُ كريهة عبْر فتحاتِ مكمنِه، فكَّر في الخروج والذهاب إلى إمتثال أنه بذلك يجرِّب أمرًا غيرَ منطقي، تساءل: سيكون هذا هو الخروج الأخير.
وبقي ساكنًا في حالةِ انتظار، الأُذن تُنصت، ليس لديه سوى الصمتِ، صمتٍ غير محسوس، مفرَّغ من كل جوهر، فجأةً، رنَّ صوتٌ في الطابق العلوي، إنه العجوز حافظ الذي ينادي على هدى، يبدو صوته مخنوقًا بصمتٍ موحش، اهتزَّ رفيق فرَحًا وجرى إلى الباب، ونظر نحو الممر، ورأى هدى تهرول بسرعة على السُّلم حافيةَ القدمين، صُدمت الفتاة وهي تراه ثم توقَّفت في عَدْوها: تعالَي هنا، يا بنت.
تراجعت خُطى هدى على درجات السُّلم واقتربت منه بكل هلع، قال رفيق: أعرف لماذا يناديك، إنه يريد أن يعرف إذا كانت الحاجَّة زهرة قد جاءت، ستُخبرينه، أنها لم تأتِ، وأنها لن تحضر أبدًا، سوف أخنقك إذا تركت هذه المرأة تدخل البيت، فأنا أنتظرها هنا.
قالت هدى: هذا لا يهمني، ماذا أفعل في هذه الحكاية، لماذا تحشرني فيها؟
– أعرف أنه وعدكِ بنقود، وأنتِ تريدين أن تكوني سببًا لمصائبنا أيتها القذرة.
كادت هدى أن تبكي، إنها تعرف مدى وقاحة رفيق، أسلوبه الجاف والعنيف، أخفضت عينَيها، وبدا عليها الحياء وامتلأت قائلة: لا أريد نقودًا، لا أريد شيئًا، هل طلبت شيئًا؟ أنا أفعل ما يُطلب مني أن أفعله.
صرخ رفيق: افعلي ما أقوله لكِ؟
همسَت هدى: اسكت، سوف توقظ الجميع.
وسكتَ رفيق، وقد حيَّره هذا النداء، وسيطرة النوم، هو الذي اعتاد الحذرَ واحترامَ نوم الآخرين، ماذا حدث له؟ بلا شك فإنَّ الإنهاك أفقده القدرةَ على التحكُّم في التفكير.
ولكن لديه أيضًا شيء آخر، أحسَّ رفيق أنه يرغب في هدى، وأنَّ رغبته قد تولَّدت في اللحظة التي همست له أن يسكت، هذا الصمت ذو الطبيعة الشهوانية ولَّد لديه لذةً مكبوتة، ربَّتَ على رقبة هدى، أراد أن يسحبها نحو الأريكة، قائلًا: تعالَي.
هزَّت رأسها وحاولت أن تتخلَّص منه، وهي تقول: ليس الآن، ليس لديَّ وقت، فسيدي يناديني، سآتي فيما بعدُ.
لكن رفيق لم يسمعها، خنقها بقامته، وضمَّها إليه برغبةٍ مجنونة في النوم أكثر من اللذة، راح قلبُ هدى يخفق في صمت، تعرف أنه ينتظرها، فهذا هو كلُّ ما يقترفونه معها، فتَّش رفيق أسفل فستانها، وحاول أن يجعلها تلمس عضوه، راحت أصابعه تلمسها، وسرَت الرِّعشة في جسدها، فراحت تقاوم بقوة، حسبت أن رفيق يغرق وأن حركاته مائعة بلا إرادة.
بدأ رفيق يشعر بالملل من هذه المقاومة، ثم ألقت برأسها نحو الخلف، تثاءب، وقد قلَّ توتُّره، وأحسَّ بنفسه ينزلق في غابة من اللاوعي، واستطاعت هدى بحركةٍ مفاجئة أن تهرب من عناقه وراحت تقفز فوق السُّلم.
– سوف أخنقك يا بنت المومس.
انتظر أسفل السُّلم لحظةً، وسمِع صيحات أبيه الذي راح يوبِّخ هدى التي تأخَّرت عليه.
ثم ساد صمتٌ ثقيل وشَرِه، راح رفيق يلهث بسبب رغبته المحبَطة، ولم يَعُد يحسُّ بساقَيه، وأدار رأسه كأن دُوارًا أصابه، إنه ينام، لكنه شديد الغضب من نفسه كي يعود لينام فوق الأريكة، إنه في حاجة أن يتكلم إلى أي شخص.